التطليق بين الشريعة والقانون
من محاسن الشريعة الإسلامية، ومن ضرورات الطبيعة البشرية – تشريع الطلاق، الذي قد يكون طوق النجاة عندما تهب رياح الفرقة والشقاق، وتعلو أعاصير الكره والحقد والاختلاف، لتباين الأخلاق ولتنافر الطباع.
ومن أجل توازن بنَّاء بين حقوق الزوجة والبناء قد يكون الانفصال أوقع وأفضل من الاستمرار في حياة زوجية مضطربة بئيسة، فكان آخر الحلول لمشكلات لا تزول بعدما أخفق الحكمان وذهب الأمان، فكان الحل الأخير في الطلاق.
واختلف العلماء في حكم الطلاق، فذهب الأحناف إلى حظره إلا لحاجة، حيث إنه كفر بنعمة الله، لاسيما أن الزواج نعمة، وللحنابلة تفصيل في ذلك؛ فقد يكون الطلاق واجبًا؛ مثل طلاق الحكمين في الشقاق بين الزوجين، وكذلك طلاق المولي بعد التربص مدة أربعة أشهر، حيث قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226-227]، وقد يكون الطلاق محرَّمًا، وهو ما كان لغير حاجة؛ لأنه ضرر لنفس الزوج والزوجة، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة.
كذلك إذا أوقع الزوج الطلاق في الحيض أو الطهر الذي جامع فيه، وقد يكون الطلاق مباحًا عند الحاجة إليه، وذلك لسوء خلق المرأة أو سوء عشرتها والتضرر من الحياة معها، وأما الطلاق المندوب إليه عند تفريط المرأة في حقوق الله الواجبة عليها؛ مثل الصلاة ونحوها، حيث قال أحمد: لا ينبغي له إمساكها؛ لأن فيه نقصًا لدينه.
واشترط العلماء بعض الشروط للطلاق كي ينتج آثاره، مثل العقل، حيث لا يصح طلاق المجنون والسكران على تفصيل في ذلك، فإن وقع السكر بطريق غير محرم فلا يقع طلاقه، وهو قول الجمهور، وإن كان السكر بطريق محرم ففيه قولان، وقد كان العمل يجري في المحاكم على ذلك، حتى صدور القانون رقم 25 لسنة 1929م بعدم وقوع طلاق السكران مطلقًا، سواء كان بمحرم أو غيره، وطلاق الغضبان يقع إلا إذا أذهب الغضب العقل، بحيث لا يدري هل خرج منه لفظ الطلاق أم لا.
أما الإكراه في الطلاق فذهب الجمهور بعدم وقوع طلاق المكره، بخلاف الأحناف الذين يرون وقوع طلاق المكره، وقد أخذ القانون المصري بقول الجمهور، ولا يقع طلاق المخطئ الذي ذكر لفظ الطلاق خطأً، فلا يقع طلاقه لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) [رواه ابن ماجه، (2121)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، (2043)]، وإنما يقع طلاق الهازل عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، الطلاق والنكاح والرجعة) [رواه أبو داود، (2196)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (2194)]، وهو قول الجمهور.
وقد قسم العلماء الطلاق عدة أقسام: الطلاق الرجعي والطلاق البائن؛ فالرجعي هو الذي يستطيع الزوج مراجعة زوجته في العدة ولو بدون رضاها من غير حاجة على عقد جديد، وأما الطلاق البائن فنوعان؛ بائن بينونة كبرى، وهو الطلاق المكمل للثلاث، لا يجوز للزوج مراجعة زوجته إلا إذا تزوجت زواجًا شرعيًّا أبديًّا برجل آخر، وبينونة صغرى؛ وهو الطلاق الذي يجوز للزوج مراجعة زوجته في العدة، ولكن برضاها فقط، وبعقد جديد ومهر جديد، مثل الطلاق قبل الدخول، أو الطلاق مع الإبراء، أو التطليق من قبل القاضي.
وكذلك قسَّم العلماء الطلاق من حيث صيغته إلى طلاق منجز؛ وهو ما حدد بصيغة مطلقة بدون إضافة إلى زمن المستقبل، مثل أنت طالق، وهناك طلاق مضاف إلى زمن المستقبل، مثل أنت طالق أول الشهر، أو الطلاق المعلق؛ وهو ما رتب حدوثه على شيء مستقبل؛ مثل إذا خرجت من المنزل فأنت طالق، وهذا الطلاق يقع، وهو قول الجمهور والأئمة، ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية بأن هذا الطلاق إن كان للتهديد لا يقع، إلا إذا نوى الطلاق فعلًا، وهناك من قال بعدم وقوعه نهائيًّا وهو رأي مرجوح.
وقد نصت المادة الثانية من القانون رقم 25 لسنة 1925م على أنه "لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء، أو تركه لا غير".
وأخيرًا فإن الطلاق ينقسم إلى طلاق سني وطلاق بدعي، وطلاق السنة هو الواقع على الوضع الذي ندب إليه الشرع، وهو أن يقع بلفظ الواحد في طهر لم يمسها فيه، وأما الطلاق البدعي هو أن يوقع الطلاق بلفظ الثلاث بكلمة واحدة، أو ثلاث متفرقات في مجلس واحد، أو يطلقها في حيض أو نفاس، أو في طهر جامعها فيه، وأجمع العلماء على أن الطلاق البدعي حرام، وأن فاعله آثم، وذهب الجمهور إلى أنه يقع، وهو ما ثبت من حديث ابن عمر في صحيح مسلم وغيره.
وإذا كان الطلاق حقًّا من حقوق الزوج، إلا أنه يجوز له أن يفوض زوجته في تطليق نفسها، وصيغ التفويض ثلاث وهي:
1- اختاري نفسك، وقد ذهب الفقهاء إلى وقوع الطلاق بهذه الصيغة.
2- أمرك بيدك، فإن طلقت نفسها فهي طلقة واحدة، واختلفوا إن طلقت نفسها ثلاثة.
3- والثالثة: طلقي نفسك، وقد ذهب الأحناف إلى أنها إن طلقت تقع واحدة.
واختلف العلماء في إيقاع الطلاق في مرض الموت، فإن كان رجعيًّا ترث الزوجة، وإن كان بائنًا ترث بشروط، ولقد نص قانون الأحوال الشخصية رقم 100 لسنة 1985م على أن المطلق يجب عليه أن يبادر إلى توثيق إشهاد طلاقه، وعدم إخفائه على الزوجة في حالة غيبتها، وإلا تعرض لعقوبة الحبس مدة لا تزيد على 6 شهور، وبغرامة لا تتجاوز مائتي جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ولئن كان الطلاق حقًّا من حقوق الرجال، فلم تسلب الشريعة هذا الحق من المرأة، بل أباحت لها طلب التطليق إذا تحققت بعض الظروف، فهذا قمة العدل والإنصاف.
لقد حرصت الشريعة المباركة على رعاية حقوق المرأة في مختلف المجالات، وفي شتى مناحي الحياة، في توازن غير مسبوق، في عالم ضاع فيه العدل والإنصاف، فكما أعطت الشريعة للرجل وحده حق الطلاق دون سواه، أعطت للمرأة حقًّا آخر وهو اختيار الرجل المناسب، فلا يتم الزواج إلا برضاها، فإن خاب اختيارها وأصابها ضرر يستحيل معه دوام العشرة لجأت للقضاء، تطلب التطليق لتتخلص من زوجية فقدت ثمارها، وضاعت الآمال المرتقبة منها، فتسترد بذلك كرامتها التي أُهينت، وحقوقها التي هُضمت.
ولا توجد على ظهر الأرض شريعة تتيح للزوجة طلب التطليق مثل الشريعة الإسلامية، وذلك لمراعاتها حقوق المرأة وحمايتها من تعسف الرجل وظلمه وانعدام أخلاقه ودينه.
ودعوى التطليق تختلف حسب الضرر الواقع على المرأة، فهناك التطليق لعدم الإنفاق، وهو مذهب الجمهور، وما أخذ به قانون الأحوال الشخصية رقم 25 لسنة 1920م في نص المادة 4، وذلك بخلاف الأحناف، ويقع التطليق رجعيًّا، وهناك التطليق للضرر وسوء العشرة، وهو مذهب مالك وأحمد وما نصت عليه المواد من 6 إلى 11 من القانون رقم 25 لسنة 1929م بخلاف الشافعي وأبي حنيفة، فلم يذهبا إلى التطليق للضرر لإمكان إزالته بالتعزيز، وعدم إجبار الزوجة على الطاعة، وهناك دعوى التطليق للغيبة أو الحبس، وهي في حالة ما إذا غاب الزوج عن زوجته سنة أو أكثر بدون عذر مقبول، وإذا حكم بحسب الزوج حكمًا نهائيًّا ثلاث سنوات على الأقل فللزوجة الحق كذلك في إقامة دعوى التطليق بعد مرور سنة على حبسه، وهو ما نصت عليه المواد "12، 13، 14" من القانون رقم 25 لسنة 1929م.
وأخيرًا هناك التطليق للعيب، وإن اختلف الفقهاء حول شروط العيب، وهو ما نصت عليه المواد "9، 10، 11" من القانون رقم 25 لسنة 1920م وذلك على تفصيل في كل هذه الموضوعات في حينها.
وفي حالة الحكم بالتطليق فيما تقدم تحصل الزوجة على كامل حقوقها المتمثلة في مؤخر الصداق، ونفقة العدة والمتعة، وهذا بخلاف الخلع، الذي تتنازل فيه الزوجة عن جميع حقوقها الشرعية لافتداء نفسها.
وتقدر هذه الحقوق المالية حسب دخل الزوج يسرًا وعسرًا، وحسب مستوى المعيشة بين الزوجين؛ فنفقة العدة إما أن تكون ثلاثة أشهر أو ثلاث حيضات أو وضع الحمل إن كانت الزوجة حاملًا، ورغم اختلاف الفقهاء في نفقة عدة المطلقة رجعيًّا عن عدة المبتوتة "أي المطلقة طلاقًا بائنًا" إلا أن القانون في مصر أخذ برأي الأحناف في أن المطلقة عن طريق القضاء طلاقًا بائنًا لها نفقة عدة، وهو ما اختاره العلامة القرضاوي، وذلك بخلاف الشافعي ومالك فإنهما، يريان أن لها السكن دون النفقة إلا أن تكون حاملًا.
ولا خلاف بين الفقهاء على استحقاق الزوجة لمؤخر الصداق الثابت في وثيقة الزواج، وإن اختلفوا في المتعة حيث قال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، وقد تختلف المتعة من بلد إلى آخر ومن زمان إلى آخر، وتقدر حسب يسر الزوج وعسره، حيث قال تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، وإن كان الأصل في تشريع المتعة هو جبر خاطر المطلقة؛ إذ كانت مواساتها من المروءة التي تطلبتها الشريعة.
وكان إيجاب المتعة هو مذهب الشافعي في الجديد، وأحد الأقوال لأحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الظاهرية، وقول عند مالك، وقد نصت المادة 18 من القانون رقم 25 لسنة 1929م المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985م على المتعة وشروط استحقاقها.
وإن كان الواقع العملي يشهد على أن دعاوى التطليق أمام المحاكم قد تتداول سنوات طويلة على مختلف درجات التقاضي، وربما لا تتحمل الزوجة إطالة أمد التقاضي بهذه الصورة ... وقد رأيت من لطمت الخدود أمام محكمة استئناف بنها لتداول دعواها أكثر من سبع سنوات أمام المحكمة "ابتدائي واستئناف"، حتى كادت المرأة تقبل يد القاضي لحجز الدعوى للحكم، وقالت بالحرف: أقمت دعوى التطليق وأنا وعمري 36 عامًا، والآن عندي 46 عامًا ولم أطلق! لذلك فقد أتاحت الشريعة طلب التطليق خلعًا، وقد كان الخلع مطبقًا في كثير من الدول العربية حيث تناوله القانون الأردني في المواد 102 إلى 112 من قانون الأحوال الشخصية الصادر 1976م، وهو ما تأخذ به المحاكم الشرعية في المملكة العربية السعودية، ونص عليه القانون رقم 1 لسنة 2000م في مصر المادة 20، وهو ما كان فرجًا لكثير من المصريات، حيث أكدت الإحصائيات وجود أكثر من 40 ألف قضية خلع أمام القضاء المصري، وذلك لسرعة إجراءاته، فضلًا عن كون الحكم فيها نهائيًّا لا يخضع لطرق الطعن المعتادة مثل الاستئناف.
وإن كان التطليق بصفة عامة مشروعًا، وفيه تكريم للمرأة ورفعة لشأنها، إلا أننا في هذا الشهر الكريم ندعو الزوجين أن نطبق ما تعلمناه من دروس الصيام وفوائده، وأن يصبر كل من الزوجين على الآخر صبرًا جميلًا، يحتسب فيه الأجر عند الله في الآخرة، فتقل حالات الطلاق التي بلغت في القضاء العراقي 145444، وفي الجزائر 35 ألفًا، وفي مصر 6 حالات كل ساعة، وغيرها الكثير.
فضلًا عن تشتت الأولاد، وتصدع بنيانهم النفسي، فالصبر مفتاح الفرج، وفيه البشرى والفرح، وقد صبرنا على الحلال في رمضان، فهل نصبر عن أبغض الحلال، ولنتذكر قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
لواء الشريعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق