بقلم محمد القدوسي :
هل يمكن الآن أن نقرر بوضوح أن
ثورة مصر في 25 من يناير/ كانون الثاني كانت لها انطلاقتان، وأنها شهدت
انقساما منذ كانت وإلى الآن؟ هل لنا أن نؤكد أن هذه الثورة بدأت كمحاولة
لتعديل التوازن النسبي بين مكونات دولة "الأقليات المتساندة" الحاكمة، وهل
لنا أن نؤكد أن القوى الأساسية التي مهدت لهذه الثورة لم تكن تسعى إلى أكثر
من إعادة ترتيب المواقع؟
فالكتلة
الليبرالية في إطار "دولة الأقليات المتساندة وفي القلب جنرال" كانت تزحف
للحصول على مساحة أوسع وترتيب أفضل، غالبا على حساب الكتلة اليسارية
الموجودة في إطار الدولة نفسها، بينما كان اليسار يسعى إلى تقليل خسائره
أمام الطفيليين الذين كانوا يواصلون زحفهم يسارا ويمينا على حساب الكتلة
الإسلامية الداخلة في إطار هذه الدولة، والتي يمكن اعتبارها قبل الثورة
"أكبر الخاسرين".
كان
المطلوب إجراء تعديل يأتي في جانب منه تعبيرا عن "إقرار واقع" راح يتكون
منذ عهد الرئيس أنور السادات، واستفحل في عهد الرئيس حسني مبارك، وفي
الجانب الآخر يعبر عن اختلاف الأوزان النسبية، حين فقد اليسار كثيرا من
أوراقه في الداخل والخارج، وكذلك الإسلاميون، في وقت يمسك فيه الطفيليون
بزمام الاقتصاد وزمام الأمن أيضا.
يمسكون
بزمام الأمن لا بواسطة "البلطجية" فحسب -وهؤلاء كان دورهم كبيرا وترقوا في
بعض الأحيان إلى مناصب أمنية قاعدية، مثل "شيخ الحارة" و"شيخ البلد"
و"العمدة"- لكن كان الطفيليون يسيطرون على الأمن في قمة وزارة "الداخلية"
التي أصبحت في سنواتها الأخيرة وزارة "الحراسات الخاصة" بمعنى أنها انصرفت
عن "الأمن العام" إلى حماية من يدفع.
وهكذا
فقد كانت تحمي "لصوص" البنوك لا البنوك، و"لصوص" الآثار لا الآثار،
و"لصوص" الأراضي لا الأراضي. وفي الانتخابات كانت تحمي المزورين لا
المرشحين، والبلطجية لا الناخبين، وتحول دون دخول اللجان ودون إصدار
البطاقات الانتخابية، عكس مهمتها الأصلية بتسهيل هذا وذاك.
ومع
هذه السيطرة على الاقتصاد "الأسود" والأمن "جهاز القمع" كان طبيعيا أن
يتطلع الطفيليون إلى مكانة أكبر، ضاغطين على "أفندية" اليسار الذين مثلوا
بالنسبة لهم خصما تقليديا لزمن طويل من ناحية، ومن الناحية الأخرى على
ممثلي ما يسمى "الإسلام الرسمي" الذين تورط بعضهم في سلوك أسقط الهيبة
وأجاز الاجتراء.
وفي
المقابل تعامل الطفيليون بحذر شديد مع الليبراليين، من جهةٍ تحسبا
لعلاقاتهم القوية مع الولايات المتحدة التي يرجع إليها الطفيليون الأمر كله
ومعها الغرب، ومن جهة أخرى لأن صعود الليبراليين في مصر مهد المناخ أمام
الطفيلية للنمو، بمنأى عن "ضوابط" اليسار و"قيم" اليمين.
ومع
حلفاء -وأحيانا خدم- بمثل هذه "الشراسة" وخصوم بمثل هشاشة كل من الكتلتين
الإسلامية واليسارية الرسميتين، كان لليبراليين أن يتطلعوا لصدارة المشهد،
خاصة وأن نجاح مشروع "التوريث" كان معلقا على الدعم الأميركي، وهو وضع
استثنائي، يمنح الكتلة الليبرالية في دولة الأقليات فرصة تاريخية للصدارة.
هكذا،
وبدلا من صيغة "تحالف قوى الشعب العامل" التي اتخذتها دولة الأقليات على
عهد "الرئيس جمال عبد الناصر"، والتي كان اليسار في طليعتها ثم الإسلام
الرسمي ثم الرأسماليون والليبراليون، مع هامش من الطفيليين. بدلا من هذه
الصيغة، كنا سنصل إلى طليعة ليبرالية ثم طفيلية، وبعدهما اليسار، مع هامش
من "الإسلام الرسمي".
ثم
إن التغيير لم يكن ليتناول أطراف الدولة ممثلة في "الأقليات المتساندة"
وحدها، بل قلبها المتمثل في "الجنرال" أيضا، وعلى نحو جوهري، حيث لم يعد
منطقيا أن يحتفظ جنرال كامب ديفد بأي من ملامح أو صلاحيات جنرال "لا صوت
يعلو فوق صوت المعركة".
كان
على الجنرال -وفي إطار مشروع التوريث- أن يتحرك من موقع "القيادة
المباشرة" إلى موقع "الإشراف"، وهو الدور نفسه الذي يتواصل السعي نحوه حتى
الآن في خطوات أبرزها "وثيقة المبادئ الحاكمة للدستور" التي تنص أول ما تنص
على أنها مبادئ غير قابلة للتعديل مطلقا.
وهذا
الأمر لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود من يحميها من التعديل والإلغاء، مستندا
إلى قوة لم نر من يمتلكها في طول تاريخ مصر وعرضه إلا المؤسسة العسكرية
التي تنص الوثيقة في الوقت نفسه على استبعادها من سدة الحكم.
والسبب أن أصحاب الوثيقة يريدون للمؤسسة العسكرية أن تلعب الدور نفسه الذي لعبته نظيرتها التركية، عبر صيغة أن "تحمي ولا تحكم".
لكن
التناقض القاتل في هذا التصور يكمن في أنه يسعى لتطبيق نظام تجاوز الزمن
نسخته الأصلية "تركيا" التي عدلت دستور الانقلاب العسكري الصادر في 1982،
وهي تسير ببطء واطراد نحو تغيير شامل لمواده، يمهد لتغيير آخر -لم يعد
مستبعدا- للمواد التي ورد النص على عدم جواز تعديلها منذ "أتاتورك".
ثم
إن بنية المجتمع في مصر تجعلها أقرب في هذا السياق إلى النموذج الباكستاني
لا التركي، حيث المؤسسة العسكرية هي اللاعب الرئيسي الذي يحرك بعض من
يمثلون القوى العرقية والعشائرية والطائفية لا السياسية.
وفوق
هذا فإن المؤسسة العسكرية لا ترحب بمثل هذا التغيير في دورها، وهو موقف
يفتح خطا لصراع جانبي غير خاف، بين "الجنرال" و"الأقليات المتساندة".
كان
من تحركوا في 25 يناير، باستثناء الإخوان المسلمين واليسار الثوري، لا
يريدون للعهد "البائد" أن يصبح "بائدا" بل "معدلا"! كانوا يريدون تحقيق
"الثورة" بمفهوم تغيير ترتيب الأقليات، وإعادة صياغة دور الجنرال، مع بقائه
في القلب وبقاء الأقليات حوله.
كانوا
أشبه بمجموعة ركاب في سيارة قرروا التوقف لحظة لتغيير أماكنهم فيها، من
دون إضافة ولا حذف. أما ما حدث في الانطلاقة الثانية للثورة، يوم 28 من
يناير/ كانون الثاني، فيشبه أن بعض الشركاء المستبعدين من هذه السيارة،
تعرفوا عليها عند وقوفها، وراحوا يطالبون بنصيبهم فيها.
وهؤلاء
هم "الأغلبية المستبعدة" وفي قلبها القوى الإسلامية التي لم يلتحق بعضها
بالثورة منذ اليوم الأول لخطأ في التقدير، وبعضها أجل إعلان التحاقه عن
تدبير، حيث إن الدروس القاسية التي تلقاها أبناء دولة "الأغلبية المستبعدة"
من مواجهاتهم الدامية دائما وبالضرورة، مع دولة "الأقليات المتساندة" كانت
ماثلة في الذهن على نحو يوجب الحرص، ويلزم معه اتباع مبدأ "وليتلطف ولا
يشعرن بكم أحدا" الذي حدثني أحد أصحاب الدور القيادي في الثورة عن تفاصيل
تطبيقه، وكيف أن سقوط أول شهيد في اليوم الأول، ثم القمع المكثف الذي بلغ
ذروته في الجمعة 28 من يناير، وانسحاب الشرطة، وإطلاق "البلطجية" على
الشوارع والبيوت، كل هذا عجل بفرصة القوى الإسلامية للظهور بوضوح.
وفي
حوار آخر سألني قيادي في الجماعة الإسلامية وإعلامي بارز، سؤالا لا يخلو
من عتاب، عن سر "تخاذل" الناس عن "نصرة" الجماعة الإسلامية في "ثورتها"
التي أطلقتها خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات.
وأضاف
"يغضب الناس الآن لسقوط مصاب أو قتيل في خضم تظاهرات كثيفة العدد، بينما
قتلت الشرطة العشرات من الإسلاميين بالرصاص في الشوارع، وهم يسيرون آمنين
لا هم يحتجون ولا يتظاهرون ولا يحملون سلاحا".
قلت
له: لا الناس تخاذلوا ولا ما قامت به الجماعة الإسلامية كان ثورة، بل كان
بالتكييف الاجتماعي والسياسي المجرد، حربا أهلية بين فريقين ينتميان إلى
شعب واحد، ويعيشان على أرض واحدة، الأول هو "دولة الأقليات المتساندة
والجنرال في القلب" التي تحكم مصر منذ استقر الأمر لمحمد علي بعد مذبحة
القلعة (أول مارس/ آذار 1811م) والثاني هو الفصيل الجهادي، الذي يمثل جزءا
من الحركة السلفية، وهي بدورها جزء من التيار الإسلامي، الذي ينتمي إلى
دولة "الأغلبية المستبعدة".
والنصر
في حرب كهذه أصعب بكثير من النجاح في ثورة، إذ لا بد من إنجاز حسم عسكري،
كان من المستحيل تحقيقه بجزء من دولة لا مؤسسات لها في مواجهة الدولة
الحاكمة، وكان من المستحيل على الدولة الحاكمة أن تحوله إلى "استئصال" من
شأنه أن يستدعي بقية فصائل "الأغلبية المستبعدة" التي تشكل فيما بينها
مجتمعا مترابطا بخيوط من المصلحة والمصير المشترك.
وهذا
الموقف لا يمكن لدولة حصيفة أن تورط نفسها فيه، لهذا أوقفت الدولة الحرب
الأهلية التي سمتها حربا فعلا "الحرب على الإرهاب" عند حدود "إخضاع العدو".
وأعلنت الكتلة الرئيسية من الفصيل الجهادي امتثالها لشروط الهدنة المفروضة
عليها في هذه الحرب، عبر ما عرف بـ"المراجعات" التي صدرت عن الجماعة
الإسلامية، وعن تنظيم الجهاد أيضا.
أما
عن عدم التعاطف مع ضحايا الجماعة الإسلامية، فلأن هذه الجماعة تنتمي لدولة
أخرى غير الدولة صاحبة الهيمنة الإعلامية والسياسية. ومن هنا كان يمكن لأي
عابر سبيل أن يهز كتفيه ويمضي، غير عابئ بهذا الرجل ذي الجلباب القصير
الذي تعرض توا لرصاصات قاتلة، لأن "عابر السبيل" هذا كان "مغسول الدماغ"
بحيث لا يتصور وجود صلة ما تربطه بالضحية.
