هذا كتاب ( حماة مأساة العصر ) ، أحد أهم الكتب التي تبين جرائم وفظائع النظام النصيري في سوريا ، منذ أوائل الثمانينيات ، رفعناه نصرة لإخواننا في سوريا ، ومساهمة بسيطة في ثورتهم
يعد هذا الكتاب وثيقة هامة على ما حدث في مجزرة حماه. مع تحفظي الشديد على النبرة الطائفية الطاغية عليه . ننشره هنا ليس لنبش الماضي ولكن لنذكر بأن هذا النظام لن يتردد في إرتكاب المجازر ضد شعبه للحفاظ على مصالحه.
قد يكون إستقرار سوريا كلها بين أيدي أهل حماه. فإما أن يجروا البلاد معهم إلى دوامة الحرب الأهليه, فيحققوا تماماً ما يريده النظام، وينقلبوا من مظلومين إلى ظالمين! أو أن يعضوا على جراحهم ويسموا عن مشاعر الإنتقام المتخلفة، لمصلحة سوريا كلها
و من يراجع تاريخ حماه يعرف تماماً أن خيارهم الأوحد هو الوحدة الوطنية....
قد يكون إستقرار سوريا كلها بين أيدي أهل حماه. فإما أن يجروا البلاد معهم إلى دوامة الحرب الأهليه, فيحققوا تماماً ما يريده النظام، وينقلبوا من مظلومين إلى ظالمين! أو أن يعضوا على جراحهم ويسموا عن مشاعر الإنتقام المتخلفة، لمصلحة سوريا كلها
و من يراجع تاريخ حماه يعرف تماماً أن خيارهم الأوحد هو الوحدة الوطنية....
إحدي بطولات الجيش النصيري الشيعي(الممانع) في سورية إنتصر فيها على المدنيين العزل
في الحقيقة إن مأساة حماة أحد المؤشرات على فساد طوية النظام بأسره، ففي سورية اليوم يستحيل على مواطن شريف يخشى الله تعالى ويعرفه أن يصل إلى موقع في هرم السلطة، بل إن الوصول إلى المسؤولية في سورية لا يكون إلا عن طريق الفجور أو الكفر أو الردة أو التطاول على قيم الأمة وتراثها. وهناك بعض الحزبيين في القمة يعلمون هذه الحقيقة في سورية، وبينهم وبين المعارضة حوار وتعاون. إن حالتهم مضنية لا يجرؤ أن يصلي الواحد منهم، بل إن بعضهم يعلن إفطاره في رمضان حتى يبقى في السلطة، ليثبت بأنه جدير بتسلم المسؤولية في نظام حافظ أسد.
بسم الله الرحمن الرحيم
- هل حصل هذا في القرن العشرين؟
- لماذا لم نسمع به في حينه، في شباط (فبراير) 1982؟
- لماذا لم ينشر مثل هذا الكتاب إلا بعد مرور سنة على المأساة؟
إن هذا الكتاب يجيب على هذه التساؤلات وعلى أسئلة أخرى من خلال عرضه تفاصيل مأساة حماة التي اقترفها حاكم سورية حافظ أسد طوال شهر شباط (فبراير) 1982 عن سابق عمد وإصرار. وسوف يطالع القارئ في المقدمات إرهاصات المأساة. كما يطالع في النهاية النتائج المترتبة عليها.
ما حدث في حماة يمكن أن نسميه "مأساة العصر"
لقد قرأ الناس وسمعوا كثيراً عن الأحداث الفاجعة المماثلة في العصر الحديث. لكنهم لم يعايشوا كتلك المأساة دلالة وعمقاً.
لقد قرأوا عما جرى في بعض المدن الألمانية بعد الحرب، عندما اجتاحها المحتلون، وعن عدد من الحروب الأهلية المشهورة في العالم.. لقد حدثت مآسٍ كثيرة في العالم –خصوصاً في العالم الثالث- لكن لم يسمعوا ولم يعرفوا مأساة كمأساة حماة.
يجب ألا ننسى أن حماة وقفت في وجه الغزاة الصليبيين والدخلاء، ولذلك اتخذها ملوك الأيوبيين عاصمة أولى لهم، وحينما اقتربت جحافل الصليبيين من المدن الرئيسة في بلاد الشام. لم تستطع هذه الجحافل أن تقترب من هذه المدينة.
وفي عهد الانتداب الفرنسي ظلت حماة شوكة في حلق الفرنسيين. واستمرت –ربع قرن- وهي تصارعهم وتقارعهم وتقاومهم، وعاقبت فرنسا حماة، فحرمتها من كل أسباب التطور ومقومات التنمية، وتركتها مدينة ريفية زراعية. حرمتها من إنشاء المؤسسات على أرضها ومن دخولها عصر الصناعة، ومع ذلك ما ازداد شعب حماة إلا قوة في الشكيمة.
وهكذا لم يكن غريباً أن يجد النظام البعثي الحالي في حماة عقبة أمامه، وأمام المؤامرة التي جاء لتنفيذها على أرض سورية لكي يلغي دورها الرئيس في الشرق الأوسط. وكما قال كوبلاند في كتابه (لعبة الأمم)، وكما قال أمثاله: إن سورية تشكل مصدر تعب للإمبراطورية الأمريكية. كانت ترفض المساعدات الأجنبية والدخول في الأحلاف، وكانت دائماً تناصر الشعوب المظلومة، وكانت دائماً تقدم المساعدة للأشقاء لينالوا استقلالهم. ولذلك كان كوبلاند وغيره من مفكري المخابرات الغربية ومنظريها، يحاولون تعطيل هذا الدور، مجربين كل الوسائل: الانقلابات العسكرية، والاعتماد على العملاء: (الشخصيات) القيادية حيناً والعملاء المستترين حيناً آخر. فلم يفلحوا، ثم أخيراًَ جاءوا بهذا الحكم ليقوم بإنهاء دور سورية التقليدي.
ولما كانت حماة تشكل عقبة، في وجه هذا المخطط الرهيب، كان منطقياً ما قالته التقارير المتسربة عن مؤسسات النظام السوري العليا من أن حافظ أسد وطغمته يبيتون شراً لهذه المدينة. يريدون إعادة النظر بتركيبها السكاني والديني والاجتماعي، وبذلك يتخلصون من معارضة هذه المدينة، ويؤدبون بها سائر المحافظات السورية، كما يظنون! وفي هذا الكتاب سوف يطالع القارئ مضمون القرار الإداري الذي أصدره المجلس الأمني الأعلى –قبل المأساة بشهرين- القاضي بإطلاق يد رفعت شقيق حافظ وشريكه، بحيث يكون مسؤولاً عن الحكم العرفي، وتسليمه /12/ ألف عنصر من سرايا الدفاع لشن حملة على مدن الشمال "لتطهيرها" من المعارضين، وعلى أساس اعتبار مدينة "حماة" منطقة عمليات أولى، وقالوا له: يمكنك أن تقتل خمسة آلاف من دون أن ترجع إلى موافقة أحد، وحددوا له حوالي مئة أسرة يمكن أن يبيدها، وسمحوا له بالقتل الكيفي والعشوائي، الذي لم يكن شيئاً جديداً في مسلكه، لكنه في هذه المرة أخذ شكل قرار.
سوف يلحظ القارئ أن السلطة كانت تبيت الشر لهذه المدينة منذ أكثر من عامين على المأساة، وقد أسفرت النيات البشعة عن وجهها عبر "عمليات التمشيط" وهي اسم مخفف لكلمة انتهاك حرمات المدن والبيوت والأسر الكريمة.
قبل عامين من مأساة شباط (فبراير) –سوف يلحظ القارئ- أن السلطة أطلقت أيدي رجالها وزبانيتها في هذه المدينة ليعيثوا فيها فساداً، تعتدي على كرامات الرجال، وتنهش من كرامة النساء، بل لم تتورع عن الاعتداء على الأطفال وقتلهم.
إن القارئ الحصيف لا يغيب عنه مدلول التعديلات التي أجراها حافظ أسد على قانون العقوبات السوري الذي كان ينص على السجن شهراً لمن يحمل بندقية بلا ترخيص، فحافظ أسد رفع العقوبة من شهر إلى خمس سنوات، ثم رفعها في مرسوم جديد ليجعل منها عشرين عاماً أو الإعدام ليجرد الشعب من كل أسباب المقاومة.
ولن يغيب على القارئ التعتيم الإعلامي الذي مارسه حافظ أسد على أحداث حماة ليستفرد بها من دون المحافظات والرأي العام، وسوف تتضح صورة المؤامرة حين يطالع القارئ حجم قوات الأمن القمعية التي كانت مرابطة في المدينة آنذاك (المخابرات العسكرية –مخابرات أمن الدولة- الشعبة السياسية) وإقامة اللواء /47/ المدرع في ضاحية المدينة، وترك اللواء /21/ الميكانيكي ثالث يوم الأحداث للتدخل وتعزيز قوات السلطة وميليشياتها باستمرار وعلى وجه السرعة، مع العلم أن اللواء /21/ جزء من الفرقة الثالثة التي مشطت مدينة حلب وعاثت فيها فساداً عام 1980، وأن سرايا الدفاع التي فوضت في أمر المدينة قبل الأحداث وخلالها كانت بقيادة المقدم الطائفي علي ديب أحد الضباط الذين نفذوا مجزرة تدمر الكبرى في حزيران (يونيو) 1980.
قبل شهرين من أحداث شباط (فبراير) كان أهل حماة يقولون: نحن في كل يوم نموت، أو يموت قسم من المدينة.. فإلى متى؟
كان البيت الواحد يفتش أكثر من عشر مرات. لا يكاد جنود هولاكو يخرجون حتى يدخلوا إليه مرة أخرى. على أن أكثر ما حز في نفس المدينة هو الاعتداء على كرامات الناس. فما وجد رجل ذو مكانة أو ذو علم أو سن إلا ولحقته الإهانة، ولم تسلم امرأة في البيوت التي اقتحموها من تصرفهم النابي، أو تصرفاتهم الشائنة. كان الطفل يقتل أمام والديه في كثير من الأحيان. وآخر ما ابتكروه أنه عندما يأتيهم المخبر ليقول لهم: "رأيت رجلاً دخل هذه العمارة، ولم يخرج منها" فإنهم كانوا يقتحمون بيوت العمارة فإذا ما فتشوها ولم يجدوه هدموها على من فيها. وقد قضي على عائلات بريئة كثيرة. في الوقت الذي كان فيه حافظ أسد يتكلم عن الهدوء في سورية، وعن أنه قضى على العصابة أي –الإخوان المسلمين- والمعارضة.
إن أكثر من عشر دول عربية تمثل 75% من سكان الوطن العربي ومن مسؤولين مباشرين يقولون: نحن نعلم كثيراً مما يحدث لشعب سورية من مآس ولدينا التفاصيل.
ومع ذلك يحتال حافظ أسد على هذه الدول، ويتلاعب بعلاقاته معها، ويبتز منها برقيات المجاملة ونفقات ما يسمى (الردع) أو (الصمود والتصدي) بالمليارات. ليصبها حمماً على شعب سورية والأشقاء الفلسطينيين واللبنانيين. أو يتخم بها أرصدته وأرصدة عصابة (المافيا) التي تحكم سورية.
سوف يلحظ القارئ أن شعب حماة وجد نفسه أمام مخطط منظم للإفناء، وأنه شعر بالوصول إلى طريق مسدود، فهب الناس في ليل –لدى الضربة الأولى- بما لديهم من سلاح، وبما انتزعوه من سلاح هؤلاء المعربدين المعتدين. ووقعت الواقعة بين السلطة وبين شعب المدينة بكل طوائفه وفئاته وشبابه وشيبه وأطفاله ونسائه دفاعاً عن العرض والدم والكرامة. كان المسيحيون مع المسلمين سواء بسواء، ولقد سجل المسيحيون في سورية نقطة مضيئة سيكون لها أعظم الأثر في مستقبل سورية والمنطقة، في التلاحم الحقيقي، وفي أحرج الظروف.
إن المسيحيين حول حماة كانوا كذلك كرماء، وكانوا أصحاب نخوة في نجدة المنكوبين حينما بدأت راجمات الصواريخ والمدفعية الثقيلة تحصدهم في أحياء حماة، وتجبرهم على البحث عن الملاذ في الضواحي.
وفي هذا الكتاب سوف يجد القارئ جواباً عن موقف الجيش من هذه المأساة وأمثالها من ممارسات أسد.
إن الجيش السوري يعاني ما تعاني منه فئات الشعب، فقد حُوِّلَ عن مهمته الأساسية في حماية الوطن وحدوده، إلى وسيلة قمع، كما أن التصفيات فيه لم تتوقف قط، وهذا يدل على أن المعارضة فيه لم تتوقف، ولا يبدو أنه يمكن أن تتوقف.
لقد أراد حافظ أسد أن يجعل مفاصل هذا الجيش في أيدي الذين يعاونونه طائفياً في حكم سورية. والانتفاضات على هذه الممارسات تتجدد. ففي كانون الثاني عام 1982 –أي قبل أحداث حماة بقليل- أعدم /50/ ضابطاً، وقد غطى النظام سلسلة الإعدامات باختراع محاولة انقلاب، والواقع أن العملية كلها كانت لإبعاد الضباط المشكوك في ولائهم عن الجيش.
معاناة الجيش السوري مضاعفة فهو يعاني الأزمة نفسها التي يعاني منها الشعب السوري بجميع معالمها: تمييز على أساس طائفي، اضطهاد لكل صاحب صوت حر. إهانة الكرامات الفردية بلا موجب أو سبب، واضطهاد كيفي يصل إلى حد الجرائم. وهو في الوقت نفسه يستخدم لقتل شعبه أو قتل أبناء الشعوب الشقيقة المجاورة كالشعبين الفلسطيني واللبناني.
الجيش السوري سيبقى أملاً في نظر شعبه ليشارك في حسم الموقف في ساعة من الساعات الفاصلة، وعلى الرغم من كل التصفيات وكل الجروح التي أصابته، سيبقى جيشاً وطنياً ينفض عن نفسه هذا العار، ويمسحه عن جبين الشعب، ويتلاحم معه ليستأنف الشعب في سورية دوره المعروف في المنطقة، وليتمكن من مواجهة أعدائها، والمشاركة في النهوض بأعبائها.
هذه نظرة الشعب إلى الجيش. وهكذا كانت وما تزال والأمل يزداد فيه يوماً بعد يوم.
أما المدن السورية –وفي أيام مجزرة حماة بالذات- فكلها متضامنة مع بعضها عبر وحدة موقف الشعب، لكنها لم تكن في وضع يمكنها من أن تهب لتقف مع حماة، لأن الشعب أعزل والتعتيم الإعلامي شديد. ومع ذلك حاولت مدينة حلب أن تُضْرِبَ تعبيراً عن احتجاجها، فهددتها السلطة بالقصف والمسح والهدم، وقد أعلن محافظ المدينة نهاد القاضي للتجار:
"كل من يُضْرِبُ سوف يعلق ويشنق أمام متجره".
وحاولت دمشق أيضاً الإضراب فاستدعى حافظ أسد إلى القصر الجمهوري أعضاء غرف التجارة، وهدد كل من يغلق دكانه بالمصير نفسه. والجدير بالذكر أن الاحتلال الأجنبي لم يكن يجرؤ على عمل كهذا!
لم يكن هذا كل شيء. لقد حدثت تصرفات أخرى تثير الضحك والاشمئزاز في آن. وشر البلية ما يضحك. فبعد هدم حماة، أخرج النظام بوسائل بوليسية معروفة –سكان القرى من الجبل العلوي في تظاهرة تأييد، ووقف ممثل حافظ أسد يقول فيها:
هؤلاء أبناء حماة يحتفلون بهدم مدينتهم! ويرقصون على جثث أبنائهم!
هل يعرف الحياء إطلاقاً مثل هذا المخلوق الذي يقف أمام مدينة هدمت ودكت على رؤوس أصحابها، يشهد المراسلون الأجانب بأنها أصبحت كأنقاض بعض المدن الألمانية عقب الحرب العالمية؟
يتحدث الناس عن نيرون الذي أحرق عاصمته روما قبل أكثر من ألفي عام ليتمتع بمنظر الحريق، وما ندري نصيب هذه الحكايات من الخيال ومن الواقعية. لكن سيتحدث الناس حتى بعد ألف عام عن أن سورية –خلال فترة شاذة- حكمتها فئة منحرفة انعدمت لديها القيم والعقائد والمقاييس الخلقية، وتجردت من أي ولاء للشعب أو الوطن أو الأمة، واستطاع رأسها ورئيسها الموغل مع نظامه في الخيانة (المبرمجة له) أن يعلن بدون أن يرف له جفن: أن أهل حماة يتظاهرون الآن تأييداً له بعد أن هدم المدينة على رؤوسهم!
في الحقيقة إن مأساة حماة أحد المؤشرات على فساد طوية النظام بأسره، ففي سورية اليوم يستحيل على مواطن شريف يخشى الله تعالى ويعرفه أن يصل إلى موقع في هرم السلطة، بل إن الوصول إلى المسؤولية في سورية لا يكون إلا عن طريق الفجور أو الكفر أو الردة أو التطاول على قيم الأمة وتراثها. وهناك بعض الحزبيين في القمة يعلمون هذه الحقيقة في سورية، وبينهم وبين المعارضة حوار وتعاون. إن حالتهم مضنية لا يجرؤ أن يصلي الواحد منهم، بل إن بعضهم يعلن إفطاره في رمضان حتى يبقى في السلطة، ليثبت بأنه جدير بتسلم المسؤولية في نظام حافظ أسد.
لقد ابتليت سورية بحكم يقتل السجناء، ويغتال الشخصيات، ويصادر الحريات، ويؤمم الصحافة والإعلام والتعليم، ويعتدي على الأعراض ويسرق النساء من الشوارع. إنه حكم لا تنفع فيه حتى الشكوى. حتى الدعاء في المساجد لا يملكه الناس، وإذا اجتمعوا في مسجد دكته المدفعية.
أيها العرب والمسلمون شعوباً وحكومات.
يا حكام العالم ويا شعوب الأرض.
يا أيها الإنسان في كل مكان..
تذكروا واجبكم تجاه الشعب السوري.
لا تلغوا من حساباتكم مستقبل علاقات شعوبكم مع الشعب السوري.
إنه لأمر خطير أن يكون هذا الصمت وهذا الموقف.
إن شعب سورية متأكد من أن الحكم في سورية مؤقت طارئ، لا يمثل توجهات أي فرد من أفراد الأمة. بل إن النظام نفسه يعلم ذلك علم اليقين، وإلا فما معنى أن يحاول تثبيت وجوده باستباحة مدينة كاملة لإزالتها من الوجود.
- لماذا لم نسمع به في حينه، في شباط (فبراير) 1982؟
- لماذا لم ينشر مثل هذا الكتاب إلا بعد مرور سنة على المأساة؟
إن هذا الكتاب يجيب على هذه التساؤلات وعلى أسئلة أخرى من خلال عرضه تفاصيل مأساة حماة التي اقترفها حاكم سورية حافظ أسد طوال شهر شباط (فبراير) 1982 عن سابق عمد وإصرار. وسوف يطالع القارئ في المقدمات إرهاصات المأساة. كما يطالع في النهاية النتائج المترتبة عليها.
ما حدث في حماة يمكن أن نسميه "مأساة العصر"
لقد قرأ الناس وسمعوا كثيراً عن الأحداث الفاجعة المماثلة في العصر الحديث. لكنهم لم يعايشوا كتلك المأساة دلالة وعمقاً.
لقد قرأوا عما جرى في بعض المدن الألمانية بعد الحرب، عندما اجتاحها المحتلون، وعن عدد من الحروب الأهلية المشهورة في العالم.. لقد حدثت مآسٍ كثيرة في العالم –خصوصاً في العالم الثالث- لكن لم يسمعوا ولم يعرفوا مأساة كمأساة حماة.
يجب ألا ننسى أن حماة وقفت في وجه الغزاة الصليبيين والدخلاء، ولذلك اتخذها ملوك الأيوبيين عاصمة أولى لهم، وحينما اقتربت جحافل الصليبيين من المدن الرئيسة في بلاد الشام. لم تستطع هذه الجحافل أن تقترب من هذه المدينة.
وفي عهد الانتداب الفرنسي ظلت حماة شوكة في حلق الفرنسيين. واستمرت –ربع قرن- وهي تصارعهم وتقارعهم وتقاومهم، وعاقبت فرنسا حماة، فحرمتها من كل أسباب التطور ومقومات التنمية، وتركتها مدينة ريفية زراعية. حرمتها من إنشاء المؤسسات على أرضها ومن دخولها عصر الصناعة، ومع ذلك ما ازداد شعب حماة إلا قوة في الشكيمة.
وهكذا لم يكن غريباً أن يجد النظام البعثي الحالي في حماة عقبة أمامه، وأمام المؤامرة التي جاء لتنفيذها على أرض سورية لكي يلغي دورها الرئيس في الشرق الأوسط. وكما قال كوبلاند في كتابه (لعبة الأمم)، وكما قال أمثاله: إن سورية تشكل مصدر تعب للإمبراطورية الأمريكية. كانت ترفض المساعدات الأجنبية والدخول في الأحلاف، وكانت دائماً تناصر الشعوب المظلومة، وكانت دائماً تقدم المساعدة للأشقاء لينالوا استقلالهم. ولذلك كان كوبلاند وغيره من مفكري المخابرات الغربية ومنظريها، يحاولون تعطيل هذا الدور، مجربين كل الوسائل: الانقلابات العسكرية، والاعتماد على العملاء: (الشخصيات) القيادية حيناً والعملاء المستترين حيناً آخر. فلم يفلحوا، ثم أخيراًَ جاءوا بهذا الحكم ليقوم بإنهاء دور سورية التقليدي.
ولما كانت حماة تشكل عقبة، في وجه هذا المخطط الرهيب، كان منطقياً ما قالته التقارير المتسربة عن مؤسسات النظام السوري العليا من أن حافظ أسد وطغمته يبيتون شراً لهذه المدينة. يريدون إعادة النظر بتركيبها السكاني والديني والاجتماعي، وبذلك يتخلصون من معارضة هذه المدينة، ويؤدبون بها سائر المحافظات السورية، كما يظنون! وفي هذا الكتاب سوف يطالع القارئ مضمون القرار الإداري الذي أصدره المجلس الأمني الأعلى –قبل المأساة بشهرين- القاضي بإطلاق يد رفعت شقيق حافظ وشريكه، بحيث يكون مسؤولاً عن الحكم العرفي، وتسليمه /12/ ألف عنصر من سرايا الدفاع لشن حملة على مدن الشمال "لتطهيرها" من المعارضين، وعلى أساس اعتبار مدينة "حماة" منطقة عمليات أولى، وقالوا له: يمكنك أن تقتل خمسة آلاف من دون أن ترجع إلى موافقة أحد، وحددوا له حوالي مئة أسرة يمكن أن يبيدها، وسمحوا له بالقتل الكيفي والعشوائي، الذي لم يكن شيئاً جديداً في مسلكه، لكنه في هذه المرة أخذ شكل قرار.
سوف يلحظ القارئ أن السلطة كانت تبيت الشر لهذه المدينة منذ أكثر من عامين على المأساة، وقد أسفرت النيات البشعة عن وجهها عبر "عمليات التمشيط" وهي اسم مخفف لكلمة انتهاك حرمات المدن والبيوت والأسر الكريمة.
قبل عامين من مأساة شباط (فبراير) –سوف يلحظ القارئ- أن السلطة أطلقت أيدي رجالها وزبانيتها في هذه المدينة ليعيثوا فيها فساداً، تعتدي على كرامات الرجال، وتنهش من كرامة النساء، بل لم تتورع عن الاعتداء على الأطفال وقتلهم.
إن القارئ الحصيف لا يغيب عنه مدلول التعديلات التي أجراها حافظ أسد على قانون العقوبات السوري الذي كان ينص على السجن شهراً لمن يحمل بندقية بلا ترخيص، فحافظ أسد رفع العقوبة من شهر إلى خمس سنوات، ثم رفعها في مرسوم جديد ليجعل منها عشرين عاماً أو الإعدام ليجرد الشعب من كل أسباب المقاومة.
ولن يغيب على القارئ التعتيم الإعلامي الذي مارسه حافظ أسد على أحداث حماة ليستفرد بها من دون المحافظات والرأي العام، وسوف تتضح صورة المؤامرة حين يطالع القارئ حجم قوات الأمن القمعية التي كانت مرابطة في المدينة آنذاك (المخابرات العسكرية –مخابرات أمن الدولة- الشعبة السياسية) وإقامة اللواء /47/ المدرع في ضاحية المدينة، وترك اللواء /21/ الميكانيكي ثالث يوم الأحداث للتدخل وتعزيز قوات السلطة وميليشياتها باستمرار وعلى وجه السرعة، مع العلم أن اللواء /21/ جزء من الفرقة الثالثة التي مشطت مدينة حلب وعاثت فيها فساداً عام 1980، وأن سرايا الدفاع التي فوضت في أمر المدينة قبل الأحداث وخلالها كانت بقيادة المقدم الطائفي علي ديب أحد الضباط الذين نفذوا مجزرة تدمر الكبرى في حزيران (يونيو) 1980.
قبل شهرين من أحداث شباط (فبراير) كان أهل حماة يقولون: نحن في كل يوم نموت، أو يموت قسم من المدينة.. فإلى متى؟
كان البيت الواحد يفتش أكثر من عشر مرات. لا يكاد جنود هولاكو يخرجون حتى يدخلوا إليه مرة أخرى. على أن أكثر ما حز في نفس المدينة هو الاعتداء على كرامات الناس. فما وجد رجل ذو مكانة أو ذو علم أو سن إلا ولحقته الإهانة، ولم تسلم امرأة في البيوت التي اقتحموها من تصرفهم النابي، أو تصرفاتهم الشائنة. كان الطفل يقتل أمام والديه في كثير من الأحيان. وآخر ما ابتكروه أنه عندما يأتيهم المخبر ليقول لهم: "رأيت رجلاً دخل هذه العمارة، ولم يخرج منها" فإنهم كانوا يقتحمون بيوت العمارة فإذا ما فتشوها ولم يجدوه هدموها على من فيها. وقد قضي على عائلات بريئة كثيرة. في الوقت الذي كان فيه حافظ أسد يتكلم عن الهدوء في سورية، وعن أنه قضى على العصابة أي –الإخوان المسلمين- والمعارضة.
إن أكثر من عشر دول عربية تمثل 75% من سكان الوطن العربي ومن مسؤولين مباشرين يقولون: نحن نعلم كثيراً مما يحدث لشعب سورية من مآس ولدينا التفاصيل.
ومع ذلك يحتال حافظ أسد على هذه الدول، ويتلاعب بعلاقاته معها، ويبتز منها برقيات المجاملة ونفقات ما يسمى (الردع) أو (الصمود والتصدي) بالمليارات. ليصبها حمماً على شعب سورية والأشقاء الفلسطينيين واللبنانيين. أو يتخم بها أرصدته وأرصدة عصابة (المافيا) التي تحكم سورية.
سوف يلحظ القارئ أن شعب حماة وجد نفسه أمام مخطط منظم للإفناء، وأنه شعر بالوصول إلى طريق مسدود، فهب الناس في ليل –لدى الضربة الأولى- بما لديهم من سلاح، وبما انتزعوه من سلاح هؤلاء المعربدين المعتدين. ووقعت الواقعة بين السلطة وبين شعب المدينة بكل طوائفه وفئاته وشبابه وشيبه وأطفاله ونسائه دفاعاً عن العرض والدم والكرامة. كان المسيحيون مع المسلمين سواء بسواء، ولقد سجل المسيحيون في سورية نقطة مضيئة سيكون لها أعظم الأثر في مستقبل سورية والمنطقة، في التلاحم الحقيقي، وفي أحرج الظروف.
إن المسيحيين حول حماة كانوا كذلك كرماء، وكانوا أصحاب نخوة في نجدة المنكوبين حينما بدأت راجمات الصواريخ والمدفعية الثقيلة تحصدهم في أحياء حماة، وتجبرهم على البحث عن الملاذ في الضواحي.
وفي هذا الكتاب سوف يجد القارئ جواباً عن موقف الجيش من هذه المأساة وأمثالها من ممارسات أسد.
إن الجيش السوري يعاني ما تعاني منه فئات الشعب، فقد حُوِّلَ عن مهمته الأساسية في حماية الوطن وحدوده، إلى وسيلة قمع، كما أن التصفيات فيه لم تتوقف قط، وهذا يدل على أن المعارضة فيه لم تتوقف، ولا يبدو أنه يمكن أن تتوقف.
لقد أراد حافظ أسد أن يجعل مفاصل هذا الجيش في أيدي الذين يعاونونه طائفياً في حكم سورية. والانتفاضات على هذه الممارسات تتجدد. ففي كانون الثاني عام 1982 –أي قبل أحداث حماة بقليل- أعدم /50/ ضابطاً، وقد غطى النظام سلسلة الإعدامات باختراع محاولة انقلاب، والواقع أن العملية كلها كانت لإبعاد الضباط المشكوك في ولائهم عن الجيش.
معاناة الجيش السوري مضاعفة فهو يعاني الأزمة نفسها التي يعاني منها الشعب السوري بجميع معالمها: تمييز على أساس طائفي، اضطهاد لكل صاحب صوت حر. إهانة الكرامات الفردية بلا موجب أو سبب، واضطهاد كيفي يصل إلى حد الجرائم. وهو في الوقت نفسه يستخدم لقتل شعبه أو قتل أبناء الشعوب الشقيقة المجاورة كالشعبين الفلسطيني واللبناني.
الجيش السوري سيبقى أملاً في نظر شعبه ليشارك في حسم الموقف في ساعة من الساعات الفاصلة، وعلى الرغم من كل التصفيات وكل الجروح التي أصابته، سيبقى جيشاً وطنياً ينفض عن نفسه هذا العار، ويمسحه عن جبين الشعب، ويتلاحم معه ليستأنف الشعب في سورية دوره المعروف في المنطقة، وليتمكن من مواجهة أعدائها، والمشاركة في النهوض بأعبائها.
هذه نظرة الشعب إلى الجيش. وهكذا كانت وما تزال والأمل يزداد فيه يوماً بعد يوم.
أما المدن السورية –وفي أيام مجزرة حماة بالذات- فكلها متضامنة مع بعضها عبر وحدة موقف الشعب، لكنها لم تكن في وضع يمكنها من أن تهب لتقف مع حماة، لأن الشعب أعزل والتعتيم الإعلامي شديد. ومع ذلك حاولت مدينة حلب أن تُضْرِبَ تعبيراً عن احتجاجها، فهددتها السلطة بالقصف والمسح والهدم، وقد أعلن محافظ المدينة نهاد القاضي للتجار:
"كل من يُضْرِبُ سوف يعلق ويشنق أمام متجره".
وحاولت دمشق أيضاً الإضراب فاستدعى حافظ أسد إلى القصر الجمهوري أعضاء غرف التجارة، وهدد كل من يغلق دكانه بالمصير نفسه. والجدير بالذكر أن الاحتلال الأجنبي لم يكن يجرؤ على عمل كهذا!
لم يكن هذا كل شيء. لقد حدثت تصرفات أخرى تثير الضحك والاشمئزاز في آن. وشر البلية ما يضحك. فبعد هدم حماة، أخرج النظام بوسائل بوليسية معروفة –سكان القرى من الجبل العلوي في تظاهرة تأييد، ووقف ممثل حافظ أسد يقول فيها:
هؤلاء أبناء حماة يحتفلون بهدم مدينتهم! ويرقصون على جثث أبنائهم!
هل يعرف الحياء إطلاقاً مثل هذا المخلوق الذي يقف أمام مدينة هدمت ودكت على رؤوس أصحابها، يشهد المراسلون الأجانب بأنها أصبحت كأنقاض بعض المدن الألمانية عقب الحرب العالمية؟
يتحدث الناس عن نيرون الذي أحرق عاصمته روما قبل أكثر من ألفي عام ليتمتع بمنظر الحريق، وما ندري نصيب هذه الحكايات من الخيال ومن الواقعية. لكن سيتحدث الناس حتى بعد ألف عام عن أن سورية –خلال فترة شاذة- حكمتها فئة منحرفة انعدمت لديها القيم والعقائد والمقاييس الخلقية، وتجردت من أي ولاء للشعب أو الوطن أو الأمة، واستطاع رأسها ورئيسها الموغل مع نظامه في الخيانة (المبرمجة له) أن يعلن بدون أن يرف له جفن: أن أهل حماة يتظاهرون الآن تأييداً له بعد أن هدم المدينة على رؤوسهم!
في الحقيقة إن مأساة حماة أحد المؤشرات على فساد طوية النظام بأسره، ففي سورية اليوم يستحيل على مواطن شريف يخشى الله تعالى ويعرفه أن يصل إلى موقع في هرم السلطة، بل إن الوصول إلى المسؤولية في سورية لا يكون إلا عن طريق الفجور أو الكفر أو الردة أو التطاول على قيم الأمة وتراثها. وهناك بعض الحزبيين في القمة يعلمون هذه الحقيقة في سورية، وبينهم وبين المعارضة حوار وتعاون. إن حالتهم مضنية لا يجرؤ أن يصلي الواحد منهم، بل إن بعضهم يعلن إفطاره في رمضان حتى يبقى في السلطة، ليثبت بأنه جدير بتسلم المسؤولية في نظام حافظ أسد.
لقد ابتليت سورية بحكم يقتل السجناء، ويغتال الشخصيات، ويصادر الحريات، ويؤمم الصحافة والإعلام والتعليم، ويعتدي على الأعراض ويسرق النساء من الشوارع. إنه حكم لا تنفع فيه حتى الشكوى. حتى الدعاء في المساجد لا يملكه الناس، وإذا اجتمعوا في مسجد دكته المدفعية.
أيها العرب والمسلمون شعوباً وحكومات.
يا حكام العالم ويا شعوب الأرض.
يا أيها الإنسان في كل مكان..
تذكروا واجبكم تجاه الشعب السوري.
لا تلغوا من حساباتكم مستقبل علاقات شعوبكم مع الشعب السوري.
إنه لأمر خطير أن يكون هذا الصمت وهذا الموقف.
إن شعب سورية متأكد من أن الحكم في سورية مؤقت طارئ، لا يمثل توجهات أي فرد من أفراد الأمة. بل إن النظام نفسه يعلم ذلك علم اليقين، وإلا فما معنى أن يحاول تثبيت وجوده باستباحة مدينة كاملة لإزالتها من الوجود.
حمل الكتاب من هذا الرابط المباشر:
وهذا رابط جديد للكتاب قام برفعه بعض الإخوة بعد تصغير حجم الكتاب:
http://www.archive.org/download/Hama...masTragedy.pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق