بلد النشر: السعودية
رقم الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: 1407 - 1987
عدد المجلدات: 1
عدد الصفحات: 496 صفحة
الحجم الإجمالي: 10 ميجا
ومنه استمد العرب والمسلمون علومهم ومعارفهم، فما من علم من علومهم إلا وله بالقرآن سبب، وله منه ورد ومدد، ولولا هذا الكتاب العربي المبين لاستعجمت لغة العرب، وأضحت في عداد اللغات الميتة، فهو الذي يجدد شبابها كلما اعتراها الهرم والضعف، ويأخذ بيدها إذا ألمّ بها التخلف والركود، ولولا هذا الكتاب لما كانت هذه الثروة الطائلة من العلوم التي تدور حول القرآن، ولغة القرآن وتجول في رحابه الواسعة.
وما من عربي- أيا كان دينه- إلا وله بهذا الكتاب مفخرة واعتزاز وحب ووفاء؛ لأنه يخاطب فطرته اللغوية ووجدانه البياني، وروحه العربية الصافية الشفافة.
فلا عجب.. أن كانت السعادة الحقة لا تنال إلا بالاهتداء بهديه، والتزام ما جاء به وأن كان الشفاء لأمراض النفوس وأدواء المجتمع؛ فاهتدت به القلوب بعد ضلال، وأبصرت به العيون بعد عمى، واستنارت به العقول بعد جهالة، واستضاءت به الدنيا بعد ظلمات، وصدق الله: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} [سورة الإسراء: 9- 10]. وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً}
وقال: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة المائدة: 15- 16]. [سورة الإسراء: 82].
وهو الكتاب الذي وجه العقول والأنظار إلى النظر في الأنفس، وما فيها من عجائب وأسرار وغرائز واستعدادات، قال عز شأنه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [سورة الذاريات: 21] والنظر في الآفاق والآيات الكونية علويّها وسفليّها، ظاهرها وخفيها وعما تنطوي عليه من حكم، وما أودع الله فيها من خواص وسنن وأفاض في ذلك في غير ما سورة وآية، وإن شئت اليقين في ذلك فاقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ} [سورة ال عمران: 190].
وقد روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت: «ويل لمن قرأها ولم يتفكّر» رواه ابن مردويه وعبد بن حميد، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سورة ق: 6- 8] وقال سبحانه: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [سورة الغاشية 17- 22] وقال: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] إلى غير ذلك من الآيات التي لا يحصيها العد.
وقد زخر القرآن العظيم بهذا النوع من الآيات، وكثرت كثرة زادت على آيات الأحكام، ولاسيما في القسم المكي، ولذلك سرّ: ذلك أن هذا النظر، وذاك التأمل غالبا ما ينتهيان بالإنسان العاقل المجرد عن الأهواء والشهوات، إلى الوصول إلى الإيمان بالخالق جل وعلا ووحدانيته وتفرده بصفات الكمال والجلال، والجمال والإيمان بالبعث والمعاد، وأن هناك حياة أخرى خيرا من هذه الحياة، والإيمان بالملائكة والرّسل الكرام وإذا ما آمن البشر بهذه العقائد سهل عليهم بعد تلقي الشرائع، والتزامها علما، وعملا، وسلوكا، وخير الإيمان ما كان عن بينة ودليل، وخير العلم والعمل ما كان عن اطمئنان وبحث، واقتناع. [سورة البقرة: 164]
ولو أن المسلمين استفادوا بما في هذا الكتاب الكريم من توجيهات وإرشادات؛ لكانوا- كما كان الشأن في سلفهم الأولين- أسبق الأمم إلى الكشوف العلمية والاختراع والابتداع، ولصاروا سادة الدنيا، وأضحى بيدهم زمام الأمور، ولكنهم جمدوا ولم يستفيدوا بهدي القرآن وإرشاداته، فكانوا على ما ترى...!
وصدق الله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
وقال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} [سورة النساء: 1]. [الحجرات: 13]، فالناس مهما تعددت شعوبهم، وتباينت أممهم فيجمعهم رباط واحد، وهو رباط الإنسانية العام، وهذا أسمى ما يطمع فيه من تشريع!
وهو الكتاب الذي لا تفنى ذخائره، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا يزداد على التكرار إلا حلاوة وطلاوة، وصدق القائل:
وتلك لعمر الحق خصيصة من خصائص القرآن ومن كان في شك من هذا فليستفت الذوق والوجدان والقلب والآذان، وليوازن في هذا بين كلام الله وكلام الإنسان، وحينئذ سيتذوق، ومن ذاق عرف، ومن عرف اعترف.
ومهما تعاقبت على هذا الكتاب العزيز الأجيال والسنون لا يزداد إلا جدة وطرافة ولا يزال غضا طريا كما أنزل، وكلما تقدمت العلوم والمعارف الإنسانية تكشف للناس منه العجب العجاب وصدق الحق تبارك وتعالى حيث يقول: {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ * الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة فصلت: 53] بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.
وقصارى القول وحماداه: أنك لن تجد في الكشف عن حقيقة هذا الكتاب وخفاياه وفضائله ومزاياه أوفى مما وصفه به نبينا محمد بن عبد الله.
روى الترمذي بسنده عن الحارث الأعور قال: مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى الناس قد خاضوا في الأحاديث قال: أوقد فعلوها قلت: نعم. قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنها ستكون فتنة» قلت: وما المخرج منها يا رسول الله قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم ينته الجن إذ سمعوه حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} من قال به صدق، ومن عمل أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».
إن كتابا هذا بعض شأنه لجدير أن يضعه الإنسان بين عينيه، ويجعله أنيسه في خلوته، ورفيقه في سفره، وصديقه الصدوق في يسره وعسره، ومستشاره الأمين في أمور دينه ودنياه، وحجته البالغة في حياته وأخراه.