صحيح
أن الجماعة الإسلامية كانت تنتمي لدولة "الأغلبية المستبعدة" لكنها أغلبية
مفككة عبر قمع ومنع ومصادرة طوال القرنين الماضيين، وهما القرنان الأكثر
تأثيرا والأسرع تطورا في تاريخ البشرية، مما جعل هذه الدولة تتخلف زمنا
يصعب قياسه، وتفتقر -لطول الغياب عن المشاركة ولقلة الوعي- إلى بنيان مؤسسي
حقيقي، بينما دولة "الأقليات المتساندة" تملك "ترسانة" من المؤسسات
الإعلامية والسياسية والاقتصادية، كما تملك دعما وصلات خارجية من دون حدود،
مما يمنحها قوة وتماسكا، حتى وإن كانت قدرتها على الحشد باهتة.
لهذا
لم يجد ضحايا "الحرب على الإرهاب" مؤسسة تتبنى قضيتهم، لم يكن لهم ظهير من
المجتمع الدولي (بالعكس كان هذا المجتمع ومازال عدوا صريحا) ولا إعلام
يتحدث بلسانهم، ولا مؤسسة سياسية توسع دائرة أنصارهم.
وهذا
قصور مؤسسي فادح، شعر به -وإن لم يدرك أبعاده- "الفصيل الجهادي" منذ
البداية، لهذا عمد فورا إلى "المواجهة المسلحة" التي تعتمد على القوة، لا
إلى "الثورة" التي تعتمد على الكثرة، وهو خيار أفقد الجهاديين أهم أوراق
قوتهم، بأن عزلهم عن أغلبية ينتمون إليها، وألجأهم إلى قوة لا يملكون
أسبابها.
لهذا
كان التيار الإسلامي بالغ الحذر عند مشاركته في الثورة، ولهذا سيطر عليه
هاجس "الفتنة" التي أحرقته نارها من قبل، غير قادر -للوهلة الأولى- على
إدراك الاختلاف في معطيات المشهد.
لكنه
سرعان ما تجاوز هذه البداية القلقة، بحيث يمكن القول الآن إنه ما كان يمكن
للثورة المصرية أن تنطلق من الإسلاميين، وما كان يمكن لها أن تستمر من
دونهم.
والآن
يكثر الحديث عن دور "تطور وسائل الاتصالات" في إطلاق الثورة، وهو -مع كل
التقدير لأهميته- عامل مهيئ، مجرد عامل مهيئ. وكذلك عن دور "صراع الأجيال"
وهو عامل مهم، لكنه موجود طوال الوقت، حيث شيوخ اليوم كانوا بالأمس شبابا،
وشباب اليوم سيصبحون في غد شيوخا.. وهلم جرا.
لكن
لا أحد يتحدث عن "بؤرة التوتر الدائم" المتمثلة في دولتين توجدان وربما
تتواجهان في اللحظة نفسها، دولة تنهض من ركام عهدها البائد، هي دولة
"الأقليات المتساندة" بجنرالها الذي تقدر أنه يميل في النهاية إلى التوافق
معها، برغم كل "الغزل" المتبادل مع قوى إسلامية، ودولة "الأغلبية
المستبعدة"، بتخلفها المؤسسي الذي تحاول تجاوزه عبر "كوادرها" لكنها تتقدم
ببطء تحتاج معه إلى وقت غير متاح، وإلى مناخ هو حتى الآن غير موات.
وإذا
كان احتمال استيعاب حشد "الأغلبية المستبعدة" في مؤسسات "الأقليات
المتساندة" يبدو مخرجا ملائما لتجنب المواجهة، فإن "ورقة الطائفية" التي
يتعلق بها أصحاب المصلحة في بقاء الحال على ما هي عليه، تسد سبل هذا الحل،
وتبقي مصر عالقة بين "البائد" و"المتخلف".
المصدر : الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق