الليبرالية - مفهومها - وتأسيسها - وأفكارها وعقائدها - وأنواعها - وموقفها من الاسلام - وموقف الاسلام منها(2)
من كتاب حقيقة الليبرالية وموقف الاسلام منها للدكتور سليمان الخراشي نتابع معكم مايلي :
ثامن عشر: آثار وأخطار الفكر الليبرالي على المسلمين
هل الليبراليون يملكون مشروعا جادا وحقيقيا للنهضة؟
وهل لديهم رؤية ناضجة للإصلاح؟
الواقع الذي لا مراء فيه: أن غاية ما عند هؤلاء الليبراليين هو مسخ هوية المجتمع والانقلاب على الذات وتلميع الفكر الغربي, واستنساخه بدون وعي أو صدق مع الذات أو مع المجتمع!
وأحسب أن هذا التيار المنحرف ليس له جذور عميقة في المجتمع, وليس له امتداد أو قبول شعبي, لكن خطورته تكمن في أن بعض وسائل الإعلام المحلية والإقليمية صدرت رموزه, وجعلت منهم مفكرين إسلاميين, وخبراء في الحركات الإسلامية, وصناع للرأي العام!
وفيما يلي بعض آثار ومخاطر الفكر الليبرالي على المسلمين:
أولا: الآثار العقدية:
التشكيك في العقيدة الصحيحة وزعزعة الثقة بها, بمختلف الأسباب والطرق الملتوية الخبيثة, مما يؤدي عياذا بالله إلى انصراف الناس وعزوفهم عنها.
القطيعة التامة مع مصادر التلقي والاستدلال عند المسلمين والتزهيد, بل التشويه المتعمد للتراث الإسلامي عقيدة وشريعة.
إحياء التراث الفلسفي والمعتزلي, وتقريبه للناس في قالب جميل مزخرف مما يؤدي عياذا بالله إلى تقبل هذا التراث المنحرف في ظل الجهل الذي يخيم على كثير من الناس.
الهزيمة النفسية أمام الأعداء التي يريدون أن يغرسوها في أفراد الأمة شاءوا أم أبوا من خلال أمور عدة منها:
بهدم حاجز الولاء والبراء.
إلغاء الجهاد.
الترويج بأن المسلمين متخلفون, ولا يمكن أن يتقدموا أبدا والانبهار بالغرب رغم تراجع الحضارة الغربية والتنبؤات من قبل منظريهم بزوالها.
إفساح المجال أمام التيارات المنحرفة الزائغة, بدعوى حرية الرأي والانفتاح على الآخر.
الارتماء في أحضان الأعداء وتقليدهم, وتقبل الغزو الفكري بحجة صحة هذه الأديان وأن ما عندهم لا يخالف صراحة ما عندنا.
نشر ثقافة تقبل الآخر ولو كان ملحدا, وضياع ما أسماه العلماء بحفظ الضرورات الخمس وعلى رأسها (حفظ الدين).
ثانياً: الآثار التربوية والأخلاقية والاجتماعية:
إفساد المرأة المسلمة, وجعلها دمية يتلاعب بها المنحرفون سلوكيا وأخلاقيا.
طمس معالم الأخلاق الإسلامية, وذلك عن طريق الانحلال والتفسخ الأخلاقي, فلقد فتح هذا الفكر الباب على مصراعيه لدعاة التغريب بحيث لو طبقت المجتمعات كل ما يرونه ويؤصلونه لأصبحت مجتمعات منحلة لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا.
فها هو خالص جلبي يدعو إلى هذا التهتك والسفور بطريقة مثيرة للدهشة والاستغراب!!,
يقول: "عند سكان أستراليا الأصليين, تتدلى أثداء النساء بدون أن تثير الفتنة. وفي كهوف الفلبين, يعيش الناس رجالا ونساءً مع أطفالهم في عري كامل, فلا يصيح واعظهم أن هذا مخل بالأخلاق!!وبالمقابل فإن كشف (يد) امرأة متلفعة بالسواد من مفرق رأسها حتى أخمص القدم في بعض المناطق من العالم العربي, يثير الشهوة عند رجال يعيشون في حالة هلوسة جنسية عن عالم المرأة" .
إماتة وإضعاف جانب الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثاً: الآثار السياسية:إقصاء الشريعة عن الحكم وعزلها عن الحياة, وحصرها في نطاق المسجد والعبادات الشخصية, وهو ما يعرف بـ (العلمانية) أو اللادينية فالدعوة الليبرالية في حقيقتها هي العلمانية, وإن وجد فاصل بينهم فهو رقيق جدا وكأنهما وجهان لعملة واحدة واسمان لمسمى واحد. .يقول عادل الطريفي: "إن حاجة كثير من البشر للإيمان بالدين هي في إعطائهم معنى روحيا لحياتهم, ولكن بعد ذلك تصبح الأديان غير قادرة على التدخل في تحديد النظم الحياتية للبشر, إنها تفيد في قيادة أخلاق الناس وتوجيههم الوجهة الروحية المطمئنة, ولكنها تخرج عن دورها المطلوب إذا فرضت شروطها على مواضعات البشر السياسية والاقتصادية والاجتماعية" .ويقول يوسف أبا الخيل: "الإسلام بصفائه الأول كما نزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يفرق تماما بين الناحية الروحية والناحية الاجتماعية بكافة ما تشتمل عليه من سياسة واقتصاد وتربية وتعليم وصناعة إلخ, الأولى تنظمها النصوص الصحيحة صحة قطعية ثبوتا ودلالة, أما الثانية فمتروك شأنها للعقل البشري ليرى فيها ما يشاء وفق مصالح الجماعة الراهنة المتأثرة بالمتغيرات الزمانية والمكانية, وهذه هي الحداثة بعينها بغض النظر تماما عما اصطحبته الممارسات التاريخية الاجتماعية منها والسياسية معها من تراث بشري خلط الروحي بالدنيوي والسياسي بالديني تبعاً لإملاءات أيديولوجية مختلفة" .
الولاء للفكر الغربي, والاستقواء بالأجنبي.
تاسع عشر: الحكم الشرعي في الليبرالية
الليبرالية – كما سبق – فكرة غربية مستوردة، وليست من إنتاج المسلمين، وهي تنفي ارتباطها بالأديان كلها، وتعتبر كافة الأديان قيودا ثقيلة على الحريات لابد من التخلص منها.
وقد تقدم الكلام حول حقيقتها، وتصورها لمفهوم الحرية، ومن خلال ما تقدم يتبين لنا أن الليبرالية مناقضة للإسلام في أصوله ومنهجه وأخلاقه وقيمه.
ومحاولة التوفيق بين " الليبرالية " و " الإسلام " هي تغيير لمفهوم كل واحد منهما، وتبديل لمعناه يخرجه عن حقيقته إلى مفهوم مشوه، وصورة غير صحيحة لكل منهما.
ومن البديهي أن نقول: إن فلاسفة الليبرالية ومفكريها الذين وضعوا أصولها في فترات مختلفة قد شكلوها خارج إطار الأديان جميعا، ولم يدعي أحد منهم ارتباطها بدين من الأديان ولو كان دينا محرفا.
ومع هذا الوضوح يبقى من يصر من المسلمين على أنه بالإمكان الجمع بين منهج مادي يرفض قيود الأديان، ومنهج الإسلام الرباني، ولهذا سنبين بما لا يدع مجالا للشك أن الليبرالية تعني في الإسلام ألوانا متعددة من الكفر والشرك المناقض لحقيقته، وأشكالا مختلفة تنافي أخلاقه وقيمه الكريمة.
أولا: نواقض الإيمان في الليبرالية :
إن دارس الليبرالية يجد أنها دعوة إلى الإلحاد ورفض الأديان حيث لا تعترف بهيمنة الدين على الحياة الإنسانية، فقد نمت هذه الفكرة في أجواء رافضة للدين، ومعترضة عليه، وهي تريد أن تعطي الإنسان حريته المطلقة بالتحلل من قيود الأديان والقيم والأخلاق، فأساس الفكرة قائم على تعظيم العقل الإنساني وماديته، ولهذا ارتبطت عبارة " الفكر الحر" في كتابات الغربيين بالإلحاد والرفض للدين والقيم وعليه فإن الليبرالية لا تتفق مع الإسلام.
و في هذه الفقرة سأذكر بعضا من أنواع الكفر والشرك الواقعة في الليبرالية، ليتبين من خلالها الحكم الشرعي في الليبرالية :
كفر الاستحلال: الاستحلال معناه: أن يعتقد في المحرمات أنها مباحة، ويجوز فعلها مع علمه بأن الله تعالى حرمها ، وقد أجمع العلماء على أن المستحل لما حرمه الله تعالى مما هو معلوم من الدين بالضرورة ومتواتر فهو كافر خارج عن دين الإسلام ، يقول القاضي " عياض " : " وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه، كأصحاب الإباحة من القرامطة، وبعض غلاة المتصوفة" ........وضابط الأمر المستحل هو أن يكون أمرا ظاهرا متواترا لا يوجد فيه خلاف ولا شبهة مثل تحريم الزنا والربا وأكل الخنزير وغيرها .وسبب كفر المستحل التكذيب أو العناد، فإن اعتقاد إباحة أمر محرم يدل على تكذيبه لمن حرمه أو عناده له، وكلاهما مناقض لحقيقة الإيمان .فلا يشترط لتكفير المستحل أن يصرح بالتكذيب أو يعتقده، لأن الجحود في حد ذاته كفر ينقل عن الملة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالفواحش والظلم، والخمر والميسر، والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة: كالخبز واللحم والنكاح. فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل " .
وهذا النوع من الكفر موجود في الليبرالية، لأن من مفاهيم الليبرالية المتعلقة بالحرية " منع التحريم "، أو " منع المنع "، فلا يمكن أن يجتمع الفكر الليبرالي مع التحريم الإلهي المقيد لحرية الفرد، كما يقول جون مل: " إن التحريم يمس حرية الفرد لأنه يفترض الفرد لا يعرف مصلحة نفسه " ومن بديهيات الليبرالية " إباحة الزنا "، وهي إباحة عقائدية، وليست مجرد ممارسات عملية، ولا يمكن أن يكون الرجل ليبراليا وهو يعتقد تحريم الربا، والبيوع المنهي عنها لأن هذا يتعارض مع حرية التجارة والاقتصاد، كما أنه لا يمكن أن يكون ليبراليا وهو يعتقد تحريم الزنا والتبرج والشذوذ الجنسي لأن هذا يناقض الحرية الشخصية.
والليبرالية مذهب فكري يحدد للفرد الممنوع واللازم قبل أن يكون ممارسة عملية، فهو اعتقاد وتصور واع لسائر أنماط الحياة البشرية.
كفر الشك:
الشك هو عدم اليقين، والتردد بين شيئين، وعدم القطع بالصحة أو البطلان، أو الخطأ أو الصواب، ونحو ذلك، وعدم وجود القطع واليقين هو من الريب والشك.
ومن أساسيات الإسلام وجود اليقين في التوحيد والإيمان، فالتوحيد والإيمان لا يغني فيه إلا اليقين الجازم، ولهذا عده العلماء شرطا أساسيا من شروط لا إله إلا الله. يقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [ الحجرات: 15]، فاشترط في صحة إيمانهم عدم الريبة، وهي الشك والظن ، ولهذا جاء الشك والريب وصفا للمنافقين فقال تعالى: إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [ التوبة: 45]، ولقد جاء في الحديث : ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)) . وجاء في حديث أبي هريرة مرفوعا: ((من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة)) . " فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط" .
.......والفكر الليبرالي لا يعتقد عقائد جازمة غير حق الفرد في الحرية الفردية مهما توصل له من أفكار وعقائد وآراء، فهو لا يملك عقيدة يقينية محددة، لأن كل عقيدة قابلة للتغيير، ومن حق الآخر أن يعتقد خلافها، وهذا الفكر لا يملك جوابا محددا على أوضح الأمور مثل وجود الله تعالى وربوبيته، لأن المنهج السيال الذي يعتمد عليه يجعل كل أمر قابل للصواب أو الخطأ، وربما أوصلت المنهجية الليبرالية إلى عقائد متناقضة.
وبهذا يتبين أن الليبرالية تصحح العقائد المتناقضة، والأفكار المتعارضة، ولا تجزم بحقيقة عقدية، وتبني قاعدة " قولي صواب يحتمل الخطأ، وقولك خطأ يحتمل الصواب "، وتجعل ذلك قاعدة عامة في أصول العقائد وسائر الأديان. فالمنتسب للإسلام منهم يعتقد أن إسلامه صحيح يحتمل الخطأ، وعقيدة الآخر (الكافر) خطأ يحتمل الصواب، ويرفضون الجزم العقائدي في جانب الصحة أو البطلان . وهذا هو الشك بعينه.
كفر الإباء والامتناع: حقيقة الإباء والامتناع هي عدم الانقياد والاستسلام لأمر الله تعالى وشرعه، ومن المعلوم أن الإيمان يتضمن أخبار تقتضي التصديق، وأوامر تقتضي الانقياد والتسليم، ومناقضة التصديق يكون بالتكذيب، ومناقضة الانقياد والتسليم يكون بالإباء والامتناع .وقد ينضاف إلى الإباء والامتناع " الاستكبار " مثل كفر إبليس وفرعون واليهود ، وقد يكون الإباء والامتناع دون " استكبار" .وقد قرر أهل العلم أن الطائفة الممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب قتالها، وأجمعوا على ذلك، كما فعل الصحابة مع الممتنعين عن أداء الزكاة، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية أن الطائفة الممتنعة إذا قاتلهم الإمام على ذلك فقاتلوه فهم كفار وليسوا بغاة .
......ولا ريب أن الفكر الليبرالي يؤسس للامتناع عن شرائع الإسلام في مجال السياسة والاقتصاد، ولهذا تكونت الدول الليبرالية بعيدة كل البعد عن شرائع الإسلام في نظمها السياسية والاقتصادية.
ومن ذلك امتناع الدول الليبرالية من تطبيق الحدود والعقوبات الشرعية، وكذلك الامتناع عن تحريم الربا في البنوك والمؤسسات المالية، وهكذا.
الحكم بغير ما أنزل الله: والمراد هنا : تشريع القوانين الوضعية المضادة لشريعة الله أو استحلال الحكم بغير ما أنزل الله – وقد تقدم الكلام في الاستحلال -، وليس المعنى في هذه الفقرة: القاضي الملتزم بتحكيم الشرع ثم يحكم بهواه وشهوته دون تغيير أو تبديل للأحكام.
والتشريع حق خاص لله تعالى، وهو الأمر الشرعي في قوله تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف: 54]، ومن نصب نفسه مشرعا من دون الله تعالى فقد نازع الله في ربوبيته كما قال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [ التوبة:31]، وحقيقة فعلهم أنهم أحلوا الحرام، وحرموا الحلال فاتبعوهم على ذلك.
وقد أوجب الله تعالى الحكم بشريعته، وجعله من العبادة فقال تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [ يوسف:40]، وقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام: 57] وبين خطورة الإعراض عن الحكم بالشريعة فقال تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [ المائدة:44]
وقال تعالى أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ [ آل عمران:23] وقال تعالى أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً [ النساء: 51]، والكفر الأكبر في الحكم بغير ما أنزل الله ثلاثة أنواع :الأول: استحلال الحكم بغير ما أنزل الله، وهذا أمر متفق عليه، ويدخل فيه : جحد أحقية حكم الله ورسوله، أو اعتقاد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، أو اعتقده مثله، أو اعتقد جواز الحكم بما يخالفه، أو اعتقد أن حكم الله ورسوله لا يصلح للتطبيق في زمن الحداثة، أو أنه سبب التخلف، أو أن الإسلام لا يتضمن منهجا للحكم، لأن الدين علاقة روحية بين العبد وربه، ونحو ذلك من العقائد المرتبطة بالاستحلال .
الثاني: التشريع المخالف لشرع الله تعالى، ويكون ذلك بتبديل الأحكام وتغييرها، وهذا ما يحصل في الأنظمة الديمقراطية حيث يرون أن المشرع هو الشعب.
يقول الشيخ " محمد بن إبراهيم آل الشيخ " عن هذا النوع: " وهو أعظمها وأشملها، وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية: إعدادا وإمدادا وإرصادا، وتأصيلا وتفريعا، وتشكيلا وتنويعا، وحكما وإلزاما، ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني, وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة" .
ويدخل في هذا من جعل لنفسه حق التشريع، أو وضع نظاما وضعيا يحكم به غير الشريعة الإسلامية. الثالث: طاعة المبدلين مع علمهم أنهم خالفوا شريعة الله وحكمه .
والليبرالية هي عبارة عن اجتماع لهذه الأنواع المكفرة جميعا، لأنها تستحل الحكم بغير ما أنزل الله، وتعتبر أن من حق الفرد أن يشرع لنفسه ما يعتقد أنه الأصلح له، ولهذا فإن النظام السياسي المبني على الفكرة الليبرالية هو النظام الديمقراطي، وهو نظام يعتمد على أن الشعب هو مصدر التشريع الوحيد، وأن الدين لا دخل له في الحكم فهو مجرد علاقة روحية بين العبد وربه.
وكل من تصور الليبرالية، وعرف حقيقتها فإنه يجزم أنها لا تعترف بحكم الله، ولا تقر بشريعته، وترى أن الحرية الإنسانية كافية في إصدار التشريعات دون الرجوع إلى جهة إلهية خارج نطاق العقل الإنساني.
ولا ريب أن مقاييس علماء الإسلام في أحكام الكفر تنطبق عليها (الليبرالية) بمجرد معرفة حقيقة الفكرة وتصورها، ومن هذه الأحكام أنها حكم بغير ما أنزل الله استحلالا أو تشريعا.
ولو قال قائل: إن الليبرالية تطبق شريعة الله وحكمه في الحدود والأموال والأسرة وغيرها لأضحك على نفسه كل باحث يعرف مفهوم الليبرالية وتاريخها ومرجعيتها.
وقد تقدم معنا عرض تفصيلي عن الليبرالية اتضح لنا فيه أن الليبرالية عقيدة في الحرية الفردية تعتمد على العقلانية المنكرة للوحي، والمادية المضادة للقيم والأخلاق.
شرك القصد والإرادة :
عندما خلق الله تعالى الإنسان خلقه وله إرادة وقصد في كل وقت. فكل عمل يقوم به الإنسان من أعماله الاختيارية لابد أن يكون أراده وقصده قبل ذلك. وهذه طبيعة نفسية فطر الله تعالى عليها الإنسان.
وهذه الإرادة قد تكون لله تعالى فتكون حينئذ توحيدا خالصا، وقد تكون لغير الله تعالى فتكون حينئذ شركا خالصا. وهي مهيأة لأن تكون على التوحيد أو الشرك. أما أن تكون النفس مريدة وليست على التوحيد ولا على الشرك فمحال.
.........وإذا كان عبدا لغير الله كان لابد مشركا، وكل مستكبر فهو مشرك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارا عن عبادة الله، وكان مشركا... بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارا عن عبادة الله، كان أعظم إشراكا بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقرا وحاجة إلى مراده المحبوب الذي هو مقصود قلبه بالقصد الأول، فيكون مشركا لما استعبده من ذلك، ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله مولاه، الذي لا يعبد إلا إياه " .
و على هذا: فمن جعل الله تعالى همه وغاية مراده وقصده فهو محقق للتوحيد، لأن الإرادة الناشئة عن محبة الله تعالى والافتقار إليه وجعله غاية القصد هي أصل التأله والتعبد له تعالى، وإذا لم تكن إرادة الإنسان وهمه وقصده لله تعالى فلا بد أن تكون لغيره، وخلو القلب من هذا وذاك أمر مستحيل، وهذا الغير يكون حينئذ شريكا لله تعالى.
........وعلى هذا: فمن اتبع هواه مطلقا، وانصرف إلى الدنيا وآثرها، فقد أصبح عبدا لها، مشركا في الألوهية، خالدا في النار، ويدل لذلك قوله تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15-16] . وقوله تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [ الشورى: 20]، وقوله تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [ الإسراء: 18]. وقوله تعالى: فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ النازعات:37 - 41]. وهذا الشرك المخرج من الملة هو عندما يكون الباعث له على العمل وقصده منه إرادة الدنيا وقصدها.
وهذا الشرك ينطبق على الليبرالية لأنها اتباع تام للهوى والرغبة، وإيثار للدنيا وحطامها الفاني، وهو ما نجده في الكلام حول الحرية الشخصية، أو التطبيقات الرأسمالية الجشعة التي تدل على أن الباعث للعمل هو قصد الدنيا وإرادتها، فلا يمكن أن يقال إن الفكر الليبرالي يوصل لإرادة الله تعالى وقصد طاعته.
فتوى للشيخ صالح الفوزان عن الليبرالية
المكرم فضيلة الشيخ : صالح بن فوزان الفوزان :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما قول فضيلتكم في الدعوة إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية ؟ وهو الفكر الذي يدعو إلى الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي، فيساوي بين المسلم والكافر بدعوى التعددية، ويجعل لكل فرد حريته الشخصية التي لا تخضع لقيود الشريعة كما زعموا، ويحاد بعض الأحكام الشرعية التي تناقضه ؛ كالأحكام المتعلقة بالمرأة، أو بالعلاقة مع الكفار، أو بإنكار المنكر، أو أحكام الجهاد.. إلخ الأحكام التي يرى فيها مناقضة لليبرالية. وهل يجوز للمسلم أن يقول : ( أنا مسلم ليبرالي ) ؟ ومانصيحتكم له ولأمثاله ؟
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد : فإن المسلم هو المستسلم لله بالتوحيد، المنقاد له بالطاعة، البريئ من الشرك وأهله. فالذي يريد الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي ؛ هذا متمرد على شرع الله، يريد حكم الجاهلية، وحكم الطاغوت، فلا يكون مسلمًا، والذي يُنكر ما علم من الدين بالضرورة ؛ من الفرق بين المسلم والكافر، ويريد الحرية التي لا تخضع لقيود الشريعة، ويُنكر الأحكام الشرعية ؛ من الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومشروعية الجهاد في سبيل الله، هذا قد ارتكب عدة نواقض من نواقض الإسلام، نسأل الله العافية. والذي يقول إنه ( مسلم ليبرالي ) متناقض إذا أريد بالليبرالية ما ذُكر، فعليه أن يتوب إلى الله من هذه الأفكار ؛ ليكون مسلمًا حقًا.
عشرون: قوادح الأخلاق في الليبرالية
لقد بنيت الليبرالية على أساس مادي لا يرتبط بالقيم والأخلاق، وقد تبين لنا فيما تقدم أثر الحرية الفردية على المجتمع الغربي، فالأنانية واتباع الهوى، وما يترتب عليهما من انعكاسات أمور محمودة عندهم لأنها تحقيق لذاتية الإنسان وفرديته، وهذا ما أوصل المجتمع إلى التعامل بطريقة غير أخلاقية في سياسته واقتصاده، فقد أصبح الحديث عن الأخلاق في مجال المال والاقتصاد مثار سخرية وتندر لدى الليبراليين لأنه لا مجال للحديث عن القيم الأخلاقية في الأمور الاجتماعية، فالأخلاق هي العمل أيا كان تقويمه من حيث الجودة أو الرداءة، فالإنسان الأخلاقي هو الإنسان المنتج، وهذا ما جعل الأخلاق لا قيمة لها في الحقيقة. فانتشرت بسببها: الأثرة، والظلم، واتباع الهوى.
واحد وعشرون: شبهات وردود
يردد بعض المفتونين بالليبرالية عددا من الشبهات يعارضون بها الحكم السابق عليها، منها:
الشبهة الأولى: شبهة التكفير:
وهذه الشبهة تظهر في الحكم على كل مذهب إلحادي يفد على البلاد الإسلامية، حيث يقولون: إن بعض الليبراليين ينطقون الشهادتين، ويصلون، ويؤدون الشعائر التعبدية، والقول بأن الليبرالية عقيدة كفرية يكون بمثابة تكفير المسلمين، وهذه هي عقيدة الخوارج الضالين.
ونجيب عن هذه الشبهة بأن ثبوت الإسلام للإنسان يشترط له بالإضافة إلى الإتيان بالواجبات المذكورة في الشبهة وغيرها: ترك النواقض والمبطلات لحقيقة الإيمان والإسلام، فمن يأتي بهذه الواجبات، وهو قائم على نواقض الإيمان، فإنها لا تنفعه حتى يترك النواقض.
ولهذا حذرت الشريعة الإسلامية من " نواقض الإيمان "، وبينت خطورتها، فقد يكفر الإنسان ويخرج من الملة، وهو لا يزال يشهد أن لا إله إلا الله ويؤدي بعض الواجبات، وهذه حقيقة شرعية قطعية.
وهذه الحقيقة موجودة في كل دين، لأنه ما من دين إلا ويوجد له نواقض إذا وجدت بطل أصل هذا الدين، وكذلك الأمر في العبادات كالصلاة والوضوء وغيرها لو أتى الفرد بواجباتها وارتكب مبطلاتها لم تنفعه هذه الواجبات.
ومن المعلوم المجمع عليه عند أهل السنة والجماعة أن لكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) شروطا عظيمة وليست مجرد كلمة تقال بالألسن، ومن هذه الشروط: الانقياد والقبول والتسليم والإخلاص وغيرها. ولهذا لم يعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم إقرار الحبرين من اليهود بأنه "رسول الله " لأنهما لم يلتزما بالإسلام، و في الحديث أنهما: ((قبلا يديه، وقالا: نشهد أنك نبي. قال: فما يمنعكما أن تتبعاني، قالا: إن داود عليه السلام دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخشى إن أسلمنا تقتلنا يهود)) .
وهكذا أقر أبو طالب بصدق دينه في قوله:
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت قدم أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينالولا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا
ومثله إقرار هرقل بنبوته عليه الصلاة والسلام، لأنه إقرار باللفظ لا يتضمن التزام عملي (القبول والانقياد والتسليم).
وقد قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه وعموم العرب عندما رفضوا معنى (لا إله إلا الله) وقالوا: " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب "، ولم يفعل ذلك لمجرد اللفظ، وهذا ما فهمه المشركون في زمانه، ولهذا لم يقبلوا ولم ينقادوا. وهذه الشبهة تدل على عدم الفهم الصحيح للإسلام، وأنه التزام حقيقي، وجهاد للباطل وأهله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لمن خاف من القتال في سبيل الله " لا صدقة ولا جهاد بماذا تدخل الجنة " والسيرة العملية للقدوة عليه الصلاة والسلام تبين حقيقة الإسلام والإيمان ، فهي تفسير واقعي لحقيقة الإيمان في كافة المجالات: في النفس والمجتمع الإسلامي، والعلاقة بالآخر (الكافر/والمنافق)، و في الحكم والاقتصاد وغيرها من المجالات.ومن جهة أخرى فإن التكفير الوارد حول هذا المذهب يقع على العقائد، والأفكار، والآراء التي يتضمنها، وهذا يسمى " كفر النوع "، وهو تحرير المسائل الكفرية دون النظر للمعينين، أما الفرد المعين فإن وجدت فيه هذه العقائد والأفكار، والآراء، فإنه لابد من توفر شروط التكفير فيه وانتفاء موانعه عنه .
هذا في حال تلبسه بهذه المكفرات، أما مجرد الانتماء لهذا المذهب وحده، فهو غير كاف في اعتباره متلبسا بهذه المكفرات، لأن الواقع يشهد بأنه يوجد من ينتمي إلى مذهب فإذا سئل عنه، وصفه بغير حقيقته دون إقرار بالمكفرات التي هي مناط الكفر.
وبناء على ذلك فإن المعينين تختلف أحوالهم، وأوضاعهم، ولكن العقائد والأفكار تبقى ثابتة يمكن أن يطلق عليها حكم محدد، ولا يعكر على ذلك اختلاف أحوال المعينين وأحكامهم.
وكلامنا في هذا الفصل يكون حول العقائد والأفكار، وليس على المعينين فلهم شأن آخر. وهذا أمر معروف عند علماء السلف الصالح حيث يطلقون وصف الكفر على المقالة، ويبينون وجه مناقضتها لأصل الدين دون أن يقتضي هذا تكفير كل معين يقول بهذه المقالة، فضلا عن تكفير المنتمي لفرقة تقول بها لمجرد انتمائه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فقد يكون الفعل أو المقالة كفرا، ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة، أو فعل ذلك الفعل، ويقال: من قال كذا فهو كافر، أو من فعل كذا فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بأنه من أهل النار، لجواز أن لا يلحقه، لفوات شرط أو لثبوت مانع " ، وقد حذر علماء السلف من إطلاق تكفير المعين دون بينة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ النساء:94] .وبقوله صلى الله عليه وسلم : ((إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)) ، يقول الشاطبي: " والحاصل أن المقول له إذا كان كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل وذهب به المقول له، وإن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه " .
والتكفير حكم شرعي تترتب عليه لوازم في الدنيا والآخرة، فيجب الاحتياط فيه، والحذر من الاستعجال فيه، ولهذا قد تكون المقالة كفرا ناقلا عن الملة، ولا يكون القائل بها كافرا إذا لم تقم عليه الحجة أو كان متأولا. يقول ابن تيمية: "ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمر يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم، ويكفرون من لم يجبهم، حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وغير ذلك، ولا يولون متوليا، ولا يعطون من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم ولا جاحدين لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك " ، ولكن هذا لا يعني أن المعين لا يكفر إذا وجدت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، فإنه إذا تم التأكد من ذلك يكفر بعينه، فقد أفتى علماء الإسلام بردة عدد ممن أعلنوا الكفر وتحققت فيهم شروط الكفر، ويدخل في هذا الصدد قتال الصحابة للمرتدين، وفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في قتال التتار وتكفيرهم ، وغيرهم .
أما تكفير المذاهب الإلحادية المعاصرة فهو أمر ضروري لتعلم الأمة الإسلامية خطورة هذه المذاهب وتحذر منها، ومن ذلك: ما قرره مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي من تكفير " العلمانية "، وهي المنبع الذي خرجت منه سائر المذاهب المعاصرة بما فيها " الليبرالية " وينص القرار على ما يلي:
أولا: إن العلمانية (وهي الفصل بين الدين والحياة) نشأت بصفتها رد فعل للتصرفات التعسفية التي ارتكبتها الكنيسة.
ثانيا: انتشرت العلمانية في ديار الإسلامية بقوة الاستعمار وأعوانه، وتأثير الاستشراق، فأدت إلى تفكك في الأمة الإسلامية، وتشكيك في العقيدة الصحيحة، وتشويه تاريخ أمتنا الناصع وإيهام الجيل بأن هناك تناقضا بين العقل والنصوص الشرعية، وعملت على إحلال النظم الوضعية محل الشريعة الغراء، والترويج للإباحية، والتحلل الخلقي، وانهيار القيم السامية.
ثالثا: انبثقت عن العلمانية معظم الأفكار الهدامة التي غزت بلادنا تحت مسميات مختلفة كالعنصرية، والشيوعية والصهيونية والماسونية وغيرها، مما أدى إلى ضياع ثروات الأمة، وتردي الأوضاع الاقتصادية، وساعدت على احتلال بعض ديارنا مثل فلسطين والقدس، مما يدل على فشلها في تحقيق أي خير لهذه الأمة.
رابعا: إن العلمانية نظام وضعي يقوم على أساس من الإلحاد يناقض الإسلام في جملته وتفصيله، وتلتقي مع الصهيونية العالمية والدعوات الإباحية والهدامة، ولهذا فهي مذهب إلحادي يأباه الله ورسوله والمؤمنون.
خامسا: إن الإسلام هو دين ودولة ومنهج حياة متكامل، وهو الصالح لكل زمان ومكان، ولا يقر فصل الدين عن الحياة، وإنما يوجب أن تصدر جميع الأحكام منه، وصبغ الحياة العلمية الفعلية بصبغة الإسلام، سواء في السياسة أو الاقتصاد، أو الاجتماع، أو التربية، أو الإعلام وغيرها.
التوصيات:
يوصي المجمع بما يلي:
على ولاة أمر المسلمين صد أساليب العلمانية عن المسلمين وعن بلاده، وأخذ التدابير اللازمة لوقايتهم منها.
على العلماء نشر جهودهم الدعوية بكشف العلمانية، والتحذير منها.
ج – وضع خطة تربوية إسلامية شاملة في المدارس والجامعات، ومراكز البحوث وشبكات المعلومات من أجل صياغة واحدة، وخطاب تربوي واحد، وضرورة الاهتمام بإحياء رسالة المسجد، والعناية بالخطابة والوعظ والإرشاد، وتأهيل القائمين عليها تأهيلا يستجيب لمقتضيات العصر، والرد على الشبهات، والحفاظ على مقاصد الشريعة الغراء." و في السياق نفسه فقد أصدر مجلس علماء إندونيسيا فتوى بكفر الليبرالية ، ونصت الفتوى التي صدرت في ختام مؤتمر المجلس السابع على أن " التعاليم الدينية المتأثرة بالأفكار العلمانية والليبرالية هي تعاليم منافية لحقيقة الدين الإسلامي، و على المسلم أن يعتقد أن دين الإسلام هو الدين الحق، وأن ما سواه هو الباطل" .
الشبهة الثانية: أن الليبرالية مجرد آلة وليست عقيدة:
هذه الشبهة تقوم على أن الليبرالية ليست عقيدة يمكن أن توصف بالإيمان أو الكفر، وإنما هي مجرد آلة عصرية يمكن الاستفادة منها لتحديث المجتمع وتطويره.
ويبدو على هذه الشبهة أسلوب المخادعة، والهروب من الحقيقة، فإن من يدرس الليبرالية يتبين له أنها عقيدة فكرية متكاملة، وفلسفة مادية إلحادية، فدعوى أنها مجرد آلة هي هروب مما تتضمنه الليبرالية من مناقضة لأحوال الإسلام، وهذه الدعوى لا يوافق عليها أحد من مفكري الليبرالية المعروفين. وإذا كان بعض الليبراليين يخادع نفسه بادعاء أن الليبرالية مجرد آلية فإن منهم من يصرح بأنها منهج للحياة كما فعل الدكتور محمد الرميحي في قوله: " ومع أن الليبرالية هي مفهوم فلسفي، وطريقة تفكير وموقف من الحياة أكثر منها آلية محددة للحكم، فإن الديمقراطية في معناها الشامل هي النتيجة الطبيعية للفكر الليبرالي " .
وقد تقدم الكلام على حقيقة الليبرالية وأسسها الفكرية، وبه يتبين أن الليبرالية منظومة فكرية متكاملة، وعقيدة سياسية واقتصادية محددة، وليست مجرد آلة كما يزعم البعض.
الشبهة الثالثة: أن الليبرالية تشتمل على بعض الإيجابيات:
وترى هذه الشبهة أن الليبرالية مشتملة على أمور إيجابية مثل إكرام الإنسان، وعدم إهدار حقوقه، وشحذ الدافع الذاتي (الفردية) للإنسان مما ولد المنافسة القوية بين الشركات الكبرى بحيث توصلت من خلال هذه المنافسة إلى تحريك الاقتصاد، واكتشاف المخترعات الحديثة المفيدة للإنسان، هذا بالإضافة إلى المشاركة السياسية، والحرية في مؤسسات المجتمع، والصحافة، وتكوين الأحزاب والمعارضة وغيرها، ولا يمكن أن يكون هذا معارض للإسلام.
ويمكن الجواب عن هذه الشبهة من وجوه عدة:
أولا: أن وجود بعض الإيجابيات لا يدل على صحة هذا المذهب أو ذاك، لأنه ما من فكر باطل أو بدعة مخترعة إلا ويوجد فيها شيء من الحق كما قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [ آل عمران:71]، فلا يكاد يوجد مذهب إلا وهو مشتمل على بعض الإيجابيات، ولكن ذلك لا يستلزم الصحة كما قال تعالى عن يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا [البقرة:219].
ثانيا: أن سلبيات الليبرالية ومساوئها أكثر، وأعظمها الكفر والشرك بالله تعالى، والأثرة، واتباع الهوى، والظلم للفقراء والطبقات المتدنية، والحروب، والاحتلال وغيرها.
ثالثا: أن إيجابيات الليبرالية لا تخلو من جوانب سلبية، لأنها حريات مفتوحة غير منضبطة فحقوق الإنسان فتح مجال الإلحاد، والفساد الأخلاقي إلى درجة الشذوذ، والفردية أصبحت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وأنانية مقيتة، والديمقراطية رفعت أصحاب رؤوس الأموال، وجعلتهم يتحكمون في المجتمع بأموالهم.
رابعا: أن أي صفة إيجابية في مذهب باطل فإنها موجودة في دين الإسلام بأحسن وأكمل وأنقى من النقص من غيره، وهذا من كمال الدين وتمامه المنصوص عليه في قوله تعالى:الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، و في قوله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وقوله تعالى : هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138]، وغيرها فلا نحتاج إلى أن ننقل من المناهج والمذاهب المنحرفة بحجة وجود إيجابيات فيها، فلا خير إلا وقد دلنا له الإسلام ولا شر إلا حذرنا منه، فكل خير موجود في الإسلام دون أي شائبة.
الشبهة الرابعة: قول بعضهم: سنقيد الليبرالية بقيود الشرع!
فلا نقبل منها أي أمر يخالف شريعة الإسلام، حيث نؤقلمها مع عقيدتنا وظروفنا. والجواب: قد قيل مثل هذا ممن أراد الترويج للديمقراطية ؛ مدعيا أنه لن يقبل بالتصويت على أمر مخالف للإسلام، وأنه.. وأنه.. إلى آخر القيود، فقيل لها: إذا قيدتها بهذه الأمور فلا تسميها " ديمقراطية " ؛ لأنها لن تكون كذلك! سمها إسلاما، ودع هذا التلاعب. ومثل هذا يقال لمن أراد أن يقيد الليبرالية بقيود الشرع؛ لأنها ستكون شيئا آخر غير الليبرالية. والله الهادي.
تحية مكتبة المنارة الأزهرية للجميع وتابعونا في مقالات "ديانات ومذاهب فكرية "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق