في مثل هذا اليوم من العام الماضي، وهو اليوم الذي أطلق ليكون عنوانا خالدا للثورة المصرية، بدأت الأحداث الفعلية لثورة 25 يناير، بخروج جزء ضئيل من شباب مصر للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ثم تحولت في غضون ثلاثة أيام فقط إلى ثورة شعبية عارمة، حيث مثلت عفوية هذه الانطلاقة الشبابية غير المخططة نقطة إيجابية كبرى، حاذت تعاطف قطاعات مختلفة من الشعب المصري؛ فأخذ العدد وقوة الدفع في التزايد التلقائي، حتى أصبحنا أمام ثورة شعبية مكتملة الأركان بمعنى الكلمة.
وقد استطاعت المجموعات الشبابية الثورية أن تنقل أنشطتها التكنولوجية"الافتراضية" التي تستخدم أحدث أدوات التواصل الاجتماعي الإلكتروني، إلى ثورةواقعية أسقطت نظام مبارك في غضون 18 يوما، حتى أضحت ثورة 25 يناير هي أكبر ثورة شعبية في عصر ما بعد الإنترنت والفضائيات.
وكان الطريق إلى الثورة ممهدا بأبعد مما تخيل نظام مبارك وكل رموز حكمه، حيث مر طريق إلى 25 يناير بحلقات متواصلة من الكفاح، ابتداء من حركة كفاية في عام 2004، والتي كانت أول من طالب بإسقاط نظام مبارك والتغيير من أجل الإصلاح، ثم تلا ذلك تحركات المدونين والنشطاء الشباب في عامي 2006 و2007، والتي تمكنت من التواصل مع الإضرابات العمالية والاحتجاجات الفئوية، ثم تكونت حركة شباب 6 إبريل في عام 2008 بعد الدعوة للإضراب العام تضامنا مع إضراب عمال غزل المحلة، ثم تبع ذلك عدد من الوقفات الاحتجاجية العمالية وغيرها أمام مجلس الشعب خلال عامي 2009 و2010.
وقد تلاقت ممارسات ومطالبات هذه الحركات الشبابية مع مزاج المصري العادي الذي سئم من الاستبداد وسوء توزيع الدخل والفقر والفساد وتزوير الانتخابات وثبات الوجوه الحاكمة، بل وتوريث الحكم، الذي كان القشة التي قصمت أخيرا ظهر النظام السابق بأكمله.
ويرجع هذا التلاقي، وفقا لرأي الدكتور هبه رؤوف عزت، مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، إلى أن هذا الفعل السياسي الجديد الذي لم يعد محصورا على نخبة أو قيادات الرأي العام أو صفوف المعارضة، قد تمكن من أن يكون له حضور قوي خارج إطار الروابط الأيديولوجية والتنظيمية، متمتعا بمرونة في الفعل والقدرة على تغيير الاستراتيجيات، ومرسلا إشارات إلى عامة الناس أو الفضاء العام، عبر المساحة الاحتجاجية التي انضم إليها آخرون، ليتسع بمرور الوقت مدى وتأثير هذه الحركات الشبابية، حتى جاءت ثورة 25 يناير، لتتحول الأفعال البسيطة في المساحة الاجتماعية في صورتها المباشرة، أي الشارع.
من هنا اتسعت رقعة الحركات الشعبية الاحتجاجية التي قام بها عمال المصانع وموظفو الإدارات والوزارات وطوائف مختلفة في انحاء المدن المصرية على مدى السنوات السابقة على الثورة.
وتقدر حركات الاحتجاج والاعتصامات والتجمعات بالمئات، تراوحت في مطالبها بين المطالب الاقتصادية المتعلقة بالأجور وحقوق العمال، وبين المطالب السياسية المتعلقة بالحريات والإفراج عن المعتقلين، أو بمطالب فئوية أخرى ، حتى بدت ثقافة الخروج والتجمع والاحتجاج منتشرة وشبه مستمرة، لكنها كانت متناثرة ومعزولة بعضها عن البعض في أغلب الأحيان.
ولذا لم يكن عجيبا أن يتحول حراك شباب الشرائح الوسطى الذين شكلوا الفاعل الرئيسي للثورة إلى كافة شرائح المجتمع الأخرى، إذ شهد ميدان التحرير منذ يوم 28 يناير (جمعة الغضب) تنوعا كبيرا في الخفليات الاجتماعية والعمرية للمعتصمين في الميدان.
كما انضم موظفو القطاع العام والهيئات الحكومية والعمال، وهؤلاء ينتمون في أحسن الأحوال إلى الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، إلى المتظاهرين والمعتصمين في كافة ميادين مصر، وتوحدت بشكل تلقائي المطالب الشعبية حول قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية.
أخذ الحراك الشبابي والسياسي والاجتماعي زخما كبيرا في الأعوام الثلاثة السابقة على الثورة، حتى قادت كثرة المطالب الفئوية وحادثة مقتل خالد سعيد على يد رجال أمن الدولة في عام 2010 إلى تكوين العديد من المجموعات الشبابية التي تتنوع في أساليب التحرك والدعوة لإسقاط نظام مبارك وإحداث التغيير المنشود.
وبدا أن عدم استجابة النظام لكافة هذه التحركات السلمية توشك أن تفجر المجتمع المصري، وخاصة بعد انتخابات مجلس الشعب في نفس العام ثم تفجير كنيسة القديسيين في الأول من يناير 2011، علاوة على نجاح الثورة التونسية ؛ وهو ما جعل من تحرك الشباب في يوم 25 يناير الذي كان موجها ضد وزارة الداخلية حدثا استثنائيا أدى إلى ما هو أضخم، أي الثورة الشعبية.
لقد تشكلت إذن عشية ثورة 25 يناير ما يعرف بـ "الحركات اللاجتماعية" التي لها ديناميكات قوية على التحرك في الفضاء العام والإلكتروني، وظهر أن ثمة حركات افتراضية تحاول التحرك على أرض الواقع، ممثلة بالحركات الشبابية من خارج الأحزاب والقوى السياسية التقليدية.
وفي المقابل برزت على الأرض حركات مطالب مماثلة تحركت لنيل حقوقها؛ مما أسفر عن تشكل فاعلين غير جمعيين لهم قدرة وديناميكية مختلفة على القيام بفعل استباقي يربك حسابات قوات الأمن ومنظري النظام السياسي لمبارك.
وتتسم هذه الحركات اللاجتماعية بأربع سمات أساسية، أولها أنها عبارة عن ممارسات يشترك في القيام بها أعداد كبيرة من الأفراد العاديين دون اتفاق فيما بينهم..
أما السمة الثانية فهي أنه ينتج عن نشاطاتهم تغييرا اجتماعيا ما، بحيث يبدو نمط تشابه الممارسات وكأنه يسلك منحى التغيير غير المرئي حتى يتحول لفعل واقعي وفقا لاستجابة النظام الحاكم. وتبدو السمة الثالثة في أن مثل هذه الحركات لا تجمعها أيديولوجية معينة، بل تتعدد مشاربها ومستوياتها الاجتماعية والتعليمية والسياسية أيضا، فيما تبدو السمة الرابعة في افتقاد مثل هذه الحركات لإطار تنظيمي واضح أو قيادات معروفة، لكنهم يتحركون بصورة تلقائية ويستجيبون للواقع وفق المتغيرات على الأرض.
وتتنوع الحركات الشبابية المصرية التي قامت بتعبئة الشباب المصري خلال الثورة، وهو ما يعبر عن قدر هائل من الحيوية والنشاط التي تتمتع به الأجيال المصرية الجديدة... أجيال استطاعت الجمع بمهارة نادرة بين العالم الافتراضي وبين العالم الحقيقي، حتى نجحت حركاتهم في حشد المصريين من جميع الأعمار والخلفيات والمستويات.
وفي الذكرى الأولى لانطلاق شرارة ثورة 25 يناير، لابد من استذكار أبرز المجموعات الرئيسية التي دعت وشاركت بقوة في فعاليات يوم 25 يناير باعتباره أول أيام الثورة، كما رصدها أحمد تهامي عبد الحي الباحث المصري المتخصص في الحراك الحيلي والشبابي في مصر، وهي: "حركة 6 إبريل" و "مجموعة كلنا خالد سعيد" و"شباب الإخوان" و"معا سنغير" (حملة دعم الدكتور محمد البرادعي)، وحركة شباب من أجل العدالة والحرية (حنغير)، وشباب كل من حزبي الجبهة الديمقراطية والغد..وقد التحق بهؤلاء العديد من الحركات الشبابية الأخرى تفاعلا مع التطورات على الأرض، مثل اتحاد شباب التجمع والناصري، وحركة شعبية ديمقراطية للتغيير (حشد)، وشباب حزبي العمل والوفد وجبهة الشباب القبطي.
ومع أن هذه المجموعات غير متجانسة فكريا، لكنها تمتلك مهارات التعامل مع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي الحديثة، إلى جانب الروح الوطنية والإصرار على الإنجاز والتمسك بحلم النهضة المصرية؛ فقد نجحوا في تطوير قدراتهم التنظيمية والحركية وقاموا بتطوير وعيهم السياسي والثقافي خارج الأطر التقليدية لمؤسسات
التنشئة السياسية القائمة في مصر، وفاجئوا الجيل القديم والقوى السياسية التقليدية وجميع المراقبين بقدرتهم على إحداث هذه الثورة المصرية العظيمة.
أخيرا..لقد أثبت شباب مصر أنه قادر على التغيير مهما كانت ضخامة المعوقات ومهما كانت التضحية ومهما كانت جهود الحكام والنظم في قمع الحركات المعارضة، وأثبتوا أنهم قادرون على الفعل حينما تعجز المؤسسات والتنظيمات والقوى السياسية القائمة عن تحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية الوطنية، أو تروم بعيدا عن متطلبات واحتياجات عامة الشعب.
محيط