القاهرة/ الإسلام اليوم
مياه النيل خط أحمر، بهذا المفهوم انطلقت الحكومة المصرية الجديدة برئاسة الدكتور عصام شرف نحو السودان، ومنها إلى بقيَّة دول إفريقيا، حيث يدور الحديث عن عودة مصر إلى إفريقيا وبقوَّة هذه المرَّة بعدما بلغت التطورات "مرحلة حرجة جدًّا" في الملف المائي الذي يمسُّ الأمن القومي لأكبر بلدٍ عربي.
المتابع لمجريات التفاوض حول شروط مصر الثلاثة التي وضعتها للموافقة على الاتفاقية الإطاريَّة قبل سنة يلحظ أن الدبلوماسيَّة المصريَّة آنذاك اكتفت بالشعارات ولم تتخطاها إلى حدود التأثير الفعلي وممارسة الضغط على الدول الموقِّعة عليها، فوجود نصٍّ صريح يضمن عدم المساس بحصتها من مياه النيل والإخطار المسبق عن أي مشروعات تقوم بها دول أعالي النيل وأن يكون التعديل بالاجتماع وليس بالأغلبيَّة، كل تلك الشروط بقيت حبرًا على ورق.
ومع تحركات شرف والمجلس الأعلى العسكري الذي يحكم البلاد الآن، طرحت أسئلة منها: هل إعادة التفاوض تُجدي بعد الآن؟ هل توزيع الحصص القديمة ما زال مقدورًا على تثبيتها؟ هل يمكن إيقاف بناء السدود الأثيوبيَّة؟! أسئلة تطرح نفسها على صعيد هذا الملف الذي لا يقلُّ خطورةً عن حروب مصر مع الكيان الإسرائيلي!
تحركات سريعة
ربما لم يمرّ شهر على تولِّي الدكتور شرف مسئوليَّة رئاسة الوزراء، إلا وتحرك فورًا باتجاه الجنوب، لما لملف النيل من أهمية أمن قومي قصوى، وهو ما يزال يراهن على أن الــ "الحوار والتفاوض" هما السبيل الأول للتوصل إلى "صيغة متوازنة" للاتفاقيَّة الإطاريَّة بين دول حوض النيل، وأنه لا خيار أمامهم سوى التوجُّه وبقوَّة نحو توسيع الشراكة والمشاريع المشتركة مع دول تلك القارة، التي تعدَّت الاستثمارات المصرية في أثيوبيا وحدها الملياري دولار.
ملف النيل سيكون حاضرًا وبقوَّة على كل طاولات وزير الخارجيَّة الجديد نبيل العربي المقبلة، وهو المتمرس في حلّ القضايا والنزاعات الدوليَّة، سواء في محكمة لاهاي أو في قضية طابا مع الكيان الإسرائيلي، خاصةً في ضوء المخاوف التي استجدَّت بعد توقيع العضو السادس بالاتفاقيَّة وهو بوروندي، ليصل العدد إلى ست دول من أصل إجمالي تسع دول فعليه تشكل دول حوض النيل، حيث ما زالت إريتريا الدولة العاشرة تكتفي بدور المراقب من دون أن يكون لها حق التصويت، ولم يبقَ خارج هذا التكتل الأفريقي الجديد سوى مصر والسودان والكونغو.
الخطر الإثيوبي
تأتي الخطورة في الموقف الأثيوبي، بخلاف السدود الجديدة التي تعمل على تشييدها، في كمية المياه التي تصل منها إلى مصر، إذ أنه من المعلوم أن حصة كل من مصر والسودان من مياه النهر مقدرة عند مدخل بحيرة ناصر بـ 48 مليار متر مكعب سنويًّا، يرد منها 15% فقط من دول هضاب البحيرات الاستوائيَّة بما يعادل 12.6 مليارات متر مكعب عبر مياه النيل الأبيض، وتأتي لمصر شتاءً، بينما يبلغ ما يرد من أثيوبيا 85% وبما يعادل 35.4 مليارات متر مكعب سنويًّا، وتأتي صيفًا عبر النيل الأزرق.
وهذا يكشف حقيقة الكميات التي ستحرم منها مصر ويظهر الدور الأثيوبي في ذلك، الذي تنظر إليه النخبة في القاهرة على أن هناك من عمل على "تغييب" مصر عن أفريقيا واستغلال الضعف الذي أدى بها إلى تمديد الاتفاقيَّة، بالإضافة لخطط أثيوبيَّة معاكسة تمامًا من دون أن يكون لدى مصر القدرة على مواجهتها وإقناع الدول "الخمس الصغيرة" بوجهة نظرها.
فأثيوبيا وحدها يسقط بها أكثر من 700 مليار م3 مياه فيما جريانها السطحي 122 مليار م3 منها 70 مليار م3 مياه تذهب لمصر لا تستفيد منها أثيوبيا ولو أرادت الاستفادة ببناء سدود لحجزت هذه المياه، وهنا يقع الضرر الكبير على مصر.
ولتعظيم الاستفادة وزيادة الجريان السطحي بأثيوبيا للوصول به إلى 300 مليار م3 مياه لا بدَّ أن تقيم مصر مشروعات مثل قناة جونجلي, ومشار, وبحر الغزال, وبحر الجيل، وغيرها وكلها مشروعات مدروسة وتكاليفها معقولة, لكن تكمن المشكلة في أن دول الحوض لا تهدفُ للاستفادة فقط وإنما لإحداث الضرر بمصر التي تخاذلت في تلك القضية بعدما كان لها دور إقليمي سواء من خلال شرق أوسطي, أفريقي, عربي, إسلامي وعليها أن تعود كما كانت قوة إقليميَّة ضاربة ولا داعي للتساؤل على حساب من ذلك؟
وتزداد المخاوف، بعد أن باتت كل دول الحوض تخطط لإقامة سدود على نهر النيل، ولكن مع دراسة جريان السطح المائي على النيل –إذ أنه أقل الأنهار في العالم- حيث يسقط أكثر من 1600 مليار م3 مياه، يصل أسوان منها 84 مليار م3 فقط تمثل 5%، ومعدل العالم الطبيعي أن تكون 10%، وهو يفرض على مصر أن تعمل على ازدياد جريان السطح المائي إلى 160 مليار م3، ولو نجحت مصر في ذلك من خلال مجموعة سدود خصوصًا في منطقة بحر الغزال ستصبح القضية سهلة وغير معقَّدة.
المستجدات والسيناريوهات المحتملة
المستجدات في هذا الملف برزت في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2011، منها انفصال الجنوب عن الشمال في السودان وإمكان تقليل حصة مصر، على ضوء إقامة مشاريع وسدود في الجنوب وتقديم إغراءات لهذه الدولة الوليدة من شأنها الإضرار بمصالح مصر المائيَّة، ومنها أيضًا انضمام بوروندي، الذي جاء في أوقات عصيبة، لم تسمحْ للقاهرة بمتابعتها والتفرغ لها وإجراء المحادثات المستعجلة بشأنها، وكأن من أراد تمديد الاتفاقية هدف إلى استغلال لحظات حرجة تمرُّ بها مصر وجارتها السودان لاختطاف اتفاقيَّة عملت هذه الدول على تسويقها وتصويرها في حدود "إعادة تنظيم" روتينيَّة!
ومنها أيضًا قيام بعض دول المنبع بإقامة سدود ستؤدي إلى حجز مليارات الأمتار من المياه عن دولتي المصبّ، وهذا إجراء مخالف لكل الاتفاقيات الدوليَّة، التي تلزم أخذ موافقة الدول المتشاطئة على النهر مسبقًا قبل البدْء ببناء السد المزمع إقامته، خاصة إذا كانت هذه الدول ستطلب تمويلا من البنك الدولي، وهو لن يتوافر لها طالما لم تحصلْ على موافقات الدول المتشاركة معها.
ولكن، ربما تلعب ثورة 25 يناير بمصر، دورًا هامًّا يعيد الأمور إلى نصابها، خاصة أن العداء الأفريقي ينصبُّ على القيادة المصريَّة السابقة والمتمثِّلة في الرئيس حسني مبارك ونظامه، فيما يؤكِّد شرف ووزير خارجيتِه نبيل العربي، أن مصر ليست ضدّ التنمية في أيَّة دولة بالحوض، مما يعطي "انطباعًا جيدًا" لدى حكومات دول الحوض بأن القادم أفضل.
وإذا فشلت المفاوضات فهناك –بحسب خبراء- الوساطة من خلال الأصدقاء لمصر لتوضيح الصورة لهم عن الأضرار التي ستلحق بمصر جرَّاء نقص حصتها المائيَّة، هذا غير التكاليف الباهظة جراء محاولة اللجوء إلى تحلية مياه البحر، إذ أن المتر المكعب منها يتكلَّف 4 جنيهات، وبما أن مصر تستهلك 25 مليون متر مكعب يوميًّا في الشرب مما يصل في السنة إلى 10 مليارات م3 مياه، فإن التكلفة ستكون باهظة جدًّا، ناهيك عن احتياجات الزراعة.
ولن يبقى أمام مصر في النهاية إذا فشلت المفاوضات ثم الوساطة، إلا اللجوء إلى التحكيم الدولي ومحكمة العدل الدوليَّة، وقد تختلف الأطراف جميعًا ويطلبون إعادة التوزيع مرة أخرى للمياه، على الرغم من أن كل ما يوجد بخصوص هذه القضية هو العرف، إذ أنه ليس هناك قانون دولي حاسم وجازم في تلك القضية، وهو ما يصل بالمحلِّلين إلى مرحلة التوقف عن التفكير فيما لو فشلت كل جهود المفاوضات والوساطة وحتى التحكيم الدولي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق