الصفحات

الثلاثاء، 10 يناير 2012

حركات التمرد في مصر في العهد العثماني

حركات التمرد في مصر في العهد العثماني
 
تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن

        بعد أن تمكن مصطفى باشا من إنهاء حركة التمرد التي قادها المماليك هدأت الأمور في مصر؛ لكنه هدوءاً مؤقتاً؛ إذ سرعان ما تفاقمت حركة تمرد جديدة بعد ما يزيد عن العام، فبعد عام وعشرة أشهر من تولي مصطفى باشا الولاية في مصر تم عزله في 16 ذي الحجة 928هـ، وحلّ محله قاسم جزل باشا الذي بقي والياً على مصر لمدة عام واحد فقط ثم عُزل وتولى منصبه أحمد باشا في صفر 930هـ(25).

       وثمة سببٌ أدّى إلى تولي أحمد باشا ولاية مصر، فقد أسهم المذكور في الفتوحات العثمانية في أوروبا، خاصةً في البلقان، وطمِع في تولي منصب الصدارة العظمى بسبب المرض العضال الذي ألمّ بالصدر الأعظم محمد باشا الصدّيقي، فأعجزه عن الحركة وطلب إعفائه من الخدمة، وعيّن مكانه "أود باشا"، وكان أحمد باشا أقدم منه وكان يتوقع أن يتولى هو المنصب، غير أن منافسه إبراهيم باشا نجح في الحصول على هذا المنصب؛ ولكي يُبعِد أحمد باشا عن الآستانة، عيّنه والياً على مصر بعد موافقة السلطان تعزيةً له عن المنصب الأهم ـ الصدارة العظمى، ويبدو أن هذا التعيين لم يمنع حالة العداء المستحكم بين الرجلين لفارق الأهمية بين منصبيهما(26).

       ومهما يكن من أمر؛ فقد استمر أحمد باشا فور توليه حكم مصر في إلحاق الموظفين والقوات المملوكية في جهازه(27) لأمرٍ دبّر له على ما يبدو هو الانتقام لذاته من الخيبة في الحصول على منصب الصدارة العظمى.

       ويبدو أن أحمد باشا كان من الرعونة بمكان، أنه تعجّل إعلان تمرده على السلطان العثماني قبل أن يُكمل استعداداته بفعل قوة الحقد والعداء الذي يكنّه للصدر الأعظم إبراهيم باشا فانفجر في أعماقه الضغط النفسي الدفين وتذرّع بذريعةٍ واهيةٍ لإعلان تمرده لكسب الأنصار من حوله؛ بادّعائه أن السلطان سليمان أرسل تعليماتٍ لقائد الإنكشارية في القاهرة باغتياله وقتل أمراء المماليك، كما ادّعى أنه ألقى القبض على حامل الكتاب الذي به تلك التعليمات، ومن ثمّ أصبح ذا مزاجٍ حاد ومستبد، وقام بمصادرة ثروات أعيان مصر وأمر بقتل كبار الضباط العسكريين(28).

       وقد توفر لأحمد باشا في مصر العديد من عناصر الثورة والتمرد الضرورية، في مقدمتها بُعد مصر الجغرافي عن مركز الدولة العثمانية، ثم يلي ذلك ما تتمتع به مصر من غنىً وكِبر مساحتها، ووجود المماليك الناقمين فيها على الحكم العثماني، والذين يجمع بينهم وبينه النسب الجركسي القوقازي(29)، متوهماً أن تلك العناصر كفيلة بتحقيق نجاحٍ باهرٍ في تهديد الوجود العثماني في مصر.

       ومن بين الذين استهدفهم غضب أحمد باشا، الأمير جانم الحمزاوي(30) ذو الأصل المملوكي ومن كبار الأمراء في مصر ومحمود بك، وعندما حاول قائد الإنكشارية التوسّط لديه من أجل إطلاق سراح جانم الحمزاوي، اعتقله بدوره ثم قتله(31). والواقع إن تخلص أحمد باشا من قائد الإنكشارية لم يكن حادثاً عرضياً بل متعمداً لسببين اثنين هما: اعتقاده أولاً بأن هذا القائد هو الذي رشحه السلطان سليمان لتولي نيابة مصر عوضاً عنه بعد التخلص منه. وثانياً أن فرق الإنكشارية كانت موالية للسلطان العثماني وتمكنت من كسب ثقته بصورةٍ مطلقة، ويبدو أن أحمد باشا أراد تحطيم الروح المعنوية لتلك الفرق العسكرية عن طريق قتل قائدهم(32).

       إن الإجراءات السالف ذكرها أقنعت أحمد باشا أن علاقته بالسلطة المركزية العثمانية قد وصلت إلى نقطةٍ لا يجوز له العودة عنها، وأن قانون المرحلة يقتضي منه الاندفاع قُدماً في مخططه إلى آخر الشوط مهما كلفه الأمر، معتمداً على أعوانه الذين ربما منّوا أنفسهم بإمكانية تحقيق الانفصال عن الدولة العثمانية، وأن يُصبح لهم شأوٌ ذو أهمية في الدولة المنتظرة.

       انتقل أحمد باشا فيما بعد للشروع في الثورة، في مطالبته بحقه في سلطنة مصر وإصراره على امتيازاته الملكية في ذكر اسمه في خطبة الجمعة وسك اسمه على العملة. وفي تلك الأثناء ابتنى جيشاً خاصاً به غالبيته إلى حدٍ بعيد من المماليك، وطلب من الإنكشارية التي تحصّنت في قلعة القاهرة بالانصياع له، فلما رفضت فرض عليها الحصار، وأمام قسوة الحصار اضطر هؤلاء من شق طريقهم عن طريق نفقٍ سري تحت الأرض داخل الحصن، فسقطت القلعة بيد أحمد باشا في 7 شباط (فبراير) 1524م، ثم أعلن نفسه سلطاناً في الثاني عشر من الشهر نفسه، وذكر اسمه في الخطبة وعلى السكّة(33).

       بعدما تغلّب أحمد باشا على مناوئيه الخطيرين، حاول فعل أي شيء لإضفاء الشرعية على مركزه ومنصبه الجديد؛ بأن طلب من فقهاء المذاهب الأربعة في مصر ومن سليل البيت العباسي ابن آخر خليفة عباسي مهمش حلف اليمين له. ولم تذكر المصادر التاريخية إطلاقاً كم كان عدد المؤيدين لحركته والذين وثِقوا به؛ لكن الواضح أنه أكثر من مصادرة الأملاك وممارسة الابتزاز ضد اليهود والمسيحيين، كما عمد لكسب حلفاء جدد له من خارج القاهرة فمنح حق ضرائب الأراضي الزراعية لمنطقة الشرقية لشيخ العرب عبد الدايم بن بقر، الذي كان قد ثار من قبل على حكومة خاير بك، وقد أدّى هذا التحالف إلى تهديد الحدود المصريةـ الشامية(34).

       وأمام تفاقم الأوضاع في مصر وتدهورها وخشية السلطة المركزية العثمانية من فقدان أهم ولاياتها في الشرق الإسلامي عمدت إلى استخدام سلاح لا يقل خطورة عن السلاح الذي يُستخدم في المعارك الحربية؛ إن لم يضاهه أهميةً ويفوقه وهو سلاح الدعاية (أو ما يُطلق عليه في أيامنا باسم حرب الشائعات). ويبدو أن العثمانيين نجحوا في استخدامه إلى حدٍّ بعيد، حيث أشاع العثمانيون في القاهرة أن أحمد باشا الذي تم تلقيبه بالخائن على علاقةٍ وطيدة بالصفويين الذين يحكمون في بلاد فارس ويعتنقون المذهب الشيعي، وأنه تحت إغراء ظهير الدين الأردبيلي تحوّل عن المذهب السّنّي، وأصبح من أتباع الشاه إسماعيل الصفوي. وكان ظهير الدين الأردبيلي قد استقر في إحدى المقاطعات العثمانية وتظاهر بولائه للمذهب السُنّي وقد رأى الأردبيلي أن من المناسب الكشف عن سرّه وماهيته وإظهار حقيقة أمره لكي يُحوّل أحمد باشا إلى اعتناق المذهب الشيعي، وليؤكّد بأن أملاك السّنّة قد أصبحت غنائم شرعية(35).

       ويبدو أن العثمانيين استخدموا تلك الوسيلة الدعائية بمهارة لتشويه سمعة أحمد باشا بين أتباعه من ناحية والأهلين في مصر من ناحية أخرى؛ ذلك لخشيتهم من قيام تحالفٍ فعلي بين والي مصر والشاه إسماعيل الصفوي(36). ونجحت الدعاية بالفعل واتت أُكلها رغم افتقارها إلى الدليل المادي في إثارة الأهلين ضد أحمد باشا، وأعلن قضاة المذاهب الأربعة كفره وأوصوا بالجهاد ضده(37).

       وكان من النتائج التي ترتبت على هذه الدعاية انهيار قوة أحمد باشا بشكلٍ فُجائي وعلى نحوٍ دراماتيكي؛ إذ حدث انقلابٌ مضاد تم تخطيطه من جانب الأمير جانم الحمزاوي الذي نجح في فك أسره مع أحد المسئولين العثمانيين إضافةً لأحد الأعيان المماليك، فنصبا صنجقاً (رايةً) سلطانياً، وناديا من أطاع الله ورسوله والسلطان فليقف تحت هذا الصنجق، وتمكنا من جمع الكثير من الأهلين وفاجأوا أحمد باشا في 23 شباط (فبراير) 1524م/930هـ، وهو في الحمّام. وبينما كانت قواتهم تشتبك مع مؤيديه نجح في الفرار من خلال الأسطح ولم يكن بعد قد أتمّ حلاقة رأسه، وتمكن من الوصول إلى الشرقية والتجأ عند الشيخ عبد الدايم بن بقر، ونهب أعداؤه كل ما يملكه من عتادٍ وسلاح(38).

       تمكن أحمد باشا خلال وجوده في الشرقية من تأسيس قوة عسكرية قوامها في الغالب من العربان والجراكسة وبعض العثمانيين، وتعهّد لهم باسترداد القاهرة ونهبها، كما كفل للقبائل العربية الإعفاء التام من الضرائب لمدة ثلاث سنوات، وفي تلك الأثناء كان المجلس السياسي الموالي للعثمانيين في القاهرة قد تولّى الإدارة، وعيّن مجلسُ الأعيان العسكريُّ الأمير جانم الحمزاوي لقيادة الإنكشارية وزملاءهُ المماليك لقيادة قوات الخيالة الجراكسة، كما تم تعيين القائد العثماني كحاكمٍ للقلعة، وأُعلنت في القاهرة التعبئة العامة للجيش للمشاركة في التخلص من أحمد باشا الذي تم وصمه بالخيانة والكُفر لموالاته الشاه إسماعيل الصفوي(39).

       تسارعت الأحداث فيما بعد بصورةٍ حثيثة وأرسلت الحكومة الجديدة التي تم تعيينها في القاهرة حملة صغيرة لإلقاء القبض على أحمد باشا، لكنها باءت بالفشل، مما اضطر الأمير جانم الحمزاوي لقيادة حملة عسكرية مؤلفة من ألف مقاتل مع تسعة مدافع لمواجهة المتمردين. ويبدو أن تلك الحملة ساعدها الحظ في النجاح بسبب الانشقاق الذي دبّ بين الجماعات العربية المنشقة المنافسة التي ترامى لمسامعها أن نحو ألف من الجند الإنكشارية قد نزلوا إلى الإسكندرية، فحثّ كلاً من والد الشيخ عبد الدايم وأحد أبنائه، عبد الدايم عن التخلي عن أحمد باشا لكي يحفظوا أنفسهم من الدمار والقتل الذي سيلحقه بهم العثمانيون.

       وأمام إلحاح أقاربه اضطر الشيخ عبد الدايم للإذعان، فأخذت قوات أحمد باشا بالتلاشي تدريجياً، مما أدّى إلى إلقاء القبض عليه في أثناء القتال وقطع رأسه في 6 آذار 1524م/930هـ، وحُملت رأسه إلى القاهرة وتم تعليقها على باب زويلة، وبعد فترة تم إرسالها إلى الآستانة ليتأكد السلطان من الإجهاز على تمرده، ويعتبر أحمد باشا الأول من عدة ولاة حمل لقب ثابت وبارز هو الخائن(40).

       وقد شاءت الصدفة أن يُلاقي أحمد باشا مصيره بالقتل بعد أسبوع فقط من مقتل ظهير الدين الأردبيلي، الذي قُتل في 20 ربيع الأول 93هـ/26 شباط (فبراير) 1524م(41).

النتائج المترتبة على حركات التمرد:

       أدّى القضاء على حركات التمرد السالفة الذكر إلى نتائجَ غايةً في الأهمية؛ فقد أحسّت السلطة المركزية في الآستانة بضرورة إجراء تعديلات إدارية في أنماط الحكم في مصر خشيةً من فقدانها للأبد، أو استهانة المماليك والولاة ذوي النزعة الانفصالية في مقدرة الدولة العثمانية على إبقاء مصر تحت سيطرتها، فاستلزم الأمر من العثمانيين إعادة فتح مصر مرة أخرى، لكن هذه المرة ليس فتحاً عسكرياً بل إدارياً، فأرسلت الدولة جيشاً عثمانياً تحت قيادة الصدر الأعظم "إبراهيم باشا" الذي حمل لقب والي مصر أيضاً، كما منحته الدولة أيضاً حق إجراء تنظيم البلاد من جديد بواسطة مجموعة التنظيمات الصادرة تحت رعاية السلطان سليمان القانوني والمُسماة "قانون نامه مصر" عام 1524م(42).

       بقي إبراهيم باشا في مصر أسابيع عدّة فقط (شهرين وأربعة وعشرين يوماً)، لكنه ترك فيها ذكرى طيبة لولايته من خلال قانون نامه مصر، هذا المرسوم الذي جمع القوانين الإدارية ونسّقها وعمل على تطبيقها(43). وقد أكّد محمد بن أبي السرور البكري الصديقي بقوله: "وقد أحاط (أي إبراهيم باشا) بأحوال مصر ورتّب الديوان والعساكر والجيوش وكتب قانوناً لطيفاً وارتفاع الأقاليم وضبط مقاطعاتها وطينها من السلطاني والأوقاف، وجعل لها قطايع معلومة بموجب دفاتر الجراكسة القديمة (السلطنة المملوكية السابقة) وأودعها ديوان مصر"(44).

       وبناءً على ما سبق، فالدولة العثمانية قررت بذلك وضع نظام معقّد من التوازنات والاختبارات العسكرية والبيروقراطية في محاولةٍ منها لتقليل فرص طموحات ولاتها في مصر في المستقبل(45).

       ويتكوّن قانون نامه مصر من جزء ين رئيسين: الأول ـ يتناول المؤسسة العسكرية في مصر، وتألّف من ست فرق من الجنود أو ما سُمي بالأوجاقات(46)، وبيانها كالتالي:

1ـ أوجاق الإنكشارية (المستحفظان): ووظيفته حراسة القاهرة ومداخلها، إضافةً إلى تولي مهام الشرطة في العاصمة وبعض المدن المصرية الكبرى.

2ـ أوجاق العزبان: ومهامه كثيرة ومماثلة لمهام المستحفظان. وهذا الأوجاق يتولى حراسة أعمال الدورية في النيل بالقوارب، لكن هذا الأوجاق أقل عدداً ورواتبَ من المستحفظان.

3ـ أوجاق الجاووشان (الجاويشية): ويعمل كحرسٍ خاص للوالي ويؤدي وظيفة حمل الأوامر الصادرة عن الوالي إلى الجهات المُرسلة إليها.

4ـ أوجاق التفنكجيان (التفقنجية): وهم عبارة عن رماة.

5ـ أوجاق الجوكلليان (الهجّانة): وينطقها المصريون "الجموليان" بمعنى راكبي الجمال، وهم من المتطوعين الذين عملوا في الأقاليم.

6ـ أوجاق الجراكسة: وهم الخيّالة من بقايا النظام المملوكي ومهمتها مشابهة لمهام أوجاقي الخيّالة التفنكجيان والجوكلليان.

       وقد أُضيفت فيما بعد لتلك الأوجاقات، أوجاق آخر في عام 1554م هو المتفرّقة وهو الحرس الخاص للوالي أيضاً بحيث مكّنه من المحافظة على سلطته بين الأوجاقات العسكرية حتى القرن السابع عشر الميلادي(47).

       والواضح أن السلطان سليمان إنما أراد بتأسيس تلك الأوجاقات ودعمها، أن تكون بمثابة جيشٍ احتياطي(48) يمكن الاستعانة به وقت الحاجة إليه في حروب الدولة العثمانية الخارجية.

       أما الجزء الآخر من هذا القانون فهو وصف للإدارة المدنية التي ورثت بعض السمات من السلطنة المملوكية السابقة(49)، وهي مختصة بإدارة البلاد. ويكون على رأس هرم هذه الإدارة والٍ يقيم في قلعة القاهرة وهو الموظف التنفيذي الأول وممثل السلطان العثماني في ولاية مصر، ويحمل لقب باشا، وله القيادة الاسمية لقوات الحامية العثمانية فيها؛ لأن سلطته على هذه القوات كانت غامضة وضعيفة. وكان يتم اختياره وتعيينه بواسطة الديوان السلطاني في الآستانة من بين الوزراء الكبار في الدولة، ومن المهام الصعبة المُلقاة على كاهله في مصر المحافظة على النظام والانضباط بين قوات الحامية العسكرية، وكشف أية مطامح عسكرية لدى الزعامات المملوكية(50).

       كان الوالي بناءً على قانون نامه يباشر مهامه ويُصدر أوامره من خلال الديوان(51) في مصر، وهو مجلس مكوّن من كبار الموظفين الدينيين والإداريين والعسكريين في الجهاز العثماني في ولاية مصر(52)، وسلطة الوالي (الباشا) متمثلة في رئاسته للديوان والتصديق على قراراته وإعطاء الأوامر لوضعها موضع التنفيذ، وكان الهدف من إنشاء هذا الديوان الحد من سلطة الباشا(53)، الذي كان يساعده في الحكم الكيخيا (الكتخدا)(54) والدفتردار(55) حيث كانا يتلقيان منه الأوامر قبل المداولات ثم يحيطانه علماً بالقرارات التي أعقبت أوامره(56).

       لم يكتفِ السلطان بوضع والٍ على مصر يحكمها نيابةً عنه؛ لذا أنشأ سلطات عدّة أخرى للحد من نفوذه، فكان قاضي القضاة هو الموظف القانوني الأول في الولاية ويتم انتخابه من بين طائفة العلماء بواسطة السلطات في الآستانة، ثم يتم إرساله إلى مصر لإدارة النظام في المحاكم العثمانية، وكان من بين واجبات قاضي القضاة مراقبة أعمال الوالي والتأكّد من صحة تنفيذه الأوامر السلطانية وإحاطة الديوان السلطاني علماً بسلوك هذا الوالي، وكان احتجاج قاضي القضاة إلى الديوان السلطاني بشأن تصرفات الوالي كفيلاً بإقالة الأخير من منصبه وإعادته إلى الآستانة(57).

       وهنالك الروزنامجي(58) الذي كان رئيس الديوان المختص بجمع الأموال الأميرية التي يتم تحصيلها من الأرض والجمارك، ويُسمى هذا الديوان ديوان الروزنامة. ويُشار إلى أن الروزنامجي كان يتم تعيينه من الآستانة مباشرةً حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر، عندما تدهورت الإدارة العثمانية في مصر، فوقع المنصب تحت سيطرة البيوت المملوكية خلال القرن الثامن عشر(59).

       كما أنشأ السلطان سليمان مناصب إدارية جديدة قوامها 24 رتبة "بك طبلخانة" ـ أي يكون لأصحابها الحق في أن تصحبهم فرقة موسيقية. وقد أُسندت لاثني عشر منهم مهام خاصة ومحددة ، بينما أُوكلت للآخرين مهامٌّ استثنائيةٌ أو أن يحلّوا محل زملائهم الذين كانت تزول عنهم وظائفهم بعد مضي عام من ممارستهم لها. والإثنا عشر بكاً الأوائل فهم الذين تتشكّل منهم الإدارة المحلية لمصر وهم: كيخيا الباشا ـ أي نائبه، وأمير الحج ووظيفته مراقبة شؤون الحج ومرافقة الحجاج وتوزيع الهبات على فقراء المدن المقدسة في الحجاز، والخازندار ومهمته حمل الخراج سنوياً إلى الآستانة ويُسمى أمير الخزنة، والقبودانات وعددهم ثلاثة يحكمون ثغور الإسكندرية ودمياط والسويس، إضافةً إلى الروزنامجي كما سبق الإشارة(60).

       ولم يكن كل البكوات الكبار وعددهم 24 بكاً والذين رُفّعوا إلى هذه الرتبة من جانب الدولة العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي من طبقة المماليك، فقد كان البعض كالدفتردار والقبودانات الثلاثة قادة الأساطيل في المدن المذكورة آنفاً يتم تعيينهم من بين أصحاب الرُّتب العثمانيين(61).

       ويبدو أن المماليك رغم حركة التمرد التي قادها جانم السيفي وأينال السيفي لم تهتز مكانتهم كثيراً، ولم يتأثروا بنتائج تلك الحركة، فقانون نامه مصر قد يوحي للوهلةِ الأولى بهيمنة النظام العثماني وسيطرته على البناء المملوكي المهزوم، إلاَّ أن هذا النظام كان في حقيقته نوعاً من الحكم العثماني ـ المملوكي الثنائي؛ لأن المماليك تم منحهم مناصب سلطوية رفيعة في هذا النظام الجديد، بل اندمجت السلطة العثمانية واقعياً مع القوة العسكرية والإدارية المملوكية، ورغم أن تقدماً ملموساً وملحوظاً قد تم في أعقاب إعلان قانون نامه مصر فيما يتعلق بعثمنة الإدارة في مصر وخاصةً في شأن إجراءات جمع الإيرادات فإن عدم قدرة النظام العثماني الجديد على كبح جماح المطامح السياسية المملوكية أدّى فيما بعد إلى فقدان الدولة العثمانية السيطرة الفعّالة على مصر بشكلٍ عام مع مطلع القرن السابع عشر(62).

       والحقيقة التي لا يختلف بشأنها اثنان أن السلطة التنفيذية بقيت في أيدي البكوات المماليك، فأسند إليهم السلطان حكم مديريات الولاية المصرية، لكنه حرمهم من التعيين في الديوان. وما كان ذلك من جانب السلطان إلاَّ لخلق عدة قوى متنافسة أحياناً ومتصارعة أحياناً أخرى، ولكي يصعُب عليها الاتفاق فيما بينها على سياسةٍ واحدةٍ تتعارض مع سياسة الدولة العليا(63).

       وقد استمر هؤلاء البكوات المماليك الذين أصبحوا يحكمون مديريات الولاية المصرية يُسمون بنفس ألقابهم القديمة زمن السلطنة المملوكية ـ أي كُشّافاً وتُسمى مديرياتهم سناجق، وكانت واجباتهم الرئيسية تتعلق بصيانة أعمال الري التي يعتمد عليه رخاء البلد، وجمع الضرائب التي يدفعها الفلاحون، وإقامة الترع والمصارف والجسور، لِما لذلك من أهميةٍ تتعلق بنمو الحاصلات الزراعية التي تُعتبر عماد ثروة البلاد(64).

       وشملت قوائم قانون نامه مصر أسماء أربعة عشر من نواب الولايات باسم كُشّاف. ثلاثة عشر منهم حكموا في مصر السفلى ومصر الوسطى وآخر حكم في واحة الخارجة النائية في الصحراء الغربية، بينما بقيت مصر العليا من أسيوط جنوباً تُحكم إدارياً بواسطة شيوخ العرب من بني عُمر الذين وُصفوا في قانون نامه بأنهم يؤدون مهاماً شبيهةً بوظائف الكُشّاف. ورغم أنه كان يقع بين الفينة والأخرى اصطدامٌ بين الإدارة العثمانية ومشايخ القبيلة، فإنهم لم يُجرّدوا من نفوذهم إلاَّ عام 1576م، عندما تم تعيين أحد البكوات كحاكمٍ على مصر العليا(65).

       وبناء على سياسة العثمانيين تجاه المماليك وعدم القضاء عليهم وعلى نفوذهم، بل عدم الممانعة في جلب الكثير منهم إلى مصر ستتكرّر ثوراتهم ضد الوجود العثماني في المستقبل(66) وسيزداد نفوذ البيوت المملوكية مما أدّى إلى حركات تمرد واسعة النطاق بعد منتصف القرن الثامن عشر، كحركة شيخ البلد المملوكي علي بك الكبير، وازدياد نفوذ كلٍّ من إبراهيم بك ومراد بك حتى وصول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م.

       وتبقى الإشارة إلى أنه قامت في مصر في أعقاب الفتح العثماني لها عدة ثورات للقبائل البدوية، لكنها لا تتساوى من حيث الأهمية مع ثورات المماليك، لكونها مألوفة في تاريخ المنطقة التي شهدت باستمرار الصراع الأزلي بين سلطات المدن والقوى البدوية. ويكون رجحان طرفٍ على الآخر بمقدار ما يكون عليه كلٌّ منهما من قوةٍ وضعف، كما أنه من الطبيعي أن تكثُر ثورات البدو عندما تنتقل السلطة من دولةٍ إلى أخرى، بغُية الحصول على ما يمكنها من امتيازات. وكان من الطبيعي ألاَّ تقف الدولة العثمانية موقف المتفرج إزاء تلك الثورات كي لا تتطور الأمور إلى الأسوأ، وقد لعبت القبائل العربية في مناطق الشرقية والغربية والبحيرة حيث سيطر على التوالي بنو بقر وبنو بغداد وبنو مرعي دوراً مهماً في تأييد أو تقويض قوة الثائرين على سلطة الدولة العثمانية، كما كان الحال في حركة تمرد المماليك بزعامة أينال السيفي وجانم السيفي أولاً وحركة تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن ثانياً(67).
==========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق