الحــدود في الإســلام
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:ـفإن قضية "الحدود في الإسلام" من جملة القضايا التي اتخذها كفرة الغرب وملاحدة الشرقِ مَطْعَنًا، ومَغْمَزًا ـ في ظنهم ـ في الملة الحنيفية، والدين القيِّمِ، والمنهج الربانيِّ (الإسلام)، أرادوا بذلك تشويهَ صورتِهِ؛ لإيقافِ الزحفِ الإسلاميِّ في دول أوروبا والأمريكتين وغيرها، وتشكيكَ أبنائه المُتَدَيِّنين به؛ لينسلخوا منه، ويكونَ عندهم جسدًا بلا رُوحٍ، وقشرًا بلا لُبٍّ، فإذا تمكنَ الشكُّ من قلوبهم ارتدُّوا على أعقابهم كافرين. كما قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 109]. وقال الله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة:120]. فهؤلاء لا يَأْلُونَ جُهْدًا في سبيل تحقيق أهدافِهم الفاسدة، وأمانِيِّهم الكاسدة، حتى كادوا ينجحون في بعضٍ مِمَّا أرادوا، فقد أُشْرِبَتْ قلوبُ بعض المسلمين شيئًا ليس بالقليل من شبهاتِ القوم على الإسلام، ولولا العنايةُ الإلهيةُ، ثم داعي الإيمانِ في القلب لأجابوهم على الكفر، بل لقد كفر جماعةٌ كُفْرًا صُرَاحًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله..لذلك أقول: إنه يتأكَّدُ على العالِم وجوبُ تعهُّدِ الناس بالعلم، وبَذلِهِ لعامتهم، قال الله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187].وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كتم علمًا يعلمه جاء يوم القيامة مُلَجَّمًا بلجام من نار)). [أخرجه أحمد (2/499) من حديث أبي هريرة، وابن ماجه (265)) من حديث أبي سعيد]. وكذلك يتأكدُ على غيرِ العالمِ أن يبحث عن العلمِ وأهلهِ، وفي الحديث: ((طلب العلم فَرِيضَة على كل مسلم)). [أخرجه ابن ماجه (224)،وصححه العلّامة الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" (183)].وفي هذه الورقات تعريف مختصر بمسألة "الحدود"، وشيءٍ من فقهها، وردُّ بعضِ شبهِ النصارى، وغيرهم من الزنادقةِ حولها.
أولاً: تعريف الحدود:
الحدُّ لغةً: هو المنعُ، والفصلُ بين الشيئين، يقالُ: حدَّ الرجلَ عن الأمر يَحُدُّهُ حَدًا. أي: مَنَعَهُ وحَبَسَهُ، ولذا سُمِّيَ البَوَّابُ، والسَّجَّانُ: حَدَّادًا؛ لأنهما يَمنَعَانِ الدخولَ والخروجَ. وكذا سُمِّيَتْ الحدودُ حدودًا؛ لأنها تمنع من إتيان الجنايات. حدودُ اللهِ: ما حَدَّه وقَدَّره، فلا يجوز أن يُتَعَدَّى ويُتجاوز. الحدود في الشرعِ: هي عقوبة مُقَدَّرَة وَجَبَتْ حقًا لله تعالى. هذا عند فقهاء الحنفية ـ رحمهم الله ـ وقال جمهور العلماء: هي عقوبة مقدرة شرعًا، سواءً أكانت حقًّا لله أم للعبد. فعلى الأول يخرج القصاصُ؛ لأنه حق العباد، يجري فيه العفو والصلح. ويخرج ـ أيضًا ـ التعزير؛ لأن العقوبةَ فيه غيرُ مقدرة وعلى الثاني يخرج التعزير، ولا يخرج القصاص.
ثانيًا: الحكمةُ من تشريع الحدود:
قال أبو الحسن الماورديُّ: "والحدود زواجر وضعها الله تعالى للرَّدْعِ عن ارتكابِ ما حَظَرَ، وتركِ ما أمر به، لمِاَ في الطبع من مُغَالبةِ الشهواتِ المُلِهيَةِ عن وعيد الآخرة بعاجلِ اللذةِ، فجعل الله تعالى من زواجر الحدود ما يردع به ذا الجهالة، حذرًا من ألم العقوبة، وخِيفةً من نكال الفضيحة، ليكون ما حظر من محارمه ممنوعًا، وما أمر به من فروضه متبوعًا، فتكون المصلحة أعَمَّ، والتكليفُ أتمَّ قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، يعني في استنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم إلى الضلالة، وكفِّهم عن المعاصي، وبعثهم على الطاعة". اهـ [الأحكام السلطانية (ص/377)]. وقال أبو العباس ابن تيمية: "فإن إقامة الحدود من العبادات، كالجهاد في سبيل الله، فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده، فيكون الوالي شديدًا في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصدُهُ رحمةَ الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا شفاءَ غيظِهِ، وإرادةَ العلوِّ على الخلق، بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كفَّ عن تأديب ولده كما تشير به الأمُّ رِقَّةً ورأفةً لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمةً به وإصلاحًا لحاله، مع أنه يودُّ ويؤثر أن لا يُحْوِجَهُ إلى تأديب، وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلةِ قطعِ العضوِ المتآكِلِ، والحَجْمِ، وقطع العروق بالفصاد، ونحو ذلك، بل بمنزلة شرب الإنسان الدواءَ الكريهَ، وما يدخله على نفسه من المشقة، لينال به الراحة، فهكذا شُرعت الحدود". اهـ [السياسة الشرعية ـ ص (265، 266)]. وقال ابن القيم: "فكان من بعض حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ ورَحمَتِهِ أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس، والأبدان، والأعراض، والأموال، كالقتل، والجراح، والقذف، والسرقة، والردع، والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع... وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما آتاه مالكه وخالقه؛ فلا يطمع في استلاب غيرِهِ حَقَّهُ".اهـ [إعلام الموقعين (2/383، 384)]. فَوَضَحَ من كلام أئمتنا أنَّ الحدود في الإسلام ليست غايةً في حدِّ ذاتها، وإنما هي مجردُ وسيلة يُتَوَصَّلُ بها إلى إصلاح المجتمع كُلِّهِ، بتقويم أهل الجرم، وردعِ غيرهم وزجرهم عن اقتراف مثل فعلهم، وحفظِ سلامة الناس وأمنهم بالقضاء على الجريمة أصلاً، ولا يخالف ذو عقل ولُبٍّ أن تقديم المصالح العامة على الخاصة عند التعارض هو مقتضى الحكمة والمعقول، أنْ تُقَدَّمَ مصلحةُ الجماعة على الفرد، فإذا عَلِمَ المجرم أنه مأخوذ بلا ريب، وواقع به لا محالة ـ إذا ارتكب الجريمة ـ فإنه قبل مباشرتها يفكر مرارًا، وقد يُقدِّمُ ما يُملِيه عليه الدينُ والعقلُ، فيمتنع من الإقدام عليها. لذا يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [النور: 2]، يعنى الزاني والزانية. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقيموا حدود الله في البعيد والقريب، ولا تأخذكم في الله لومةُ لائمٍ)). [أحمد (4/330)، وابن ماجه (2540)، وصححه الألباني في " الصحيحة " (670)].ولما كان ذلك كذلك، كانت الجرائم الموجبة للحدود قليلةً جدًّا، وعدد المحدودين لا يُذكر، حتى قيل: إن عددَ الأيدي التي قُطعت في الأربعين سنةً الأولى في الإسلام: ستة أيدٍ فقط!! ويذكر أن عدد الأيدي التي قُطِعَت في المملكة السعودية منذ تطبيقهم للحدود ـ خلال أربع وعشرين سنةً ـ: هي ستَّ عشرةَ يدًا فقط!!فأين قطعُ مجموعةٍ معدودةٍ من الأيدي، بل الرقاب، أو جلدُ مجموعةٍ قليلةٍ من الأبدان، أو رجْمُها من ترك المجرمين يَعِيثُون في الأرض فسادًا، يسفكون الدماء المحرمة، ويُرَوِّعون الآمنين وينتهبون أموالهم، وينتهكون أعراضهم، ويقطعون طُرُقَهُمْ؟! أيهما أخفُّ ضررًا، وأهونُ تبعةً، وأجدى نفعًا، وأوقعُ أثرًا، وأصلحُ للناس؟ إنما يتذكر أولو الألباب.
ثالثًا: فضلُ إقامةِ الحدودِ:
الحدود من جملة ما شرع الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن تطبيق شرعه هو السبيل الأوحد لِجَلْبِ الخيرات، ودَفْعِ المضرَّات، يأتي بالعزة والكرامة، والمجد، والسعادة في الدارين: الدنيا والآخرة، فالوقوف عند حدوده نعيم الحياة قبل نعيم الآخرة، وإنما يحصُلُ الشقاءُ بقدْرِ تعدي الحدِّ المحدود شرعًا. قال تعالى ـ مخبرًا عن أهل الكتاب ـ: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: 66]. وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ [البقرة:103]. وقد ورد في فضل إقامة الحدود خاصةً قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((حَدّ يُعْمَلُ به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمطروا أربعين صباحًا)). [أحمد (2/402)، والنسائي (491)، وابن ماجه (2538)، وحسنه الألباني في الصحيحة برقم (23)].وفي مقابل ذلك؛ فإن معطلي الحدود ـ وغيرِهَا من الشرائع ـ واقفون على شفا حُفْرَةٍ، أو جُرُفٍ هَارٍ، يوشك أن يَهْلِكُوا، ويكفينا هنا ذكرُ هذا الحديثِ، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشريفُ، تركوه. وإذا سَرَقَ فيهم الضعيفُ، أقاموا عليه الحدَّ)). [أخرجه البخاري (6788)، ومسلم (1688)]. قال ابن تيمية: "وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدوِّ، كما يدلُّ عليه الكتابُ والسنةُ، فإذا أُقِيمَت الحدودُ، ظهرت طاعة الله، ونقصت معصية الله تعالى، فحصل الرزق والنصر". اهـ. [الفتاوى (28/301، 302)].
رابعًا: مبدأ العقوبة ضرورة اجتماعية:
لا يعارض أحد في أن النقص، والخطأ، والتقصير من لوازم البشرية، لذلك طُولِبَ الإنسان بالتوبة، ولم تجب عليه العصمة، فلا يُتَصَوَّرُ خُلُوُّ مجتمع من زَلَلٍ، أو مخالفة، فمن ذا الذي ما ساء قَط، ومن له الحسنى فقط، ولو وُجِدَ هذا المجتمعُ لكان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بين أَظْهُرِهِم، ولكنَّ ذلك لم يكن، ولن يكون، فلابد من وجود الجريمة([1]) ـ قلَّت أو كثرت ـ بقدر أسباب وجودها، وطريقة العلاج.إذا تقرر هذا؛ فلابد أيضًا من وجود عقوبة ينزجرُ بها من لم يواقع الجريمة أو المخالفة، ويُعَزَّرُ بها من ارتكبها،حتى لا يعود إليها أخرى.فوجود الجريمة يستلزم وجود العقوبة، وهذا أمر متفق عليه بين عقلاء البشر ـ مؤمنهم وكافرهم، بَرِّهِم وفاجرهم ـ وكلهم يعمل بمقتضاه: فالوالد يعاقب ولده إذا خالف أمره، والرجل يعاقب زوجه ـ ولو بالهجرـ إذا وُجد ما يقتضيه، والمعلم يعاقب تلميذه إذا قصَّر في الواجب الذي عليه، وصاحب المؤسسة ـ تجارية كانت أو صناعية أو غير ذلك ـ يعاقب العاملين لديه ـ بالتغريم والخصم، ونحوه ـ إذا وُجِدَ سَبَبُهُ. إذًا فليس بِدْعًا من القول أو الفعل أن يضع الإسلامُ ويقررَ عقوباتٍ جزاءً للمعتدين وِفَاقًا، على أن العقوبة في الإسلام ليست كغيرها؛ فإن واضِعَها هو الله، الذي خلق الإنسان وسوَّاه، وعلم ما توسوسه به نفسُه، وما يُخفيه صدرُه، ويكتمه قلبُه، وما يَخْطُِرُ بباله، بل يعلم ما لا يعرِفه الإنسان من نفسه ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:14].
خامسًا: جرائم الحدود:
يجب أن يُعْلَمَ أنَّ الإسلام لم يجعل لكل جريمةٍ عقوبةً بدنيةً دنيويةً، بل إنَّ أكثرها لا يُعاقب عليه إلا في الآخرة ـ عند الله عز وجل ـ، بعد التعريف بسوء عاقبتها هنالك. ولا يتسع مُقامُ المَقَالِ لتعديدها، فهي لا تُعدُّ كثرةً، ولكن يكفيك ـ أيها الرشيد ـ أن تعلمَ أن عَدَدَ الجرائمِ المُحَدَّدِ لها عقوبة مقدرة ـ في الشريعة الإسلامية ـ: سبعُ جرائمَ فقط، وهي: الزنا، والقذف، والسرقة، وشُربُ المسكرِ، وقطعُ الطريقِ (الحِرَابَةُ)، والرِّدَّةُ، والبغيُ، بالإضافة إلى القَصاص وهو لا يُسَمَّى حدًّا ـ عند فقهاء الحنفية ـ؛ لأنَّ حَقَّ العبد فيه غالب، بمعنى: أن المجنيَّ عليه يملك العفوَ عن الجاني، وإسقاطَ العقوبة عنه، ففارَق الحدودَ. فكم تساوي هذه من أُلُوفِ الجرائم ـ التي لم يُحَدَّدْ لها عقوبة في الدنيا ـ حتى يتجرأ بعض الملحدين والزنادقة، ويتكلموا بكبيرٍ، ويَتفوَّهُوا بعظيمٍ، ويتلفظوا بإفكٍ مبينٍ، فيتهموا الإسلام بالوحشية، والعنف، والقسوة، والشدة، وعدم صلاحيته لمسايرة المدنية والتقدم، والانسجام مع طباع الناس الراقية، وأحاسيسهم المُرْهَفَةِ، إلى آخر هذه التُّرَّهَاتِ وسَقَطِ المَتَاعِ، الذي لا يُبَاعُ ولا يُبْتَاعُ، بل بِضَاعَتُهُم فاسدة، وسُوقُهُم كاسدة، وبِبُهْتَانِهِم هذا قد حَكَمُوا على أنفسهم بالكفر الطافح، والجهل الفاضح، والعناد الواضح. ومع كون شبهاتهم يغني عن إفسادها فسادُها، وعن إبطالها بطلانُها، فإني أدفعها ـ أيضًا ـ بِذِكْرِ بعض الحقائق، والمبادئ المَرْعِيَّةِ في العقوبة الإسلامية، والمستعان الله.
سادسًا: حقائق ومبادئ ودفع أباطيل:
الوقفة الأولى: سَدُّ الشريعَةِ الذرائعَ الموصلةَ إلى الجريمة: فإن الشريعة الإسلامية تهدف إلى وجود مجتمع طاهر، لا يتنجَّس بمعاني الآثام والخطايا، مجتمع مُصانٍ عن ألوان الفساد، الظاهرة والباطنة، لذلك وَضَعَتْ سدودًا وحواجزَ بين الواحد من أفرادها وبين الجريمة، وأرشدته إلى ما إذا اتبعه كان من أبعد الناس عنها، وهذا أمر مُطَّرَد في المحرمات جميعها.قال ابن القيم: "فإذا حرم الرب تعالى شيئًا، وله طرق ووسائلُ تُفضي إليه، فإنه يحرمها، ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يقرب حِمَاهُ". اهـ [إعلام الموقعين (3/103)].ثم قال رحمه الله: "وباب سد الذرائع أحدُ أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان، أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدةً في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلةً إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحدَ أرباع الدين". [إعلام الموقعين (3/119)].فلم تترك الشريعة إذًا أتباعَها من غير توجيهٍ وإرشادٍ بل رغَّبت في الاستقامة، ورهَّبت من الاعوجاج والانحراف، وأعلَمت بثواب الواقف عند حدودها، وما أُعِدَّ له في الجنَّات، وأخبرت بعقوبة من تعدَّى وظلَم، وما ينتظره في الآخرة، وبشَّرت المُسْتَمْسِكِينَ بها بالسَّناء والرفعةِ والتمكينِ في الأرض، وحذَّرت مخالفيها بظهور الفساد في البر والبحر، والعاقلُ اللبيبُ من اختار لنفسه الخيرَ، ولا يَهْلِكُ على الله إلا هالك.
الوقفة الثانية: تفاوُت العقوبات بتفاوُت الجنايات: فالعقوبة على قدر الجريمة ـ لا إفراط، ولا تفريط ـ؛ فإن الذي شرعها هو المَلِكُ العَدْلُ، الحكيمُ الخبيرُ، يقولُ ابن القيم: "فلما تفاوتت مراتب الجنايات، لم يكن بُدّ مِن تفاوتِ مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكِلُوا إلى عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسًا ووصفًا وقَدْرًا لذهبت بهم الآراء كل مَذْهَبٍ، وتشعَّبت بهم الطرق كل مَشْعَبٍ، ولعظُم الاختلاف، واشتدَّ الخطب، فكفاهم أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كُلفَتَهُم، وتولَّى بحكمته وعلمه ورحمته تقديرَهُ نوعًا وقدرًا،ورتب على كل جناية ما يناسبها، ويليق بها من النَّكَالِ". اهـ [إعلام الموقعين (2 /384)].ومَن تأمَّل الجناياتِ الواقعةَ على النفوسِ والأبدانِ والعِرْضِ والمالِ، وقَدْرَ عقوباتِهَا، لعلم ـ يقينا ـ أنها أكملُ الشرائع، وأحسنُها، وأحكمُها، وسوف نفصل ذلك في "الردِّ المُفصَّل على شبهات أهل الشك والارتياب حول الحدود" ـ إن شاء الله ـ.وهذا الكتابُ المُقَدَّسُ ـ عند اليهود والنصارى ـ خيرُ شاهدٍ على حُسنِ شريعة الإسلام، وكمالِ عدلها!ففي سِفْرِ الَّلاوِيِّينَ، في الإصحاح (20)، الفقرة (9): "كُلُّ إنسانٍ سَبَّ أباه أو أُمَّهُ فإنه يُقْتَلُ. قد سَبَّ أباهُ أو أمَّهُ. دَمُهُ عليه".فحدُّ من سب والديه، أو أَحَدَهُمَا ـ في كتابهم المقدس ـ: القتلُ، يُسَوُّونه بعقوبةِ قتلِ النفسِ! ففي سِفر العَدَدِ، الإصحاح (35)، الفقرة (30): "كل من قتل نفسًا. فعلى فَمِ شُهُودٍ يُقْتَلُ القاتلُ".فعقوبة من سب أباه أو أمه هي هي عقوبة من قتل أباه أو أمه! فأين هذه الجريمة من تلك حتى يسوى بين عقوبتهما؟! ثم أين المُغْرِضُون المُضِلُّون الحاقدون على الإسلام؟ ما لنا نراهم غَضُّوا الطَّرْفَ عن هذا؟ ماذا يُسَمُّون تلك الشرائع؟ وبماذا يصفونها؟ لقد صدق فيهم قولُ القائل: فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة....... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم بل أدهى من ذلك وأمرُّ: أنهم جعلوا الحدَّ نفسَه، والعقوبةَ ذاتَها "القتل"، ولكن في أبشع صوره، وأشدِّها ـ رجمًا بالحجارة ـ، حدًّا وعقوبةً للرجل أو المرأة عند الإصابة بالمسِّ، أو الصَّرْعِ!! ففي سفر اللاويين، الإصحاح (20)، الفقرة (27): "وإذا كان في رجل أو امرأة جانّ أو تابِعة، فإنه يُقتلُ. بالحجارة يَرْجُمُونه. دمه عليه"!! فالحمد لله الذي امتن على البشرية بالإسلام، فأخرج مَن به مَسْحَةُ عَقْلٍ أو مُسْكَةُ فَهْمٍ، مِن الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهُدى، ومن الغَيِّ إلى الرشاد، فله ـ سبحانه ـ الحمدُ في الأولى والآخرة. وأيضًا، فيه أن الزاني يُقْتَلُ على كل حالٍ، مُحْصَنًا كان أو غيرَ مُحْصَنٍ. ففي سِفْر اللاويين ـ أيضًا ـ، الإصحاح (20)، الفقرة (10): "وإذا زنى رجل مع امرأة. فإذا زنى مع امرأةِ قريبِهِ، فإنه يُقتل الزاني والزانية". أما شريعة الإسلام فقد فرقت بين الحالين، وخَصَّت كلاً منهما بحكمٍ. يقول ابن القيم: "ثم إن للزاني حالتين: إحداهما: أن يكون مُحْصَنًا قد تزوج، فعلم ما يقع به العفاف عن الفروج المحرمة، واستغنى به عنها، وأَحْرَزَ نفسَه عن التعرُّضِ لحد الزنا، فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام.والثانية: أن يكون بكرًا، لم يعلم ما علِمه المحصن، ولا عمل ما عمِله؛ فحصل له من العذر بعضُ ما أوجب له التخفيفَ؛ فحقن دمه، وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد رَدْعًا على المعاودة للاستمتاع بالحرام، وبعثًا له على القنع بما رزقه الله من الحلال، وهذا في غاية الحكمة والمصلحة، جامع للتخفيفِ في موضعه، والتغليظِ في موضعه". اهـ [إعلام الموقعين (2/393)]. "فانظر إلى تناسب هذه الشريعة الكاملة، التي بَهَرَ العقولَ حسنُها وكمالُها، وشهدت الفطر بحكمتها، وأنه لم يَطْرُقِ العالَمَ شريعة أفضلُ منها، ولو اجتمعت عقول العقلاء، وفطر الألباء، واقْتَرَحَتْ شيئًا يكون أحسن مُقْتَرَحٍ، لم يَصِلْ اقتراحُها إلى ما جاءت به". [المصدر السابق (2/381)].
لواء الشريعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق