د.
عدنان النحوي
مع هذه الأيّام تتلفَّت قلوب المؤمنين المتقين
تنظر إشراقة شهر رمضان المبارك،
لتزيح إشراقتُه الظلام الذي يحيط بالنَّاس في الأرض، وقد عَّمت البلوى، وامتدَّ
الهرج والمَرَج، وكثرت الزلازل والبراكين والفيضانات، وماجت دماء المجازر، وهاجت
أعاصير الفتن، واستبدَّ الظلم والفساد والعُدْوان.
شهر
رمضان المبارك أعظم الشهور، ففيه وقعت أعظم الأحداث وأكثرها خيرًا وبركةً على
النَّاس، على مرِّ العصور، مع توالي الأنبياء والمرسلين. فقد أُنزلت الكتب
الإلهيَّة على الأنبياء والمرسلين في هذا الشهر؛ فعن وائلة بن الأسقع أنَّ رسول
الله قال: "أُنزلت صحف إبراهيم في أوَّل ليلة من رمضان، وأُنزلت
التوراة لستٍّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله
القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان"[1].
وقد
أُنزلت الصحف والتوراة والزبور والإنجيل، كلٌّ منها أُنزل جملة واحدة على النبيّ
الذي أُنزل عليه، وأمَّا القرآن الكريم فقد أُنزل إلى بيت العزّة من السماء الدنيا
جملة واحدة في شهر رمضان في ليلة القدر، ثمَّ
أُنزل بعد ذلك مفرَّقًا حسب الوقائع على رسول الله في ثلاثٍ وعشرين سنةٍ: {إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، {إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]. وكذلك: {وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً
كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32].
وأيُّ
خير لدى البشريّة كلّها أعظم من نزول الكتب الإلهيّة على الأنبياء والمرسلين!
وأيُّ خير أعظم من نزول القرآن الكريم هدى للنَّاس كافَّة وآيات بيّنات من الهدى
والفرقان!
وأيّ
نعمة أعظم على النَّاس من أن يُفرَّق بين الحقِّ والباطل بآيات بيّنات، ويُخْرَجَ
الناس من الظلمات إلى النُّور بإذن ربِّهم!
وأيّ
ليلة أعظم من ليلة القدر.. {لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ *
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ *
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 3-5]، {إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ *
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ *
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ *
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 3-6].
وعن
أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : "أتاكم شهر رمضان، شهر
مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنَّة، وتغلّق فيه أبواب الجحيم،
وتغلُّ فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر من حُرِم خيرها فقد حُرِم"[2].
وعنه
أيضًا: إنَّ الله تعالى يقول: "إنَّ الصوم
لي وأنا أجزي به، إنَّ للصائم فرحتين، إذا أفطر فرح، وإذا لقي الله تعالى فجزاه
فرح، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"[3].
وعنه:
"إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنَّة، وغلّقت
أبوابُ النار وسلسلت -صفدت- الشياطين"[4].
والأحاديث
الشريفة عن فضل شهر رمضان كثيرة، تكشف لنا عظمة هذا الشعر وخيره وبركته على من
التزمه صيامًا وقيامًا وآدابًا، فيعتق الكثيرون من النَّار وتغفر ذنوبهم.
فعن
أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
قال: "مَنْ صام رمضان إيمانًا واحتسابًا
غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر"[5].
ولقد
وقعت أحداث مهمة ومعارك فاصلة في حياة المسلمين في شهر رمضان المبارك؛ ففيه كانت غزوة بدر الكبرى
في السنة الثانية من الهجرة، وفتح مكة سنة ثمانٍ للهجرة، وأسلمت ثقيف في رمضان بعد
قدوم الرسول
من تبوك، وكذلك كانت معركة بلاط الشهداء
سنة 411هـ في شهر رمضان، وكان فتح عمورية في هذا
الشهر المبارك سنة 223هـ.
والأحداث
كثيرة في التاريخ الإسلامي، تنبئ أن شهر رمضان لم يكن شهر راحة واسترخاء، لقد كان
شهرًا جامعًا لأنواع الجهاد الذي شرعه الله لعباده المؤمنين؛ فالصيام جهاد النفس
ومجاهدتها، وكذلك قيام الليل، ومجاهدة النفس هي أول أبواب الجهاد في حياة المسلم،
جهاد يمتدُّ معه في حياته كلها وميادينه كلها. ولذلك كان حديث رسول الله
يرويه فضالة بن عبيد رضي الله عنه: "المجاهد
مَنْ جَاهَدَ نفسه في الله"[6].
ويمتدُّ
الجهاد في شهر رمضان المبارك ليبلغ بذل المال والنفس في سبيل الله في مجاهدة أعداء
الله. فما كان شهر رمضان معطِّلاً لطاقة من طاقات المسلمين في شتَّى الميادين،
وإنَّما كان يطلق طاقات المؤمنين على صراط مستقيم بيّنه الله لهم وفصّله، وجعله
سبيلاً واحدًا وصراطًا مستقيمًا، حتى لا يضلَّ عنه أحد إلا الكافرون والمنافقون.
وكان
أداء الشعائر في شهر رمضان والوفاء بها، فرائض ونوافل، ليلاً ونهارًا، ينمّي طاقات
المؤمنين لتنطلق في الأرض تبلّغ دعوة الله إلى الناس كافّة، وتجاهد في سبيل الله؛
لتوفي بالأمانة التي حملها الإنسان، والعبادة التي خُلِق لها، والخِلافة التي
جُعِلَتْ له، والعمارة التي أُمِرَ بها ليعمر الأرض بحضارة الإيمان.
كان
أداء الشعائر أساسًا حقيقيًّا يقوم عليه الوفاء بهذه المسئوليات العظيمة في الأرض،
والتكاليف الربَّانيّة. كان المؤمنون يَعُون أنَّ تكاليف الإسلام لا تقف عند حدود
الشعائر، ولكنَّ الشهادتين والشعائر تقيم الأركان التي ينهض عليها الإسلام
وتكاليفه؛ فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن الرسول
قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله
إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم
رمضان"[7].
كان
المؤمنون المتقون الصادقون يَعُون هذه الحقائق، ويَعُون أنّهم لم يُخْلَقوا عبثًا،
وأنّهم لن يُتركوا سُدًى، وأنَّ الله خلقهم لأداء مهمَّة في الحياة الدنيا من خلال
ابتلاء وتمحيص.
وكان
فضل الله على عباده عظيمًا، حين فرض الشعائر على عباده المؤمنين، لتكون مصدر القوة
والطاقة للانطلاق إلى المهمّة العظيمة التي خلق الله الإنسان لها. وجعل مع هذه
الشعائر الممتدّة مواسم تتجدّد، وكان صيام شهر رمضان من أعظم هذه المواسم، صيامٌ
يتجدَّد كل سنة، مع نوافل في الصيام متجدّدة كلّ أسبوع أو كلّ شهر؛ لتُغذِّي طاقة
المؤمنين لينطلقوا في الأرض، يوفون بالأمانة والعبادة والخلافة والعمارة.
ولا
يقف الأمر عند ذلك، ولكنّه يمتدُّ إلى أمور رئيسية عظيمة أخرى في حياة المسلمين
بخاصّة، وحياة البشريّة بعامّة.
إنَّ
أحكام صيام شهر رمضان المبارك تهدف في جملة ما تهدف إليه إشعار المسلمين في الأرض
كلِّها أنَّها أمة مسلمة واحدة، تعبد ربًّا واحدًا هو الله الذي لا إله إلا هو،
وتدين بدين واحد هو الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا غيره، وتمضي على صراط مستقيم
مشرق بالنور، بيّن بالآيات المفصَّلات، أمّةً واحدةً رابطتها أُخوَّة الإيمان،
الرابطة التي لا تعدلها رابطة في ميزان الإسلام {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
قال
رسول الله : "المسلم أخو المسلم لا
يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كلُّ المسلم على المسلم حرام عِرْضه وماله ودمه.
التقوى ها هنا -وأشار إلى القلب-
بحسب امرئ من الشرِّ أنْ يحقر أخاه المسلم"[8].
وتتوالى
الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة لتؤكِّد هذه الحقيقة المهمة والقضية الخطيرة في
حياة البشريّة كلِّها. وتأتي الأركان الخمسة الشهادتان والشعائر لتؤكِّد كلُّ
واحدة منها هذه الحقيقة المهمَّة مع سائر الحقائق الضرورية للمسلمين وللنَّاس
كافَّة.
وقيام
الأمة المسلمة الواحدة في الأرض صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص ضرورة أساسيّة
للوفاء بتبليغ رسالة الله إلى النَّاس كافّة، ودعوتهم إلى الإيمان والتوحيد وإلى
دين الله، كما أُنزل على محمد .
إن
تبليغ هذه الرسالة العظيمة ودعوة النَّاس إليها وتعهّدهم عليها، أصبح فرضًا على
الأمّة المسلمة على كلِّ مسلم قادر وعلى الأمة كلها، ولا يفلح المسلم ولا الأمة
بهذه القضية إلا إذا كان المسلمون أمة واحدة، صفًّا
واحدًا كالبنيان المرصوص..
{وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ
فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. {وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. وكذلك {إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ
بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
إشراقة
شهر رمضان المبارك تحمل في كلِّ سنةٍ معاني كثيرة وحقائق مهمة من حقائق الإسلام
الكبيرة، ونشير في هذه الكلمة الموجزة إلى الحقائق التي أوجزناها:
-
الأمة المسلمة الواحدة صفًّا واحدًا كالبنيان المرصوص.
-
تبليغ دعوة الله إلى الناس كافة كما أُنزلت على محمد .
-
إنَّ قيام الأمة المسلمة الواحدة وتبليغ رسالة الله للنَّاس كافة حاجة بشريّة
وضرورة لصلاح حياة الإنسان على الأرض، وهي ضرورة لنجاة المسلم والإنسان عامة من
فتنة الدنيا وعذاب الآخرة.
إنَّ
شهر رمضان المبارك يذكرنا بهذه الحقائق كل عام، كما تذكّرنا بها سائر الشعائر
والشهادتان. فما بال المسلمين اليوم تفرّقوا شيعًا وفرقًا وأقطارًا؟! وما بالهم
تمزَّقوا في صراع لا يرضاه الله ولا يأذن به؟!
لقد
تحوّل كثير من قواعد الإسلام إلى صورة جديدة لم يألفها الإسلام الذي جاء به محمد ،
ولا يرضاها. فلقد تحوّل شهر رمضان إلى شهر موائد وطعام وتزاحم على ذلك، وإلى
التمسك بالنوافل وترك بعض الفرائض، وارتخت العزائم وغاب الكثيرون في غفوة شديدة،
وعلت الشعارات وبحَّت بها الحناجر، ودوَّت بها الساحات والمهرجانات، ولم تدوَّ بها
الوقائع والأحداث.
نحتفل
اليوم بإقبال شهر رمضان المبارك وفلسطين تغيب وراء
الأفق، ودماء المسلمين فوّارة في الأرض تحت هدير المعتدين الظالمين المجرمين,
وأشلاء المسلمين وأعراضهم وحرماتهم وأموالهم منثورة يتزاحم عليها المجرمون.
يأتي
شهر رمضان المبارك، كثيرون يتسابقون إلى مواقف الاستسلام والاستخذاء لأعداء الله، كثيرون
يلتمسون النصر من أعداء الله أو من أوثان أو من أوهام، في تمزُّق وفرقة وشتات.
في
الأيام الأخيرة من شهر شعبان ترى الناس يتسابقون إلى الأسواق يختارون أطايب الطعام
للإفطار وللسحور، إنّها القضيّة التي تشغل بال الكثيرين. وعندما تدور الأحاديث عن
شهر رمضان المبارك في بعض وسائل الإعلام في العالم الإسلاميّ، ينصبُّ كثير منها
حول اختلاف الأطعمة من بلد إلى بلد، وحول اختلاف العادات من بلد إلى بلد في
الاحتفاء بشهر رمضان المبارك، العادات التي توارثها جيل عن جيل في مراحل الوهن
والضعف.
كثيرون
ممن ينتسبون إلى الإسلام يقضون ليالي رمضان مع بعض الفضائيات وبرامجها المتفلِّتة،
وآخرون يقضونها في ألوان أخرى من اللهو والضياع، وآخرون قد لا يصومون أو يصلون،
ويظلّون يصرّون على أنّهم من المسلمين.
يقبل
شهر رمضان المبارك، والمسلمون ليس لهم نهج ولا خطة لمجابهة الواقع الأليم، إنما هي
شعارات وأمانٍ وأوهام من خلال الفرقة والتمزق والصراع.
لو
أحصيت الذين يُصلّون الفجر أو أيّ وقت آخر في العالم الإسلامي كله، وأحصيت عدد
الذين ينتسبون إلى الإسلام حسب الإحصائيات، لوجدت النسبة منخفضة جدًّا. فمن يستفيد
من هذه الملايين الضائعة من المنتسبين إلى الإسلام. إنَّ أعداء الله هم الذين
يستفيدون من ذلك كلّه، من خلال عمل منهجي دائب ليل نهار.
كان
شهر رمضان المبارك يقبل فيجمع المسلمين أمة واحدة في المساجد، وفي ميادين الجهاد،
وفي البناء والعمل المتواصل، يمضون على صراط مستقيم، يعرفون أهدافهم والدرب الذي
يؤدِّي إلى الأهداف. واليوم تشعَّبتْ السبل، وضاعت الأهداف، وعمّيت علينا الحقائق.
كان
شهر رمضان المبارك يقبل، فيبادر النّاس كعادتهم بعد صلاة الفجر إلى العمل والسعي
والبناء. واليوم يغلب النوم على الكثيرين فلا يستيقظون على صلاة الفجر، ويمتدُّ
بهم النوم إلى وقت متأخر من الضحى أو النهار كله.
لقد
تغير واقع المسلمين، فعسى أن تنهض العزائم مع إشراقة رمضان لاستئناف الحياة
الصادقة، حياة بناء الأمة الواحدة والصف الواحد، حياة تبليغ الدعوة إلى الناس كافة.
المصدر:
موقع المسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق