هي أسماء بنت أبي بكر الصدِّيق، وأخت عائشة أم المؤمنين لأبيها، زوج الزبير بن العوَّام حواري رسولِ الله وابن عمته، وأم الفارس المغوار الخليفة عبد الله بن الزبير. أسلمت مع السابقين الأولين وكان ترتيبها في الإسلام (الثامن عشر)، وظلَّت في مكَّة تشارك المسلمين لنشر الدعوة، ومرارة الأذى في سبيل الله، حتى كانت الهجرة إلى المدينة، فكان لها ثلاثةُ مواقفَ سجَّلها لها تاريخ السيرة النبوية بفخار وإعزاز.
أسماء بنت أبي بكر وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم
حدَّثت عن أوَّلها، فقالت: صنعت سفرة للنبي حين أراد أن يسافر إلى المدينة فلم نجد لسفرته وسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلا نطاقي، قال شقيه باثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء وبالآخرة السفرة.
وروي أن النبي قال لها حين فعلت ذلك: "أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة". فقيل لها: (ذات النطاقين).
حدَّثت عن ثانيها: لما خرج رسول الله وأبو بكر الصديق t، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا عند باب أبي بكر؟ فخرجت إليهم، فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين أبي، فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشًا خبيثًا- فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي.
وحدثت عن الموقف الثالث، فقالت: لما خرج رسول الله إلى الهجرة، وخرج أبو بكر t معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف، فالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلا يا أبت، قد ترك لنا خيرًا كثيراً، فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة البيت التي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيد جدي فقلت: يا أبت.. ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه فقال لا بأس، إذا كان ترك لكم ها فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. قالت أسماء: لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني لأردت أن أسكن الشيخ بذلك.
أسماء بنت أبي بكر المسلمة
ليست امرأة فارغة همها زينتها، وإنما هي مؤمنة همها رسالتها، فلا عجب أن تكتم السر في شجاعة، وتستقبل أبا جهل وأصحابه في قوة، وتشق نطاقها وهي راضية، وتتحمل لطم خدها وهي صابرة، وتحسن الحيلة لإرضاء جدها، وهي سعيدة بما تصنع من أجل دينها ورسالتها.
أسماء بنت أبي بكر الزوجة
تزوجت أسماء الزبير بن العوام قبل الهجرة، وكلاهما مسلم خالطت بشاشة الإيمان قلبه، وامتزج الإسلام بلحمه ودمه، فكانا مثال الزوجين المتوافقين ضمهما هدف واحد، وطريقة واحدة، تحت لواء واحد.. هاجر إلى المدينة فهاجرت، وجاهد فشدت أزره، وصبرت في ضرائه، وشكرت في سرائه. لم يمنعها مكان أبيها، ولا شرف قومها، أن تقف إلى جانبه في أيام الشدة والفقر، تعمل وتكدح وتُعَمِّرَ عش الزوجية بكدِّ اليمين، وعرق الجبين.
قالت أسماء بنت أبي بكر: تزوجني الزبير، وما له في الأرض مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، فكنت أخدمه خدمة البيت كله، وأعلف فرسه، وأسوسه وأكفيه مئونته، وأحشُّ له وأقوم عليه، وأدق النوى لناضحه (إبله)، وكنت أنقل النوى على رأسي من أرض الزبير، على ثلثي فرسخ، وكنت أعجن وأسقي الماء، وأخزر الدلو.
ولم تطل المدة حتى انتشرت دعوة الإسلام، وفاض الخير على المسلمين، وكان للزبير -فيما له- ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وتمت كلمة ربك على المؤمنين بما صبروا، وصدق الله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل:41].
أسماء بنت أبي بكر الأم
ظل المسلمون بعد الهجرة بمدة لا يولد لهم ولد، وأشاع اليهود أنهم سحروهم فلن ينجبوا، حتى كذبهم القدر، فولدت أسماء بنت أبي بكر ابنها "عبد الله"، فكان أول مولود في المدينة، فاستبشر المسلمون وكبَّروا، وولدت بعد ذلك "عروة" و"المنذر"، وما منهم إلا عالم أو فارس، على أن موقفها مع ابنها عبد الله هو الذي جعل التاريخ يصغي لها سمعه، ويكتبها في سجل الأمهات الخالدات.
محنة عبد الله بن الزبير
بعد وفاة يزيد بن معاوية بويع لعبد الله بن الزبير بالخلافة في معظم بلاد الشام: في الحجاز، واليمن، والعراق وخراسان، وظل تسع سنوات ينادى بأمير المؤمنين، حتى شاءت الأقدار -لحظ بني أمية- أن تزول الخلافة من أرض الحجاز.
جاء الحجاج بجند الشام فحاصر عبد الله بن الزبير في مكة، وطال المدى، واشتد الحصار، وتفرق عنه أكثر من كان معه، فدخل عبد الله على أمه قبل قتله بعشرة أيام، فقال لها: إن في الموت لراحة.
قالت: لعلك تمنيته لي؟ ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما قتلت فأحتسبك، وإما ظفرت فتقر عيني.
فلما كان اليوم الذي قُتل فيه دخل عليها حين رأى من الناس ما رأى من خذلانه، فقال لها: يا أماه، خذلني الناس حتى ولداي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فماذا ترين؟
وهناك أمسك التاريخ بقلمه ليكتب موقف الأم الصبور من ابنها وفلذة كبدها، من لحظة حاسمة من لحظات الخلود: الأم التي شاب رأسها ولم يشب قلبها، وشاخ جسدها ولم يشخ إيمانها، وانحنى ظهرها ولكن عقلها ظل مستقيمًا مسددًا..
قالت أسماء بنت أبي بكر: أنت والله يا بني أعلم بنفسك: إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية يلعبون بها، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قُتل معك، وإن قلت: كنت فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟!.. القتل أحسن.
قال: إني أخاف أن يُمَثِّل بي أهل الشام.
قالت: إن الكبش لا يؤلمه سلخه بعد ذبحه.
فدنا ابن الزبير فقبَّل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، لأكون على بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله.
قالت: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا.
قال: جزاك الله خيرًا، فلا تَدَعي الدعاء لي قبل وبعد.
قالت: لا أدعه أبدًا، فمن قتل على باطل فقد قُتِلتُ على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك الظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبرَّه بأبيه وبي، اللهم قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
وذهب عبد الله بن الزبير t فقاتل الساعات الأخيرة قتال الأبطال، وهو يتمثَّل صورة أمه في عينيه، وصوتها في أذنيه، مرتجزًا منشدًا:
أسماء يا أسماء لا تبكني
لم يبق إلا حسبي وديني
وصارم لأنت بـه يميني
وما زال على ثباته حتى قُتل، فكبر أهل الشام لمقتله، فبلغ ذلك ابن عمر فقال: الذين كبروا لمولده خير من الذين كبروا لموته.
مع الحجاج بن يوسف الثقفي
صلب الحجاج عبد الله بن الزبير t مبالغة في التشفي والإرهاب، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول: لتأتينني أو لأبعثنّ إليك من يسحبك من قرونك. فأبت وقالت: والله لا آتيه حتى يبعث إليَّ من يسحبني بقروني.
فما كان من الحجاج إلا أن رضخ لصلابتها، وانطلق حتى دخل عليها، فقال: أرأيت كيف نصر الله الحق وأظهره؟
قالت: ربما أُديل الباطل على الحق وأهاه.
قال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله.
قالت: أراك أفسدت على ابني دنياه، وأفسد عليك آخرتك.
قال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، وقد أذاقه الله ذاك العذاب الأليم.
قالت: كذبت! كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحنَّكه بيده، وكبَّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحًا به، وكان برًّا بأبويه صوامًا قوامًا بكتاب الله، معظمًا لحرم الله، مبغضًا لمن يعصي الله، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني أن في ثقيف كذَّابًا ومبيرًا، فأما الكذاب فقد رأيناه (تعني: المختار بن عبيد الثقفي)، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه.
فخرج الحجاج من عندها منكسرًا يتمنى لو لم يكن لقيها، بعد أن دخل عليها مزهوًّا يريد أن يتشفَّى.
هذه أسماء بنت أبي بكر العجوز في سن المائة، وهذا هو الحجاج الجبار في أوج انتصاره وعنفوان طغيانه. إنَّ الإيمان في قلبها جعله في عينها يتضاءل ويتضاءل حتى صار شيئًا صغيرًا كالهباء، وجعلها في عينه تمتد وتستطيل حتى صارت شيئًا كبيرًا كالمارد العملاق.
وبلغ عبد الملك بن مروان ما صنع الحجاج مع أسماء بنت أبي بكر فكتب إليه يستنكر فعله، ويقول: ما لك وابنة الرجل الصالح؟ وأوصاه بها خيرًا. ودخل عليها الحجاج فقال: يا أماه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة؟
قالت: لست لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة.
وأخيرًا..
آن للفارس المصلوب أن يترجل، وينزل من فوق خشبته ويسلَّم إلى أمه فتحنّطه وتكفنه وتصلي عليه وتودعه جوف الثرى، ليلتقي في دار الخلود بأبيه الزبير وجده أبي بكر، وجدته صفية، وخالته أم المؤمنين عائشة y.
وهكذا استقبلت المصيبة الكبيرة بنفس أكبر، وإيمان أقوى!!
دخل عليها عبد الله بن عمر y، وابنها مصلوب. فقال لها: إنَّ هذا الجسد ليس بشيء، وإنما الأرواح عند الله، فاتقي الله واصبري.
فقالت: وما يمنعني من الصبر، وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل؟
ولم يطل بها المقام بعد ولدها، فما هي إلا مائة يوم -أو أقل- حتى لحقت به عام ثلاث وسبعين للهجرة، وقد بلغت المائة عام، لم تسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل، رحمها الله ورضي عنها.
قصة الاسلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق