شهادة الزور ... بين الفكرين: الشرعي والوضعي
شهادة الزور جريمة من جرائم تضليل العدالة عن طريق الكذب أمام القضاء، وهي جريمة وثيقة الصلة بمباشرة القضاء في وظيفته السامية في نشر العدل بين الناس، والتي تقتضي تذليل ما قد يوضع في طريقه من عراقيل، وما قد يتعرض له من محاولات الغش والتضليل.
وقد عرّف القانون البحريني على سبيل المثال جريمة شهادة الزور بأنها: "تعمد الشاهد تغيير الحقيقة أمام القضاء وبعد حلفه اليمين القانونية، تغييرًا من شأنه تضليل القضاء"؛ وعليه يتضح أن أركان الجريمة الثلاثة، وهي كالآتي:
الركن الأول: صدور فعل مادي هو تغيير الحقيقة في شهادة بيمين أمام القضاء؛ ويمكن تحليل هذا الركن إلى ثلاثة عناصر؛ وهي:
أولًا: تغيير الحقيقة في شهادة، وهو جعل واقعة مزورة في صورة واقعة صحيحة أمام مجلس القضاء، وفي شهادة بيمين أديت في دعوى مطروحة على القضاء، ويتوافر تغيير الحقيقة بإنكار الحق أو التأييد الباطل تضليلًا للقضاء، أيا كان موضعه أو صورته، ولا يلزم أن تكون الشهادة مكذوبة من أولها إلى آخرها، بل يكفي أن يتعمد الشاهد تغيير الحقيقة في بعض وقائع الشهادة دون بعضها الآخر.
ثانيًا: حلف اليمين، فأوجب قانون الإجراءات الجنائية وقانون الإثبات بأن يحلف الشاهد اليمين قبل الإدلاء بأقواله في الواقعة، سواء كانت مدنية أو جنائية وذلك بحسب ديانة الشاهد.
ثالثًا: أن تكون الشهادة أمام القضاء، ويلزم أن يكون قول الزور في شهادة أديت أمام القضاء الجالس في دعوى مطروحة عليه؛ للفصل فيها سواء أكانت جنائية أم مدنية أم شرعية.
الركن الثاني: الضرر، والضرر في شهادة الزور ركن موضوعي قائم بذاته تقوم الجريمة بقيامة مع باقي الأركان الأخرى وتنتفي بانتفائه، والضرر الذي يقصده المشرع وهو الذي يحدث فيه تضليل للقضاء وهو ضرر أدبي عام، يغني عن البحث في توافر الضرر الذي قد يلحق خصمًا في الدعوى ماديًّا كان أم أدبيًّا، فمن يشهد لصالح متهم كذب بقصد تخليصه من العقاب يعد مضللًا للقضاء، وبالتالي شاهد زور، ويكفي أيضًا أن يكون الضرر محتملًا.
الركن الثالث: القصد الجنائي، وشهادة الزور جريمة عمدية فيلزم لقيامها توافر القصد الجنائي العام أي انصراف إرادة الجاني إلى تحقيق وقائع الجريمة مع الإحاطة بأركانها كما يتطلبها القانون، فلا يتحقق ركن العمد إذا كانت أقوال الشاهد غير صحيحة لضعف في ذاكرته أو حواسه، أو عن تسرع في الإدلاء بها بغير تدبر، وبعبارة أخرى فإنه يلزم هنا: "أن يتعمد الجاني أن يكذب، ويغير الحقائق بحيث يكون ما يقوله محض افتراء في مجلس القضاء وبسوء نيه".
عقوبة شهادة الزور في القانون البحريني:
أولًا: عقوبة شهادة الزور بحسب الأصل جنحة كما بينتها الفقرة الأولى من المادة 235 من قانون العقوبات البحريني للعام 1976م، والتي تنص على أنه "يعاقب بالحبس أو الغرامة الشاهد الذي يدلي بعد حلف اليمين أمام محكمة جنائية بأقوال غير صحيحة، أو يكتم كل أو بعض ما يعلمه من وقائع الدعوى، التي يؤدي عنها الشهادة".
ثانيًا: تصبح عقوبة الشهادة الزور جناية إذا ترتب على الشهادة الحكم على متهم في جناية بعقوبة أشد؛ تكون في هذه الحالة عقوبة الشاهد هي العقوبة المقررة لهذه الجناية، وذلك طبقًا للفقرة الثانية من المادة 235 من ذات القانون.
ثالثًا: وفي هذه الحالة الأخرى تكون عقوبة شهادة الزور جناية يعاقب فيها بالسحن مدة لا تزيد على خمس سنين، الطبيب أو القابلة إذا طلب أو قبل لنفسه أو لغيره عطية أو مزية من أي نوع، أو وعدا بشيء من ذلك نظير أدانه الشهادة زورًا في شأن حمل أو ولادة أو مرض أو عاهة أو وفاة، أو إذا أدى الشهادة بذلك نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة، وذلك طبقا للمادة 237 فقرة أولى عقوبات.
أما في الشريعة الإسلامية، فانطلاقًا من أن شهادة الزور سبب لزرع الأحقاد والضغائن في القلوب، ولأن فيها ضياع حقوق الناس وظلمهم وطمس معالم العدل والإنصاف، ولأن من شأنها أن تعين الظالم على ظلمه وتعطي الحق لغير مستحقه، و تقوض أركان الأمن، و تعصف بالمجتمع و تدمره، ونظرًا لما في هذه الجريمة من أضرار ومخاطر على الأفراد والمجتمعات، فقد ورد ذمها في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}[ الفرقان:72]؛ ويقول: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، ويقول: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة: من الآية2].
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر(ثلاثاً))؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً، فقال: (ألا وقول الزور)، قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) [متفق عليه، رواه البخاري، (6919)، ,مسلم، (269)].
وفي الحديث: (من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) [رواه البخاري، (1903)].
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تعدل شهادة الزور بالشرك وقرأ: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30].
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: قدم رجل من العراق على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: جئتك لأمر ماله رأس ولا ذنب فقال عمر: وما ذاك؟ قال: شهادة الزور ظهرت بأرضنا، قال: وقد كان ذلك؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب: و الله لا يؤسر "لا يحبس" رجل في الإسلام بغير العدول.
وقد رد الشرع المطهر شهادة الفاسق و شهادة الخائن و الخائنة والزاني و الزانية ومن على شاكلتهم؛ لأن من عرف بتضييع أوامر الله أو ركوب ما نهى الله عنه فلا يكون عدلاً.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة، وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع [السائل المستطعم أو الخادم] لأهل البيت، وأجازها لغيرهم) [رواه أبو داود، (3602)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (3600)].
فمن خان في الدين والمال والأمانات لا يصح قبول شهادته، و في الحديث: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) [متفق عليه، رواه البخاري، (2509)، ومسلم، (2533)].
قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد.
وعلى الرغم من خطورة اقتطاع حقوق الناس بشهادة الزور إلا أن لها معاني أخر لا تقل في خطورتها، فالزور هو الشرك على قول الضحاك و ابن زيد، وقال مجاهد هو الغناء ، و قال ابن جريج: هو الكذب، أو هو أعياد المشركين، وقال قتادة: هو مجالس الباطل، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور} [الحج:30]، يعني: الافتراء على الله والتكذيب.
لواء الشريعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق