الصفحات

الخميس، 28 يوليو 2011

مرجعية الشريعة بين الإسلام والعلمانية: دراسة للواقع المصري

 مرجعية الشريعة بين الإسلام والعلمانية: دراسة للواقع المصري

كتب : خالد صقر في المختار الإسلامي

منذ سقوط مبارك ونظامه في مصر وبدأ الحديث عن شكل الدولة في مرحلة ما بعد الثورة، فبدأ الإسلاميون ينادون بدولة (إسلامية) أو ذات (مرجعية إسلامية) في حين بدأ دعاة العلمانية ينادون بفصل الدين عن مظاهر الحياة العامة وبشكل خاص عن النظام السياسي، وأصبح الحديث عن (دولة مدنية) يسود أوساطهم الإعلامية والفكرية دون أن يكلفوا أنفسهم عناء توضيح ماهية الدولة المدنية أو صفاتها كما يريدونها.
هذا المقال يهدف لتوضيح مبدأ مرجعية الشريعة من حيث أسباب رغبة التيارات الإسلامية في تطبيقه، ومن حيث رفض التيارات العلمانية له وأسباب هذا الرفض ودوافعه، أما الدافع الرئيسي وراء كتابة هذا المقال هو توضيح مدي تباين النظرة للشريعة الإسلامية وحاكميتها بين التيارات الإسلامية والعلمانيين، وهو ما يقود لإدراك خطورة الفكر العلماني علي مصر التي يدين أكثر من تسعة أعشار سكانها بالإسلام.

1- ماهية الشريعة الإسلامية وأهم خصائصها

الشريعة الإسلامية هي منظومة من القواعد الأصولية، والقوانين التفصيلية التي تحكم حياة الفرد المسلم والمجتمع المسلم، وهذه القواعد الأصولية والقوانين التفصيلية مستمدة من أربعة مصادر هي القرآن الكريم، ونصوص السنة المطهرة، والإجماع، والقياس.
وعلم (الفقه) هو العلم الذي يعني بتفصيل قوانين وأحكام الشريعة وكيفية تطبيقها في الحياة الخاصة والعامة، والفقه عند أهل السنة والجماعة له أربعة مدارس فكرية رئيسية يطلق عليها (المذاهب الأربعة)، أما عند الشيعة فالفقه له مدرسة واحدة هي المذهب الجعفري وله أصول وقواعد تخالف أو تضاد المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة كلياً.
أول ما يميز الشريعة الإسلامية علي شرائع الأديان الأخرى أنها تضع ضوابط وقوانين لكل مظاهر الحياة بشكل تفصيلي محكم، بينما شرائع النصرانية واليهودية مثلاً تفتقر لهذه الشمولية وهذا التفصيل في معظم مظاهر الحياة، فعلي سبيل المثال تحدد الشريعة الإسلامية ضوابط محكمة وقوانين تفصيلية للمواريث، وقوانين الأسرة، وقوانين البيع والشراء والاستثمار بكل أنواعه (الشراكة، المؤاجرة، المزارعة...الخ)، بينما ثاني ما يميز الشريعة الإسلامية علي شرائع الأديان الأخرى هي وجوب تطبيقها بالنسبة للمؤمنين برسالة النبي صلي الله عليه وسلم، وهو ما يسميه الفقهاء (بحاكمية الشريعة)، ويدل علي هذا الوجوب العديد من آيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، نذكر منها علي سبيل المثال:
( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) المائدة 48-50.
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) النساء 60-61.
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) الأحزاب 36.
( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) النور 48-51.

2- معنى "مرجعية الشريعة" في نظام الحكم الإسلامي.

نظام الحكم الإسلامي يقوم على أربعة أركان: الحاكم، وأهل الحل والعقد، والقضاء، والشعب، التفاعل بين هذه الأركان الأربعة باختصار شديد يحدث من خلال وضع القضاء لشروط اختيار أهل الحل والعقد، واختصاص أهل الحل والعقد باختيار الحاكم وتقديم الشورى له في القرارات السياسية المختلفة، والتزام الحاكم بتنفيذ قرارات الشورى، وأشراف الشعب علي العلاقة بين أركان الحكم المختلفة. مرجعية الشريعة في هذا الإطار لها إطارين. الإطار الأول يتمثل في أن قرارات الشورى والقضاء لابد أن تكون متوافقة مع مبادئ الشريعة بالكامل، والإطار الثاني أن الشعب يراقب علي أداء الحاكم والنظام السياسي ككل من خلال توافق هذا الأداء مع مقاصد الشريعة وأهدافها الكلية، لهذا فإن مرجعية الشريعة كما تتطلب وجود عدد كبير من علماء الشريعة المتخصصين في أهل الحل والعقد، تتطلب كذلك وجود قدر لا بأس به من الوعي الديني عند الشعب.
ومرجعية الشريعة تحقق المقصود من الآية الكريمة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) - النساء 59.
فمدار الفصل في المنازعات بين الأطراف المختلفة لنظام الحكم في الدولة يجب أن يكون هو الشريعة، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) وعلى الرغم من الخلاف بين بعض التيارات الإسلامية حول قضية تحكيم (الأغلبية العددية) كآلية لدعم اتخاذ القرار في النظام الإسلامي إلا أن كل التيارات الإسلامية السنية في مصر وخارجها قد أجمعت على ضرورة مبدأ مرجعية الشريعة لتقييد نظام الحكم القائم على الديمقراطية أو الشورى بحسب ما يدعو إليه كل من هذه التيارات.

3- مرجعية الشريعة بالنسبة للعلمانية

إن فلسفة العلمانية قائمة علي منهج (الإلحاد الحداثي) الذي نشأ في أوروبا مع الانتقادات العنيفة التي وجهت للنصوص النصرانية في عصر النهضة أو ما يسمي (بالتنوير)، ومنهج الإلحاد الحداثي يقضي بأن الدين إن سلمنا بصحته معرفياً يجب أن يقتصر علي الاعتقاد الشخصي فقط وألا يمتد إلي أي مظهر من مظاهر الحياة العامة، وعلي هذا فيجب أن يتخصل المجتمع العلماني من كل الأطر والقيود (الدينية) و(الأخلاقية) التي توجه وتنظم مظاهر الحياة في الدولة.
وربما يتساءل البعض: لماذا تصر العلمانية علي فصل الدين ومرجعيته عن مظاهر الحياة العامة بهذا الشكل؟ والإجابة علي هذا السؤال تتطلب منا أن نتصفح بعض أقوال الفلاسفة والمفكرين العلمانيين الغربيين بشكل سريع.
* يقول ألكسندر ج. هاريسون في كتابه "تصاعد الإيمان: أسس الحقيقة في الدين والعلم" [1]: "بقدر ما تعتبر العلمانية - بشكل خاص - مرادف للإلحاد فإنها ليست منظومة تحمل الحقيقة المطلق"
* يقول البروفيسور هوراس م. كالن في كتابه "العلمانية هي إرادة الإله" [2]: "العلمانية تعطي الخطأ والصواب نفس الدرجة من الحقيقة، وتجعل الدين مرادف للإلحاد، بالفعل فإن العلمانية هي الإلحاد".
* وتقول جنيان فاولر أستاذة الفلسفة والأديان المقارنة بجامعة ويلز بالمملكة المتحدة في كتابها "الإنسانية المعتقدات والممارسات" [3] "العلماني بشكل عام يكون ملحداً لا يكون عنده إيمان "بإلهs/he has no belief in God "
* ويقول كارل بارت في كتابه "عن الدين: الوحي الإلهي وارتفاع الدين" [4]: "إن الإلحاد دائماً ما يعني العلمانية"
فالعلمانية كفلسفة ومنهج فكري قد تخلصت من أي مقدار من الثقة في الدين، واعتبرت أن الدين ما هو إلا فكرة فلسفية اختلقها الإنسان لملئ الفراغ الروحي الذي تواجد عنده علي مدار آلاف السنين، وبهذا فإنه يكون من العبث أن يربط الإنسان مصالحه ومجتمعه بفكرة فسلفية مختلقة بدلاً من أن يربطها (برغباته) المادية الواقعية، وعلي هذا فتكون (مرجعية الشريعة) هي الفكرة المناقضة تماماً لمنهج العلمانية الفكري وإطارها التطبيقي.

4- بين هؤلاء وهؤلاء: موقف الشعب

يمكن القول بقدر كبير من الثقة أن الشعب المصري في المرحلة الراهنة قد انقسم إلي فريقين رئيسيين من حيث الموقف من قضية مرجعية الشريعة وهوية الدولة الإسلامية: الفريق الأول مذبذب بين التيارات الإسلامية التي لا يلم بكل تفاصيل فكرها ومنهجها ولكنه يميل بشكل قوي إلي تطبيق مرجعية الشريعة بحكم المحافظة علي التقاليد الإسلامية حماية المجتمع من الفساد، والفريق الثاني يعادي فكرة مرجعية الشريعة بشكل حاد وقوي وظاهر ويطالب بتطبيق منهج العلمانية الفكري وأطرها التطبيقية في حذف أي هوية إسلامية للدولة، والجدير بالذر في هذا السياق أن السبب الأول في حالة التردد التي يعيش فيها قطاع عريض من الشعب يمكن الجزم بأنه يتعدي الــ60% - هو الإعلام المرئي الذي يكاد يكون منحاز بشكل كامل إلي التيارات السياسية العلمانية ويعيش في حالة انفصال إن لم يكن عداء مع التيارات السياسية الإسلامية، ويرجع موقف الإعلام هذا إلي الإعداد الفكري الممنهج للنظام السابق لجيل كامل من العلمانيين الذين نشئوا وترعرعوا في صحراء الفكر العلماني والليبرالي المجدبة، بالطبع بأوامر من أمريكا حتى تضمن قدراً مناسباً من الاختراق الإعلامي والثقافي للمجتمع المصري [5].
وعلى هذا فيكون عبئ تصحيح فكر الجماهير وإنارته بمبادئ الشريعة الإسلامية، والعمل علي جعلهم يدركون حتمية استلهام مكتسبات الحضارة الإسلامية من خلال تطبيق نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأجل استعادة مكانة الأمة التاريخية وقيادتها الروحية والمادية للعالم، يقع كل هذا العبء علي عاتق التيارات الإسلامية المختلفة في مصر، ويمكن تلخيص الخطوات الضرورية للقيام بهذا الدور التاريخي فيما يلي:

* أهم خطوة هي الإدراك. وأعني بذلك إدراك عمق الصراع الفكري والمنهجي بين التيارات الإسلامية السنية التي تمثل بذرة لإعادة الخلافة الراشدة إلي هذا العالم بين التيارات العلمانية التي تمثل فلسفة الغرب وأفكاره المعادية لفكرة الخلافة وفكرة توحد دول المسلمين في كيان سياسي واحد. هذا الإدراك هو أساس القيام بأعباء المرحلة التي يفرضها الواقع فرضاً علي كل التيارات الإسلامية.
* نبذ كل الخلافات التنظيمية، وإعداد غرف عمل مشتركة تضم كل التيارات الإسلامية السنية في مصر، وتكون مهمة هذه الغرف التنسيق بين جهود الحركات الإسلامية المختلفة بحيث تقوم بسد كل الثغور علي جبهة الصراع الفكري مع العلمانيين.
* تحييد أثر الإعلام العلماني علي فكر الجماهير ولن يتم هذا إلا بإطلاق عدة منظومات إعلامية مرئية وسيبرية Cyber media متكاملة، تتمتع بنفس درجة الحرفية وعناصر الجذب التي يتمتع بها الإعلام العلماني، مع مراعاة ضوابط الشريعة بالطبع.
* البدء في إعداد وتنفيذ خطط إعلامية شاملة لتغيير دفة الرأي العام الحالية من وضعها (المتذبذب) إلي وضع أكثر استقرارا يضمن حصول التيارات الإسلامية علي أغلبية مقاعد البرلمان في الانتخابات المقبلة، وبالطبع أغلبية الحقائب الوزارية. ويمكن الاستعانة بخبرات أساتذة الجامعات المتخصصين في الإعلام وعلم الاجتماع لإعداد هذه الخطط.
* تفرغ عدد من رموز الحركة الإسلامية في مصر لتأليف أدبيات تخاطب الطبقة المثقفة والواعية في المجتمع، وتؤصل للعديد من القضايا محل الخلاف بما يمكن التيارات الإسلامية من اكتساب أرضية مناسبة في هذه الطبقة، أو علي الأقل وقف الهجوم الشرس عليها.
ونأمل أن تكون هذه الخطوات هي البداية الحقيقية لتكوين جبهة إسلامية موحدة تحيي ما تصدع من أعمدة الحكم الإسلامي وتعيد بناء ما تهدم من أساسات دولته.

المراجع
[1] Alexander J.Harrison (2003) Ascent of Faith Or the Grounds of Certainty in Science and Religion، Kessinger Publishing
[2] Horace M.Kalen (1954) Secularism is the will of God:an essay in the social philosophy of democracy and religion، Twayne Publishers
[3] Jeaneane D.Fowler (1999) Humanism:beliefs and practices، Sussex Academic Press
[4] Karl Barth (2007) On religion:the revelation of God as the sublimation of religion، Continuum International Publishing Group
[5] خالد صقر (2011) التأثير الأمريكي في السياسة المصري:تحديات مابعد الثورة مجلة العصر بتاريخ 25-04-2011        .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق