بسم الله الرحمن الرحيم
الغلو في الدين أو التطرف
معنى الغلو
مجاوزة الحد ، والحد هو النصُّ الشرعي ، كلام الله عزَّ وجلَّ ، وما صح من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وأن يُفهم هذا النص وفق قواعد علم الأصول
والغلو مصطلح ورد في القرآن الكريم في موضعين :
- · وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مبِينًا
- · يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
وورد في السنة المطهرة في حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
إياكم والغلوَّ في الدين ! فإنه أهلك من كان قبلكم ،
كيف يبحث الفقهاء
وإذا بحث الفقيه في مسألة من مسائل الدين ، فهو يجمع النصوص القرآنية والنبويّة فيها ، ويؤلف بينها على وجه لا يغلب بعضها على بعض ، ولا يأخذ نصاً ويهمل غيره ، ولا يأخذ فقرة من نصٍّ ويُهمل بقية الفقرات .
كيف يبحث الغلاة
أما الغلاة المتهورون فيضربون بعض النصوص ببعض ، أو يأخذون نصاً يُلائم غلوَّهم يُسلِّطون عليه الأضواء ، ويُعَتِّمون على نصٍّ آحر ، ينقض غلوهم ، فالآيات التي يمكن أن تغطي غلوَّهم ، يشدُّونها عن طريق التأويل المتكلف إلى ما يوافق أهواءهم ، والآيات التي تناقض غلوهم يغفلون ذكرها ، وإذا ذُكَّروا بها صرفوها إلى غير المعنى الذي أراده الله .
أمّا فيما يتعلق بالأحاديث الشريفة ، فهم يقبلون الضعيف ، بل الموضوع ، إذا غطّى غلوهم ويُعرضون عن الحسن ، بل الصحيح إذا فضح انحرافهم .
ثم إنهم ـ فيما سوى القرآن والسنة ـ يقبلون كل قولٍ يدعم غلوهم متجاوزين القاعدة المنهجية :
" إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإذا كنت مدَّعياً فالدليل " ويرفضون كل قول ليس في جانبهم ولو دعمه أقوى دليل.
إنهم يتخيَّرون من النصوص مّا يعجبهم ، فهم ـ وهذا حالهم ـ من أهل الرأي ، الذين تحَكَّموا بالنصّ ولم يحتَكِموا إليه ، واعتقدوا ثم استدلوا ، وهذا انحراف خطير ، والصواب أن يستدلوا ثم يعتقدوا
أنواع الغلو
والغلوُّ نوعان : وقد أشار إلى هذين النوعين من الغلّو الإمام الشاطبي في " موافقاته " .
الغلو الاعتقادي
وهو أن الغلاة يعتقدون فيمّا هو جزء من الدين أنه الدين كلّه
وغلاة كلّ فرع من فروع الدين ، يُحلُّون هذا الفرع محلَّ الأصل ، وينظرون إلى من عُني ببقية فروع الدين نظرة ازدراءٍ وإشفاق ،
ولا يخفى أن من كليات الدين الجانب الاعتقادي ، والجانب السلوكي ، والجانب النفسي ، وحينما تحلُّ كلية من هذه الكليات محلَّ الدين كلّه ، فهذا غلو وأي غلو ... هذا من جهة . ومن جهة أخرى ، فإن تضخيم الفرع في الدين ليحلَّ محلَّ الأصل غلوٌّ في الدين أيضاً .. وأي غلو
الغلو العملي
فحينما يقع الإنسان فريسة وساوسه المتسلطة ، فيظن أنه بمفرده يستطيع أن يرفع المعاناة عن الأمة كلها بعمل غير مشروع في منهج الله
وحينما يتجاوز في عبادته الحد الذي شرَّعه الله فيهمل عمله ويهمل أسرته ، وبهذا يختل توازنه ، ولا يحقق الهدف الأمثل من تدينه ...
الغلو الأخطر
ولا شك أن الغلو الاعتقادي هو الأخطر ، لأن صاحبه لايرجع عنه ، إذ يعتقد أنه على صواب فهو لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ، وإن اعتماد القوة وحدها ، والحلول الأمنية وحدها ، في معالجة هذا النوع من الغلو لا يحقق الهدف ، ما لم يكن مصحوباً بدرجة عالية من الاستماع الجيد إلى المغالي ، وتفهم دقيق لرأيه ، ومراعاة لدوافعه وجراحاته ، وإقناعه بدل قمعه ، فالقوة لاتصنع الحق ، ولكن الحق يصنع القوة ، والقوة من دون حكمة تدمر صاحبها.
ولأن هذا النوع من الغلو افترقت منه الفِرق ، وبزغت عنده الأهواء ، واختلفت فيه العقول ، وتباعدت من أجله القلوب ، وسالت من تداعياته الدماء ، قال تعالى :
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
أسباب الغلو
وأسباب الغلو كثيرة ، ومن أبرزها
الجهل
وهو : عدم معرفة حكم الله جلّ وعلا ، وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ، فقد يكون المغالي معظماً للحرمات ، غيوراً على دين الله ، فإذا رأى إنساناً متلبساً بمعصية ، لم يطق ، أو لم يتصور أن هذا الشخص مسلم ، أو أن ذنبه يمكن أن يُغفر ، لذلك يتهمه بالكفر والخروج من الدين . وقد تكون له محبة لرجل صالح ، وأصل هذه المحبة مشروع في الدين ، لكن هذه المحبة زادت وطغت بسبب الجهل حتى وصلت إلى درجة الغلو الذي رفع هذا الإنسان فوق منزلته ؛ واتهم كل من لم يقره على هذا الغلو بالكفر والفسق . وقد يكون الجهل جهلاً بالدليل لعدم معرفته أو لعدم الاطلاع عليه ، وقد يكون جهلاً بالاستنباط ، أو جهلاً بقواعد اللغة العربية .
والجهل أسهلُ أسبابِ الغلو معالجةً ، ولا سيما إذا كان المغالي بريئاً من الهوى ، والنزعات الشريرة ، فالجهل يزول بالعلم .. ففي عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد ناظر الخوارج وحاورهم ، فرجع منهم ما يزيد عن ألفي إنسان في مجلس واحد .
الهوى
الذي يجر صاحبه إلى التعسف في التأويل ، وردّ النصوص الصحيحة ، وقد يكون الهوى لغرض دنيوي من طلب الرئاسة أو الشهرة أو نحوهما ، وقد يكون المغالي بعيداً عن هذه المطالب ، ولكن الانحراف سبق إلى عقله وقلبه واستقر فيهما ، وتعمَّق جذوره ، وترسخأصوله ، وكما قيل :
أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى ... فصادف قلباً فارغاً فتمكَّنا
وحينئذ يَعِزُّ على المغالي أن يتخلى من غلوه ، وأن يقرَّ على نفسه أنه كان متحمساً للباطل ، مناوئاً للحق ، فيتشبث بباطله ويلتمس له الأدلة الضعيفة الواهية من هنا وهناك . لذلك قيل : تعلَّموا قبل أن ترأسوا ، فإن ترأستم فلن تعلموا .
وقد يكون الهوى بسبب نفسية مريضة معتلَّة منحرفة ، تميل إلى الحدة والعنف ، والعسف في آرائها ومواقفها ، وتنظر دائماً إلى الجانب السلبي والمظلم للآخرين .. وقد يتصف صاحبها بالعلو والفوقية ، من دون أن يشعر بذلك ، فضلاً عن أن يعترف به . فإذا التقى الأشخاص أو قرأ كتبهم ، فليبحث عن نقاط ضعفهم ، مغفلاً النواحي الإيجابية التي يتمتعون بها ، وعندها تتبخَّر ثقته بالعلماء العاملين ، والدعاة المخلصين ، و يبتعد عنهم ويستقل بنفسه ورأيه ، فينتج عن هذا الشذوذ في الآراء والمواقف والتصورات ، ثم في السلوك .
غلو الطرف الآخر
فالذين يجرُّون المجتمعات الإسلامية إلى الفساد ، والإباحية ، و إلى الانحلال الخلقي ، وينتهكون الحرمات، ويستخفون بالثوابت ، ويدنسون المقدسات هم في الحقيقة من المتسببين في حدوث الغلو ، وإن أعلنوا الحرب عليه .. فمظاهر الاباحية والانحلال في المدرسة والجامعة والشارع والشاطئ والمتجر والحديقة وفي وسائل الإعلام ؛ إذا أقرَّها المجتمع وسكت عنها ، أو شجعها ودعمها وحماها ، فإن هذا المجتمع عليه أن يستعد للتعامل مع أنماط كثيرة من الغلو .
تصنيف الغلو
وقبل أن نبحث عن الحلول الفعَّالة للقضاء على الغلو .. يجب أن نفرِّق بين
غلو حقيقي
وهو مجاوزة للحدِّ الشرعي ، وانحراف عن سواء السبيل
غلو موهوم
في رأس أعداء الدين .. فهم يصفون المؤمنين الملتزمين بالأصولية والتقوقع تارة ، وبالتطرف والتزمت تارة أخرى .. وهم في الحقيقة يدعون بإخلاص إلى الله تعالى ، وإلى دينه ، وإلى تحكيم شريعته ، والعمل بكتابه وسنة نبيه .
معالجة الغلو
ولا سبيل إلى القضاء على الغلو الحقيقي في الدين .. إلا بتمكين العلماء الربانيين العاملين المخلصين من القيام بواجبهم في الدعوة إلى الله ، وَفقَ أُسس صحيحة متوازنة ، ومن خلال رؤية صافية لحقيقة الدين الحنيف ، وباساليب نابعة من الكتاب والسنّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق