الإسلام دين
هداية ورحمة واستعصاء
د . عبد الله قادري الأهدل
الجزء الأول
الإسلام دين رحمة وهداية
الإسلام دين رحمة وهداية
أطلق أعداء الإسلام عليه في الغرب مصطلح "العدو الأخضر" في مقابل "العدو الأحمر" وهو "الشيوعية" التي كان الاتحاد السوفييتي يحملها – نيابة عن الدول الشيوعية التي تدور في فلكه – ويحميها ويدافع عنها، ويرد عنها هجمات الغرب الرأسمالي، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية...
والإسلام إنما جاء هدى و رحمة للعالمين من يوم نزوله إلى أن تقوم الساعة، وهو ليس عدوا لمن استظل تحت رايته أو سالمه وسالم أهله، بل عدوُّ الناس وعدو تقسه هو الذي يعاديه ويعادي أهله...
الإسلام دين هداية
فقد جاء الإسلام ليهدي الضالين ليتمكنوا بحججه وبيناته من التفريق بين الحق والباطل، كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...﴾ [البقرة (185)]
وقال تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ [الإسراء (9)]
وهو امتداد للهدى الذي منحه الله تعالى للبشرية من يوم خلق أصلها آدم عليه السلام، وجعله معيارا يفرق به بين المهتدين والضالين، كما قال تعالى:
﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة(39)]
فمن طلب الهدى في هذا الدين وجَده، ومن أبى فَقَدَه، والناس في ذلك يشبهون المرضى الذين يصف لهم أطباؤهم أدوية أمراضهم، فمن استعمل الدواء شفي بإذن الله، ومن أبى فقد رضي لنفسه بالبقاء في مرضه...
ولهذا خص الله تعالى الهدى في غير ما آية بالمؤمنين المتقين لربهم، لأن هؤلاء هم المنتفعون به، فاستحقوا ذلك التخصيص...
كما قال تعالى: ﴿ذلك الكتاب هدى للمتقين﴾ [البقرة (2)]
وقال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [القرة (97)]
رحمة شاملة لكل البشر
والإسلام كذلك رحمة لكل من رغب في رحمة الله من الناس، كما قال تعالى واصفا رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء(107)]
فمن طلب رحمة الله في هذا الدين وجدها، ومن أباها ورفضها فقدها، ولهذا خص تعالى رحمته في غير ما آية بمن آمن به وأطاعه، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف (52)]
وعلى هذا الأساس تُنال رحمةُ الله في الآخرة لمن طلبها في الدنيا بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
كما يتبين لك في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قالوا: يا رسول الله ومن يأبى! قال: (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) [صحيح البخاري، برقم (6851)]
ورحمة الإسلام ليست خاصة بالآخرة فقط، وإن كانت رحمة الآخرة هي الأعلى والأغلى والأبقى.
ولكن رحمة الدنيا تسبق رحمة الآخرة، فلا رحمة في الآخرة لمن لم ينل رحمة الله الدينية في الدنيا، ورحمة الله في الدنيا إنما ينالها حقا من اتصل بخالقه إيمانا وعبادة وسلوكا، وطبق شرع الله في حياته، فقام بحق الله وحق نفسه وحق خلقه، على ضوء ما شرع الله في كتابه وسنة رسوله...
وسيأتي بيان شيء من ذلك في سياق أسباب استعصاء الإسلام....
رحمة الله في الآخرة خاصة بالمؤمنين من كل الأمم
وأما رحمته في الآخرة، فهي خاصة بالمؤمنين من عباده، ممن آمنوا برسله ولم يفرقوا بين أحد منهم، وخاتمهم رسول الله إلى العالمين محمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينال رحمة الله إلا من آمن به واتبع صراطه المستقيم.
قال تعالى:
﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157)﴾ [الأعراف]
قال الألوسي رحمه الله:
﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾ "أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر، ولا مطيع ولا عاص، إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي" [روح المعاني (9/76)]
وقال السعدي رحمه الله:
﴿ورحمتي وسعت كل شيء﴾ من العالم العلوي والسفلي، والبر والفاجر المؤمن والكافر، فلا مخلوق إلا قد وصلت إليه رحمة الله وغمره فضله وإحسانه.
ولكن الرحمة الخاصة المقتضية لسعادة الدنيا والآخرة ليست لكل أحد، ولهذا قال عنها: ﴿فسأكتبها للذين يتقون﴾ المعاصي صغارها وكبارها، ﴿ويؤتون الزكاة﴾ الواجبة مستحقيها، ﴿والذين هم بآياتنا يؤمنون﴾ [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان تفسير (1/ص305)]
المسلمون رحماء مجاهدون.
المسلمون هم أهل الإسلام وحاملوه، وهم دعاته وحاموه، وهم أمة إجابة رسوله ومتبعوه، فرض الله عليهم دعوة الناس إلى دينهم كما فرض ذلك على نبيهم:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف (108)]
وكلفهم الله بيانَ ما أنزل على رسوله كما كلفه، وحذرهم من التقصير في هذه الوظيفة كما حذره، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة (67)]
وقال لهذه الأمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)﴾ [البقرة]
وكما أن نبيهم جاء بالهدى والرحمة للعالمين: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة (128)]
فلهم فيه قدوة حسنة وهدي كريم: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [ الأحزاب(21)]
شمول رحمة المسلمين
ورحمة المسلمين لا تحتص بهم فقط، بل هي شاملة لهم ولغيرهم من المخلوقات في الدنيا.
فقد أمر صلى الله عليه وسلم أمته برحمة كل من أوجده الله تعالى على هذه الأرض، من إنسان وحيوان.
كما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء...) [سنن الترمذي (4/323) رقم (1924) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"]
والظاهر أن (مَن) الموصولة في قوله: (ارحموا من في الأرض) شاملة للإنسان مسلما أو كافرا، وللحيوان كذلك، وعلى هذا حمله العلماء.
قال الحافظ رحمه الله: "قال بن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب..." [فتح الباري (10/440)]
وقد وردت أدلة أخرى يدل عمومها على أن هذا الشمول مقصود، فقد وصف الله تعالى المؤمنين بالتراحم بينهم، كما قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح (29)]
والكفار الذي يكون المؤمنين أشداء عليهم، هم المحاربون لهم المعتدون عليهم، الذين يقاتلونهم ويخرجونهم من ديارهم، أو يدعمونهم على ذلك ويظاهرونهم، كما هو حال اليهود في فلسطين، وحال قادة أمريكا في مظاهرتهم، وحال هؤلاء في عدوانهم على البلدان الإسلامية.
قال تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)﴾ [الممتحنة]
ونفى الله تعالى رحمته عمن لم يرحم الناس، كما في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) [صحيح البخاري (6/2686) رقم (6941) و صحيح مسلم (4/1809) رقم (2319)]
وهو نفي عام يدخل فيه كل الناس، والنفي هنا للوعيد والتحذير والتنفير من الغلظة والشدة والعدوان على الناس، ولا يلزم منه حرمان من فقد الرحمة الواجبة من رحمة الله له في الدنيا، بمنحه الرزق والصحة والقوة المادية والذرية وغيرها، سواء كان من المسلمين أو غيرهم، ابتلاء له وامتحانا، لأن رحمة الله في الدنيا تعم جميع خلقه.
ومن الأدلة على شمول رحمة لخلق أن جعل من يقوم على اليتامى، بالإنفاق والكفالة الشاملة التي يحتاجون إليها، شركاء لرسوله صلى الله عليه وسلم في الجنة، كما في حديث سهل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى)
وفرج بينهما شيئا. [صحيح البخاري (5/2032)]
وبين في حديث أبي هريرة أنه يستوي في هذه المنزلة من كفل يتيما من أقاربه أو من غيرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم - له أو لغيره- أنا وهو كهاتين في الجنة وأشار مالك بالسبابة والوسطى) [صحيح مسلم (4/2287)]
وهو يشمل كذلك يتامى المسلمين وغيرهم، كما تدل عليه صيغة العموم، لأن "أل" في اليتيم للجنس...
وأنزل صلى الله عليه وسلم، من اهتم بالمحتاجين، وبخاصة الأرامل والمساكين، منزلة المجاهدين في سبيل الله، والمجتهدين في التقرب إلى الله بما يرضيه من فرائض العبادات ونوافلها ليلا ونهارا، كما روى أبو هريرة قال قَال النبي صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار) [صحيح البخاري (5/2047) وصحيح مسلم صحيح مسلم 4/2286)]
وهذا السعي شامل لكل المحتاجين من المسلمين وغير المسلمين، وشامل كذلك لكل ما يحقق مصالحهم من طعام وشراب وكساء ومسكن وتطبيب ودفع ضر أو ظلم عنهم...
الرحمة بالحيوان
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته بعض القصص المتعلقة بالرفق والرحمة بالحيوان، حضا لهم على تطبيق ذلك السلوك السوي الذي يحقق رحمة الله العامة بكل مخلوقاته في الدنيا.
ومن أمثلة ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: (في كل كبد رطبة أجر) [صحيح البخاري (2/833) رقم (2234) وصحيح مسلم (4/ص1761) رقم (2244)]
وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أن الله غفر لامرأة بغي لسقيها كلبا اشتد عطشه
كما في حديث أبي هريرة: (أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها) [صحيح مسلم (4/1761) رقم (2245)]
وإذا كان الله تعالى يغفر بعض كبائر الذنوب المسلم برحمة الحيوان والرفق به، فإنه تعالى يعذب من نُزِعت الرحمة من قلبه، فيعذب الحيوان، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض) [صحيح البخاري (3/1205) رقم (3140) وهو في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (4/2110) رقم (2619]
وفي الجهاد رحمة
الأصل أن يقوم المسلمين بدعوة غيرهم إلى هذا الدين، ليتمتعوا برحمة الله في منهج حياتهم في الدنيا، ولينالوا رضاه ورحمته في الآخرة، تحقيقا لقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
وأساس دعوتهم اللين والحكمة والموعظة الحسنة، كما أمر الله تعالى بذلك نبيهم، وأمره أمر لهم، فقال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل(125)]
ولشدة حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيصال رحمة الله إلى عباده، رغب المجاهدين في سبيل الله في دعوة الناس إلى هذا الدين، ورَبْطِ دعوتهم برجاء ثواب الله الجزيل على هداية خلقه، كما في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه، عندما أرسله إلى يهود خيبر:
(انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم) [صحيح البخاري (4/1542) و صحيح مسلم (4/1872)
وجوب بيان الحقائق وكشف الأباطيل باللغات العالمية.
وإن من أهم أنواع الجهاد، بيان المسلمين حقائق الأمور التي تخفى عليهم، وكشف الأباطيل التي تضلل عقولهم...
فقد ألصق بنا أعداؤنا من اليهود وأعوانهم، كل عيب واتهمونا بكل تهمة، واستطاعوا استغلال أموالهم وكفاءاتهم المتنوعة وقوة إعلامهم، أن يَظهروا للعالم، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، أنهم يريدون نشر العدالة ورفع الظلم عن الشعوب الإسلامية المقهورة، وبخاصة العربية منها، وأن العلاج الناجع لمشكلات شعوينا هي تطبيق الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان...
ونحن لا نريد ان ندافع عن الحكام في الشعوب الإسلامية والعربية، فكثير منهم استبدوا بالأمر، وكمموا أفواه العلماء والمفكرين وأعيان الأمة، وكثير منهم ظلموا شعوبهم ولا زالوا يظلمون...
ولكن الذي ننكره هو ما تدعيه الإدارة الأمريكية واليهود، من أنهم يريدون تطبيق الديمقراطية في الشعوب الإسلامية، ورفع ظلم الحكام عن تلك الشعوب، ونشر الحرية وحقوق الإنسان فيها...
إنها دعاوى كاذبة، فهم أشد الناس حربا للديمقراطية في الشعوب الإسلامية، لأنهم يشترطون في هذه الديمقراطية ألا تتمكن الجماعات والأحزاب الإسلامية من الوصول إلى الحكم عن طريقها، بزعم أنهم إذا وصلوا إلى الحكم عادوا على الديمقراطية بالنقض واستبدوا بالأمر دون غيرهم...
ولهذا إذا نجحت بعض الأحزاب الإسلامية في بعض الدول، حرضوا عليها سرا أو علنا حلفاءهم في الجيش، وأنزلوا لقمعها الدبابات، وزجوا بزعمائها في السجون والمعتقلات تحت التعذيب والإذلال، كما حصل ذلك في الجزائر، عندما ظهر فوز جبهة الإنقاذ...
وهكذا سلطوا العسكر في تركية على أربكان وحزبه، ومنعوه من مزاولة السياسة التي يحق للسكارى ومتعاطي المخدرات أن يزاولوها، ويمنع منها هو وأمثاله، ممن التزموا بالنهج الديمقراطي، وصبروا على كل ما أنزله بهم العسكر من قهر...
ويضغطون على حكومات الشعوب الإسلامية أن يغيروا مناهج التعليم، وحذف كل ما يكشف عداءهم وعداء اليهود للإسلام والمسلمين، من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والتاريخ الإسلامي والجغرافيا، وبخاصة ما يتعلق منها بفلسطين... بحجة أن ذلك يحرض على الإرهاب.
ولهذا لا يوافق اليهود على إبرام أي اتفاق ولو كان فيه اعتراف بالدولة اليهودية المغتصبة للأرض المباركة، مع أي دولة عربية، إلا إذا عدلت فيها مناهج التعليم تعديلا يلغي من عقول الأجيال المسلمة عداء اليهود للأمة الإسلامية...
وقد مضى على اغتصاب اليهود للأرض، وتشريدهم لأهلها وسجنهم واعتقالهم وقتلهم، وهدم منازلهم وحصارهم ما يقارب ستين عاما، وكان اليهود وأعوانهم من الأمريكان وغالب الدول الأوربية، يضللون عقول شعوبهم في وسائل الإعلام ومراكز البحث والجامعات، أن العرب وحوش معتدون، وأن اليهود مظلومون معتدى عليهم من قبل العرب، ولم تكن تلك الشعوب تعلم ما يجري على الشعب الفلسطيني... بل نحن كنا لا نعلم إلا النزر اليسير من ذلك، بسبب التعتيم الإعلامي من وسائل إعلام الدول العربية، التي لم تكن تهتم غالبا إلا بتوافه الأمور، وبسبب التضليل الإعلامي الغربي الذي كان هو مصدر معلوماتنا الوحيد، وبخاصة صوت أمريكا وإذاعة لندن العربيتين...
ومن هنا كانت الشعوب الغربية متعاطفة مع اليهود الذين استطاعوا استقطاب كبار الساسة في المجالس النيابية ولاسيما الكونجرس الأمريكي، ومجالس الوزراء ومؤسسات التعليم وغيرها... فبذلت الشعوب الغربية المال ووفرت السلاح للدولة اليهودية ولا زالوا إلى الآن... لأنهم لم يكونوا يعلمون ظلم اليهود وظلم إداراتهم التي تناصر اليهود وتدعمهم بما يؤخذ منهم من ضرائب...
واليوم وقد انتشرت مساوي اليهود وأعوانهم من الأمريكان، انتشارا نسبيا، سمعنا كيف أظهر استطلاع الشعوب الأوربية، أن دولة اليهود هي الخطر الأول في العالم على الأمن والسلام... وقد أحرج ذلك الحكومات العربية التي حاولت تلطف الجو وتلاطف اليهود الذين احتجوا على ذلك بأنه عودة إلى معاداة الأوربيين لمعاداة السامية...
ألا يدل ذلك على سوء حالنا نحن المسلمين، وبخاصة العرب الذين كانت الفرص متاحة لهم ليبينوا للشعوب الغربية الحقائق المرة التي نعانيها من اليهود ومن حكوماتهم، ويكشفوا لهم الأباطيل التي ضللتهم وأعطتهم صورا مزيفة عنا وعن اليهود!؟
ويثبتوا لهم أن الضرائب التي يدعمون بها حكامهم، تسفك بها دماء المظلومين، وينصر بها المعتدون، وتحارب بها حقوق الإنسان، ومنها تطبيق العقيدة الإسلامية في البلدان الإسلامية، حيث يحاربون أي دولة تطبق بعض شريعتهم التي هي دينهم... إن الشعوب الغربية هي المحاكم التي ستحاكم إداراتها بعدم انتخابهم وبعدم دعمهم بالضرائب، بل ستحاكمهم بالمظاهرات وطردهم من قصور الحكم، وبخاصة البيت الأبيض، لأن الشعوب الغربية إذا أدركت أن حكامها يتسببون في جرها إلى الهاوية سوف لا تسكت على تصرفاتهم، لأنه تؤمن بالديمقراطية التي يتشدق بها حكامهم ويخالفونها إما مخالفة صريحة وإما مصارحة ملتوية...
لقد كانت الفرص متاحة للحكومات العربية فترة طويلة من الزمن، للقيام بإيصال ما يفضح حكام الغرب واليهود، ويخف عليهم الشر الذي يسعى اليهود لإيذائنا به من قبل الشعوب الغربية التي ضللها حكامها.
وهذه أمريكا اليوم تهجم علينا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعقائديا وإعلاميا وثقافيا، وهذه "الحرة" تبث علينا سمومها في قليل من الدسم، لتضاعف تضليلها لشعوبنا وتفسد أخلاقهم.
ولسنا نصدق بعض كتاب الأعمدة في الصحف العربية، الذين يقولون لنا: إن هذه المحطة أو غيرها لا يخشى من تأثيرها على شبابنا، لما عندنا من حصانة دينية وأخلاقية وسياسية...فهؤلاء مضللون كالأمريكان، لا يجوز لنا أن نصدقهم...
فكثير من الشباب في البلدان العربية في أمس الحاجة إلى حمايتهم من التضليل الإعلامي والفساد الأخلاقي والشبه العقائدية... ويمكننا أن نحرك مفاتيح التلفاز "ريموت كنترول" ونأخذ نماذج من المحطات المحلية والفضائية العربية لنرى كيف تخصصت بعض تلك المحطات في مجالات مفسدة لهذا الجيل المسلم، إما لعقولهم وأفكارهم، وإما لعقائدهم، وإما لأخلاقهم، وأقلها ضرا هي تلك الفضائيات التي تلهيهم عن ضرورات حياتهم ومقاصد أمتهم العليا.
كما يمكننا أن نرى كثيرا من الشباب في ميادين ما يسمى بـ"التفحيط" ويمكننا أن نزور السجون لنرى ضيوفها وما سجنوا بسببه، ويمكننا أن نطلع على ما ينشر من إحصائيات متعاطي المخدرات وجرائمهم حتى في قتل أقرب المقربين إليهم...
ويمكننا أن نتجول في الأسواق لنرى المتسكعين فيها، وهم يضايقون النساء...
ويمكننا أن نتصفح غرف الدردشة وما يسمى بـ(الشات) لنرى فيها العجب العجاب...
ويمكننا أن نزور الأسر لنستمع منهم ما يعانون من مشكلات مع أبنائهم وبناتهم... هل نأمن على أمثال هؤلاء جميعا من التضليل الإعلامي والإفساد العقلي والخلقي؟
ما الذي يمنع كثيرا من هؤلاء من أن يجندهم الأعداء للقيام بما يريدون من الأضرار والشرور، وبخاصة المعوزين منهم الذين لا يجدون ما ينفقونه على أنفسهم، من الأموال؟
إنهم قد يجندونهم للتجسس على بلدانهم، وقد يجندونهم للقيام بالتخريب الذي كثيرا ما ينسب إلى المتدينين الذين قد يختلط بهم هؤلاء، فيزداد التدمير والإفساد...
نعم يوجد كثير من شباب الأمة وشاباتها، عندهم من الحصانة ما يقيهم من التضليل الإعلامي الأمريكي والفساد الخلقي الغربي والعربي، ولكن هذا الكثير يقابله كثير من الصنف الأول.
إن شبابنا هذا في حاجة ماسة وقايته وعلاجه، بتعاون المجتمع كله على ذلك: الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والمساجد... وغيرها..
ولكنا الآن بصدد الجمة اليهودية الحاقدة والحملة الأمريكية الظالمة، ولا بد أن نعد العدة لهجمات إعلامية مضادة إلى الشعوب الغربية، وبخاصة الشعب الأمريكي المضلل...
لقد استفدنا استفادة مهمة من بعض القنوات الإخبارية، إذا قارنا أنفسنا بما قبل وجودها، حيث كنا نشبه الجن التي تسترق السمع لتسمع الكلمة من الملائكة فتنقلها إلى الكهان، فترمى بالشهب المحرقة...
كنا نتابع إذاعات الغرب لنجد أي معلومة، لأنا لا نجدها في وسائل إعلامنا، ولكنا بعد وجود بعض الفضائيات العربية تمكنا من الاطلاع على كثير من المعلومات...
ولكن الأمر الخطير أن جميع هذه الفضائيات موجهة للعرب بلغتهم، ولا يصل منه إلى الشعوب الغربية إلا النزر اليسير لمن يهتم بها ممن يجيدون اللغة العربية، أو يهتم بما ينقل عنها مترجما...
لماذا لا نرى قناة عربية واحدة متخصصة في بلادنا العربية، تنشر للعالم بلغاته الحية، وبخاصة اللغة الإنجليزية والفرنسية، تنقل إلى شعوب الغرب مباشرة الحقائق، وتكشف المغالطات والأكاذيب الغربية؟
ألا يكون ذلك من فروض الكفاية التي يأثم كل قادر لا يقوم به، أليس واجبا على المسلمين أن يقوموا بالبلاغ المبين في كل ما ينفع المسلمين والعالم؟
ألم يمتلئ القرآن الكريم ببيان الإيمان والعبادة والأخلاق والحلال والحرام وعلاقات المسلمين بغيرهم، وبكشف دسائس المنافقين، واليهود والنصارى والمشركين؟
وإذا لم تقم حكومات الشعوب العربية بهذا المشروع المهم، ألا يجب على أغنياء الأمة وتجارها والقادرين على ملء هذا الفراغ المهم؟
هل يليق ببعض أغنيائنا أن ينفقوا أموالهم على فضائيات تفسد جيلنا بكل انواع الفساد، ويهملوا هذا لجانب الخطير الذي لا يجوز التفريط فيه!؟
وإني أوجه إلى علمائنا الأفاضل هذا السؤال الذي أرجو أن يسمع جوابَه حكام المسلمين وأغنياؤهم وذوو الرأي والاختصاص منهم:
هل يجب على المسلمين أن يبينوا للشعوب الغربية بلغتهم، ما يقوم به حكامهم مع اليهود والنصارى من أعمال إجرامية ضد المسلمين، في البلدان الإسلامية، ويذكروهم بأنهم يسهمون في هذا الظلم والإجرام بدعمهم لهم بالمال والسلاح وغيرهما؟
وهل يدخل من قصر في هذا الأمر وهو قادر على القيام به في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) ﴾ [البقرة]
إن عندنا بحمد الله إمكانات مالية وكفاءات متخصصة في كل مجال: إجادة لغات العالم الحية، وإجادة الشئون السياسية والاجتماعية والإعلامية والدبلوماسية والعسكرية، وهم قادرون بإذن الله أن يطرقوا آذان الشعوب الغربية وعقولها وقلوبها بكل ما نحتاج إلى بيانه لهم، وإن النتائج ستكون عظيمة بإذن الله...
إنني أستمع إلى بعض الإعلاميين وبعض السياسيين وغيرهم وهم يتبارون في الموضوعات المهمة باللغة العربية، فأسر يذلك كثيرا، وأتمنى أن يكون كلامهم موجها إلى الشعوب الغربية بلغتهم... فهل نحن عاجزون عن ذلك أو خافون من القيام به من الأعداء؟
ألا إن ذلك لمن أعظم الجهاد الذي يمكن أن يحقق للمسلمين ما لا يحققه الصاروخ والمدفع والرشاش ... لو كنا نعقل أو نسمع... فهل من مجيب؟
وآخر الدواء الكي.
ومع أن المسلمين هداة رحماء، فهم يجاهدون في سبيل الله، من اعتدى عليهم وعلى دينهم، لا يخافون فيه لومة لائم، يحفظون بجهادهم ضرورات حياة البشر، من الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وما يحوطها من الحاجيات والتكميليات، ويحمونها من عدوان المعتدين وظلم الظالمين...
فهم إما أن يجاهدوا مَن اعتدى عليهم من أعدائهم، لرد العدوان ودفع الظلم، وإما أن يجاهدوا من وقف سدا أمام دعوة الله في أرض الله، لدعوة الناس إلى عبادة الله، لتقوم بذلك الحجة على خلق الله، وإما
ومن تتبع تاريخ جهاد المسلمين المنضبط بقواعد شرع الله تَبَين له أنه عام شامل لكل نشاط يحقق للمسلمين وللعالم ما فيه صلاحهم وسعادتهم، وأن القتال إنما هو جزء ضئيل من الجهاد الوارد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بينت أنواع الجهاد وشموله في كتابي "الجهاد في سبيل - الله حقيقته وغايته"
ومعلوم كذلك أن الجهاد في سبيل الله لم يشرع لإكراه الناس على ترك دينهم والدخول في الإسلام، وإنما شرع لردعدوان المعتدين، وتحطيم سدود القهر والاستبداد التي تحول بين الناس وبين التمتع بالحرية التي منحهم الله تعالى، فيدخلون في الإسلام بعد إقامة الحجة عليهم بأنه الحق مختارين راضين غير مكرهين، أو يبقون على دينهم الذي اعتقدوه، كما صرح الله تعالى بذلك في كتابه، وجرى على ذلك عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم، وسيبقى كذلك إلى يوم الدين، ما تمسك المسلمون بهذا الدين:
﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة (256)]
ولكن يجب على من رغب في البقاء على دينه، أن يلتزم بنظام الأمة العام الذي يأمنون فيه على ضرورات حياتهم وما يكملها.
ويجب أن يعلم أن الجهاد بمعنى القتال، ليس لازما في كل الأحوال، بل توجد خيارات مشروعة في الإسلام يمكن تطبيقها حتى في حالات النزاع الشديد بين المسلمين وغيرهم، ومنها الهدنة والمعاهدات، عندما تقتضي المصلحة ذلك، وقد فصلت أحكام هذين الخيارين في كتب التفسير وشروح الحديث وكتب الفقه.
وإذا لم تنفع السبل السلمية في رد العدوان فلا بد من الجهاد في سبيل الله، لندفع عن بلداننا وديننا وأمتنا، و"آخر الدواء الكي كما يقال".
الرائد لا يكذب أهله.
هذه دعوى نعلنها للناس في مشارق الأرض ومغاربها، بأن هذا الدين، ليس عدوا لأحد من البشر، وإنما هو رحمة للعالمين، ونحن نؤمن بذلك إيمانا صادقا لا يشوبه شك، لثلاثة أمور:
الأمر الأول: اعتقادنا الجازم بأن القرآن حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وأن الإسلام هو الدين الحق الذي يعتبر كل ما يخالفه من الأديان والمبادئ باطل وليس بحق...
الأمر الثاني: دلالة الواقع التاريخي في العصور التي طبق فيها الإسلام على صحة ما نقول.
فقد سعد الناس الذين حظيت بلدانهم بدخول المسلمين فيها بما، لم يكونوا يحلمون بع من العدل والرحمة والحضارة، في ظل الإمبراطوريات اليونانية والفارسية والرومانية.
والشاهد على ذلك أن غالب تلك الشعوب أصبحت تدين بالإسلام، بالدعوة المجردة من السلاح في أغلب المعمورة، ولم يستعمل المسلمون السلاح إلا عندما وقف الطغاة المستبدون ضد حرية الدعوة وضد سماع شعوبهم الحق سواء آمنوا به أم لا؟
والدليل على ذلك قلة الشعوب التي فتحها المسلمون عنوة، وكثرة الشعوب التي دخلت في الإسلام عن طريق التجار والدعاة المخلصين... في بلدان آسيا وأفريقيا وغيرها...
الأمر الثالث: المقارنة النظرية بين ما تضمنه القرآن والسنة والسيرة النبوية، وأبواب التشريع الإسلامي في كتب الفقه وغيرها، عن حقوق الإنسان، رجلا وامرأة، صغيرا وكبيرا، فردا وأسرة، ومجتمعا، حاكما ومحكوما، وبين ما تضمنته القوانين الدولية المعاصرة في ذلك...
إن المنصف الذي يقارن بين ما تضمنه الإسلام وبين ما تضمنته تلك القوانين، يتجرد من التعصب والهوى، سيجد في تشريع الإسلام كل ما تضمنته تلك القوانين من إيجابيات في أعلى صورها والمزيد الذي لم تتعرض له، مع تجنبه التشريع الإسلامي من السلبيات التي احتوت عليها تلك القوانين.
ونحن ندعو الشعوب غير الإسلامية وبخاصة المفكرين منهم والمثقفين القادرين على دراسة حقيقة الإسلام، وبخاصة الغربية منها، أن تجتهد في دراسة المبادئ الإسلامية في القرآن والسنة، وفي كتب الفقه الإسلامي، ويُعمِلوا عقولهم متجردين من دعايات من نصبوا أنفسهم أعداء للإسلام والمسلمين، من بعض الساسة والإعلاميين وبعض رجال الكنيسة المتعصبين مع الصهاينة، ليطلعوا بأنفسهم على عظمة الإسلام الذي لو حمله أي شعب من شعوب الأرض، في الغرب أو الشرق، لقاد بع العالم إلى مراقي التقدم والحضارة النافعة السليمة من آفات الظلم والفساد الذي انتشر في الأرض اليوم بسبب البعد عن منهج الله.
الأمر الرابع: المقارنة بين أحوال الأفراد والأسر والشعوب الإسلامية المعاصرة، مع ما هو معلوم من عدم تطبيقها الكامل للإسلام، ومع ما يعانيه كثير منها من فقر وظلم وشظف عيش، وبين أحوال الأفراد والأسر والمجتمعات غير الإسلامية، مع ما هي فيه من غنى ورخاء وحضارة مادية عظيمة، لمعرفة أي الفئتين أكثر سكنا وطمأنينة في الحياة.
إننا ندعو الغني غير المسلم الذي حاز في دنياه كل ما تشتهيه نفسه، أن يقارن بين نفسه وبين كثير من ذوي الفقر المدقع من المسلمين.
وندعو المرأة غير المسلمة التي تيسرت لها غالب سبل الراحة المادية، أن تقارن بين نفسها وبين المرأة المسلمة التي تعيش في وضع يقول عنه الغربيون: إنه وضع بؤس وشقاء...
وندعو الأسرة غير المسلمة المتحضرة ماديا القليلة العدد الكثيرة الرفاه، أن تقارن بين نفسها وبين الأسرة المسلمة، الكثيرة العدد، القليلة الأرزاق....
وندعو المجتمعات غير المسلمة، أن تقارن بين نفسها، وهي تملك المال الوفير، والرزق الكثير ووسائل العيش المادي المريح، وبين المجتمعات الإسلامية التي لا تملك كل ذلك...
ثم ليوازن أولئك الأفراد، وتلك الأسر، وألئك المجتمعات، بين راحتهم النفسية واطمئنانهم المعنوي، وما يحصل بينهم من تعاون وتعاطف، وتراحم وتكاتف، وبين ما يحوزه غالب الأفراد والأسر والمجتمعات المسلمة، ولو لم يطبقوا الإسلام كاملا، في ذلك كله...
وإنا لنتمنى أن تتاح الفرص لغير المسلمين، أفرادا وأسرا، أن يزوروا الأسر الإسلامية في البلدان الإسلامية وفي غيرها، ليطلعوا على ما يطبق من الإسلام وأثره على حياة المسلمين، وليعرفوا أن كثيرا من زعمائهم وأجهزة إعلامهم ومثقفيهم، شوهوا صورة الإسلام والمسلمين في عقولهم ونفروهم منه، وأن الأولى بهم أن لا يقلدوا أعداء الإسلام تقليدا أعمى، فيعينوا قادتهم من السياسيين والعسكريين والإعلاميين والمتصهينين، على حربه وهو جدير بالدفاع عنه وبمسالمته...
لقد حرمكم قادتكم بتشويههم حقائق الإسلام والتجني عليه، من رحمته وعدله وأخُوَّته، والنجاة من سلبيات الحضارة المادية التي ذقتم منها القلق والأسى، ولو أنها بنيت على أساس الإسلام لكان لكم شأن آخر، ربما تصبحون بفضل استجابتكم للإسلام قادة العالم بحق، تنشرون فيه وفي أوطانكم الأمن والسلام، بدلا من نشر قادتكم الظلم والعدوان.
لقد خدعكم قادتكم وخانوكم وكذَبُوكم، و الأصل أنه "لا يَكْذِبَ الرائدُ أهلَه!"
ادرسوا الإسلام يا أهل الغرب من مصادره، وإذا رأيتم بعض أهله لا يطبقونه في حياتهم، بل يتعاونون مع زعمائكم على حربه، فانظروا للمنهج ولمن يطبقه وحكموا عقولكم لا عواطفكم وأهواءكم، فالعبرة بالمنهج لا بمن يخالفه من أهله...
وهاأنتم ترون ما يحصل من بعض زعمائكم الذين يطبقون ما تؤمنون به من الديمقراطية، مضطرين حرصا على إرضائكم ليفوزوا في الانتخابات، ولكنهم يتعمدون الاستبداد في مجلس الأمن للإضرار بشعوب العالم، وفي ذلك مخالفة صريحة لمعاني الديمقراطية.
وهم يكيلون بمكيالين في تعاملهم مع شعوب العالم، ينصرون دولة ظالمة على دولة مظلومة، ويقاطعون دولة لا تستجيب لرغباتهم ولو كانت رغبات ظالمة، ويغدقون على دولة أخرى بكل ما تحتاج إليه من المعونات، ولكانت تلك الدولة تستعين بإعاناتهم على ظلم دول أخرى...
فهل تحكمون على المنهج الديمقراطي الذي تؤمنون به أنه منهج غير صالح للتطبيق، لأن زعماءكم يخالفونه في المؤسسات الدولية، وفي معاملتهم لحكومات وشعوب العالم؟
الجزء الثاني
استعصاء الإسلام
المقصود باستعصاء الإسلام، ثباته ورسوخه وامتناعه عن الاستئصال والذوبان في أي حضارة من حضارات الأمم، مهما بلغت من القوة المادية والهيمنة الجبروتية.
ويعود استعصاء هذا الدين على أعدائه، إلى عوامل وأسباب، نجملها فيما يأتي:
العامل الأول: أنه حق يحمل في ذاته أسباب بقائه، وفيه من المناعة القوية الذاتية ما يدفع به كل عدوان بقصد القضاء عليه واستبدال غيره به، أو ذوبانه في غيره.
العامل الثاني: حفظ الله تعالى مصدره، وهو وكتابه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر (9)]
وهيأ الله تعالى لحفظ سنة نبيه من حفظها وبين صحيحها من ضعيفها، بمعرفة رواتها من لدن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى دونت في أسفار علمائها التي لا يعجز طالب العلم من معرفة الصحيح والضعيف منها.
وحفظ نصوص القرآن والسنة إلى يوم القيامة، يضمن للأمة الإسلامية الرجوع إليهما، لتصحيح ما قد يطرأ من شوائب وانحرافات في سلوكها، ورد ما قد يحاول أعداء هذا الدين، من إدخال ما ليس منه فيه، وهذا ما لا يوجد في غيره من الكتب السابقة التي حرفها أهلها وكتموا ما بقي فيها من الحق. .
وهاهو القرآن الكريم قد حفظه الله، فلم يغير منه حرف أو كلمة مع طول المدة من يوم نزوله إلى الآن، وسيبقى كذلك إلى يوم الدين، ولهذا لا تختلف نسخ هذا المصحف الكريم أينما وجد، فالمصحف الموجود في طوكيو هو هُو الموجود في نيويورك، وهوُ هو الموجود في أوسلو وسدني، وموسكو وبريتوريا...
ومن أسباب حفظه أن آياته كلها كتبت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمت إلا بعد أن كتبـت آياته بأمره في مواضعها التي عينها هو لكتابتها، ثم هيأ الله أصحاب نبيه فجمعوه في مصحف واحد ووزعوا نسخه في الأقطار الإسلامية في عهدهم... وهذه ميزة لم تحصل لأي كتاب من الكتب السابقة.
ثم هيأ الله لحفظه ونقله الأجيال المسلمة على مدار التاريخ، حيث يحمله الجيل السابق إلى الجيل اللاحق، فهو متواتر النقل تواترا لا يوجد له نظير، واجتمع على نقله وحفظه مئات الألوف، حِفْظُ ألفاظِه في صدور صغار الأمة الإسلامية وكبارها، رجالها ونسائها، مع حفظه كتابته في كل عصر بوسائله المتاحة، حتى أصبح اليوم يوجد في البر والبحر والجبل والسهل، والمدينة والريف، وفي الغابة والصحراء وهوهو في كل مكان.
هذا وقد انتشر مصحف المدينة المنورة الذي يقوم بطباعته مجمع خادم الحرمين الشريفين في المدينة المنورة، انتشارا واسعا، في كل أنحاء المعمورة، ونفع الله به المسلمين في هذا العصر، وله أحجام متنوعة، تناسب كل الفئات، كما أنه طبع طبعات متنوعة كذلك من حيث أنواع الخطوط، المناسبة للعرب مشارقتهم ومغاربتهم، ولغير العرب من الهنود والباكستانيين وغيرهم، بحسب ما ألفوا من الطبعات.
كما هيأ الله له من يقوم بترجمة معانيه إلى لغات العالم، وهيأ له من يصحح ما يقع في ترجماته من أخطاء، فلا تزور بلدا إلا وجدت فيه ترجمات بلغات أهله، مع تقصير القادرين من المسلمين الشديد في دعمه الكافي، مقارنا بما يقوم به غيرهم من أهل الأديان المحرفة، وبخاصة النصارى، أفرادا وجمعيات وحكومات...
وقد يعمد أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والوثنيين إلى طبع المصحف الكريم وتحريف بعض ألفاظه، لإدخال بعض ما يريدون مما يظنون أنه يحقق بعض مقاصدهم لدى جهال المسلمين، أو غيرهم، ولكنا نحمد الله لا يمضي على ذلك وقت يسير إلا وقد علت أصوات المسلمين، صغارا وكبارا، محذرة مما صنع المحرفون.
كما يعمد بعض المستشرقين والمنصرين، إلى تحريف بعض معاني آياته المترجمة، ولكن الله تعالى يقيض من يفضحهم ويصلح ما أفسدوا في معاني كتاب الله...
وقد تقع أخطاء غير مقصودة في ترجمة معاني القرآن، من مسلمين وغير مسلمين، ولكنها لا تفتأ أن تجد من يصححها ويبين أخطاءها.
وبذلك تحبط مساعي من يبتغي الإساءة على الإسلام ويرد الله كيدهم في نحورهم، تحقيقا لقول الله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾.
العامل الثالث: أن الله تعالى هيأ علماء الإسلام لحفظ معاني الكتاب والسنة، فكان منهم المفسر والفقيه والمحدث، وغيرهم بحيث لا يظهر زنديق يريد أن يحرف شيئا من معاني القرآن والسنة إلا وجد شهب الحق المحرقة تأتيه من كل مكان.
وقد وضع علماءُ الإسلام قواعدَ وضوابطَ لفهم معاني كتاب الله وسنة رسوله، وكيفيةِ استنباط الأحكام لما يستجد من النوازل في حياة الأمة، تعصم تلك القواعدُ والضوابطُ طلابَ العلم من تعمد الخطأ في الاعتماد على دليل ضعيف، أو عِوج في استنباط حكم من نص صحيح، أو الشطط في قياس خَلِيٍّ من شرط مفقود لطيف...
فدونوا للقرآن علومه وقواعد تفسيره، وللحديث مصطلحه وعلومه وسِيَرَ رجاله، وللفقه قواعدَه وأصولَه، وللغة نحوَها وصرفَها وغريبها واشتقاقها.
فلا يعوز طالبَ العلمِ المجتهدَ العثورُ على دليل صحيح، يستنبط منه حكما شرعيا صائبا تحتاج إليه الأمة في مسيرة حياتها.
العامل الرابع: ارتباط المسلمين أفرادا وجماعات، بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم...
فعامة أفراد المسلمين يؤمنون بأن هذا القرآن جاءهم من عند الله، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، وأن الإسلام الذي اشتمل عليه الكتاب والسنة هو دين الله...
ويعتقدون أن الله تعالى افترض عليهم عبادة ربهم واحترام رسوله وطاعته، والعمل بكتاب الله وسنته...
هذه هي عقيدتهم، وهذا هو إيمانهم، لا يبغون به بدلا، ولو قصروا في العمل، وبدر من بعضهم شيء من المعاصي والزلل، فهم يعترفون إذا عصوا ربهم أنهم مخالفون لأمره، يرون أن التوبة إليه واجبة، وأنهم آثمون يستحقون عقابه إن لم يغفر لهم.
ولهذا تجد كثيرا من المسلمين يخالفون أمر الله ونهيه فترة من حياتهم، ثم يؤوبون إليه مستغفرين نادمين، فيكونون بعد توبتهم هداة مهديين...
وشرع تعالى في كتابه وسنة رسوله ما يعيد العاصي إلى طاعة ربه إذا غوى، من نصح مؤثر، أو عقاب زاجر من حد أو تعزير.
وعامة أسر المسلمين يعلمون أن الله تعالى قد شرع لكل منهم على الآخر حقوقا، وسن له عليه واجبات، يجب عليهم أن يتعاونوا على تطبيق ما يحقق فيهم شرع الله ويحفظ عليهم روابطهم وصلة رحمهم، ويحميهم من التفكك والانحلال...
وقد تضمن الإسلام ما فيه رحمة الفرد والأسرة والأمة، في كل شأن من شئون الحياة، ولا يعرف ذلك إلا من رزقه الله فقه كتابه وسنة نبيه، وبنى حياته على هدي الله وصراطه المستقيم، وتمتع بمجتمع يطبق شريعة الله في حياته.
فالفرد المسلم الذي قويت صلته بربه بالفقه في دينه، والإيمان الصادق به وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وأدى عبادته كما أمره الله تعالى، وأدى حقوق خلقه عليه، هذا المسلم، ينال في حياته من السكينة والطمأنينة وراحة البال، مالا يناله غيره ممن حرم ما من الله به عليه بالهداية والتوفيق.
والأسرة المسلمة التي يعرف كل فرد فيها حقوقه على غيره وواجباته لغيره، ويقوم كل منهم بواجباته، ولا يحيف على من سواه، يسودها الود والتراحم، إذ يرحم كبيرها صغيرها، ويوقر صغيرها كبيرها، فيقوم الوالدان بحق الأولاد، ويقوم الأولاد بحقوق الوالدين، ويقوم كل قريب بحق قريبه...
وقد نظم الإسلام أحكام الأسرة تنظيما مفصلا دقيقا عادلا، قل أن يوجد له نظير في القوانين الوضعية، مع العلم أن الأسر المسلمة تطبيق هذا النظام عبادة لله وطاعة لرسوله، وليس تطبيقها مراعاة للنظام لكونه مجرد نظام، كما هو حال الأنظمة والقوانين الوضعية التي يطبقها الناس خوفا من الجزاء والعقاب المادي في المحاكم أو إدارة الشرطة.
نعم قد يخالف المسلم نظام الإسلام، وينال جزاءه المشروع في الإسلام، ولكن الأصل أن يطبق النظام مخلصا لله الرقيب على كل شيء.
وقد نالت أحكام الأسرة في القرآن الكريم، في كثير من السور في حقوق الزوجين، وحقوق الآباء وحقوق الأبناء وحقوق الأقارب، وفي الميراث، والرضاع والحضانة، وفي النكاح والمهر والإيلاء والخلع والطلاق والظهار والعِدَد، والصلح بين الزوجين وغيرها، حظا وافرا وعناية فائقة...
وقد سميت سورة كاملة بـ"سورة النساء" وسميت أخرى بـ"سورة الطلاق" كما سميت سورة أخرى بـ"سورة المجادلة" لافتتاحها بحكم الظهار الذي جادلت إحدى الصحابيات الرسول صلى الله عليه وسلم فيه...
وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من التفصيل في أحكام الأسرة، ما يصعب حصره، فضلا عن الأبواب التي خصصت لها في كتب الفقه، أو الكتب التي ألفت فيه خاصة...
وإن العاقل المنصف الذي يقارن بين أحكام الأسرة في الإسلام وأحكامها في غيره من الأديان أو القوانين الوضعية، ليرى في كل حكم من أحكامها في الإسلام الرحمة ماثلة أمامه...
ويمكن مراجعة الكتب الثلاثة الآتية للمقارنة بين الإسلام وغيره من الأديان والقوانين الوضعية، في ما يتعلق بالمرأة وهي ركن ركين في الأسرة، لتعلم المرأة غير المسلمة وليعلم دعاة حقوق المرأة، الفرق بين العناية الربانية بالمرأة وما يزعمه دعاة تحريرها
الكتاب الأول: "أستاذ المرأة" للشيخ محمد بن سالم البيحاني رحمه الله.
الكتاب الثاني: "المرأة بين الفقه والقانون" للدكتور مصطفى السباعي السوري رحمه الله.
الكتاب الثالث: "؟؟؟؟؟؟" للدكتور عبد الكريم زيدان العراقي.
ويمكن مراجعة كتابنا "أثر التربية الإسلامية في أمن المجتمع الإسلامي" في حقوق وواجبات الأفراد والأسر، والمجتمع بصفة عامة...
العناية بالعلاقة بين مؤسسات المجتمع المسلم
كما عني الإسلام بالعلاقة بين مؤسسات الأمة المسلمة، وأقصد بهذه المؤسسات:
أهل الحل والعقد في البلدان الإسلامية، مثل مجالس الشورى التي تتكون من علماء الشريعة، وعقلاء الشعوب وأعيانها، وذوي الاختصاص من السياسيين والاقتصاديين والإعلاميين والدبلوماسيين والأطباء، وغيرهم ممن تحتاج الأمة إلى آرائهم وتخصصاتهم...
وولاة أمر المسلمين، من الملوك والرؤساء.
والمؤسسة القضائية التي تتحقق بها العدالة بين كافة المواطنين مسلمين وغير مسلمين، لا فرق بين حاكم ومحكوم...
فمقصود الولايات في الإسلام إقامة شرع الله المتضمن لتحقيق حفظ ضرورات حياة الأمة ومصالحها، ودفع المضار والمفاسد عنها.
وقد بين علماء المسلمين القواعد والأصول التي يجب أن تتوفر في هذه المؤسسات، في كتب السياسة الشرعية، المستمدة من القرآن والسنة والاستنباط السليم منهما...
يمكن مراجعة كتاب "السياسة الشرعية" لابن تيمية، وكتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي، وكتاب "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى.
ويراجع كتابنا "الكفاءة الإدارية في السياسة الشرعية"
وشرع الله تعالى للأمة في كتابه ما يعيد من شذ منهم إلى الصواب، بصلح ناجح أو بحكم حاسم...
والصلح يكون بين الأفراد والأسر والطوائف المتنازعة، كما قال تعالى:
﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء (114)]
وقال تعالى: ﴿وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ [النساء(128)]
وقال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)﴾ [الحجرات]
وجماهير الأمة الإسلامية تؤمن بأن الله تعالى أمرها بالتعاون على البر والتقوى، ونهاها عن التعاون على الإثم والعدوان...
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ المائدة (2)]
وكلفها السعي في اتخاذ الأسباب التي تحقق الأخوة الإيمانية فيما بينها، والبعد عن الأسباب التي تقضي على تلك الأخوة أو تضعفها، ويتحقق ذلك كله باجتماع كلمتهم على الحق والاعتصام بحبل الله: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران(103)]
وأمرها بأن يكون ولاؤها لله ولرسوله والمؤمنين، فيحب بعضهم بعضا ويواسي بعضهم بعضا، وينصر بعضهم بعضا، وأن يكون عداؤها لمن عادي الله ورسوله والمؤمنين، فلا يحبون دينا يخالف دين الله، ولا ينصرون على أولياء الله من ناوأهم أو اعتدى عليهم أعدائهم، ولا يتخذون لهم بطانة من دون المؤمنين...
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)﴾ [المائدة]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران (118)]
العامل الخامس: مشروعية ارتباط المسلمين الدائم بربهم ورسولهم ودينهم، فلا يمر وقت من الأوقات على المسلم يكون فيه بعيدا عن ربه وذكره وعبادته...
فارتباط المسلم بربه مستمر دائم في كل لحظة من لحظات عمره، بل هو على صلة دائمة به: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) ﴾ [الأنعام]
فهو يصلي كل يوم وليلة خمس صلوات مفروضة، في أوقات محددة موقوتة، ليس له أن يتقد عليها أو يتأخر بدون عذر شرعي، وهو مأمور بالطهارة الكبرى والصغرى لكل صلاة منها...هذا عدا نوافل الصلاة المؤكدة وغيرها مما لا حصر له منها...
وهو يصوم شهرا كاملا في السنة فرضا لا يسقطه عنه سقوطا مؤقتا أو مطلقا إلا عذر شرعي...هذا عدا نوافل الصوم التي أفضلها صوم يوم وإفطار يوم على القادر في عمره كله.. وهناك أيام محدودة في الأسبوع وفي الشهر وفي العام يشرع للمسلم صيامها...
وهو يحج حجا مفروضا عليه مرة في عمره، لا يجوز له تركه إلا بعذر شرعي، وقد رغبه الله في الإكثار من الحج والعمرة ووعده بالثواب الجزيل على ذلك.
وهو يخرج زكاة ماله في أوقاته المحددة، لا يجوز له تأخير ذلك، وأمره الله تعالى بنوافل الصدقات والإنفاق مما رزقه الله، في كل ما يحقق الخير للإسلام والمسلمين...
وهو مأمور بذكر الله تعالى الواجب والمندوب، بحيث لا يزال لسانه رطبا بذكر ربه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)﴾ [الأحزاب]
وهو مأمور بتعاطي ما أحل الله وترك ما حرم الله في كل تصرفاته، فلا يخلو المسلم في أي وقت من أوقاته من فعل طاعة أو ترك معصية.
فليس له أن يعصر خمرا ولا يبيعها ولا يعلن عنها ولا يسقيها ولا يملكها...
وليس له أن يصنع سلاحا أو يبيعه لمن يقتل به نفسا حرم الله قتلها مسلما كان أو غير مسلم بغير حق، ولا يتلف به مالا ولا حرثا ولا حيوانا ...
وليس له أن يبيع أو يشتري بيعا أوشراءا فيه غش للناس، وضرر بهم
وليس له أن يسرق مال غيره ولا يغتصب أرضه ولا يستحل عرضه ولا يطلع على عورات جاره...
فهو في كل حل من أحواله مرتبط بربه، لأنه يضبط جميع تصرفاته بطاعته وترك معصيته...
العامل السادس: العبادات الجماعية التي تربط المسلمين بعضهم ببعض.
إن كل مسلم مسئول مسئولية فردية، عما كلفه الله تعالى من شريعته، ومع ذلك فقد شرع الله تعالى لعباده المسلمين، عبادات جماعية، يقوم بها المسلمون قياما جماعيا، سواء كان التكليف بها فرض عين أو فرض كفاية أو مندوبا...
وليس المقام هنا مقام تفصيل لبيان ذلك، وإنما المقصود بيان هذه العبادات الجماعية التي تربط المسلمين جميعا بربهم في تلك العبادات الجماعية...
فقد شرع الله تعالى للمسلمين عمارة الجوامع والمساجد المادية في مدنهم وأحيائهم، وشرع لهم عمارتها بذكر الله فيها، وبخاصة صلوات الجماعات خمس مرات في اليوم والليلة، وصلوات الْجُمَع الأسبوعية، التي ينادي المؤذنون فيها لكل صلاة من تلك الصلوات...
وشرع الله لهم أن يكون أئمتهم من القراء الذين يحفظون كتاب الله أو كثيرا منه، ويفقهون أحكام الله، فيسمع منهم المصلون في الصلوات الجهرية ما يقرؤون من كتاب الله، فيتدبرونه وينتفعون به..
وسماع المسلم كتابَ الله يُتلى عليه، وهو بين يدي ربه متجهٌ إليه خاشعٌ له، يختلف عن سماعه في غير هذا الموقف، لأنه قد استعد في هذا الموقف للاستماع المفيد، والإنصات الواجب، وتدبر من ألقى السمع وهو شهيد...
والمسلم في هذه الحالة العبادية الخاشعة الراغبة الراهبة، شديد البحث والتفتيش عن نفسه في آيات كتاب ربه، ليعرف أين هو فيها من النواحي الإيمانية والعبادية والأخلاقية، والاجتماعية، والفقهية والدعوية، أين هو من رضا ربه أو سخطه...
وهل يتصف بصفات من رضي الله عنهم من المؤمنين، أو بصفات من سخط الله عليهم من الكافرين والمنافقين، وهل صلته بالله تؤهله لدخول الجنان أو لعقاب ربه في النيران...
ويتدبر ذكر ربه المشروع في قيامه وركوعه وسجوده وقعوده، فيمتلئ قلبه حبا لله ورغبة فيما عنده وخوفا ورهبة من قوته وجبروته، وطمعا في عزته ونصره على أعدائه، فلا يخاف إلا الله ولا يطلب العزة إلا من مولاه، فلا يخرج من صلاته إلا وقد تحقق له الهدف من إقامتها والحكمة من أدائها:
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت (45)]
وللمسلمين يومُ عيدٍ أسبوعي، وهو يوم الجمعة الذي فرض الله تعالى فيه على كل مكلف من رجالهم، حضور خطبتيه وصلاته، حيث يعلو خطباء الجوامع الكبيرة والصغيرة في القرى و المدن و الأحياء المنابر، أمام الجموع الحاشدة، لتذكيرهم بكل ما يحتاجون إليه في حياتهم، من أمر الإيمان والعبادة والأخلاق والحلال والحرام في المعاملات، والشئون السياسية والعلاقات الدولية، مبنية كلها على كثير من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية وما استنبطه منهما علماء الإسلام.
فلا ينزل خطيب من على المنبر في شرق، إلا صعد خطيب آخر على منبره في غرب، اليوم كله تذكير وصلاة...
إنها مظاهرة مشروعة في يوم واحد وفي كل مكان من الأرض لنصر هذا الدين وجمع كلمة المسلمين على الحق، وتفقههم في دين الله، لا يستطيع أحد أن يمنعها...
وفرض الله علي المسلمين جميعا فرض عين على كل قادر صيام شهر رمضان كله، لذلك ترى المسلمين في هذا الشهر المبارك، جميعا صائمين نهاره، تجتمع أسرهم في المنازل لتنال وقت الإفطار ووقت السحور، في غاية من الفرح والحبور، يتسابقون في مناولة أحدهم أخاه حبات التمر أو لقمة العيش، وفنجان القهوة...
وهكذا تجد جماعاتهم في المساجد عند أذان المغرب، يمدون موائدهم ويقربون تمرهم وقهوتهم وأطعمتهم، ويتنافسون في استضافة المصلين على مشاركتهم في الإفطار معهم...
والذي يرى اجتماع المسلمين في المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، على تلك الموائد التي يبدأون في إعدادها من بعد صلاة العصر، يسبي ذلك المنظر قلبه ويدهش عقله، وهم في غاية الصمت والخشوع رافعين أيديهم طالبين من ربهم العفو والمغفرة وقبول الصيام....
ثم تراهم بعد صلاة المغرب يتسابقون إلى منازلهم، ليستعدوا لصلاة العشاء وصلاة التراويح التي يختم فيها كثير من الأئمة القرآن الكريم في ليالي الشهر الكريم، يتلونه تلاوة تؤثر في القلوب وتغذي الألباب، فلا يخرج شهر رمضان إلا وقد تزود المسلمون منه زادا يربطهم بربهم بقية أشهر السنة.
إنه شهر تربية وتدريب وإيمان وتقوى وعبادة جماعية ذات أثر عظيم في جمع الكلمة والاعتصام بحبل الله والثبات على هذا الدين وقوة الصلة برب العالمين...
وفرض الله على الصائمين في ختامه حقا لفقرائهم، سميت بزكاة الفطر، لتكون طهرة لهم وغناء لإخوانهم المحتاجين، في يوم العيد الذين يفرحون فيه بتوفيق الله لهم بإتمام الصيام، فلا يفرح فيه الغني دون الفقير، ولا يترك الفقير فيه يتكفف لقمة عيشه وعيش أولاده...
وفرض الله تعالى على كل قادر بالبدن والمال لم يحج أن يحج إلى بيته الحرام، وما أكثر المسلمين الذين لم يؤدوا فريضة حجهم في العالم، فيجتهدون في الحج إلى البيت العتيق في كل عام من الأعوام!
لذلك تراهم يفدون إلى بيت الله الحرام من كل فج عميق، يملأون الجو والبر والبحر، متحدين لباسا ونية وذكرا، مؤدين نسكهم في وقت واحد طوافا وسعيا ووقوفا، ومبيتا ورميا ونحرا، بصفة قلما تجد لها نظيرا في أمة من الأمم، وهم يلهجون في كل أوقاتهم بذكر الله.
يلتقي المسلمون محققين في لقائهم ما ذكره الله تعالى من حكم الحج ومنافعه: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج (28)]
يُعَلِّم عالِمُهم جاهلَهم، ويتحاورون فيما يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير في دينهم ودنياهم، كما قال تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾ [المائدة (2)]
وقد يكون من هذا الفضل الذي يبتغونه التجارة التي يزاولها الأفراد بعضهم مع بعض، ولكن الفضل التجاري والاقتصادي وغيرها من الشئون الاجتماعية والثقافية والإعلامية والتعليمية، والسياسية والعسكرية، أصبحت اليوم متاحة جماعيا، بحيث تستفيد بعض الدول وبعض الشعوب، و بعض الشركات من بعض، ويمكنهم أن يعقدوا اتفاقيات في ذلك كله، ويتعاونوا فيما بينهم لمنافسة غيرهم من الدول والشعوب والشركات التي تتعاون فيما بينهم لتحقيق مصالحها ضد مصالح المسلمين... وكل ذلك داخل في فضل الله تعالى الذي هيأه لهم في هذا اللقاء العظيم...
يضاف إلى أداء فريضة الحج ما يقوم به كثير من المسلمين من الحج والعمرة تطوعا، طمعا في مغفرة ذنوبهم ونيل الثواب الجزيل على ذلك...
وشرع تعالى لعباده المؤمنين صلوات جماعية أخرى غير الصلوات الخمس مناسبات وأوقات معينة:
منها صلاة الاستسقاء عند الجدب والقحط لطلب الغيث من ربهم الذي يسقي أرضهم وينبت زرعهم ويدر ضرعهم ويغذيهم ويغذي أنعامهم...
ومنها صلاة الكسوف والخسوف عندما تكسف الشمس ويخسف القمر، اتباعا للرسول صلى الله عليه وسلم، وتضرعا إلى الله تعالى من أن ينزل بهم غضبه عقابا لهم على معصيته، ففي الكسوف والخسوف تذكير لعباده بكمال قدرته، وتغيير الأحوال المعتادة إلى غيرهما مما لا قدرة لأحد على اتقائه إلا برحمة الله وفضله...
ومنها صلاة العيدين: عيد الفطر وعيد النحر، اللتين يؤديها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، في يوم واحد أو أيام متقاربة، بحسب المطالع...
ذكر الله لا ينقطع في كل لحظة وكل مكان.
وإن العاقل إذا تأمل صلة المسلمين بربهم وبرسولهم وبدينهم، يجد الأرض معمورة بتلك الصلة في كل لحظة من لحظات الزمن ليلا ونهارا، في فصول السنة الأربعة.
فما إن يفرغ مؤذن في بقعة من الأرض من أذانه في الشرق القريب، إلا بدأ زميله في أذانه في الغرب القريب منه، كأبي ظبي مع لرياض، وهذه مع المدينة، والمدينة مع القاهرة، والقاهرة مع طرابلس، وطرابلس مع تونس، وتونس مع الجزائر، والجزائر مع الدار البيضاء، والدار البيضاء مع نواكشوط....
وقس على ذلك أصقاع الأرض في مشارقها ومغاربها...لا يزال المسلمون في أذان وإقامة وصلاة وذكر، لا يمكن أن يمر وقت خال من ذلك...وهو أمر لا يوجد لأي أمة من الأمم ولا دين من الأديان في كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة ليلا ونهارا في الأرض كلها....
العامل السابع: شمول العبادة في الإسلام لكل ما ينفع الناس، إن هذه الأمة التي هذه صفتها، والتي يمكن تسميتها بـ"أمة العبادة" ليست عبادتها في الصلاة والزكاة، والصيام والحج، وقراءة القرآن والذكر، وفي المساجد فقط... وإنما عبادتها شاملة لذلك ولغيره من عمارة الأرض بكل ما ينفعها وينفع الناس جميعا...
ولهذا يجد يتأمل نصوص القرآن والسنة والسيرة النبوية، وما يتعلق بها من تفاسير كتاب الله تعالى، وشروح أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب السياسة الشرعية وكتب الفقه، وكتب السلوك والأخلاق، وواقع المسلمين عندما كانوا يطبقون دين الله في حياتهم... يجد من يتأمل ذلك أن العبادة في الإسلام شاملة لكل ما يقوم به المسلم من الأعمال النافعة له ولغيره من بني البشر...
أقول: إن الذي يتأمل ذلك يجد في تلك المصادر جميعا وفي التاريخ الذي سجل ذلك الواقع، ما يثبت اهتمام الإسلام بالقوة المعنوية والقوة المادية المبنية عليها.
ولسنا في حاجة إلى اهتمام الإسلام بالقوة المعنوية، فهذا أمر بدهي لا يحتاج إلى إسهاب ولا إقامة حجة عليه، وعندما نذكر شيئا منه، إنما نقصد التذكير بأن هذه الأمة ذات صلة قوية بربها تدفعها إلى أداء حقوق ربها وحقوق نفسها، وحقوق غيرها...
ولكنا يجب أن نشير إشارة موجزة إلى الشق الثاني، وهو اهتمام الإسلام بالقوة المادية، وهي عمارة الأرض على أساس التوجيه الرباني الذي يجعل تلك العمارة محققة لمصالح الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم، مع الالتزام بالعدل مع المسلم وغير المسلم:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة (8)]
فما من باب من أبواب العمل النافع في البيع والشراء والدَّين والقرض وشئون الاقتصاد، والتجارة، و الزراعة والصناعة، والسياسة، والتعليم، والدعوة [وهي لا تتم إلا بالإعلام] وشئون القتال [الجهاد في سبيل الله] والإدارة، وغيرها، إلا كان للإسلام فيه تشريع وتوجيه.
لا يخفى ذلك على من عنده أدنى إلمام واطلاع على مبادئ هذا الدين ومصادره...
ويكفي أن نعلم كثرة الآيات التي ذكر الله تعالى فيها العمل، إضافة إلى أن الأنبياء كانوا يعملون وينفقون على أنفسهم من عمل أيديهم، فكان منهم النجار مثل نوح عليه السلام، ومنهم الحداد كداود عليه السلام، ومنهم راعي الماشية كموسى عليه السلام.
وقد أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم، بالاقتداء بمن سبق من أنبياء الله ورسله، كما قال تعالى له بعد أن ذكر ثمانية عشر نبيا منهم: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف (90)]
وزاول نبينا صلى الله عليه وسلم رعي الغنم قبل الرسالة، كما زاول التجارة، وباع واشترى بعد الرسالة...
وحث صلى الله عليه وسلم أمته، على الحرص على كل ما ينفعهم.
كما روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه، قالَ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز ...) [(صحيح مسلم (4/2052) رقم (2664)]
وحث صلى الله عليه وسلم على اكتساب الرزق من العمل، مهما كانت صفته، ونفرهم من سؤال الناس،
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه) [البخاري صحيح البخاري (2/730) رقم (1968)]
وعلَّم صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه، كيف يتجر في أقل ما يملك، ويستغني به عن الناس، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه...
أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله، فقال: (أما في بيتك شيء؟) قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء.
قال: (ائتني بهما) فأتاه بهما. فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: من (يشتري هذين؟)
قال رجل أنا آخذهما بدرهم، قال: (من يزيد على درهم؟) مرتين أو ثلاثا، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين.
فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: (اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فأتني به) فأتاه به.
فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده، ثم قال له: (اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما) فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع) [سنن أبي داو (2/120) رقم (1641) و سنن ابن ماجه (2/740) رقم 2198)]
روى الترمذي قصة البيع، ولم يذكر قصة الرجل [سنن الترمذي (3/ص522) وقال: "هذا حديث حسن"]
ولقد أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضل العاملين المتعاونين على ما ينتفع به المسلمون، فجعل الصانع ومستعمل المصنوع ومن يمده به، مشتركين في الأجر، كما في حديث خالد بن زيد الأنصاري، قال كنت مع عقبة بن عامر الجهني وكان رجلا يحب الرمي، إذا خرَج خرج بي معه، فدعاني يوما فأبطأت عليه، فقال تعال أقول لك ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حدثني.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه المحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله.
وقال: ارموا واركبوا ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا ثلاث تأديب الرجل فرسه، وملاعبته امرأته، ورميه بقوسه.
ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها) [مسند الإمام أحمد (4/148) وسنن أبي داود (3/13) رقم (2513) وسنن النسائي (6/222) رقم (3578) والحاكم في المستدرك (2/104) رقم 2467 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد على هذا الاختصار صحيح على شرط مسلم"]
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر الأمة بالاستمرار في العمل النافع، كالزراعة إلى أن تفنى الحياة وتقوم الساعة، كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فان استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل) [مسند الإمام أحمد (3/911) رقم 13004) والفسيلة صغار النخل]
والمراد بقيام الساعة ظهور علاماتها التي تصيب من رآها بالفزع، وتلهيه عن العمل إشفاقا من هولها، وليس المراد قيامها حقيقة، لأنها إذا قامت لم يبق عمل.
قال الهيثمي: "رواه البزار ورجاله أثبات ثقات وكأنه أراد بقيام الساعة أمارتها، فانه قد ورد: (إذا سمع أحدكم بالدجال وفي يده فسيلة، فليغرزها فان للناس عيشا بعد) [مجمع الزوائد (4/63)]
وقال المناوي: "والحاصل أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار، لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به، فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة" [فيض القدير (3/30)]
ويقاس على غرس الفسيلة، أنواع الزراعة كلها، بل كل عمل تُعمر به الأرض وينتفع به الناس.
ومن أعظم ما يدل على اهتمام الإسلام بالقوة المادية، ما سيأتي من أمر الله تعالى المسلمين بإعداد العدة التي يرهبون بها أعداءه وأعدائهم في كل عصر من العصور.
العامل الثامن: صبر المسلمين على ما ينزل بهم من المحن والمصائب والعدوان، التي يُظَن معها أنهم قد ذابوا واضمحلوا، وأصبحوا في عداد الموتى غير قادرين على النهوض من أجداثهم.
والواقع أنهم يتخذون – وهم في تلك الأحوال القاهرة - كل وسيلة متاحة لحفظ كتاب ربهم وسنة نبيهم والعمل بهما، حتى تنقشع الغمة، وتعود النعمة وتنزل الرحمة، فإذا هم يعودون أقوى مما كانوا قبل تلك المحن والمصائب...
وإن التاريخ على ذلك لشاهد...
فقد اجتمع على الرسول صلى الله عليه وسلم، العدوان الثلاثي: المشركون كلهم في جزيرة العرب، واليهود والمنافقون في غزوة الأحزاب، فخرجوا من ذلك العدوان منتصرين.
وارتدت جزيرة العرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، في عهد أبي بكر الصديق، وكان المسلمون في ضعف مادي شديد، ولكنهم خرجوا أيضا منتصرين...
وحاربتهم الدول العظمى في ذلك العهد: الروم في الشمال، والفرس في الشرق، والأحباش في الجنوب، فكان النصر لهم على تلك الدول جميعا.
واجتمعت على حربهم الدول الصليبية، وكانوا في غاية من الضعف والتفرق، ولكن أعداءهم خرجوا في النهاية يجرون أذيال الهزيمة...
واجتاح التتار وزعيمهم هولاكو عاصمة الخلافة بغداد، وسيطروا على المسلمين سيطرة لم يكونوا يظنون أنهم سيطردون منها شر طردة، ولكن النصر كان حليف المسلمين.
واستجاب أتاتورك لليهود والنصارى، وقضى على آخر رمز للخلافة الإسلامية، وأغلق مدارس المسلمين وغير مناهجهم وأكرههم على إظهار موافقته، في كتابة أغلى كتاب على وجه الأرض بغير حروفه العربية، وأرغمهم على الأذان بغير ألفاظه العربية، وأنزل بالمسلمين من المحن والمصائب ما لا يخفى على قارئ التاريخ.
ولكن المسلمين درَّسوا أولادهم في دهاليز منازلهم، وفي حظائر دوابهم، القرآن الكريم، والحديث الشريف، والفقه، والتفسير، والتاريخ الإسلامي، وإذا الجيل الذي نشأ في عهده يظهر بعد إدباره حافظا لكتاب الله، متقنا للغة العربية، متمسكا بدينه... رافضا مبادئ أتاتورك وزمرته على رغم تسلطهم واستبدادهم الشامل تدعمهم القوة العسكرية...
وجثم الاتحاد السوفييتي على صدور المسلمين في آسيا الوسطى سبعين عاما، قتل من قتل، واعتقل من اعتقل، وشرد من شرد، وحظر على المسلمين حمل كتاب الله... وليس خافيا ما قام به الملحدون من عذاب ونكال...
ومع ذلك خرج الجيل الذي نشأ في ظل هذا النظام الظالم، وهو يحفظ كتاب الله، ويحفظ سنة رسول الله، ويحفظ أحكام دينه ويلتزم بها، وما جوهر دوداييف، وزملاؤه الذين سلكوا سبيله إلى الآن إلا دليل على أن المسلمين يستعصون على أي عدو يحاول القضاء عليهم وعلى دينهم...
والمحتلون الأوربيون البريطانيون، والفرنسيون والإيطاليون، والبرتغاليون، والألمان والأسبان، الذين اغتصبوا بلدان المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وبقوا فيها فترات طويلة، حتى أصبحت في ظاهر الأمر جزءا من بلد المحتل، خرجوا جميعا وهم يجرون أذيال الهزيمة...
وهاهم المسلمون اليوم، يجاهدون أعداءهم الأقوياء ماديا المعتدين عليهم في بلدانهم، في فلسطين والعراق والفيليبين والشيشان وغيرها من البلدان، برغم ضعفهم المادي، صابرين مستبسلين، لا يخافون إلا ربهم، وسيبقون كذلك حتى يحقق الله لهم النصر على عدوهم...
الجزء الثالث
استعصاء الإسلام بمن يحمله
اقتضت حكمة الله تعالى أن الأديان و المبادئ لا تبقى وتقوى وتنتشر وتحترم، إلا بأهلها الذين يؤمنون بها ويعملون بها ويحمونها.
ولا يستثنى من ذلك الإسلام، فقد أنزل الله تعالى كتابه، وأرسل رسوله، وشرع دينه، ليطبق في حياة الأفراد والأسر والأمة.
والفرق بين الإسلام وغيره من الأديان والمبادئ، أنه دين عالمي يجب على كل الأمم الدخول فيه، وأنه دين باق خالد، ما بقي كتابه الذي تكفل الله بحفظه إلى يوم القيامة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر (9)]
فحفظ هذا القرآن يقتضي حفظ ما جاء به من هذا الدين، ويقتضي – كذلك – أن تبقى للإسلام أمة تؤمن به وتحميه وتبلغه إلى غيرها من الأمم.
فليعلم ذلك المسلمون، وليحفظوا لأنفسهم شرف حمل هذه الرسالة، ولا يعرضوا نفسها لسخط الله بتخليهم عنه، فيأتي الله لنصرة دينه بغيرهم، ويستبدل به غيرهم، من عباده الذين يجاهدون في سبيل الله لا يخاف فيه لومة لائم، كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة (54)]
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)﴾ [التوبة]
وقال تعالى: ﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد (38)]
وليس معنى بقاء طائفة تحمل هذا الدين وتدافع عنه، سلامة هؤلاء من الابتلاء والامتحان والتمحيص، بل معناه أن هذه الطائفة، مهما تعرضت للابتلاء والامتحان والأذى، ستبقى ثابتة صابرة، ينال الشهادة منها من اختاره الله للشهادة، وينال شرف النصر على أعداء الإسلام من أراد الله نصر دينه على يديه.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة (214)]
وقال تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾ [آل عمران]
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11)﴾...
وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22)﴾ [الأحزاب]
الجزء الرابع
استعصاء الإسلام على من يكيد له.
والذين يكيدون لهذا الدين قسمان:
قسم داخلي يندس في صفوف المسلمين، وهم المنافقون.
والمنافقون هم الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر، وكان زعيمهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن أبي بن سلول الذي أصر على إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في دينهم وعرضهم، وتعاون مع اليهود والمشركين على محاربة المسلمين وخذلانهم...
وقسم خارجي، وهم قادة اليهود والنصارى والمشركين وأتباعهم.
وهم الذين ناصبوا المسلمين العداء، وشنوا عليهم الحروب، من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.
القسم الأول: الداخلي وهم المنافقون.
وهذا القسم لا يخلو منه عصر من العصور ولا جيل من أجيال المسلمين، وخطرهم على المسلمين أعظم من خطر غيرهم، لأنهم يعيشون بينهم ويندسون في صفوفهم، ولهذا كثر في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الحديث عنهم وعن صفاتهم، ولقد سمى الله تعالى سورة كاملة باسمهم "المنافقون"
ولهم علامات تميزهم عن المسلمين:
منها: كثرة الكذب، والفجور في الخصومة، والغدر في العهد، والخلف في الوعد...
وهذه الصفات قد تكون من نوع النفاق العملي، الذي لا يخرج صاحبه من الملة، وإن كانت بريدا إلى ذلك...
وفي هذه الصفات، روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) [صحيح البخاري (1/21) رقم (34)و صحيح مسلم (1/78) رقم (58)]
وليس من السهل استقصاء علامات هذا الصنف من أعداء الإسلام، ولكن لا بد من الإشارة إلى أهم تلك العلامات، ليميز المسلمون بين المؤمن الصادق وغيره.
فمن علاماتهم: ادعاء الإصلاح قولا والإفساد فعلا.
ومن علاماتهم: سبهم للمسلمين، ووصفهم بالسفه، بسبب إيمانهم الذي يرون أنه لا يليق بهم الإقرار به.
ومن علاماتهم: إقرارهم عند إخوانهم الكفار، بأن لقاءهم بالمؤمنين ومجاراتهم لهم بإظهار اتباع دينهم، إنما هو للاستهزاء بهم وليس للإيمان بدينهم.
قال تعالى في وصفهم بهذه الصفات الثلاث:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)﴾ [البقرة]
ومن علاماتهم: أنهم يدعون الإيمان بما أنزل الله، ويؤثرون الميل إلى الاحتكام إلى الطاغوت، وهو كل ما يخالف حكم الله تعالى، والإعراض عن شرع الله والنفور منه، ثم ادعاؤهم أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى غير حكم الله، إلا الحق والعدل والإحسان والتوفيق بين الخصوم، كما قال تعالى عنهم:
﴿َلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً (62)﴾ [النساء]
ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في بعض المنافقين، الذين دعاهم بعض خصومهم من المؤمنين [أو من اليهود] إلى التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا التحاكم إلى بعض زعماء اليهود.
[تفسير ابن جرير الطبري تفسير الطبري تفسير الطبري (5 / 154-155) وتفسير ابن كثير تفسير ابن كثير (1/520)]
ويدخل في ذلك كل من فضل التحاكم إلى القوانين الوضعية المخالفة لصريح القرآن وصحيح السنة وإجماع الأمة، مهما كانت تسمياتهم، ومهما كانت أعذارهم.
ومنهم الذين يزعمون أنهم باحتكامهم إلى ما يخالف شرع الله الثابت القطعي الذي لا خلاف فيه بين علماء الأمة، إنما يوفقون بين العقل والنقل الذي لم يعد يصلح للتطبيق في العصور المتأخرة في زعمهم.
قال الألوسي رحمه الله:
"﴿ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا﴾ بأنفسنا لتمرنها، على التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عبارتك وإشارتك. ﴿وتوفيقا﴾ أي جمعا بين العقل والنقل، أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم ولم نرد مخالفتك"[روح المعاني(5/83)]
واعتذار المنافقين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى غيره من ولاة الأمر، بقولهم: ﴿إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا﴾ لا يقع منهم إلا عندما تصيبهم مصيبة، كما قال الله تعالى.
وفي المراد بالمصيبة قولان:
القول الأول: أن المراد بها ما ينزله الله تعالى بهم من النقمة والعقاب، على صدهم عن حكم الله وتحاكمهم إلى الطاغوت.
قال الطبري رخمه الله: "يعني إذا نزلت بهم نقمة من الله بما قدمت أيديهم يعني بذنوبهم التي سلفت منهم ثم جاءوك يحلفون بالله يقول ثم جاءوك يحلفون بالله كذبا وزورا إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا" [تفسير الطبري (5/156)]
القول الثاني: أن المراد بالمصيبة، افتضاحهم بالنفاق الذي يخفونه خداعا للمؤمنين، فإذا فضحهم الله وبين أمرهم للرسول صلى الله عليه وسلم، جاؤوه معتذرين.
قال ابن كثير رحمه الله: "أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك، ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا" تفسير ابن كثير [(1/520)]
أما إذا لم تصبهم نقمة وعقاب، أو لم يحتاجوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى أولي الأمر بعده، فإنهم لا يعتذرون، لاعتقادهم بأنهم فائزون بخداعهم للمؤمنين:
﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)﴾ [البقرة]
ومن علاماتهم: تثبيط بعضهم بعضا عن الجهاد في سبيل الله، وزعمهم أن من قتل أو مات ممن خرج مع المجاهدين، لو تركوا الجهاد وبقوا معهم ولم يخرجوا من ديارهم، لم يصبهم الموت ولا القتل، وفرحهم بتخلفهم عن الجهاد...
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [آل عمران (156)]
والمراد بالذين كفروا في الآية المنافقون، والمراد بإخوانهم إخوانهم في النفاق أو في النسب، وفي الآية دليل واضح أن المنافقين كفار، وإن لم تطبق عليهم أحكام الكفر في الدنيا.
قال القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لاتكونوا كالذين كفروا﴾ يعني المنافقين ﴿قالوا لإخوانهم﴾ يعني في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة. ﴿لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا﴾ فَنُهِيَ المسلمون أن يقولوا مثل قولهم" [تفسير القرطبي (4/246) و براجع [أضواء البيان (1/214)]
وقال تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة (81)]
فالذين يفرحون بالتخلف عن الجهاد، ويثبطون المسلمين عنه، مع توافر شروطه وقدرتهم عليه وشدة حاجتهم إليه، هم من هؤلاء...
[بينت حكم الجهاد وشروط القيام به في كتابي "الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته. يمكن تصفحه في موقع الروضة الإسلامي]
ومن علاماتهم: التعاون مع أعداء المسلمين من اليهود والنصارى والمشركين وتشجيعهم على قتالهم، ووعدهم بنصرهم والقتال معهم، كما قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الحشر (11)]
ومن علاماتهم اتهام المؤمنين بالغرور عندما يثقون في نصر الله لهم ولو كانوا قلة، على أعدائهم ولو كانوا كثرة، كما في قصة بدر.
قال تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال (49)]
قال الزمخشري رحمه الله:
"غر هـؤلاء دينهم، يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، إلى زهاء ألف، ثم قال جوابا لهم: ومن يتوكل على الله، فإن الله عزيز غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي" [الكشاف(2/217)]
ومن علاماتهم المسارعة في موالاة أعداء المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار واللجوء إليهم، إذا توهموا أنهم سينتصرون على المسلمين، فيتخذون بموالاتهم لهم يدا عندهم، وينجوا من بطشهم الذي قد يوقعونه بالمسلمين، أو ينالون بذلك جاها ومناصب.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)﴾ [المائدة]
قال ابن كثير رحمه الله:
"وقوله تعالى: ﴿فترى الذين في قلوبهم مرض﴾ أي شك وريب ونفاق، ﴿يسارعون فيهم﴾ أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، ﴿يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة﴾ أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك عند ذلك" [تفسير ابن كثير (2/69)]
ونحن نرى كثيرا من المنتسبين إلى الإسلام اليوم يتوجهون الدول الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ويعقدون معهم اللقاءات والتحالفات، وينخرطون في سلك مؤسساتهم العسكرية الجاسوسية، لا ليتقوا ضررا يلحق بهم إذا انتصروا على المسلمين، بل ليتعاونوا معهم على تدمير بلدانهم، ليوصلوهم إلى كراسي الحكم التي يخدمونهم بها، في محاربة "العدو الأخضر" باسم الإصلاح ومحاربة الفساد، وهم أشد الناس فسادا وإفسادا... وهذا ما نشاهده اليوم في بعض البلدان الإسلامية، التي يعيث فيها المعتدون بتعاون ممن اقتدوا بزعيمهم القديم الذي حارب الله ورسوله المؤمنين مع اليهود والمشركين "عبد الله بن أبي بن سلول"
ويسارع إخوانهم في بلدان إسلامية أخرى للسير في طريقهم، مع أعداء المسلمين...
ولكنا نثق في قول الباري جل وعز: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾
ولنكتف بهذا القدر من العلامات التي بينها الله تعالى لنا في كتابه، وبينها لنا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في سنته، وأكدتها لنا القرائن الكثيرة من أعمالهم...
كيفية التعامل مع المنافقين واتقاء شرهم ؟
إن خطر هذا العدو [وهو القسم الداخلي من أعداء الإسلام والمسلمين] لهو أشد من خطر غيره من الأعداء.
والسبب في ذلك، أن المنافقين يعيشون في صفوف المسلمين، يظهرون لهم أنهم منهم يشهدون ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيمون ما يؤيدون به انتماءهم إليهم من الشعائر التي يفضحهم عدم أدائها... ويتمتعون بجميع أحكام الشريعة الإسلامية التي يتمتع بها جميع المسلمين...
وقد أعطاهم الإسلام هذا الحق، مع علم الله تعالى بأنهم أشد كفرا وأعظم ضررا على الأمة الإسلامية، ومع ما يظهر للمسلمين من القرائن الدالة على كفرهم.
وفي الآيات التي سبقت هذا العنوان بيان واضح لتلك القرائن...
وقد هددهم الله تعالى بفضحهم لرسوله وللمؤمنين، بما يظهر من تصرفاتهم الدالة على كفرهم من الأقوال والأفعال الصادرة منهم، فقال تعالى:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)﴾ [محمد]
ظاهر من الآيتين، أن إطلاع الله تعالى رسوله على أعيان المنافقين مقيد بمشيئته، أي إذا شاء تعريفه بأعيان بعضهم عرفه، وإن شاء لم يعرفه، والغالب أنه لم يعرفه بأعيان جميع المنافقين.
ولكنه تعالى أكد معرفة رسوله بهم في لحن القول، أي ما يظهرون من كلامهم الدال على نفاقهم، وهذا متاح لغير الرسول صلى الله عليه وسلم، ليحذروهم.
قال ابن كثير رحمه الله، في قوله تعالى: ﴿ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم﴾:
يقول عز وجل: ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين، سترا منه على خلقه، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، وردا للسرائر إلى عالمها.
ولتعرفنهم في لحن القول، أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه، وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه" [تفسير ابن كثير (4/181)]
عدم تمكين المنافقين من تولي شئون الأمة
فلقد عاملهم الرسول صلى الله عليه وسلم، معاملة سائر المسلمين في أحكام الإسلام، إلا أنه لم يولهم شئون المسلمين العامة، كالإمارة والقيادة في المعارك الحربية، وغيرها مما لا يجوز أن يؤتمن عليه الخونة، والمنافقون خونة كما سبق...
وقد كان بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، يودون قتل بعض من ظهر منه النفاق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان ينكر ذلك ويأباه..
فقد استأذن منه عمر رضي الله عنه، أن يقتل رأس النفاق عندما أساء الأدب على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، فأنكر ذلك.
كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، الذي روى فيه قول ابن أبي في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه من المهاجرين: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) [صحيح البخاري (4/1861) صحيح مسلم (4/1998) رقم (2584)]
وروى أئمة الحديث في كتبهم الصحاح والسنن أحاديث كثيرة في معنى هذا الحديث...
وبين علماء الإسلام أن المنافقين يعاملون معاملة سائر المسلمين، ولا يعاملون معاملة الكفار.
وممن فصل القول في ذلك تفصيلا مستندا إلى الأدلة الشرعية إمامنا الشافعي رحمه الله في كتابه العظيم "الأم" [الأم (6/157 – (6/166)]
ومع تلك المعاملة التي منحها الله تعالى للمنافقين، الذين هم أشد كفرا من غيرهم في واقع الحال، فقد حذر الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين منهم تحذيرا شديدا، وبين شدة عداوتهم للإسلام والمسلمين،
وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:
﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون (4)]
وهذه الصيغة ﴿هم العدو﴾ تعريف الجزئين [المبتدأ والخبر] من صيغ الحصر الإضافي الدال على خطر المحصور والاهتمام به، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)
قال الشوكاني رحمه الله: "قوله هم العدو، جملة مستأنفة لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون" [فتح القدير (5/231)]
وقال الألوسي رحمه الله: "هم العدو، استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها، فإن أعدى الأعادي العدو المداجي، الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي ككثير من أبناء الزمان" [روح المعاني (28/112)]
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: " فهؤلاء هم العدو على الحقيقة، لأن العدو البارز المتميز أهون من العدو الذي لا يشعر به، وهو مخادع ماكر يزعم أنه ولي وهو العدو المبين" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/864)
وسائل اتقاء شر المنافقين
إن اتقاء المسلمين شر هذه الفئة المندسة في صفوفهم، فرض عليهم لا يجوز لهم التساهل فيه، وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالحذر منهم، بعد أن أخبره بأنهم: ﴿ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾
ولا يمكن الحذر منهم إلا بمعرفة صفاتهم وأساليب كيدهم للأمة، ولهذا أبدى القرآن في صفاتهم وأعاد، وكذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن كل ما أمر الله تعالى لرسوله هو أمر لأمته، إلا ما دل الدليل على خصوصيته به، كما بين ذلك علماء الأصول... فالحذر من مكرهم واتقاء شرهم فرض على المسلمين.
ومن أهم الأمور التي يتقي بها المسلمون شر هذا القسم الفاسد في صفوفهم الوسائل الآتية:
الوسيلة الأولى: تربية المسلمين أبناءهم تربية إيمانية صادقة، قائمة على الحجة والإقناع، وعلى الإخلاص والحب، وليست على مجرد العواطف التي تزول بما يهجم عليها من الشبهات والشهوات، ولا على الإكراه الذي يستجيب له اللسان وينكره القلب.
وهذه التربية واجبة على الأسر والمؤسسات التعليمية، وأجهزة الإعلام، وغيرها من المؤسسات المدنية والرسمية، كل فيما يخصه، وعلى علماء المسلمين ودعاتهم واجب البيان بكل وسيلة تتاح لهم...
الوسيلة الثانية: معرفة المنافقين ومعرفة صفاتهم وأساليب مكرهم، وقد سبق ذكر بعض العلامات الدالة على نفاقهم، من القرآن والسنة...
الوسيلة الثالثة: تيقظ المسلمين لسلوكهم والقرائن الدالة على نفاقهم وتوقي خداعهم، فقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، يصفون من ظهرت منه قرائن تدل على نفاقه بأنه منافق، وكان صلى الله عليه وسلم يقرهم على ذلك الوصف بناء على تلك القرائن، كما سبق قريبا، وإن كان لا يقرهم على معاملتهم معاملة الكافرين، لأنهم اتخذوا إظهار الإسلام جنة يتقون به تلك المعاملة.
وكان صلى الله عليه وسلم ينكر إطلاق المنافق على من بدرت منه زلة فيها شبه ببعض صفات المنافقين، لعلمه صلى الله عليه وسلم بصدق إيمانه، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
الوسيلة الرابعة: عدم تمكينهم من تولي شئون الأمة الخطيرة، مثل الولايات العامة والتنفيذية التي لها تأثير على المسلمين في ضرورات حياتهم، لأن هذه الولايات لا يجوز إسنادها إلا إلى من تتوافر فيهم الأمانة والصدق والنصح للمسلمين.
ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاشر المنافقين كما عشر عامة المسلمين في أحكام الدنيا، لم يأتمن أحدا منهم – فيما أعلم - على مصالح الأمة في وظائفهم العامة، فلم يسند إليهم جباية الأموال، ولا الإمارة في الحرب، ولا القضاء بين الناس، ولا إمامتهم في الصلاة، ولا غيرها من الولايات التي يتمكنون بها من تدبير شئون المسلمين.
والسبب في ذلك أنهم يكفرون بالله ورسوله، ويحاربون الله ورسوله والمؤمنين، يضاف إلى ذلك فقدهم الأمانة التي هي أحد أسس الولايات على المسلمين.
والأمانة والصدق والنصح للأمة مطالب أساسية عند المسلم وغير المسلم، فقد أغرت فتاة مدين أباها الصالح باستئجار موسى عليه السلام، بصفتين عظيمتين يقل في كثير من الناس اجتماعهما:
الصفة الأول: الأمانة.
والصفة الثانية: القوة.
كما قال تعالى عنها: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ [القصص (26)]
وكانت الأمانة من أعظم الصفات التي جعلت ملك مصر، وهو غير مسلم، يمكين يوسف عليه السلام من الولاية على أهم الوظائف التي كان الناس مضطرون إلى من يقوم بها في عهده، وهي "خزائن الأرض" كما قال تعالى:
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) ﴾ [يوسف]
و لقد أكَّد الله سبحانه وتعالى فرض أداء الأمانات إلى أهلها، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [النساء:(58)].
قال القرطبي رحمه الله:
"هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع". ثم ذكر الخلاف في المراد بالمخاطب بها، ورجح العموم، فقال: "والأظهر أنها عامة في جميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات، وتتناول من دونهم ". إلى أن قال: "فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة". [الجامع لأحكام القرآن (5/255ـ257)].
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن إضاعة الأمانة من علامات الساعة، وأن من أبرز إضاعتها إسناد الأمور إلى غير أهلها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). [البخاري (7/188)].
وأثني صلى الله عليه وسلم على الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه، وجعله أحد المتصدقين، مع أن المال الذي تصدق منه ليس ملكا له وإنما هو خازن فقط، فلما كان والياً لخزانته وأدى حقوق الناس في ولايته طيبة نفسه بما أدى، استحق ذلك التكريم لأمانته.
روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة نفسه أحد المتصدقين). [البخاري (3/47-48) ومسلم (2/710)].
وأثنى صلى الله عليه وسلم على أبي عبيدة بن الجراح بأمانته، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه قال: (لكل أمة أمين، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح). [البخاري (4/216)].
وعندما أراد صلى الله عليه وسلم بعث أبى عبيدة هذا إلى أهل نجران، ذكر أبرز مؤهلاته لهذا الاختيار، وهي الأمانة التي أشرف لها أصحابه رضي الله عنهم لينالوا شرفها..
روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: (لأبعثن عليكم أميناً حق أمين، فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه). [المرجع السابق..].
والذي لا يتصف بالأمانة يكون متصفاً بضدها وهي الخيانة، والخيانة من علامات النفاق، والمنافق ليس كفؤاً لولاية أمور المسلمين.
وقد عَرَّف صلى الله عليه وسلم المؤمن بأنه الذي يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم، ونفى كمال الإيمان الواجب عمن خان أمانته، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال قَال رسول الله :
(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) [سنن الترمذي، برقم (2627) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال قَال رسول الله (المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه) [المستدرك على الصحيحين، برقم (25) وقال: "وزيادة أخرى صحيحة سليمة من رواية المجروحين في متن هذا الحديث ولم يخرجاها"
وأقسم صلى الله عليه وسلم على نفي هذا الإيمان عمن خان جاره، فلم يأمن شروره ومفاسده، كما عن أبي شريح [وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن النبي قال:
(والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن) قيل: ومن
يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه) [صحيح البخاري، برقم (5670) وصحيح مسلم، برقم (46)]
ومعنى هذه الأحاديث أن الإيمان الصادق إنما يظهر للناس من معاملة صاحبه لهم، و من أبرز الأدلة على صدق إيمانه أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وأسرارهم، فلا يخون أمانته، وليست دعوى الإنسان الإيمان كافية على صدق إيمانه، وإن كانت تنفعه في التمتع بأحكام الإسلام العامة.
ومعلوم أن المنافقين يفقدون الأمانة والصدق والنصح للأمة.
ابتلاء المسلمين بولاية المنافقين عليهم
ولكن المسلمين الذين لا يجوز لهم شرعا تولية المنافقين، قد بتلون بولاية المنافقين عليهم قَدَرا، حيث تقوى شوكتهم فيغتصبون الأمر بدون رضاهم، أو يتحالفوا مع الكفار من اليهود والنصارى والوثنيين، فيمكنونهم من السيطرة على الشعوب الإسلامية.
فالواجب على المسلمين اتخاذ الأمرين الآتيين:
الأمر الأول: عدم الرضا بولايتهم وعدم التعاون على نصرهم وبقائهم، لأن الرضا بالمنكر منكر، ولا عذر لمن رضي بولاية من لا يستحق الولاية شرعا، لأن الرضا بالقلب، والقلب لا سيطرة لأحد عليه من المخلوقين، فلا يقبل من أحد أن يقول: إنه أكره على الرضا بما هو منكر، والذي يظهر الرضا بذلك بدون إكراه ظاهر عليه، يخشى عليه أن يكون من المنافقين.
الأمر الثاني: الإنكار عليهم فيما يخالفون فيه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بحسب مراتب المخالفة ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع مراعاة جلب المصالح ودرء المفاسد في الأمر والنهي.
فقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم قواعد الإسلام التي لا يجوز التقصير فيها، وهي من فروض الكفاية التي إذا تركت أثم كل قادر على القيام بها من الأمة الإسلامية، حتى يوجد من يقوم بها قياما كافيا.
ولسنا في حاجة إلى سوق الأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال العلماء في إيضاح هذه القاعدة، فقد أبدى العلماء في ذلك وأعادوا، واشتملت عليها آيات من القرآن الكريم، وخصصت لها أبواب في كتب السنة، واسترسل المفسرون وشراح الحديث في أحكامها، وألف فيها بعض العلماء كتبا خاصة، أذكر منهم ابن تيمية رحمه الله، الذي ألف كتابا باسم "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وقد تكلمت على هذه الفريضة في مواضع من كتبي.
ويكفي أن نذكر هنا ما يناسب المقام في هذين الأمرين، وهما عدم الرضا بالمنكر، والقيام بإنكاره حسب المستطاع:
فقد بين لنا تعالى في كتابه أنه حبب إلى المؤمنين الإيمان وزينه في قلوبهم، كره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأقل درجات الرضا بولاية المنافقين على المؤمنين أن يكون فسقا وكبيرة من كبائر الذنوب.
فقال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)﴾ الحجرات.
و بين الله لنا في موضع آخر من كتابه، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من صفات المؤمنين الأساسية، حيث قرنها بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله.
فقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة (71)]
وبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يسلم من الإثم إلا من أنكر المنكر عند القدرة على الإنكار، أو كرهه بقلبه عند عدم القدرة، أما من رضي بالمنكر أو تابع صاحبه عليه، فهو آثم.
فقد روت أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع) قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: (لا ما صلوا) [صحيح مسلم (3/1480) رقم (1854)]
ومعنى قوله: (فتعرفون) أي ترون من هؤلاء الأمراء ما هو معروف شرعا، وقوله: (وتنكرون) أي ترون منهم ما هو منكر شرعا.
وهؤلاء الأمراء الذين ورد ذكرهم في الحديث، ليسوا هم المنافقين النفاقَ العَقَدِيَّ الذي هو كفر، وإنما هم مؤمنون ناقصو الإيمان، يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا، ويخالفون بعض أحكام الكتاب والسنة مخالفة لا تصل إلى تغيير شيء من قواعد الإسلام، كما الإمام النووي رحمه الله:
"ففيه معنى ما سبق أنه لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق مالم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام"
[يراجع لمزيد من معاني الحديث [كتاب شرح النووي على صحيح مسلم (12/242 -244)]
وفي قول النووي رحمه الله: "مالم يغيروا شيئا من قواعد الإسلام" إشارة إلى أن الأمراء الذين يجب الصبر على فسقهم وظلمهم، وعدم قتالهم والخروج عليهم، هم الذين يبقون -مع انحرافهم- محترمين لدين الأمة الذي يحفظ ضرورات حياتهم، ولا يحلون ما علم تحريمه من الدين بالضرورة، أو يحرمون ما علمت إباحته من الدين بالضرورة.
أما مَن أحل ما حرم الله كالزنا وشرب الخمر ولحم الخنزير والاحتكام إلى الطاغوت، أو شرع ما يخالف شرع الله مدعيا أن شرع الله غير صالح للتطبيق، كالتفريق بين الذكر والأنثى في الإرث، فهذا حكمه حكم من أتى كفرا بواحا، يجب عزله والخروج عليه ولو ادعى أنه مسلم، إذا توفرت القدرة على ذلك، ولم تترتب عليه مفسدة أعظم من مفسدة بقائه...
فإن ترتب على الخروج عليه مفاسد أعظم من مفسدة بقائه، كأن يغلب على الظن أن الخروج عليه سيزيده قوة على قوته وجرأة على جرأته، في محاربة الإسلام وسفك الدماء، لضعف الخارجين عليه، إما لقلة عددهم وإما لفقدهم العُدَّة التي ينتصرون بها عليه، لم يشرع الخروج عليه، ووجب عليهم إنكار تصرفاته في حدود القدرة، كما يجب عليهم إعداد العدة الكافية لخلعه بأدنى ما يمكن من المفاسد وأعلى ما يمكن من المصالح.
القسم الثاني ممن يكيدون لهذا الدين سائر الكفار من اليهود والنصارى والمشركين.
وقد تواطأ غالب قادة الأديان على محاربة هذا الدين وأهله، من يوم أشرقت شمسه في مكة المكرمة، وقامت دولته في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا، وسيبقون كذلك يحاربون الإسلام والمسلمين إلى أن تقوم الساعة.
كما أخبرنا الله تعالى بذلك في كتابه: ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة (217)]
وقد سبقت محاربتَهم للإسلام وكتابه ورسوله، محاربتُهم لغيره من الأديان، فقد حارب المشركون جميع رسل الله من عهد أول رسول أرسله الله إلى العالمين في عهده "نوح" عليه السلام إلى عهد رسول الله "عيسى" عليه السلام، وكفر اليهود بالإنجيل، كما كفر النصارى بالتوراة، وأجمعوا كلهم بالكفر بالقرآن....
وفيما قصه القرآن الكريم عن الأنبياء عليهم السلام وأممهم، وعن الرسول صلى الله عليه وسلم والمشركين العرب واليهود والنصارى، غناء لمن يريد الوقوف على ذلك الكيد وتلك الحروب الظالمة...
ولولا أن هذا الدين هو دين الله الخاتم الذي ختم الله به كل الديانات، ولولا أنه تعالى تكفل بحفظه الله له بحفظ مصدره ونصره لأهله على أعدائه، لولا ذلك لما بقي للإسلام أثر في الأرض، لكثرة أعدائه في الداخل والخارج، وشدة محاربتهم له...
وقد سبق ما يكفي في إيضاح كيد هؤلاء جميعا للإسلام والمسلمين...
والله من ورائهم محيط
وفي ما مضى من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما سجله التاريخ منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، دلالة واضحة أن هذا الدين الذي سماه اليهود والصليبيون الجدد بـ"العدو الأخضر" قد استعصى على جميع أعدائه الذين حاربوه وظنوا أنهم قادرون على محوه واستئصال أهله من الأرض.
وما ذلك إلا تحقيق لوعد الله في كتابه، ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، أن هذا الدين سيبقى ما بقيت الدنيا، وأن أهله سيبقون ما بقي دينهم، منصورين على أعدائهم ما نصروا دينهم، وأعدوا لنصره عدتهم:
كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ (173)﴾ [الصافات]
﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر (51)]
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد (7)]
هذا وعد حق من الله تعالى، لا يمكن أبدا أن يتخلف إلا إذا تخلف المسلمون عن نصر دينهم، فجواب الشرط ﴿َينصُرْكُمْ﴾ لا يتحقق إلا وجد شرطه: ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ﴾.
وأي جيل من أجيال المسلمين، تقاعس عن حمل الإسلام وحمايته والدعوة إليه والجهاد في سبيل الله، لرفع رايته، سيستبدل الله به غيره، كما سبق.
فليعلم أعداء الإسلام من جميع الأديان، أنهم مهما أعدوا لحربه من عدة، ومهما أشعلوا من نار الحرب ضد أهله، ومهما أنفقوا من أموال في هذا السبيل، أن العاقبة ستكون لهذا الدين، وأن عاقبة أعدائه كلهم هي الحسرة والندامة والخذلان...
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال (36)]
و قال تعالى عن اليهود الذين يستعينون اليوم على المسلمين بالصليبيين الجد، ويحتلون أرضهم، ويخرجونهم من ديارهم، يقتلونهم:
﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة (64)]
ولقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، ببقاء من يحمل هذا الدين ويدعو إليه ويجاهد أعداءه إلى أن تقوم الساعة.
فقد روى المغيرة بن شعبة عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) [صحيح البخاري (6/2667) رقم (6881) و صحيح مسلم (3/1523) 1921]
وبشر صلى الله عليه وسلم، هذه الأمة أنها هي التي ستقاتل الدجال في آخر الزمان.
كما في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرُهم المسيحَ الدجال) [الحاكم في المستدرك، (2/81) رقم (2392] وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"
وبشر صلى الله عليه وسلم هذه الأمة في حديث عظيم، أن مُلكها سيصل إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأنها ستملك ملكا عظيما من القوة المالية، وهي من أسس القوة الشاملة، وأن الله تعالى لا يهلكها بالجدب، ولا يسلط عليها عدوا يستبيح أرضها استباحة شمول واستئصال، ولو اجتمع عليهم هذا العدو من أقطار الدنيا كلها...
فروى ثوبان رضي الله عنه، قال قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض.
وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم.
وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا) [صحيح مسلم (4 / (2215 )]
وبشرنا صلى الله عليه وسلم، أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهو يعني أن الشمس لا تشرق ولا تغيب في جميع بقاع الأرض، إلا ولهذا الدين فيها وجود، وأن الإسلام سيصل إلى أهل المدن والحضر، وإلى أهل البوادي.
فقد روى تميم الداري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر...) [مسند الإمام أحمد بن حنبل (4/103) ومجمع الزوائد (6/14) وقال: "رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح"
ولقد وصلت دولة الإسلام في العصور الأولى إلى كثير من أقطار الأرض، من حدود الصين شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، بل وصلت إلى الأندلس في القارة الأوربية، وكانت البحار والمحيطات والأنهار التي يؤمها الناس تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ولكنا اليوم مع تعانيه هذه الأمة من ضعف وتنازع وفشل، ومن تداعي أعدائها عليها كما تداعى الأكلة على قصعتها، نرى تباشير انتشار هذا الدين في أقطار الأرض، فلا يكاد بلد من بلد من البلدان في جميع القارات، يخلو من المسلمين... يعرف ذلك من تنقل في تلك البلدان، بل أصبح غالب الناس يعرفون ذلك عن طريق وسائل الإعلام في كثير من المناسبات...
وإن كثيرا من الكوارث والمحن التي تنزل اليوم بالمسلمين في كل أنحاء الأرض، لهي بإذن الله، رسائل منبهة للناس إلى هذا الدين والبحث عنه، لتقوم عليهم به الحجة، فيحيى من حي بالدخول فيه عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة...
فلم يكن عند كثير من الناس من الحوافز ما يدعوهم إلى البحث عن حقيقة الإسلام والسؤال عنه أو عن القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يسمعون من وسائل الإعلام الغربية ومراكز البحث والمستشرقين وزعماء والكنائس والجامعات، ما يشوه الإسلام وينفر منه، وكانوا مقتنعين بذلك التشويه، ولا يرون أنفسهم في حاجة إلى البحث عن دين ناله من التشويه والتنفير ما ناله...
ولكن بعض الأحداث كانت تنبه بعضهم، فيبدأ بالبحث عن الإسلام، ويدرسه ويدخل فيه...
ومن الأمثلة التي أذكرها في ذلك، أنني كنت أسأل بعض الأوربيين الذين دخلوا في الإسلام: متى سمعت عن الإسلام وما سبب إسلامك؟
فيذكرون أن الذي لفت نظرهم إلى البحث عن الإسلام والقراءة عنه والدخول فيه، هو سنة 1967م أو قطع البترول سنة 1973م، أو الحرب التي نشبت بين إيران والعراق سنة 1379م
ولقد سمعنا ما حصل من بحث الناس في الغرب عن الكتب المترجمة عن الإسلام ونفادها في فترة قصيرة من الزمن، بعد أحداث نيويورك وواشنطن، في 11 سبتمبر من عام 2001 م ودخول كثير منهم في الإسلام، على رغم ما في تلك الحادثة من مصائب جرتها على الأمة الإسلامية، ولا زلنا نتجرع غصصها إلى الآن في جميع الأقطار...
أسرى المسلمين وعبيدهم ينشرون الإسلام
إن المحن كثيرا ما يحولها الله تعالى إلى منح، ومن ذلك أن الهولنديين الذين احتلوا إندونيسيا، واحتلوا جنوب أفريقيا، وجدوا مقاومة شديدة من العلماء والدعاة في إندونيسيا، فأسروا بعضه العلماء وأتباعهم، ونقلوا أول جماعة منهم عبيدا أسرى إلى جنوب أفريقيا... سنة: 1650م
وفي سنة: 1667م جاءت سفينة حاملة ثلاثة مشايخ من سومطرة كبار المجاهدين وضعوا اثنين منهم في منطقة:
"كونتانيشيا" وهما" الشيخ عبد الرحمن القادري ومحمود القادري" وهما صوفيان، وهما أول من أسس مجتمعا إسلاميا في هذا البلد.
والثالث ذهبوا به إلى" جزيرة روبِن" وهي الجزيرة التي يسجن فيها كبار السياسيين، وقد سجن فيها" مانديلا"
وهو الذي أسس المجتمع الإسلامي في منطقة (FAURE ) في كيبتاون...
ثم جلب المستعمرون بعد ذلك مجموعات من المسلمين الهنود عبيدا أيضا ليقوموا بزراعة قصب السكر...
وهؤلاء الأسرى من إندونيسيا والمستعبدون من الهند، هم الذين نشروا الإسلام في جنوب أفريقيا، البلد الذي لم يكن محتلوه يظنون أن هؤلاء الأسرى والمستعبدين، سيصبحون قادة لأتباعهم يبنون المساجد والمدارس وينشرون الإسلام بين الأفارقة السود ويتعاونون معهم لإنهاء الهيمنة الأوربية...
وفي نفس الفترة كان الأمريكان ينقلون الأفارقة عبيدا إلى أمريكا، وكثير منهم من المسلمين، وانقرضت الأجيال الأولى منهم، وخلفتهم أجيال نسوا أنهم مسلمون، ولكنهم بعد مضي زمن طويل رجعوا إلى أصلهم، وهاهم العبيد السود يتحررون اليوم بالإسلام ولهم وزن وثقل لا يستهان به في الولايات المتحدة الأمريكية...
أليس في هذا دليل على استعصاء الإسلام على أعدائه، وعلى ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار؟
الجزء الخامس: وقل اعملوا!
نعم إن الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر، وبشرهم بأن دينهم سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهو تعالى يحول مِحَنَهم إلى مِنَح، ويجعل أسراهم وعبيدهم سادة، ويجعل المعتدين على بلادهم يخرجون منها يجرون أذيال الهزيمة.
ولكن ذلك الوعد وتلك البشرى و تلك المنح وتلك السيادة لا تهبط عليهم من السماء بدون سبب منهم، فلله تعالى سنن كونية وسنن شرعية.
ووعْدُ الله سبحانه عباده المؤمنين بنصره وعزته ودفعُ عدوان أعدائهم عنهم، مرتبط بما يقدمونه من طاعة وعمل، فإذا طبقوا سننه الشرعية استحقوا منه – تفضلا ورحمة – ما وعدهم به من سنته الكونية...
وإذا عصوه وخالفوا أمره، ولم يطبقوا دينه، عاقبهم على ذلك وأدال عليهم أعداءهم...
ولو كان الله تعالى ناصرا أحدا بدون عمل، لكان الأولى به رسله الكرام، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لم يفتأ داعيا مجاهدا في سبيل الله، ونال من أذى والمحن هو وأصحابه ما نالوا، ثم كانت العاقبة لهم...
وعندما خالف بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أمره في غزوة أحد، عاقبهم الله تعالى بإدالة عدوهم عليهم، بعد ان منحهم النصر عليهم في أول الأمر.
ولما سألوا متعجبين من ذلك كيف يحصل لهم ذلك، وهم المؤمنون وبينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لم ينج من عدوان قريش، حتى سال الدم من جسمه الشريف، أجابهم الله تعالى على سؤالهم وتعجبهم بأنهم هم السبب في ما أصابه.
قال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران (165)]
فهل ننتظر من الله نصرَه، ونحن نصر على الاستمرار في معصيته؟ وهل ننتظر من الله نصره، ونحن نتنازع ونختلف في ما بيننا تنازعا يؤدي إلى ما حذرنا الله منه، وهو الفشل؟
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال(46)]
وهل ننتظر من الله نصره، ونحن قاعدون عن إعداد القوة الذي أمرنا الله تعالى به، لنرهب به عدونا وعدوه؟
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال (60)]
والقوة المأمور بها شاملة لكل قوة في كل عصر بما يحقق الهدف من هذا الأمر، وهو إرهاب أعداء هذه الأمة الذين يعتدون على ضرورات حياتها، من الدين والنفس والنسل والعقل والمال.
إنها تشمل القوة الإيمانية والقوة الاجتماعية، والقوة السياسية والقوة الدبلوماسية والقوة الإدارية، والقوة المالية والقوة الاقتصادية والقوة التجارية، القوة العلمية الشاملة لكل علم مفيد، والقوة الصناعية، والقوة العسكرية الشاملة لتدريب الرجال على كل ما يجعلهم يتفوقون على عدوهم، ولصنع السلاح الذي يفوق سلاح العدو أو يساويه...
وهذا ما فهمه أعداء الإسلام والمسلمين من هذا الدين، وهو الذي جعلهم يحملون على هذه الأمة حملاتهم الظالمة، في جميع العصور، ضد تحقيق المسلمين هذه القوة التي تمكنهم من السيادة في الأرض، وتدفع عنهم عدوان المعتدين....
ولهذا نراهم يحاربون المصطلحات الإسلامية ويجعلونها هدفا لحربهم وعدوانهم، كالجهاد في سبيل الله، الذي أطلق عليه اليهود "الإرهاب" كما في كتاب رئيس وزرائهم الأسبق "نتنياهو" : "استئصال الإرهاب" وحرضوا الإدارة الأمريكية الصليبية على المسلمين، فاحتلوا ديارهم وأزهقوا أرواحهم، ونهبوا خيراتهم، وحاربوا دينهم ومؤسساتهم الخيرية، واعتقلوا شبابهم، واغتالوا قادتهم...
وصمموا على نشر الفساد في بلدانهم، وعلى إجبارهم على تغيير مناهجهم و أنظمتم وقوانينهم، بجحة محاربة الإرهاب الذي لا يبعد أن يكون اليهود وأعوانهم قد رتبوا سببه البارز، وهو حدث نيويورك...
وتلقف هذا المصطلح منهم ببغاوات الإعلاميين في الشعوب الإسلامية وبخاصة العربية منها، فأصبح هذا المصطلح يدور على ألسنتهم وتتقيؤه أقلامهم وتطفح به صحفهم، وتدوي به فضائياتهم، حيث يطلقونه على الجهاد في سبيل الله الذي يقوم به الفلسطينيون دفاعا عن أنفسهم ودينهم وبلادهم، ويقوم به العراقيون ضد احتلال العدو لبلادهم، والفيليبينيون الذين سلم أرضهم الأمريكيون للصليبيين الفيليبينيين، في الحرب العالمية الثانية، ولا زالت أمريكا تدرب الجيش الفليبيبني وتمده بالسلاح، للقضاء على المسلمين في داخل ديارهم...
إن اليهود وأعوانهم في الغرب، يصنعون المصطلحات المناسبة لهم في كل مرحلة من المراحل التي يعدون فيها العدة لحرب الإسلام والمسلمين: الأصولية... الإرهاب ... الشرق أوسطية... الشرق الأوسط الجديد... الشرق الأوسط الكبير...الحرية... حرية المرأة... أسلحة الدمار الشامل... المساواة... الإصلاح والإصلاحيون... تغيير مناهج التعليم...
فتسارع الأبواق الإعلامية بتكرار تلك المصطلحات الحق منها الذي أريد به الباطل، والباطل بذاته...
إن حرب اليهود والصليبيين لما سموه بالإرهاب، إنما قصدوا به حرب الجهاد الذي لا يمكن أن تبقى للمسلمين سيادة حقيقية على بلدانهم إلا به، ولهذا ضغطوا ولا زالوا يضغطون على حكومات الشعوب الإسلامية، وبخاصة العربية، لحذف نصوص الجهاد وأحكامه، لأنهم عرفوا معنى قول الله تعالى: ﴿ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾.
وإذا وجد من المسلمين من يحرف معنى الجهاد أو الإرهاب الشرعي، ويفسرهما تفسيرا خاطئا، ويبني على تفسيره الخاطئ تصرفات غير صحيحة، فلا يسوغ ذلك للمسلمين الهزيمة والاستسلام أمام الحملات الظالمة، ممن يريدون استعبادهم بإبعادهم عما فيه عزتهم وقوتهم...
وكذلك مصطلح "أسلحة الدمار الشامل" و"السلاح النووي" الذي جعله اليهود وأعوانهم متكأ للقضاء على قوة المسلمين التي يدفعون بها عن أنفسهم عدوان اليهود عليهم في عقر دارهم...
هذا السلاح الذي امتلأت به ترسانة اليهود في الأرض المحتلة المباركة، ويهددون به الشعوب الإسلامية، استسلمنا لهم بأنه خطر ولا تجوز حيازته ووقعنا على حظره على أنفسنا، لينفرد به عدونا، وتنقلب الحقيقة الشرعية والكونية علينا، فيصبحون هم يرهبوننا ويملون علينا إرادتهم في كل ما يريدون منا...
وما كان توريط العراق في الحربين الخليجيتين، وما تبعهما من احتلال اليهود والنصارى له، إلا أحد الأهداف التي يريدون تحقيقها في البلدان الإسلامية، ومنها القضاء على قوة المسلمين وتفوق اليهود عليهم...
توصيات سريعة:
1-الشعوب المسلمة وحكامها في سفينة واحدة، تتقاذفها عواصف الأعداء، ولا نجاة لهم جميعا إلا بوحدة الكلمة والتعاون على البر والتقوى.
2-قوتان هما المخرجان: القوة الإيمانية، وقوة والقوة المادية...
3-وقوف حكومات الشعوب الإسلامية صفا واحدا، على أساس الإسلام فرض، وفي تفرقها دمار وهلاك.
4- عناية الدول والموسرين من الشعوب الإسلامية بالفقراء والمحتاجين من الشباب، بتوفير الحياة المطمئنة، واجب وعامل استقرار.
5-الثبات على مبادئ الإسلام هو الفوز الحقيقي، والخروج عن ذلك فيه الخسران المبين...
6-يجب أن تتضمن مناهج التعليم، مع بيان العقيدة والعبادة والحلال والحرام، بيان المخاطر المحيطة بالأمة، وكيفية درئها ودفعها عن البلدان الإسلامية...
7-يجب تدعيم شورى أهل الحل والعقد في البلدان الإسلامية، كل فيما يجيده مما يحقق مصالح الأمة ويدفع عنها المفاسد...
8-على علماء الشريعة والمتخصصين في أي علم من العلوم الإنسانية وغيرها، القيام ببيان الحق والباطل في كل المجالات، لأن الله تعالى كلفهم ذلك، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة غليه.
ولا بد هنا أن نؤكد لمن يحارب الإسلام من أي صنف كان، أنه غير قابل للذوبان ولا للتحريف ولا للقضاء عليه، بل هو كما قال الشاعر العربي:
كناطح صخرة يوما ليوهنا
،،،،،،،،،فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
"العدو الأخضر" في زعمكم ليس مثل "العدو الأحمر" إنه دين الله الباقي إلى قيام الساعة... بل إنكم عندما تحاولون القضاء عليه، شبيهون بمن يتجه إلى الشمس، ويأخذ نفسا طويلا لينفخ فيها ليطفئها:
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)﴾ [الصف] والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق