الصفحات

الخميس، 19 يناير 2012

المخ البشري وقدراته الفائقة

 
 
الكاتبة : هالة رؤوف أحمد

قدْ يكون مِنَ الصُّعوبة بمكان الإلْمامُ بطبيعة ووظائفِ وخصائصِ المخِّ البشَري جميعِها، فالمخُّ البشريُّ أصعبُ وأعْقدُ مِن أن يضمَّه مقال، أو حتى عدَّة مقالات مطوَّلة، غير أنَّه مِنَ الضروري الإحاطةُ بعَددٍ من الحقائق عن هذا العضو المهمِّ والحيوي، المتحكِّم والمسؤول عن كلِّ ما نفعله، فهو الذي يُحدِّد كيف نفكِّر؟ بم نشعُر؟ كيف نتصرَّف؟ المخُّ الذي يُعبر نصفُه الأيسر عنِ العِلم، ونصفه الأيْمن عن الحِكمة.

المخ البشري وقدراته الفائقة:

مِنَ المعروف أنَّ الجهاز العصبي في الحيوانات الفِقارية ينقسِمُ لجهازٍ عصَبِي مركزي، وجِهاز عصَبي مُحيطي، أو طرَفي (الأعصاب)، والجِهاز العَصَبِي المركزي يتكوَّن مِنَ الدماغ والنُّخاع الشَّوْكي، ويتكوَّن الدِّماغ من المخِّ والمخيخ (القِسم الكروي الأصْغَر، المسؤول عن الحرَكة والوقوف والتوازُن)، والبَصَلة السيسائيَّة (مركز التحكُّم في العمليات اللاإراديةِ كحرَكة عضلاتِ القلْب، وعمليات التنفُّس).

أمَّا المخُّ البشريُّ فهو عضو معقَّد بامتياز، تملؤه التلافيفُ، وتكوِّن القسم الأكبر من الدِّماغ، ويَتكوَّن مِن نِصْفَي كُرَة منفصلَين عن بعضهما البعض، يرتبطان بجسْر عَصَبي، وتَحميهُمها عظام الجُمْجُمة الصُّلْبة، ويُعدُّ حجمُ المخ صغيرًا نسبيًّا؛ حيث لا يتعدَّى وزنه إجمالاً أكثر مِن 1200 جرام، وهو يحصُل على غذائِه مِن الجِسْم عن طريقِ الدَّوْرة الدَّموية، وأهم ما فيه القِشْرة أو الطبقة السطحيَّة لنِصْفَي الكُرة، والتي تقَع داخلَهما مراكزُ التفكير والتحكُّم والإدراك.

ويَتولَّى النِّصفُ الكروي الأيمن مِن المخِّ إدارةَ النِّصفِ الأيسر من الجسم حركيًّا، في الوقتِ الذي يتولَّى فيه النِّصفُ الكروي الأيسرُ إدارةَ النصف الأيمن، ولكن لا يَعْنِي هذا اقتصارَ كل نصف بوظائفَ محدَّدة، وإنَّما يعني: أنَّ بعض الوظائف تتركَّز في نصفٍ بعينه، أو تتم عبْرَه، بَيْدَ أنَّه لا توجد سيادة مطلَقة، فكلُّ نِصف - تقريبًا - يُسهِم في أداء كلِّ سلوك، ولكن بنِسَبٍ متفاوتة مِنَ الدَّرجة والكفاءة، بحيث يُفضي الأمر في النهاية لتكامُلِ نِصْفي المخ، اللَّذْيْن يرتبطانِ معًا عبْرَ حزمة من الألياف التي تربط بيْن فصوصِ كلِّ نِصْف على حِدَة، كما تربط بيْن كلِّ فَصٍّ ونظيرِه داخلَ كلِّ نِصفٍ مِن نِصْفَي المخ.

ولكلٍّ مِن نصفي المخ وظائفُ تختلف عن الأُخْرى بشكلٍ جوهري؛ فنِصف الكرة الأيسر (المهيمِن على حركاتِ الجِسم لدَى أكثر من 85 % من البَشَر) يختصُّ بوظائفِ اللُّغة، والوظائفِ التحليليَّة والعقليَّة، ويُجيد التعامُلَ مع الأرقام والعمليات الحِسابيَّة المعقَّدَة، ويُطلَق عليه النِّصفُ اللفظي التحليلي، المنطقي الواقعي، ويُحلِّل هذا النِّصفُ البياناتِ خطيًّا linear؛ أي: بطريقة تتابعيَّة متدرِّجة، ويتعامل مع الأجزاءِ أو العناصر، ثم يُرتِّبُها منطقيًّا؛ ليصلَ للنتيجة أو الخُلاصة، وهو بذلك يؤدِّي المهامَّ الفرعية أولاً، حتى ينتهيَ منها الواحدةَ تِلوَ الأخرى، وبذلك يكون قدِ انتهى مِن مَهمَّتِه الرئيسة.

أمَّا النِّصف الأيمن فيختصُّ بالوظائفِ المتعلِّقة بإدراك مُجْمَل الأبعاد، وبالحَدْس والانفعال، والتخيل والتناسُق والألوان، ويرتبط بالقُدرات المكانيَّة البصريَّة، ومدَى إمكانية استِيعابها، وهو يُعالِج البياناتِ بطريقة كليَّة holistic، فهو بعكسِ النِّصف الأيسر، يبدأ مِنَ الكل؛ ليصلَ للجزء، وهو لا يتتبَّع العناصر بطريقة متدرِّجة، وإنَّما بطريقة عشوائية دون خُطَّة محدَّدة، وهو يُدرِك ما حولَه بطريقةٍ ثلاثيَّةِ الأبعاد، ولا يتعرَّف على الوَحْداتِ الصُّغرَى، وإنما يختصُّ بالتجريد، ويُعتقَد أنَّ الأذكياء أو العباقرة هم مَن يُجيدون استخدامَ نِصْفَي المخ بطريقةٍ أكثرَ تكاملاً، وأنَّ ذوي الذكاء العادي هم مَن يَميلون لاستخدام أحدِ النِّصفين بشكل مفرِط دون الآخَر.

ويَستخدم المخُّ ما يقارب 20 % مِنَ الأكسجين الذي نتنفَّسُه، في الوقت الذي يُشكِّل فيه حوالي 2 أو 3% فقط من إجمالي وزنِنا، وربَّما لهذا السبب يموت المرءُ سريعًا عندَ حِرْمانه من الأوكسجين، فبانعدام الأوكسجين تنغلِق الخلايا سريعًا، ويَتوقَّف المخُّ عن أداءِ عملياته المعقَّدة، وتنقطع ملايينُ الرسائل الصَّغيرة التي تَصِل بيْن المخ وبيْن بقية أعضاءِ الجِسم.

ومِنَ العجيب أنَّ المخ يستهلِك خلالَ اليوم الواحِد كميةً مِن الطاقة أقلَّ من تلك التي يستهلكها مصباحُ الثلاَّجة الصغيرة؛ أي: قدرًا من الطاقة يُوازي تلك الموجودة في حبَّتَين كبيرتَيْن من الموز (17 % فقط من إجمالي طاقة أجسامنا)، وهذه الطاقة تُنفَق عادةً على عمليات الحِفاظ على الخلايا، وعلى عكسِ الشائع؛ فالقِيام بعمليات عقليَّة مُجهِدة لا يستهلك كمياتٍ كبيرةً مِن تلك الطاقة.

وعلى الرغم مِن أنَّنا عادةً ما نقرِن التثاؤبَ بالرغبة في النوم، إلاَّ أنَّ التثاؤب يساعِد فِعليًّا على إيقاظ المخ، فحِين نتثاءب تتمدَّد الحنجرةُ والبلعوم سامحةً لكميات كبيرة مِنَ الهواء بالمرور إلى الرِّئة، وعندَها يدخُل الهواء للدمِ، ممَّا يجعلنا أكثرَ يقظة، والعديد مِن الفِقاريات تفعَلُ المثل بما فيها كلُّ الثدييات، فالتثاؤُبُ ما هو إلا محاولةٌ مِن الجسم للوصول لدرجةٍ مِنَ التيقُّظِ يَشعُر بافتقادها وبالحاجةِ إليها في ذات الوقت – قد تتثاءب الكلابُ عندَ شعورها بالخطَر - ومِن الملاحظ أنَّ التثاؤبَ مُعدٍ، وهو بمثابةِ رسائلَ متبادلةٍ تدعو لليقظةِ والانتباه، ولكنَّه ليس معديًا بطبيعته، (قد تتثاءب بعضُ الثدييات التي لا تَنتمِي لطائفة الرئيسيَّات في إشارة لمعاناتها مِن بعضِ المشكلات، وهي لا تتبادَلُ التثاؤبَ إطلاقًا)، ممَّا يؤكِّد أنه سلوكٌ متطوِّر، فالتثاؤب المعدِي موجودٌ فقط بيْن طائفة الرئيسيات primates المعروفة بكِبَر حجم مخِّها وتعقُّد تركيبه التشريحي.

ويُشكِّل الماء 80 % من مكوِّنات المخ، فالمخُّ له طبيعةٌ هُلاميَّة إسفنجيَّة رَخْوَة، قوامُها الماء والأوعية الدَّموية اللَّيِّنة، ونقص كمية المياه من المخِّ قد يؤدِّي للشعور بالصُّداع، والذي قد يُعالِجه البعضُ بتناول قرْص أسبرين وعِدَّة جُرْعات مِنَ المياه، وعندَ اختفاء الصُّداع قد يُعتقَد أنَّ سبب زواله هو تأثير الأسبرين، بينما في الحقيقةِ السببُ هو تجرُّع الماء فحَسْبُ.

ورغمَ أنَّ المخ يعالج جميعَ الحواس - بما فيها الإحساسُ بالألَم - إلا أنَّه هو نفسُه لا يشعر بالألَم؛ فالمخُّ ليس به مستقبلات للألَم، وهذا يعني أنَّ أنسجةَ المخ نفسها لا تشعُر بالألَم، وفي حالة تأذِّي المخ نفسِه، تقوم الكثيرُ مِنَ الأنسجة والأغشية والعِظام المحيطة به بتنبيهه بوجودِ خطرٍ ما يُحدق به، فيقوم المخُّ بالردِّ على تلك الإشارات بما يضمن سلامتَه.

أمَّا أكثرُ الحقائق غرابةً، فهو ما تَمَّ ثُبوتُه علميًّا مِن أنَّ المخ يكون أكثرَ نشاطًا وحيوية في اللَّيْل عنه في النهار، فرغم كلِّ الأنشطة اليوميَّة التي نُزاولها طوالَ اليوم، ورغم انخراطِنا في القيام بالعديدِ مِنَ العمليات العقليَّة والحسابيَّة المعقَّدة خلالَ ساعات العمل، إلاَّ أنَّ الأبحاث أوضحتْ أنَّ المخ يُظهر حيويَّةً ملحوظةً خلالَ الليل تفوق تلك التي كان يتمتَّع بها خلالَ النهار، فعندما نأوي للفِراش ليلاً للاستعداد للنَّوْم، يستيقظ المخُّ ويبدأ نشاطَه بهِمَّة، ولم يستطعِ العلماء تعليلَ سببِ هذا النشاط المفرِط للمخِّ في تلك الساعات المتأخِّرةِ مِنَ الليل، غير أنَّه مِنَ المحتمل أنَّ له سببًا يرتبط بالأحلام التي تُروادُنا خلالَ فترة النوم، والتي يتمُّ خلالها ترسيخُ المعلومات المكتسبة، أو دِراسة ومعالجة وفرْز المعلومات التي نتلقَّاها طيلةَ اليوم.

الألوكة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق