الصفحات

الأحد، 8 مايو 2011

الفتنة الطائفية بمصر.. ظاهرة عابرة أم أزمة بنيوية

 














كتب : محمد مورو
تميزت العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر – طوال التاريخ – ما عدا الثلاثين عاماً الأخيرة، بأنها علاقة متينة وقوية وسوية حتى وصل الأمر إلى حد القول بأن المسيحيين في مصر، وخاصة الأرثوذكس منهم ليسوا أقلية، بل جزءا لا يتجزأ من النسيج الوطني المصري والعربي والإسلامي. وكان ذلك يرجع إلى مجموعة من العوامل البنيوية منها:
- التسامح الإسلامي المعروف، وسماح الإسلام لغير المسلمين بالمشاركة في البناء الثقافي والحضاري، وقد ساهم المسيحيون المصريون في ذلك البناء بقوة، وبرز منهم العديد من الرموز، مثل خليل اليازجي الذي دافع عن اللغة العربية في وجه الذين يهاجمونها أو يدعون إلى اللغة العامية مثل صحيفة المقتطف عام 1881.
- أن الإسلام حين دخل مصر حرر المسيحيين من الاضطهاد الروماني وكان لذلك أثره بالإضافة إلى عوامل أخرى في قبول المصريين مسلمين ومسيحيين للغة العربية، التي أصبحت الوعاء الثقافي للجميع ولا شك أن هذا صنع نوع من التصور والوعي والتفكير المشترك.
"
حين دخل الإسلام مصر حرر المسيحيين من الاضطهاد الروماني وكان لذلك أثره بالإضافة إلى عوامل أخرى في قبول المصريين مسلمين ومسيحيين للغة العربية
"
- أن تراث الكنيسة المصرية ومن خلال صراع طويل سقط فيه العديد من الشهداء المسيحيين ارتبط بفصل ما هو زمني عن ما هو روحي ومن ثم أصبحت الكنيسة ممثلاً للمسيحيين في الجوانب الروحية فقط. وهكذا كان من الطبيعي أن يشارك المسيحيون مثل المسلمين في العمل العام سلباً وإيجاباً بمعنى أن منهم من وقف مع الحركة الوطنية المصرية والعروبة والإسلام الحضاري ومنهم من وقف مع الانعزالية والاستعمار . . . إلخ مثلهم في ذلك مثل ما حدث بين المسلمين الأمر الذي جعل الموضوع خارج إطار الطائفية أصلاً.
- أن الكنيسة المصرية وقفت ضد عمليات التبشير والتذويب الأوروبي، بل إن البابا كيرلس اشترى مطبعة ليواجه بها منشورات التبشير الذي رآه خطراً على الأرثوذكسية المصرية قبل أن يكون خطراً على الإسلام، كما وقف بطريرك الأقباط مثل مشايخ الإسلام وحاخام اليهود مع الثورة العرابية عام 1882 في صراعها مع الخديوي توفيق. 

الفتنة من الخانكة إلى الأسكندرية
 
ولكن الأمور تغيرت فيما بعد وخاصة منذ عام 1972، وبدأت أحداث الفتنة الطائفية تتكرر بدءاً من حادث الخانكة عام 1972، ومرورا بحادث الزاوية الحمراء 1981، ثم أحداث قبل ذلك وبعده انتهت بحادث الإسكندرية 2006 الذي قام فيه أحد المسلمين هو محمود صلاح الدين بمهاجمة ثلاث كنائس الواحدة تلو الأخرى مما أدى إلى مصرع شخص واحد وجرح 6 آخرين.
وقد ثبت أن هذا الشخص مختل عقلياً، وكان قد تم علاجه من هذا الخلل العقلي عدة مرات أثبتتها دفاتر المستشفيات التي تم تحويله إليها ومنها المستشفى العسكري الرسمي في المعادي، بل إنه هو نفسه كان قد هاجم في العام الماضي "في أبريل 2005" كنيسة الحضرة، ولم تحدث خسائر، وتوسطت الكنيسة ذاتها في حفظ التحقيق معه لأنه كان معروفاً في المنطقة –المتهم ينتمي إلى منطقة الحضرة بالإسكندرية– وهي نفس منطقة الكنيسة ومعروف جيداً لدى المسلمين والمسيحيين هناك، بل معروف أنه مصاب بخلل عقلي.
وهكذا فإن المسألة كان يمكن أن تمر بهدوء لولا وجود مناخ طائفي واحتقان موجود أصلاً بين الطرفين، المهم أن المسألة تطورت باتجاه التصعيد، حيث تجمع المسيحيون في تلك الكنيسة وبدؤوا يهتفون ضد المسلمين، وضد الحكومة المصرية، وصدرت بيانات عن الكنيسة تزعم وجود مؤامرة لعبت الحكومة والأجهزة الأمنية دوراً فيها، وتم تلقف الحدث وتصعيده إقليمياً وعالمياً لإثبات وجود اضطهاد يمارس ضد المسيحيين المصريين.
"
منذ عام 1972 وقعت مئات الحوادث الطائفية المعلنة وغير المعلنة الكبيرة والصغيرة وفي كل مرة تتم معالجة المسألة بنفس الأسلوب وعلى طريقة دفن الرؤوس في الرمال دون البحث عن الأسباب البنيوية
"
وقام المتظاهرون المسيحيون بالاعتداء على عدد من المسلمين وقتلوا أحدهم، وتم جرح عدد آخر من المسلمين ورجال الأمن، ورد المسلمون بالمثل، وفي النهاية نجحت جهود علماء الإسلام والقيادات السياسية وبعض المسيحيين في تهدئة الأوضاع وقامت مظاهرة من الطرفين تحمل شعار الهلال مع الصليب ثم بدأت نفس النغمة المتكررة، فالذي حدث لم يخرس الوحدة الوطنية، ومصر بخير، ولا داعي للقلق من تصرفات قلة متشددة هنا أو هناك.
وفي الحقيقة فإن الحوادث تتكرر، ونكاد نقول إنه منذ عام 1972 حدثت مئات الحوادث الطائفية المعلنة وغير المعلنة، الكبيرة والصغيرة، وفي كل مرة تتم معالجة المسألة بنفس الطريقة على طريقة دفن الرؤوس في الرمال دون البحث عن الأسباب البنيوية الكامنة، ومحاولة علاجها جذرياً بهدوء وببطء وفي وقت كاف، وليس إغلاق الجراح على ما فيها من صديد. 

طلبات معقولة وأخرى غير معقولة
 
هناك ما يمكن أن نسميه بالمسألة القبطية التي نشأت منذ السبعينيات لأسباب سوف نناقشها فيما بعد، هذه المسألة تدور حول حق بناء الكنائس، ونسبة التمثيل في الأجهزة الحكومية، وعدم التمييز بين الأقباط والمسلمين في الوظائف . . . إلخ.
وبديهي أن هناك طلبات معقولة وأخرى غير معقولة، فالمسيحيون في مصر يبلغون 6% حسب الإحصاءات الرسمية. وتراوحت تلك النسبة بين 5.8 ، 6.2% منذ الإحصاءات التي تمت أيام الاحتلال الإنجليزي وحتى آخر إحصاء الأمر الذي يقطع بعدم القدرة على التشكيك في تلك النسبة ولكن المشكلة أن هؤلاء يتحدثون عن 20% من السكان، ومن ثم فحين يقارنون تلك النسبة المزعومة مع وجودهم في الوظائف العليا مثلاً يبدو أن هناك خللاً.
المهم أن الحكومة المصرية استجابت لطلب بناء الكنائس وجعلته من سلطة المحافظين ومديري الأمن وليس رئيس الجمهورية كما كان من قبل، مع العلم بأن عدد الكنائس بالنسبة لعدد المسيحيين في مصر يزيد عن عدد المساجد بالنسبة لعدد المسلمين في مصر، وكذا فإن الحديث عن تمثيل نسبي في الوزارات والبرلمان وغيرها هو نوع من تكريس الطائفية، ولا يمكن تحقيقه إلا بالانتخابات وبديهي أن هذه لن تأتي بمسيحيين بسهولة، ومن ثم فإن الديمقراطية لا تتفق مع مسألة التمثيل النسبي لهم ! ! 
أياً كان الأمر فإن مثل هذه المشاكل تمكن مناقشتها في الأوساط المدنية عن طريق الأحزاب مثلاً، ويشارك فيها الجميع، ولكن أن تكون مطالب مرفوعة من الكنيسة التي تجب طاعتها بالنسبة للمسيحيين على عكس شيخ الأزهر مثلاً الذي لا تلزم طاعته المسلمين فذلك يحول البلد عملياً إلى حزبين كبيرين، حزب مسيحي أرثوذكسي بقيادة البطريك وحزب إسلامي بقيادة رئيس الجمهورية.
"
رفع مطالب المسيحيين عن طريق الكنيسة يحول البلد عملياً إلى حزبين كبيرين، حزب مسيحي أرثوذكسي بقيادة البطريرك وحزب إسلامي بقيادة رئيس الجمهورية
"
ولعل هذا في حد ذاته أحد الأسباب البنيوية في ظهور المسألة الطائفية بمصر، وفي الحقيقة فإن ممارسة البطريرك للسياسة يخالف عقائد الكنيسة ويوقعها في حرج ويخالف التراث القبطي المصري التقليدي، وهو ما لم يُعرف في تاريخنا إلا بعد صعود البابا شنودة لسدة البطريركية عام 1971.
والأكثر خطورة في هذا الصدد أن البابا الحالي قبل الانخراط في مجلس الكنائس العالمي، الذي وصفه مفكرون أقباط مثل وليم سليمان قلادة وكتاب مسلمون مثل محمد حسنين هيكل بأنه صنيعة المخابرات الأميركية، وكان البابا كيرلس السادس –البابا السابق– قد رفض دخول هذا المجلس عند إنشائه. وهذا بالطبع يدفع في اتجاه استغلال الولايات المتحدة للمسألة القبطية في مصر، ومحاولة زرع عوامل طائفية في البنية المصرية.

الاستقواء بالخارج

وقد تحركت أجهزة أميركية وبعثات تبشير في هذا الصدد, كما تم الضغط أكثر من مرة على الحكومة المصرية عن طريق الأميركان في هذا الصدد، الأمر الذي أشعر المسلمين المصريين بل والمصريين جميعاً بأن هناك من يريد استغلال المسألة، وانتظر هؤلاء أن تتخذ الكنيسة المصرية موقفاً حازماً من ذلك فلم يجدوا هذا الموقف، الأمر الذي تمت ترجمته في الشعور المصري العام بأن هناك استقواء من الجانب المسيحي المصري بالأميركان.
وقد لفت الأستاذ جمال أسعد وهو مسيحي أرثوذكسي مصري نظر الكنيسة عدة مرات إلى ذلك وندد بهذا الشعور بالاستقواء، ولكن الرد كان من الكنيسة وعدد كبير من الرموز المسيحية بالهجوم على جمال أسعد بل والتشكيك في مسيحيته التي يعتز بها كما يقول دائماً.
وفي الإطار نفسه نجد أن هناك جماعات مسيحية مصرية في المهجر تدعي أن مصر محتلة من العرب، وأنه ينبغي إخراج المحتلين العرب من مصر، وتعقد هذه الجماعات مؤتمرات تقول فيها ذلك علناً بدعم معروف ومكشوف من منظمات يهودية وصهيونية وأميركية وكنسية غربية، ووصل الأمر بهؤلاء إلى حد تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة بدعوى وجود اضطهاد في مصر للمسيحيين.
كل هذا بالطبع يترك بصمات من المرارة لدى المصريين عموماً والمسلمين منهم خصوصاً تجاه الكنيسة المصرية، ولا يمكن بالطبع هنا للعقلاء من الطرفين أن يدافعوا عن موقف الكنيسة ما لم تصدر قرارات حرمان لرموز جماعات المهجر التي تسلك هذا السلوك.
وبديهي أن شعور المسلمين بوجود استقواء مسيحي بالأجنبي سيجد تعبيرات كثيرة متوقعة وغير متوقعة مثل رد الفعل الذي قام به محمود صلاح رغم أنه مختل عقلياً، لأن هذا الإحساس يزيد الاحتقان الطائفي ليصبح هناك جو عام من الغيظ وعدم الثقة بين الطرفين سيعبر عن نفسه يوماً بطريقة غير سوية إذا لم يتم علاجه.
وفي هذا الإطار كذلك يلاحظ أن معالجة الحكومة للمسألة كانت شديدة القصور، فإذا حدث اعتداء على مسيحي مثلاً قامت الحكومة تحت الضغط الأميركي أو لمنع وجود هذا الضغط بالتحيز لصالح المسيحي، وهذا يخلق وجداناً طائفياً خطيراً، وهو في غير صالح المسلمين والمسيحيين في المدى الطويل.
"
شعور المسلمين بوجود استقواء مسيحي بالأجنبي سيجد تعبيرات كثيرة متوقعة وغير متوقعة مثل رد الفعل الذي قام به محمود صلاح رغم أنه مختل عقلياً
"
وعلى سبيل المثال فإن السيدة وفاء قسطنطين مثلاً حين أسلمت وهذا حقها، اضطرت الحكومة في النهاية إلى تسليمها إلى الكنيسة التي قامت بحبسها داخل أحد الأديرة، مما ترك شعوراً بالمرارة لدى المسلمين؛ لأن موضوع حرية العقيدة تتم مخالفته لصالح الكنيسة، ولأن الكنيسة أصبحت دولة داخل دولة، لدرجة أن أحد الكتاب العلمانيين علق على الأمر بقوله "إن الحكومة المصرية ليس لها سفارة في دير وادي النطرون" ! !
وهكذا فإنه حين تحدث أحداث طائفية ويتم اعتقال مسيحيين ومسلمين فإن البابا يصوم من أجل إطلاق سراح المسيحيين فيتم الإفراج عنهم وتتردد الحكومة في الإفراج عن المسلمين، وقد وصف أحد الكتاب الإسلاميين وهو الدكتور محمد عباس ذلك بقوله إن المسلمين في مصر يعاملون كأقلية. 

من التكتيكية إلى البنيوية
 هذه العوامل السابقة ورغم كونها تكتيكية بمعنى أنه يمكن تغييرها بقدر من الجهد تصب كلها في تحويل المسألة الطائفية إلى أزمة بنيوية. وبديهي أن هناك أسباباً أخرى أكثر عمقاً منها غياب المشروع الوطني القومي أو الإسلامي بالنسبة للحكومة المصرية, ومن ثم فإن البحث عن الانتماء الديني كان هو البديل الطبيعي والبديهي.
كذلك وجود أزمة اقتصادية طاحنة جعلت الناس تلوذ بالمسجد أو الكنيسة لأسباب كثيرة، وكذا غياب أو ضعف الأحزاب السياسية وانسداد أفق التغيير الديمقراطي، أو حتى العمل السياسي الآمن المشروع ومن ثم يصبح الملاذ هو المسجد أو الكنيسة.
وأخيراً فإن ظهور العولمة، وما تمخض عنها من محاولة تفتيت الكيانات القومية والوطنية وعدم تصدي الحكومات والأحزاب لذلك جعل من السهولة بمكان اختراق البناء الثقافي للمجتمع وزراعة الأفكار والممارسات الطائفية فيه، وكلها عوامل سواء منها الظاهر أو العميق تحتاج إلى وقت وجهد ودأب وعلاج طويل، وإلا فإن علينا أن نتعامل مع حوادث الفتنة الطائفية كشيء بنيوي في المجتمع وهو أمرشديد الخطورة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق