العز بن عبد السلام
لا ينكر عاقل على ظهر البسيطة أن ما يجرى وما يحدث للمسلمين في هذا الزمان إنما هو بسبب غياب العلماء الربانيين وكذا الحكام ، وكذا بسبب البعد عن الرحمن ، وارتكاب المعاصي الجسام ، والمجاهرة بالفسق والإعلان ، وكذا الحرب من الله بسبب الربا والبهتان ، فصارت الأمة ذليلة عاجزة يطمع فيها القاصي والداني ويتناحر على خيراتها الملحد والكافر ، يسلبها بيضتها المجرم والفاجر ، وأبناء الأمة في كل هذا كالأيتام على موائد اللئام .
أيها الأحبة في الله :وحتى تستيقظ الأمة من سباتها ، وتقوم من رقدتها ، وتكشف حجاب العمى عن بصيرتها لابد لها من دعاة هداة طيبين مخلصين ينيرون لها طريقها ويأخذون بأيدي أبنائها إلى النجاة والعافية في الدنيا والآخرة }وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {[1] ، إذا نجحوا في ذلك واستطاعوا إنقاذ الأمة من السقوط في الهلاك فإنهم جميعاً حينئذ يرتقون إلى مرتبة الخيرية التي قال الله فيها : }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ{ [2] ، ولأجل علو الهمة في قلوب علماء وأبناء الأمة أثرت أن أسجل هذا النموذج الصالح ، متمثلاً في عالم رباني استطاع أن ينهض بأبناء أمته إلى الشرف والعزة والتمكين ألا وهو : سلطان العلماء "العز بن عبد السلام" [3] .
والإمام العز بن عبد السلام من أصل مغربي : ولد في دمشق سنة 578هـ ، وكان فقيراً في أول أمره ، ولم يُحصِّلْ العلم إلاَّ وهو كبير .
قال السبكي : قال أبى : "إن الشيخ عز الدين كان في أول أمْره فقيراً ، ولم يشتغل بالعلم إلا على كِبر ، وإن العز كان يبيت في "الكلاسة" مأوى الفقراء من جامع دمشق .
وكان الرجل رحمه الله محارباً للبدع مُبْطلاً لها ، وأعظم دليل على ذلك أنه لما وُلِّىَ خطابة الجامع الأموي أبْطل كثيراً من البدع ، منها على سبيل المثال لا الحصر :
بدعة ضرب السَّيْف على المنبر ، وبدعة صلاة الرغائب .
قال عنه ابن دقيق العيد : ابْنُ عبد السلام أحد سلاطين العلماء .
بل إن العلماء شهدوا له بالفضل وأقروا له بالإمامة ، إذ أنه لما استقر مقامه بمصر امتنع الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري من الفتيا وقال : كُنَّا نفتى قبل حضور الشيخ عز الدين ، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين فيه [4] .
وكان الإمام العز بن عبد السلام عالماً عاملاً ، يفعل ما يقول ، ذكر قاضى القضاة بدر الدين بن جماعة ( 733هـ ) : إن الشيخ العز لما كان بدمشق ، وقع غلاء كبير ، حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل ، فأعْطَتْهُ زوجته مَصَاغاً لها وقالت : اشْتَرِ بنا به بستاناً نصيف فيه ، فأخذ العِزُّ المصاغ وباعه ، وتصدق بثمنه ، فقالت زوجته : يا سيدي اشتريت لنا ؟ قال : نعم ، بستاناً في الجنة ، إني وجدت النَّاس في شِدةٍ فتصدقت بثمنه ، فقالت : جزاك الله خيراً .
وكان الإمام العز بن عيد السلام أيضاً لا يخش في الحق لومة لائم ، حيث كان يأمر بالمعروف ، بل إنه شدد في ذلك ، حتى قال عنه الحافظ شمس الدين الداوودى [5] : "بالغ في القيام بالأمر بالمعروف ، وشدد في ذلك" .
وها هي بعض المواقف التي تدل على ذلك :
الموقف الأول : كان لمماليك الأتراك نفوذ في الدولة الإسلامية في أواخر حكم العباسيين وامتد نفوذهم حتى أصبحوا أمراء في الدولة أيام حكم نجم الدين أيوب في مصر ، وكان الشيخ العز قاضياً للقضاة فيها .
يقول السبكى : لقد رأى الشيخ أن المماليك يخضعون لحكم الرِّقة ، فبلغهم ذلك ، فعظم الخطب فيه ، واحتدم الأمر ، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً ، وتعطَّلت مصالحهم بذلك ، وكان من جملتهم نائب السلطنة ، فاستشاط غضباً ، واجتمعوا وأرسلوا إليه ، فقال الإمام : نعقد لكم مجلساً ، ويُنادى عليكم لبيت مَالِ المسلمين ، ويجعل عتقكم بطريق شرعي ، فرفعوا الأمر إلى السلطان ، فبعث إليه فلم يرجع ، فجرت من السلطان كلمة فيها غِلْظَةٌ حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر وأنه لا يتعلق به ، فغضب الشيخ ، وحمل حوائجه على حمار ، وأركب عائلته على حمير أخرى ، ومشى خلفهم من القاهرة قاصداً الشام ، فلم يَصِلْ إلى نحو نِصْفِ بريد حتى لحقه غالب المسلمين ، لم تكن امرأة ، ولا صبى ، ولا رجل لا يأبه أن يتخلف ، ولاسيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم ، فبلغ السلطان الخبر ، وقيل له : متى راح ذهب ملكك قبله ، فرجع ، واتفقوا معه على أن ينادى على الأمر ، فأرسل نائب السلطنة بالملاطفة ، فلم يفْدِ فيه ، فانزعج النائب وقال : كيف ينادى علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض ؟!! والله لأَضْرِبَّنهُ بسيفي هذا ، فركب بنفسه في جماعة ، وجاء إلى بيت الشيخ ، والسيف مسلول في يده ، فطرق الباب ، فخرج وَلَدُ الشيخ ، فرأى من نائب السلطنة ما رأى ، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال ، فما اكترث لذلك ولا تَغَير ، وقال : يا ولدى أبوك أقل من أن يُقتَل في سبيل الله ، ثم خرج ، وكأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة ، فحين وقع بصره على النائب ، يبست يَدُ النائب ، وسقط السيف منها ، وارتعدت مفاصله ، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له ، وقال : يا سيدي خبِّرْنا اين تعمل ؟ قال العز : أنادى عليكم وأبيعكم ، قال : ففيم تصرف ثمننا ؟ قال : فى مصالح المسلمين ، قال : مَنْ يَقْبضْهُ ؟ قال العز : أنا . فتم له ما أراد ، ونادى على الأمراء واحداً واحدا ، وغالى في ثمنهم ، وقبضه ، وصرفه في وجوه الخير .
الموقف الثاني : وهو موقف عظيم ، يدل على صِدْقِ الرجل وعلى شجاعته ، وكذا على خوفه من الله وحده ، وعدم الخوف من المخلوقين ، كذا يدل على غيرته ، وتعظيمه لشعائر الله ، وبغضه للمعاصي ، لذا فإننا نرى نُصْرَة الله له بسبب صدقه ، وها هو الموقف [6] : وقعت له حادثة مع كبير أمناء السلطان "نجم الدين أيوب" ، فقد عمد صاحب منصب الاستدارة كبير الأمناء "فخر الدين عثمان" إلى أحد مساجد مصر ، وأقام على ظهره "طبلخانة" [7] ظلَّتْ تضرب نهاراً ، فتعارَض ذلك مع ما ينبغي أن يتوافر لأماكن العبادة من الجو الهادئ الذي يناسب الجلالة ، فلما ثبت ذلك للشيخ ، حكم بهدم هذا البناء ، وأسقط شهادة فخر الدين ، فلم يستطيع أحد تنفيذ الحكم ، فذهب العز وأولاده ، وهدموا الطبلخانة ، ثم قام بتقديم استقالته للحاكم ، فقبلها الحاكم ، وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم لا أثر له [8] ، واتفق أن جَهَّزَ السلطان رسولاً من عنده إلى الخليفة المعتصم ببغداد ، فلما وصل الرسول إلى الديوان ، وقف بين يدي الخليفة وأدَّى الرسالة له ، فخرج إليه وسأله : هل سمعت هذه الرسالة من السلطان ؟ فقال : لا ، ولكن حملنيها عن السلطان فخر الدين ابن شيخ الشيوخ ، فقال الخليفة : إنَّ المذكور أسقطه [9] العز بن عبد السلام ، فنحن لا نقبل روايته .
الموقف الثالث : وهذا الموقف خصوصاً عظيم ، إذْ يبين الولاء والبراء في عقيدة الرجل ، كما يُعد درساً في غاية الأهمية لحكام المسلمين جميعاً في "ذم موالاة الأعداء" وها هو الموقف :
احتدم الخلاف بين الأخوين سلطان الشام "الملك الصالح إسماعيل" ، وسلطان مصر "الصالح نجم الدين أيوب" واستعان الأول [10] بالصليبيين أعداء الإسلام ، وتحالف معهم على قتال أخيه ، وأعطاهم في المقابل مدينة "صيدا" و قلعة "صفد" وسمح للصليبيين أيضاً أن يدخلوا دمشق ، ويشتروا منها السلاح والآلات الحربية ، وما يريدون ، فهبَّ الشيخ العز كالأسد ، وخطب خُطبة مازال صداها في أفئدة المؤمنين إلى اليوم ، وكانت تحت عنوان : "ذم موالاة الأعداء ، وتقبيح الخيانة" ، وأفتى فيها بتحريم بيع السلاح لهم ، وقطع من الخطبة الدعاء للسلطان إسماعيل ، وهو بمثابة الإعلان بترك البيعة ، وقال فيها : "ألهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد ، يُعزُّ فيه أوليائك ، ويُذلُّ فيه أعداؤك ، ويعمل فيه بطاعتك ، وينهى فيه عن معصيتك" فأمر السلطان وكان خارج دمشق باعتقال الشيخ وعزله ، وقد أشار أنصار الشيخ عليه بأن يغادر البلاد وينجو من السلطان ، وأعدوا له الخطة ، فرفض ذلك ، فعرضوا عليه أن يختبئ فقال : "والله لا أهرب ولا أختبئ وإنما نحن في بداية الجهاد ، ولم نعمل شيئاً بعد ، وقد وطَّنْتُ نفسي على احتمال "تحمل" ما ألقى في هذا السبيل ، والله لا يضيع عمل الصابرين" ولما قدم السلطان إسماعيل إلى دمشق أفرج عنه ، ولكن العز بن عبد السلام أُمِرَ بملازمة داره ، وأن لا يفتى ، ولا يجتمع بأحد الْبَتَةَ ، فاستأذنه في صلاة الجمعة مؤتماً بإمامها ، وأن يعيد إليه طبيب مزين إذا احتاج إليه ، أن يدخل الحمام ، فأذن له في ذلك .
ومرت الأيام والشيخ في إقامته الجبرية ، وقد مُنِع من الإفتاء والاتصال بأحد من إخوانه أو طلابه ، فطلب الهجرة من دمشق قاصداً مصر ، وأفرج عنه بعد مشاورات فأقام بدمشق ، ثم نزع منها إلى بيت المقدس ، فوفاه الملك الناصر داود في الفور ، فقطع عليه الطريق ، وأخذه ، وأقام بنابلس مدة وجدت له معه خطوب ، ثم انتقل إلى بيت المقدس ، حيث أقام مدة ، ثم جاء الصالح إسماعيل ، والملك المنصور صاحب حمص ، وملوك الفرنجة بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار المصرية ، فَسَيَّرَ الصالح إسماعيل بعض إخوانه إلى الشيخ بمنديل وقال له : تدفع منديلي إلى الشيخ ، وتتلطف له غاية التلطف ، وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال ، فإن وافقك تدخل به علىَّ ، وإن خالفك فاعتقله في خيمةٍ إلى جانب خيمتي ، فلما رجع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته ، ثم قال له : بينك وبين أن تعود إلى منصبك وما كنت عليه وزيادة ، أن تنكسر للسلطان وتقبّل يده لا غير ، فقال الشيخ : "والله يا مسكين ما أرضاه أن يُقَبِّلَ يدي فضلاً عن أن أُقَبِّل يده ، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد ، الحمد لله الذي عافاني مِما ابتلاكم به" فقال الرسول : يا شيخ قدر لي أن توافق على ما يطلب وإلاَّ اعتقلتك ، فقال الشيخ : أفعلوا ما بدا لكم ، فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان ، وكان الشيخ يقرأ القرآن في معتقله ، والسلطان يسمعه ، فقال يوماً -السلطان- لملوك الفرنجة : تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن ؟ فقالوا : نعم . قال : هذا أكبر قساوس المسلمين [11] ، قد حبسته لإنكاره على تسليمي لكم حصون المسلمين ، وعزلته عن الخطابة بدمشق ، وعن مناصبه ، ثم أخرجته فجاء إلى القدس ، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم ، فقال له ملوك الفرنجة : لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه ، وشربنا مَرَقَتِها [12] .
الموقف الرابع : وهو موقف أيضاً عظيم يظهر شجاعة العز وجرأته ، وصدعه بالحق ، وأمره بالمعروف ، وثقته في الله جل وعلا وها هو الموقف :
ذكر الشيخ الباجى -رحمه الله- : إن سلطان مصر ، خرج على قومه في أكمل زينة وأعظمها في يوم العيد إلى القلعة ، وقد اصطف العسكر ، وقبل العلماء الأرض بين يدي السلطان ، فإذا الشيخ العز ينادى السلطان مجرداً عن لقبه بصوت عال : يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال لك : ألم أبوئ لك مالك مصر ، ثم تبيح الخمور ؟ فقال السلطان : هل جرى هذا ؟ فقال العز : نعم الحانة الفلانية يُباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات ، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة ، فقال السلطان : أما ما عملته هذا من زمان أبى ، فقال العز : أأنت من الذين يقولون : } إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ { فأبطل السلطان تلك الحانة على الفور .
ولما مرتْ جنازة العز بن عبد السلام من تحت القلعة ، ورأى الملك الظاهر كثرة الخلائق قال لبعض خواصه : اليوم استقر أمري في الملك ، لأن هذا الرجل لو كان يقول للناس اخرجوا عليه لانتزعوا الملك منى .
([1]) سورة آل عمران الآية : 104 .
([2]) سورة آل عمران من الآية : 110 .
([3]) انظر كتابنا : تزكية النفوس ، صـ107 : 112 ، ط الإيمان ، وللاستفاضة في أخباره راجع كتب التراجم ، وكذا طبقات المفسرين [ 1 / 315 : 318 ] برقم ( 288 ) للحافظ شمس الدين الداوودى .
([4]) المرجع السابق .
([5]) انظر طبقات المفسرين ( 1 / 315 ، 316 ) للحافظ شمس الدين الداوودى ، وانظر الموقف بتفصيله في كتابنا : "تزكية النفوس" ( 107 : 109 ) ط الإيمان .
([6]) ذكر أصحاب التراجم أن هذه الحادثة وقعت بين العز بن عبد السلام ، وكبير أمناء السلطان نجم الدين أيوب في سنة 640هـ .
([7]) أي أقام على سطح المسجد قاعة موسيقى .
([8]) المقصود بالحكم ها هنا هو "إسقاط شهادة صاحب الاستدارة كبير الأمناء فخر الدين عثمان .
([9]) أسقطه : أي أسقط شهادته .
([10]) سلطان الشام الملك الصالح إسماعيل .
([11]) يقصد أكبر شيوخ وعلماء المسلمين ، ولكنه عبر بتلك اللفظة لهم من باب تقريب الأفهام إلى الأذهان لأنهم أعاجم ، ويعرفون أن القس هو العالم الديني بالنسبة لهم كنصارى .
([12]) ابتغى العزة عند الصليبيين ، فلم يزده الله إلا ذلاً ، وجعل الله ردهم عليه عزاً للعز بن عبد السلام ، وحق في السلطان } وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ { وحق في العز : } وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ { .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق