الصفحات

السبت، 5 نوفمبر 2011

خطبة عيد الأضحى المبارك لعام 1432هـ للشيخ عبدالله بن محمد البصري

خطبة عيد الأضحى المبارك لعام 1432هـ

الشيخ عبدالله بن محمد البصري

أَمَّا بَعدُ:
فَأُوصِيكُم - أَيُّهَا النَّاسُ - وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - تَعَالى - وَتَعظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَشَعَائِرِهِ، ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾، ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ ﴾.

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

أُمَّةَ الإِسلامِ:
تَرُوحُ النَّاسُ وَتَغدُو، وَتَجرِي الأُمَمُ يَمنَةً وَيَسرَةً، وَتَذهَبُ المُجتَمَعَاتُ مُشَرِّقَةً وَتَعُودُ مُغَرِّبَةً، يَبحَثُونَ عَمَّا يَضمَنُ لهمُ الأَمنَ في أَوطَانِهِم، وَيَلتَمِسُونَ مَا يَكفَلُ لهمُ العَافِيَةَ في أَبدَانِهِم، وَيَطلُبُونَ حَيَاةَ الرَّخَاءِ وَرَغَدَ العَيشِ وَالرَّفَاهِيَةَ، وَيَحلُمُونَ بِالسَّعَادَةِ وَاستِقرَارِ الحَالِ وَالطُّمَأنِينَةِ، وَوَاللهِ وَتَاللهِ وَبِاللهِ، مَا وَجَدُوا وَلَن يَجِدُوا كَمِثلِ حُكمِ اللهِ، ﴿ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكمًا لِقَومٍ يُوقِنُونَ ﴾.

حُكمُ اللهِ هُوَ الحَقُّ لأَنَّهُ مِن عِندِ الحَقِّ - سُبحَانَهُ -، وَهُوَ العَدلُ لأَنَّهُ مِنَ العَدلِ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - وَهُوَ الرَّحمَةُ وَالحِكمَةُ لأَنَّهُ تَنزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ، حُكمُ اللهِ هُوَ جُنَّةُ النَّاسِ في دُنيَاهُم وَجَنَّتُهُم في أُخرَاهُم، وَبِهِ سَلامَةُ مَبدَئِهِم وَمُنتَهَاهُم، بِهِ يَنَالُونَ حُقُوقَهُم كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، وَبِهِ تُحفَظُ كَرَامَتُهُم وَتَسلَمُ عُقُولُهُم، وَعَلَيهِ يَجتَمِعُونَ عِندَ الاختِلافِ، وَعَنهُ يَصدُرُونَ رَاضِينَ بَعدَ الاحتِكَامِ.

مِن أَجلِ هَذَا تَوَالى إِنزَالُ الكُتُبِ مِنَ السَّمَاءِ إِلى الأَرضِ بِالبَيِّنَاتِ، وَتَتَابَعَ إِرسَالُ الرُّسُلِ مِن عِندِ اللهِ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ، قَالَ - تَعَالى -: ﴿ لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ ﴾، وَقَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحكُمَ بَينَ النَّاسِ فِيمَا اختَلَفُوا فِيهِ وَمَا اختَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعدِ مَا جَاءَتهُمُ البَيِّنَاتُ بَغيًا بَينَهُم فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اختَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذنِهِ وَاللهُ يَهدِي مَن يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ ﴾.

وَقَد خَتَمَ - سُبحَانَهُ - بهذِهِ الأُمَّةِ وَرَسُولِهَا وَجَعَلَهُم شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَجَعَلَ كِتَابَهَم مُصَدِّقًا لما سَبَقَهُ مِنَ الكُتُبِ وَمُهَيمِنًا عَلَيهِ، وَأَمَرَهُم بِالحُكمِ بِهِ وَحَذَّرَهُم مِن تَركِ شَيءٍ مِنهُ اتِّبَاعًا لِلنَّفسِ وَالهَوَى، أَوِ افتَتَانًا بِمَن ضَلَّ وَغَوَى، قَالَ - سُبحَانَهُ - بَعدَ أَن ذَكَرَ إِنزَالَ التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَأَمَرَ أَهلَهُمَا بِالحُكمِ بما فِيهِمَا: ﴿ وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيمِنًا عَلَيهِ فَاحكُمْ بَينَهُم بما أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهوَاءَهُم عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلنَا مِنكُم شِرعَةً وَمِنهَاجًا وَلَو شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِيَبلُوَكُم فِيمَا آتَاكُم فَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ إِلى اللهِ مَرجِعُكُم جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بما كُنتُم فِيهِ تَختَلِفُونَ * وَأَنِ احكُمْ بَينَهُم بما أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهوَاءَهُم وَاحذَرْهُم أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيكَ فَإِن تَوَلَّوا فَاعلَم أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعضِ ذُنُوبِهِم وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ. أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكمًا لِقَومٍ يُوقِنُونَ ﴾.

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
مَهمَا تَنَوَّعَتِ الأُطرُوحَاتُ سِيَاسِيَّةً أَوِ اجتِمَاعِيَّةً، أَوِ تَعَدَّدَتِ الأَفكَارُ اقتِصَادِيَّةً أَو ثَقَافِيَةً، أَو كَثُرَتِ المَنَاهِجُ وَاختَلَفَتِ المَشَارِبُ، أَو تَبَايَنَتِ الوِجهَاتُ وَتَبَاعَدَتِ الغَايَاتُ، فَلا أَحسَنُ مِن حُكمِ اللهِ لِعِبَادِهِ، ﴿ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكمًا لِقَومٍ يُوقِنُونَ ﴾.

نَقُولُ ذَلِكَ مُوقِنِينَ، وَنُعلِنُهُ مُصَدِّقِينَ، وَيَقُولُهُ وَيُعلِنُهُ كُلُّ مُؤمِنٌ مُوقِنٌ، بَل وَقَالَهُ وَصَدَّقَهُ وَاقِعٌ حَيٌّ مُشَاهَدٌ، تَفَجَّرَ عَامَنَا هَذَا لَيسَ في بِلادِ العَرَبِ وَالمُسلِمِينَ فَحَسبُ، بَل حَتى في دُوَلِ الكُفرِ وَبُلدَانِ الإِلحَادِ.

لم يَخلُ مُجتَمَعٌ مِن مُجتَمَعَاتِ الفَردِيَّةِ الرَّأسمَالِيَّةِ، أَوِ القَومِيَّةِ الاشتِرَاكِيَّةِ، وَلم تَبقَ حُكُومَةٌ بَعثِيَّةٌ أَو يَمِينِيَّةٌ أَو يَسَارِيَّةٌ، إِلاَّ وَبُلِيَت هَذَا العَامَ بمن خَرَجَ عَلَيهَا لِيُعلِنَ عَلَى مَرأًى مِنَ العَالمِ فَشَلَ كُلِّ هَذِهِ المَنَاهِجِ الخَارِجَةِ عَن حُكمِ اللهِ.

دُوَلٌ دَامَت في أَحكَامِ القَوَانِينِ الوَضعِيَّةِ عِدَّةَ قُرُونٍ، وَأُخرَى عَانَت مِن تِلكَ الأَحكَامِ وَحُكَّامِهَا عُقُودًا مَتَوَالِيَةً، وَشُعُوبٌ صَبَرَت لِمَا كَانَت تَسمَعُهُ مِن دِعَايَاتٍ إِعلامِيَّةٍ تَهُزُّهَا صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَتَعِدُهَا بِأَنَّ هَذَا هُوَ سَبِيلُ الحُرِّيَّةِ، وَأَنَّ تِلكَ هِيَ طَرِيقُ الوُصُولِ لِلمَدَنِيَّةِ، وَكَانُوا يَحلُمُونَ بِالتَّجدِيدِ وَيَرتَقِبُونَ التَّغيِيرَ، فَمَا وَجَدُوا حُرِّيَّةً وَلا وَصَلُوا إِلى مَدَنِيَّةٍ، وَلَكِنَّهُم تَبَيَّنُوا أَنَّ الحُرِّيَّةَ وَالتَّجدِيدَ مَا هُمَا إِلاَّ سُلَّمَانِ يَرَقَى بِهِمَا أَفرَادٌ مَحدُودُونَ، وَتَصعَدُ عَلَيهِمَا تَنظِيمَاتٌ مُعَيَّنَةٌ، عَلَى أَكتَافِ شُعُوبٍ مَغلُوبَةٍ عَلَى أَمرِهَا، لم تَرَ أَعيُنُهَا رُقِيًّا، وَلا عَاشَت في وَاقِعِهَا تَقَدُّمًا، وَإِنَّمَا هُم يُصَبَّحُونَ بِحُرُوبٍ وَيُمسُونَ عَلَى فِتَنٍ، وَيُوسَعُونَ قَتلاً وَطَردًا وَتَشرِيدًا، في وَاقِعٍ يَشهَدُ أَنَّ أُمَمَ الأَرضِ لم تَزدَدْ مِن تَحكِيمِ غَيرِ شَرعِ اللهِ إِلاَّ شَقَاءً، وَلم تَذُقْ بِالبُعدِ عَنهُ إِلاَّ عَنَتًا وَمَشَقَّةً وعَنَاءً، كَبِيرٌ يَلتَهِمُ الصَّغِيرَ، وَثَرَوَاتٌ تُنتَهَبُ مِن أَفوَاهِ الضُّعَفَاءِ لِتُملأَ بها خَزَائِنُ الأَقوِيَاءِ، وَأَزَمَاتٌ اقتِصَادِيَّةٌ وَانهِيَارَاتٌ مَالِيَةٌ، وَمُشكِلاتٌ اجتِمَاعِيَّةٌ وَأَمرَاضٌ نَفسِيَّةٌ، جُيُوشٌ مُجَهَّزَةٌ بِالآلاتِ لِسَحقِ المُنَادِينَ بِالحَيَاةِ، وَجُنُودٌ مُدَجَّجَةٌ بِالسِّلاحِ لِقَمعِ الغَارِقِينَ الَّذِينَ يَطلُبُونَ النَّجَاةَ.

وَفي مُجتَمَعَاتٍ أُخرَى تَغرِيبٌ وَتَشرِيقٌ، وَمَسخٌ لِلهُوِيَّةِ وَنَسفٌ لِلقِيَمِ، وَتَسوِيقٌ لِلإِلحَادِ وَجَلبٌ لِلفِكرِ الضَّالِّ، تَجفِيفٌ لِمَنَابِعِ الدِّينِ، وَتَشوِيهٌ لِمَعَالِمِ التَّدَيُّنِ، وَدَعَوَاتٌ إِلى التَّحَلُّلِ وَالفَسَادِ، وَمُحَارَبَةٌ لِلسِّترِ وَالحِجَابِ، وَبَوَاقِعُ وَمَصَائِبُ في العَلَنِ وَالخَفَاءِ. وَبِقُدرَةِ قَادِرٍ وَحُكمِ عَزِيزٍ مُقتَدِرٍ، تَثُورُ الشُّعُوبُ الهَادِئَةُ وَتَخرُجُ عَن سُكُونِهَا، وَتُوَاجِهُ الجُيُوشَ بِصُدُورِهَا وَنُحُورِهَا، فَتَتَسَاقَطُ عُقُودُ الإِفسَادِ النَّخِرَةِ، وَتَتَهَاوَى عُرُوشُ الظُّلمِ المُقفِرَةُ، وَتُمحَى سَنَوَاتُ الإِضلالِ المُظلِمَةِ، وَتَتَرَاجَعُ أَحزَابُ التَّبَعِيَّةِ المُتَهَالِكَةُ، وَتَظهَرُ عُيُوبُ الرُّؤَسَاءِ وَيُفتَضَحُ أَمرُ القَادَةِ، وَيَرجِعُ النَّاسُ إِلى هُوِيَّتِهِم الأَصِيلَةِ، فَلا يُصَوِّتُونَ إِلاَّ لِمَن يُرِيدُ العَودَةَ بهم إِلى حُكمِ رَبِّهِم، وَلا يَنقَادُونَ إِلاَّ لِمَن يَرَونَهُ لِذَلِكَ أَهلاً، لا تَصوِيتًا سِيَاسِيًّا لِحِزبٍ بِعَينِهِ، فَقَد مَلُّوا تِلكَ الأَحزَابَ المُتَحَزِّبَةَ، وَلَكِنَّهُ اختِيَارٌ مُعلَنٌ ضَجَّت بِهِ المَيَادِينُ وَالحَدَائِقُ، وَهَتَفَت بِهِ الآلافُ في الطُّرُقَاتِ وَالشَّوَارِعِ، مُتَطَلِّعَةً لِنَهضَةٍ دِينِيَّةٍ صَادِقَةٍ، وَمَشرُوعٍ إِسلامِيٍّ شَامِلٍ، يَستَنقِذُهَا مِن رُكَامِ الحُكُومَاتِ الظَّالِمَةِ، وَيَدفَعُهَا لِبِنَاءِ مُستَقبَلٍ أَكثَرَ عَدلاً وَإِشرَاقًا، وَصَدَقَ المَولى - جَلَّ وَعَلا - إِذْ قَالَ: ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسُ فَيَمكُثُ في الأَرضِ كَذَلِكَ يَضرِبُ اللهُ الأَمثَالَ ﴾.

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
إِنَّ السَّعِيدَ مَن وُعِظَ بِغَيرِهِ، وَالعَاقِلَ مَنِ اعتَبَرَ بِمَن عَدَاهُ، وَالشَّقِيَّ مَن سَعَى لِحَتفِهِ بِظِلفِهِ، أَو عَادَ لِلسُّقُوطِ في حُفَرٍ وَأَوحَالٍ قَد أَنقَذَهُ اللهُ مِنهَا، وَإِنَّ أَهلَ هَذِهِ البِلادِ قَبلَ دَعوَةِ الإِمَامَينِ محمدِ بنِ سُعُودٍ وَمحمدِ بنِ عبدِالوَهَّابِ، كَانُوا عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنَ الفَوضَى وَالفُرقَةِ وَاختِلافِ الرَّأيِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلى الأَعرَافِ القَبَلِيَّةِ وَالرِّضَا بِحُكمِ الجَاهِلِيَّةِ، يَقتُلُ المُسلِمُ أَخَاهُ وَيَسلُبُهُ، وَيَعتَدِي الجَارُ عَلَى جَارِهِ وَيَنهَبُهُ، وَتُزهَقُ الأَروَاحُ تَحتَ رَايَاتِ عُمِّيَّةٍ وَضَلالٍ، في فَقرٍ وَقِلَّةٍ وَجَهلٍ وَعَيلَةٍ، وَبُعدٍ عَنِ العَقلِ وَمُخَالَفَةٍ لِلمَنطِقِ، فَلَمَّا وَفَّقَهُمُ اللهُ وَأَعَانَهُم، فَاجتَمَعُوا عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ وَحَكَّمُوا الشَّرِيعَةَ، عَاشُوا بِبَرَكَتِهَا في أَمنٍ وَرَخَاءٍ، وَرَفرَفَت عَلَيهِمُ السَّعَادَةُ وَأَظَلَّتهُمُ الطُّمَأنِينَةُ، وَاستَقَرُّوا وَالنَّاسُ مِن حَولِهِم يُتَخَطَّفُونَ قَتلاً وَتَشرِيدًا، فَكَانَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيهِم شُكرًا للهِ عَلَى هَذِهِ النِّعمَةِ الجَلِيلَةِ، وَحِفظًا لها عَنِ التَّغَيُّرِ أَوِ الزَّوَالِ، أَن يَعَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ حُكَّامًا وَمَحكُومِينَ، وَيَحفَظُوهَا أَفرَادًا وَمَسؤُولِينَ، وَيَتَمَسَّكُوا بها تَنفِيذًا لِوَصِيَّةِ إِمَامِهِم وَحَبِيبِهِم وَقُدوَتِهِم - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - حِينَ قَالَ: ((تَرَكتُ فِيكُم أَمرَينِ لَن تَضِلُّوا مَا إِن تَمَسَّكتُم بهما: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتي، وَلَن يَتَفَرَّقَا حَتى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوضَ))؛ رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

وَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَيُوجِبُ عَلَى الجَمِيعِ حِفظَ نِعمَةِ الإِيمَانِ وَالحَذرَ مِن كُفرِهَا، وَمُجَانَبَةَ البَاطِلِ وَأَهلِهِ الدَّاعِينَ إِلَيهِ، وَالوُقُوفَ صَفًّا وَاحِدًا ضِدَّ دَعَوَاتِ التَّغرِيبِ المَسعُورَةِ، وَخَاصَّةً تِلكَ المُوَجَّهَةَ لِلمَرأَةِ، بِقَصدِ إِخرَاجِهَا مِن بَيتِهَا الَّذِي هُوَ حِصنُهَا وَمَلاذُهَا، وَإِنزَالِهَا مِن بُرجِ عَفَافِهَا وَسِترِهَا، وَالزَّجِّ بها في مَوَاطِنِ الفِتنَةِ وَالرِّيبَةِ، وَتَعوِيدِهَا الاختِلاطَ وَنَبذَ الحِشمَةِ، وَأَن يَحذَرُوا إِعَانَةَ الظَّالمِينَ أَو مُظَاهَرَةَ المُجرِمِينَ، أَوِ الانخِدَاعَ بما يُرَدِّدُهُ المُرجِفُونَ أَو يَصِمُونَ بِهِ المُؤمِنِينَ، مِن دَعَاوَى التَطَرُّفِ أَوِ الإرهَابِ، أَوِ التَّعَصُّبِ أَوِ الطَّائِفِيَّةِ، أَوِ الانكِفَاءِ عَلَى النَّفسِ وَالانغِلاقِ عَنِ الآخَرِينَ، وَإِنَّمَا كُلُّ هَذِهِ مُصطَلَحَاتٌ مِنَ الكُفَّارِ بَدَأَت وَإِلَيهِم تَعُودُ، وَبِقَوَانِينِهِم تَحيَا وَعَلى أَنظِمَتِهِم تَقُومُ، وَأَمَّا أَهلُ الإِيمَانِ وَالاتِّبَاعِ لِشَرِيعَةِ الرَّحمَنِ، فَهُم أَهلُ الهِدَايَةِ وَالسَّعَادَةِ: ((وَمَن يُؤمِنْ بِاللهِ يَهدِ قَلبَهُ))، ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقَى * وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ وَكَأَيِّن مِن قَريَةٍ عَتَت عَن أَمرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبنَاهَا عَذَابًا نُكرًا * فَذَاقَت وَبَالَ أَمرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمرِهَا خُسرًا * أَعَدَّ اللهُ لَهُم عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولي الأَلبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَد أَنزَلَ اللهُ إِلَيكُم ذِكرًا * رَسُولاً يَتلُو عَلَيكُم آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ وَمَن يُؤمِنْ بِاللهِ وَيَعمَلْ صَالِحًا يُدخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَد أَحسَنَ اللهُ لَهُ رِزقًا * اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرضِ مِثلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمرُ بَينَهُنَّ لِتَعلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَد أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمًا ﴾.

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

الخطبة الثانية

أَمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّكُم في يَومٍ عَظِيمٍ فَعَظِّمُوهُ، وَانظُرُوا هَديَ نَبِيِّكُم وَإِمَامِكُم فَطَبِّقُوهُ، فَقَد قَالَ لَهُ - سُبحَانَهُ - وَقَدِ امتَنَّ عَلَيهِ: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَرْ ﴾.

وَعَنِ البَرَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ: خَطَبَنَا النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَومَ النَّحرِ فَقَالَ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبدَأُ بِهِ في يَومِنَا هَذَا أَن نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرجِعَ فَنَنحَرَ، فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ فَقَد أَصَابَ سُنَّتَنَا...))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

أَلا فَاحمَدُوا اللهَ عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ مِن رَخَاءٍ، وَاشكُرُوهُ عَلَى مَا تَتَقَلَّبُونَ فِيهِ مِن نَعمَاءَ، وَضَحُّوا وَاختَارُوا أَطيَبَ الضَّحَايَا وَأَجمَلَهَا وَأَكمَلَهَا، وَسَمُّوا اللهَ وَكَبِّرُوا، مَن كَانَ مُحسِنًا لِلذَّبحِ فَلْيُبَاشِرْهُ بِنَفسِهِ، وَمَن كَانَ لا يُحسِنُ فَلْيَحضُرْ ذَبِيحَتَهُ، وَكُلُوا مِن ضَحَايَاكُم وَأَهدُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا، وَأَخلِصُوا للهِ وَاطلُبُوا مَا عِندَهُ ؛ فَـ((لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُم)).

وَإِيَّاكُم وَالمَعِيبَةَ بِأَحَدِ أَربَعَةِ عُيُوبٍ، فَقَد قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: ((أَربَعٌ لا يُجزِينَ في الأَضَاحِي: العَورَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالعَرجَاءُ البَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالعَجفَاءُ الَّتي لا تُنقِي))؛ رَوَاهُ أَحمَدُ وَأَصحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ.

وَوَقتُ الذَّبحِ مُمتَدٌّ مِن بَعدِ صَلاةِ العِيدِ إِلى غُرُوبِ شَمسِ اليَومِ الثَّالِثِ مِن أَيَّامِ التَّشرِيقِ، وَيَحرُمُ صِيَامُ هَذِهِ الأَيَّامِ، لأَنَّهَا أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ وَذِكرٍ للهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَكُلُوا وَاشرَبُوا وَعَظِّمُوا شَعَائِرَ اللهِ، وَأَكثِرُوا مِن ذِكرِهِ في أَدبَارِ الصَّلوَاتِ وَفي جَمِيعِ الأَوقَاتِ.

اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
جَمِّلُوا عِيدَكُم بِبِرِّ الوَالِدَينِ وَصِلَةِ الأَرحَامِ، وَزَيِّنُوهُ بِإِفشَاءِ السَّلامِ وَإِطعَامِ الطَّعَامِ، تَصَافَحُوا وَتَصَالَحُوا، وَتَعَانَقُوا وَتَسَامَحُوا، لِينُوا وَتَوَاضَعُوا وَلا تَفَاخَرُوا، أَظهِرُوا الإِحسَانَ وَأَكرِمُوا الجِيرَانَ، وَارحمُوا الفُقَرَاءَ وَوَاسُوا الضُّعَفَاءَ: ((لا تَحَاسَدُوا وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا))، ﴿ وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ﴾، ﴿ وَلْتَكُنْ مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ ﴾.

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَلا تَتَّبِعُوا الشَّهَوَاتِ، وَاجتَنِبُوا المَعَاصِيَ والمُنكَرَاتِ، اِتَّقُوا الشُّبُهَاتِ وَذَرُوا الرِّبَا، وَلا تَقرَبُوا الفَوَاحِشَ وَالزِّنَا، وَخُذُوا عَلَى أَيدِي سُفَهَائِكُم وَاملُكُوا أَمرَ نِسَائِكُم.

وَأَنتُنَّ يَا نِسَاءَ المُسلِمِينَ:
اِتَّقِينَ اللهَ وَتَمَسَّكنَ بما عَلَيهِ أُمَّهَاتُ المُؤمِنِينَ، وَكُنَّ كَنِسَاءِ الأَنصَارِ وَالمُهَاجِرِينَ، أَطِعْنَ الأَزوَاجَ وَرَبِّينَ الأَولادَ وَالزَمْنَ البُيُوتَ، وَإِنِ اضطُرِرتُنَّ لِعَمَلٍ خَارِجَ البَيتِ أَو قَصَدتُنَّ السُّوقَ لِحَاجَةٍ، فَتَزَيَّنَّ بِالحِجَابِ وَالحِشمَةِ، وَلا تَبرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولى، وَاحذَرْنَ مُزَاحَمَةَ الرِّجَالِ وَمُضَايَقَتَهُم، فَقَد نهى عَن ذَلِكَ الحَبِيبُ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إِذْ خَرَجَ مِنَ المَسجِدِ مَرَّةً فَاختَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ في الطَّرِيقِ، فَقَالَ لِلنِّسَاءِ: ((اِستَأخِرْنَ؛ فَإِنَّهُ لَيسَ لَكُنَّ أَن تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيكُنَّ بِحَافَاتِ الطَّرِيقِ)).

أَلا فَكُنَّ كَأُمَّهَاتِكُنَّ، اللاَّتي كَانَت إِحدَاهُنَّ تَلتَصِقُ بِالجِدَارِ حَتى إِنَّ ثَوبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِهِ مِن لُصُوقِهَا، وَجَانِبْنَ مَا عَلَيهِ بَعضُ المُستَرجِلاتِ اليَومَ، ممَّن لا يُبَالِينَ أَن يَلزَمنَ وَسَطَ الطَّرِيقِ وَيَترُكنَ لِلرَّجُلِ حَافَاتِهِ، اِتَّقِينَ اللهَ وَالزَمْنَ الحَيَاءَ، فَإِنَّ الحَيَاءَ لا يَأتي إِلاَّ بِخَيرٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق