الصفحات

الأحد، 8 مايو 2011

قال الله تعالى( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ)

بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن :

(373) - ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ)
   (الأنفال: 30) .
بقلم
الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار

هذه الآية الكريمة جاءت في أواخر النصف الأول من سورة "الأنفال" , وهي سورة مدنية , وآياتها خمس وسبعون (75) بعد البسملة, وقد سميت بهذ الاسم (الأنفال) جمع (نفل) بالفتح وهو الزيادة أو الأمر الثانوي , إشارة إلى الغنائم التي غنمها المسلمون أثناء معركة بدر الكبرى . وقد سميت غنائم الحرب بالأنفال احتقارا لشأنها مقارنة بالأهداف الرئيسة للجهاد في سبيل الله ومنها رد الظالم , وحماية الدين , والعرض, والأرض, وطلب الشهادة في سبيل الله , وهي قضايا تهون أمامها أية مكاسب مادية من مثل الغنائم .
ويدور المحور الرئيسي لسورة "الأنفال" حول عدد من التشريعات الإلهية للقتال في الإسلام , انطلاقا مما جرى في غزوة بدر الكبرى .
هذا وقد سبق لنا استعراض هذه السورة الكريمة , وما جاء فيها من التشريعات وركائز العقيدة الإسلامية , ونستعرض هنا لمحة الإعجاز الإنبائي في الآية الكريمة رقم (30) من سورة "الأنفال" والتي اتخذناها عنوانا لهذا المقال .

من أوجه الإعجاز الإنبائي في الآية الكريمة

يقول ربنا- تبارك وتعالى- في سورة "الأنفال" مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله- صلى الله عليه وسلم- : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ *)(التوبة:30).

وسورة التوبة مدنية بمعنى أن هذه الآية الكريمة أنزلت بالمدينة أي بعد حادثة الهجرة بقرابة السنتين لتستعرض الفارق الكبير بين وضع المسلمين في مكة قبل الهجرة , وموقفهم في المدينة المنورة بعد الهجرة. فقد كان وضعهم في مكة قبل الهجرة وضع المستضعف المضطهد من قبل مشركي مكة, وأصبح وضعهم في المدينة موضع القوة والعزة والمنعة بعد انتشار الإسلام بين أهل المدينة وتعهدهم بأن يمنعوا رسول الله مما يمنعون منه أنفسهم, وتحقق هذا التحول في حياة المسلمين بعد انتصارهم في معركة بدر الكبرى.
والآية الكريمة التي نحن بصددها تصور هذه النقلة الهائلة التي تمت بتوفيق الله ورعايته, وبحسن التدبير والتخطيط من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبقوة إيمان أصحابة بنبوته ورسالته, وشدة حبهم له, وتفانيهم في الوفاء له ولدعوته.
وهنا تأتي هذه الآية الكريمة  لتصور موقف مشركي مكة وهم يبيتون لرسول الله- صلى عليه وسلم- ويتآمرون عليه لمنعه من اللحاق بالمسلمين في المدينة حتى يمنعونه من تكوين قاعدة إسلامية يمكن أن تحاربهم وأن تنتصر عليهم.
وفي التعليق على هذه الآية الكريمة (رقم 30 من سورة الأنفال) يذكر الشهيد سيد قطب : ما نصه : " إنه التذكير بما كان في مكة, قبل تغير الحال  وتبدل الموقف , وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل, كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر ..., ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة, يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق . وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب , وما كان فيه من خوف وقلق, في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمانينة.... وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم , لا مجرد النجاة منهم! لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحبسوه حتى يموت؛ أو ليقتلوه ويتخلصوا منه؛ أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا... ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله؛ على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا؛ ليتفرق دمه في القبائل؛ ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها, فيرضوا بالدية , وينتهي الأمر !"
وتروي لنا كتب التاريخ الإسلامي أنه بعد بيعتي العقبة الأولى والثانية انتشر الإسلام في يثرب حتى لم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وقد دخله دين الله, فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسلمي مكة بالهجرة إليها, ورأى مشركوا قريش في ذلك خطرا جسيما عليهم لتركز المسلمين فيها واتخاذهم من الذين أسلموا من أهل يثرب منعة ومن أرضها حصنا, فحذروا من خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليهم لأنه لو وصل إلى تلك المدينة لجمع المسلمين لمحاربة أهل الكفر والشرك والضلال في شبه الجزيرة العربية, وكان على رأسهم وفي مقدمتهم قريش , فتنادوا إلى اجتماع في دار الندوة (وهي دار قصي بن كلاب التي كان مشركو قريش لا يقضون أمرا إلا فيها) من أجل التشاور في أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في محاولة لمنعه من الوصول إلى يثرب بأي ثمن.
  وبعد تداول الأمر , تكلم أبو البحتري بن هشام مقترحا حبسه حتى الموت , فرفض اقتراحه خشية أن يعيرهم العرب بذلك, فاقترح الأسود بن عمرو نفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ألى خارج مكة , فردوا عليه اقتراحه قائلين: ليس هذا برأي , ألم تروا حسن حديثة , وقوة منطقه , فإذا حل عند قوم لا يلبث أن يستولي على نفوسهم, ويحل في سويداء قلوبهم.
بعد ذلك تحدث أبو جهل (عمرو بن هشام, زعيم بني مخزوم) قائلا: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد؛ قالوا وما هو يا أبا الحكم؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى , شابا, جليدا, نسيبا, وسيطا فينا, ثم نعطي كل واحد منهم سيفا صارما ,  فيمدوا إليه (أي يذهبون حيث محمد) فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه , فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل , فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا , فرضوا منا بالعقل (أي بالدية) فعقلناه لهم. استحسن الحضور رأي أبي جهل , وقرروا إخراجه إلى حيز التنفيذ . ولذلك قال- تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا...) وفي التعليق على ذلك ذكر الإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "...تشاورت قريش ليلة بمكة , فقال بعضهم : إذا أصبح فاثبتوه بالوثاق- يريدون النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم :بل اقتلوه .وقال بعضهم بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك؛ فبات علي-رضي الله عنه- على فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخرج النبي حتى لحق بالغار. وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي فلما أصبحوا ثاروا إليه, فلما رأوه عليا رد الله- تعالى- عليهم مكرهم , فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري ! فاقتصوا أثره, فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم, فصعدوا في الجبل, ومروا بالغار, فرأوا على بابه نسج العنكبوت, فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه... فمكث فيه ثلاث ليال".
وفي ذلك يروي ابن إسحق قائلا : " فأتى جبريل-عليه السلام- رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال؛ لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. قال: فلما كانت عتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه, فلما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: "نم على فراشي, وتسج ببردي هذا الأخضر, فنم فيه, فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم", وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينام في برده ذلك إذا نام ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق