نبذة عن الكتاب :
كتاب النظرات :
النظرات (ثلاث جزاء). يضم مجموعة من مقالات في الأدب الاجتماعي، والنقد، والسياسة،
والإسلاميات، وأيضا مجموعة من القصص القصيرة الموضوعة أو المنقولة، جميعها كانت قد
نشرت في جرائد، وقد بدأ كتبات بها منذ العام 1907.
نموذج من إحدى المقالات الأدبية :
الكأس الأولى :
مصطفى لطفي المنفلوطي
النظرات (ثلاث جزاء). يضم مجموعة من مقالات في الأدب الاجتماعي، والنقد، والسياسة،
والإسلاميات، وأيضا مجموعة من القصص القصيرة الموضوعة أو المنقولة، جميعها كانت قد
نشرت في جرائد، وقد بدأ كتبات بها منذ العام 1907.
نموذج من إحدى المقالات الأدبية :
الكأس الأولى :
كان لي صديق أحبه و أحب منه سلامة قلبه و صفاء سريرته و صدقه و وفاءه في حال بعده و قربه , و غضبه و حلمه و سخطه و رضاه , ففرق الدهر بيني و بينه فراق حياة لا فراق ممات , فأنا اليوم أبكيه حيا أكثر مما كنت أبكيه لو كان ميتا , بل أنا لا أبكي الا حياته , و لا أتمنى الا مماته , فهل سمعت بأعجب من هذه الخلة الغريبة في طبائع النفوس !
علقت حبالي بحباله حقبة من الزمن عرفته فيها و عرفني , ثم سلك سبيلا غير سبيله فأنكرته و أنكرني , حتى ما أمر بباله , لأن الكأس التي علق بها لم تدع في قلبه فراغا يسع غيرها و غير العالقين بها , و ربما كان يدفعني في مخيلته دفعا اذا تراءيت فيها لأنه اذا ذكرني ذكر معي تلك الكلمات التي كنت ألقاه بها في فاتحة حياته الجديدة , و ما كان له و هو يهيم في فضاء سعادته التي يتخيلها أن يكدر على نفسه بمثل هذه الذكرى صفاء هذا الخيال .
ثم لم أعد أعلم من أمره بعد ذلك شيئا , لأن حياة المدمنين حياة متشابهة متماثلة , لا فرق بين صبحها و مسائها و أمسها و غدها , ذهاب الى الحانات فشراب , فخمار , فنوم فذهاب , كالحلقة المفرغة , لا يدري أين طرفاها , و المنظر المتكرر لا يلفت النظر و لا يشغل الذهن , حتى ان بعض من ينام على دورة الرحى يستيقظ عند سكونها , و كان أحرى أن يوقظه دورانها .
لذلك لم يشغل هذا المسكين محلا من قلبي الا بعد أن سكنت دورته , و هدأت حركته , فلم أعد أراه معربدا في الحانات , و لا مطرحا في مدراج الطرق , و لا معتقلا في أيدي الشرط . هناك سألت عنه فقيل لي : مريض , فلم أعجب لشيء كنت أعد له الأيام و الأعوام , كما يعد الفلكي الساعات و الدقائق لكسوف الشمس و اصطدام الكواكب .
دخلت عليه أعوده فلم أجد عنده طبيبا و لا عائدا , لأنه فقير , و الأطباء يظهرون الرحمة بالفقراء , و يبطنون حب الصفراء و البيضاء , و الأصدقاء يخافون عدوى المريض و لا يزورون الفقير .
دخلت منزله فلم أجد المنزل ولا صاحبه , لأني لم أجد فيه ذلك الروح العالي الذي كان يرفرف بأجنحته في غرفه و قاعاته , و لم أر دخان المطبخ , و لم أسمع ضوضاء الخدم , و لا بكاء أطفال , و لا رنين الأجراس , فكأنني دخلت القبر أزور الميت , لا المنزل أعود الحي .
ثم تقدمت نحو سرير المريض فكشفت كلته البالية عن خيال لم يبق منه الا اهاب لاصق بعظم ناحل , فقلت : أيها الخيال الشاخص ببصره الى السماء قد كان لي في اهابك هذا صديق محبوب فهل لك أن تدلني عليه ؟ فبعد لأي ما حرك شفتيه و قال : هل أسمع صوت فلان ؟ قلت : نعم , مم تشكو ؟ فزفر زفرة كادت تتساقط لها أضلاعه و أجاب : أشكو الكأس الأولى . قلت : أي كأس تريد ؟ قال : أريد الكأس التي أودعتها مالي و عقلي و صحتي و شرفي , و ها أنا ذا اليوم أودعها حياتي , قلت : قد كنت نصحتك و وعظتك , و أنذرتك بهذا المصير الذي صرت اليه فما أجديت عليك شيئا , قال : ما كنت تعلم أنك حين نصحتني من غوائل هذا العيش النكد أكثر مما أعلم , و لكنني كنت شربتالكأس الأولى فخرج الأمر من يدي .
كل كأس شربتها جنتها علي الكأس الأولى , أما هي فلم يجنها علي غير ضعفي و قصور عقلي عن ادراك الأصدقاء و الخلطاء .
لم تكن شهوة الشراب مركبة في الانسان كبقية الشهوات فيعذر في الانقياد اليها كما يعذر في الانقياد الى غيرها من الشهوات الغريزية , فلا سلطان لها عليه الا بعد أن يتناول الكأس الأولى . فلم يتناولها ؟ يتناولها لأن الخونة و الكذابين من خلانه و عشرائه خدعوه عن نفسه في أمرها ليستكملوا بانضمامه اليهم لذتهم التي لا تتم غير بقراع الكؤوس و ضوضاء الاجتماع . و لو علمت كيف خدعوه و زينوا له الخروج عن طبعه و مألوفه , و أي ذريعة تذرعوا بها الى ذلك , لتحققت أنه أبله الى النهاية من البلاهة , و ضعيف الى الغاية التي ليس وراءها غاية .
أنا ذلك الأبله و ذلك الضعيف , فاسمع كيف خدعني الأصدقاء , و زينوا لي ما يزينه الشيطان للانسان .
قالوا : ان حياتك حياة هموم و أكدار , و لا دواء لهذه الأدواء الا الشراب , و قالوا : ان الشراب يزيد في رونق الجسم , و يبعث نشاطه , و أنه يفتق اللسان و يعلم الانسان البيان , و أنه يشجع الجبان , و يبعث في القلب الجرأة و الاقدام , هذا ما سمعته فصدقته و خدعت به .
صدقت أن في الشراب أربع مزايا : السعادة , و الصحة , و الفصاحة , و الاقدام .. فوجدت فيه أربع رزايا : الفقر , و المرض , و السقوط , و الجنون .
غرهم من الصحة ذلك اللون الأحمر , الذي يتركه الشراب وراءه في الأعضاء . و هو يتغلغل في الأحشاء , و من الفصاحة الهذر و الهذيان , و هجر القول و بذاءة اللسان , و من الاقدام العربدة التي لا تسكن الا في غرفة السجن , و من السعادة اللحظات القليلة التي يغشى فيها على عقل الشارب فيعمى عن رؤية ما يحيط به من الأشياء كما هي , فتنعكس في نظره الحقائق حتى يتخيل الشتم طرفة و الصفع تحية , فيضحكه من ذلك ما يضحك الأطفال و الممرورين .
أي سرور لمن يعيش في منزل لا يزور الابتسام ثغرا من ثغور ساكنيه ؟ أي سرور لمن يودعه أهله كل يوم في صباحه بالحسرات , و يستقبلونه في مسائه بالزفرات ؟ أي سعادة لمن يمشي دائما في طريقه ملتويا متخلجا يتسرب في المنعطفات و الأزقة , و يعوذ بألواذ الجدر والأسوار فرارا من نظرات الجزار , و تهكمات العطار , و صرخات الخمار .
و لقد كنت أرى هؤلاء الأشقياء في فاتحة حياتي التعسة فكان يمر بخاطري ما يمر بخاطر أمثالي من أنهم قتلى الادمان لا قتلى الشراب , و كنت أقدر لنفسي القصد فيه ان قدر لي في أمره شيء حتى لا أبلغ مبلغهم , و لا أنزل منزلتهم , فلما شربت أخطأت العد , و ضاع الحساب , و فسد التدبير , و اختلف التقدير , و غلبت على أمري كما يغلب على أمره كل مخدوع بمثل ما خدعت به , و لولا الكأس الأولى ما هلكت , و لا شكوت الذي شكوت , ولولاها ما عافني الأصدقاء و لا زهد فيّ الأقرباء , فكن أنت وحدك صديق السراء و الضراء.
فعاهدته على ذلك , ثم تركته في حالة :
تصم السميع و تعمي البصير…………….. و يسأل من مثلها العافية..
علقت حبالي بحباله حقبة من الزمن عرفته فيها و عرفني , ثم سلك سبيلا غير سبيله فأنكرته و أنكرني , حتى ما أمر بباله , لأن الكأس التي علق بها لم تدع في قلبه فراغا يسع غيرها و غير العالقين بها , و ربما كان يدفعني في مخيلته دفعا اذا تراءيت فيها لأنه اذا ذكرني ذكر معي تلك الكلمات التي كنت ألقاه بها في فاتحة حياته الجديدة , و ما كان له و هو يهيم في فضاء سعادته التي يتخيلها أن يكدر على نفسه بمثل هذه الذكرى صفاء هذا الخيال .
ثم لم أعد أعلم من أمره بعد ذلك شيئا , لأن حياة المدمنين حياة متشابهة متماثلة , لا فرق بين صبحها و مسائها و أمسها و غدها , ذهاب الى الحانات فشراب , فخمار , فنوم فذهاب , كالحلقة المفرغة , لا يدري أين طرفاها , و المنظر المتكرر لا يلفت النظر و لا يشغل الذهن , حتى ان بعض من ينام على دورة الرحى يستيقظ عند سكونها , و كان أحرى أن يوقظه دورانها .
لذلك لم يشغل هذا المسكين محلا من قلبي الا بعد أن سكنت دورته , و هدأت حركته , فلم أعد أراه معربدا في الحانات , و لا مطرحا في مدراج الطرق , و لا معتقلا في أيدي الشرط . هناك سألت عنه فقيل لي : مريض , فلم أعجب لشيء كنت أعد له الأيام و الأعوام , كما يعد الفلكي الساعات و الدقائق لكسوف الشمس و اصطدام الكواكب .
دخلت عليه أعوده فلم أجد عنده طبيبا و لا عائدا , لأنه فقير , و الأطباء يظهرون الرحمة بالفقراء , و يبطنون حب الصفراء و البيضاء , و الأصدقاء يخافون عدوى المريض و لا يزورون الفقير .
دخلت منزله فلم أجد المنزل ولا صاحبه , لأني لم أجد فيه ذلك الروح العالي الذي كان يرفرف بأجنحته في غرفه و قاعاته , و لم أر دخان المطبخ , و لم أسمع ضوضاء الخدم , و لا بكاء أطفال , و لا رنين الأجراس , فكأنني دخلت القبر أزور الميت , لا المنزل أعود الحي .
ثم تقدمت نحو سرير المريض فكشفت كلته البالية عن خيال لم يبق منه الا اهاب لاصق بعظم ناحل , فقلت : أيها الخيال الشاخص ببصره الى السماء قد كان لي في اهابك هذا صديق محبوب فهل لك أن تدلني عليه ؟ فبعد لأي ما حرك شفتيه و قال : هل أسمع صوت فلان ؟ قلت : نعم , مم تشكو ؟ فزفر زفرة كادت تتساقط لها أضلاعه و أجاب : أشكو الكأس الأولى . قلت : أي كأس تريد ؟ قال : أريد الكأس التي أودعتها مالي و عقلي و صحتي و شرفي , و ها أنا ذا اليوم أودعها حياتي , قلت : قد كنت نصحتك و وعظتك , و أنذرتك بهذا المصير الذي صرت اليه فما أجديت عليك شيئا , قال : ما كنت تعلم أنك حين نصحتني من غوائل هذا العيش النكد أكثر مما أعلم , و لكنني كنت شربتالكأس الأولى فخرج الأمر من يدي .
كل كأس شربتها جنتها علي الكأس الأولى , أما هي فلم يجنها علي غير ضعفي و قصور عقلي عن ادراك الأصدقاء و الخلطاء .
لم تكن شهوة الشراب مركبة في الانسان كبقية الشهوات فيعذر في الانقياد اليها كما يعذر في الانقياد الى غيرها من الشهوات الغريزية , فلا سلطان لها عليه الا بعد أن يتناول الكأس الأولى . فلم يتناولها ؟ يتناولها لأن الخونة و الكذابين من خلانه و عشرائه خدعوه عن نفسه في أمرها ليستكملوا بانضمامه اليهم لذتهم التي لا تتم غير بقراع الكؤوس و ضوضاء الاجتماع . و لو علمت كيف خدعوه و زينوا له الخروج عن طبعه و مألوفه , و أي ذريعة تذرعوا بها الى ذلك , لتحققت أنه أبله الى النهاية من البلاهة , و ضعيف الى الغاية التي ليس وراءها غاية .
أنا ذلك الأبله و ذلك الضعيف , فاسمع كيف خدعني الأصدقاء , و زينوا لي ما يزينه الشيطان للانسان .
قالوا : ان حياتك حياة هموم و أكدار , و لا دواء لهذه الأدواء الا الشراب , و قالوا : ان الشراب يزيد في رونق الجسم , و يبعث نشاطه , و أنه يفتق اللسان و يعلم الانسان البيان , و أنه يشجع الجبان , و يبعث في القلب الجرأة و الاقدام , هذا ما سمعته فصدقته و خدعت به .
صدقت أن في الشراب أربع مزايا : السعادة , و الصحة , و الفصاحة , و الاقدام .. فوجدت فيه أربع رزايا : الفقر , و المرض , و السقوط , و الجنون .
غرهم من الصحة ذلك اللون الأحمر , الذي يتركه الشراب وراءه في الأعضاء . و هو يتغلغل في الأحشاء , و من الفصاحة الهذر و الهذيان , و هجر القول و بذاءة اللسان , و من الاقدام العربدة التي لا تسكن الا في غرفة السجن , و من السعادة اللحظات القليلة التي يغشى فيها على عقل الشارب فيعمى عن رؤية ما يحيط به من الأشياء كما هي , فتنعكس في نظره الحقائق حتى يتخيل الشتم طرفة و الصفع تحية , فيضحكه من ذلك ما يضحك الأطفال و الممرورين .
أي سرور لمن يعيش في منزل لا يزور الابتسام ثغرا من ثغور ساكنيه ؟ أي سرور لمن يودعه أهله كل يوم في صباحه بالحسرات , و يستقبلونه في مسائه بالزفرات ؟ أي سعادة لمن يمشي دائما في طريقه ملتويا متخلجا يتسرب في المنعطفات و الأزقة , و يعوذ بألواذ الجدر والأسوار فرارا من نظرات الجزار , و تهكمات العطار , و صرخات الخمار .
و لقد كنت أرى هؤلاء الأشقياء في فاتحة حياتي التعسة فكان يمر بخاطري ما يمر بخاطر أمثالي من أنهم قتلى الادمان لا قتلى الشراب , و كنت أقدر لنفسي القصد فيه ان قدر لي في أمره شيء حتى لا أبلغ مبلغهم , و لا أنزل منزلتهم , فلما شربت أخطأت العد , و ضاع الحساب , و فسد التدبير , و اختلف التقدير , و غلبت على أمري كما يغلب على أمره كل مخدوع بمثل ما خدعت به , و لولا الكأس الأولى ما هلكت , و لا شكوت الذي شكوت , ولولاها ما عافني الأصدقاء و لا زهد فيّ الأقرباء , فكن أنت وحدك صديق السراء و الضراء.
فعاهدته على ذلك , ثم تركته في حالة :
تصم السميع و تعمي البصير…………….. و يسأل من مثلها العافية..
مصطفى لطفي المنفلوطي
روابط مباشرة للكتاب :
المجلد الأول :
http://www.archive.org/download/Manfloty/01.pdf
http://www.archive.org/download/Manfloty/01.pdf
المجلد الثاني :
رابط اخر من موقع فور شيرد :
رابط اخر من ميديا فاير :