وهي مذهب فكري يركز على الحرية الفردية، ويرى وجوب احترام استقلال الأفراد، ويعتقد أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها.
ولهذا يسعى هذا المذهب إلى وضع القيود على السلطة، وتقليل دورها، وإبعاد الحكومة عن السوق، وتوسيع الحريات المدنية. ويقوم هذا المذهب على أساس علماني يعظم الإنسان، ويرى أنه مستقل بذاته في إدراك احتياجاته، تقول الموسوعة الأمريكية الأكاديمية: ((إن النظام الليبرالي الجديد (الذي ارتسم في فكر عصر التنوير) بدأ يضع الإنسان بدلا من الإله في وسط الأشياء، فالناس بعقولهم المفكرة يمكنهم أن يفهموا كل شيء، ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم ومجتمعاتهم عبر فعل نظامي وعقلاني) .وقول جميل صليبا: " ومذهب الحرية (Liberalism) أيضا مذهب سياسي فلسفي يقرر أن وحدة الدين ليست ضرورية للتنظيم الاجتماعي الصالح، وأن القانون يجب أن يكفل حرية الرأي والاعتقاد " .
وقد أطلق مصطلح "الليبرالية" على عدة أمور، من أهمها: حركة فكرية ضمن البروتستانتية المعاصرة، وقد أطلق على هذه الحركة اسم "الليبرالية" لأنها تعتمد على حرية التفكير، وانتهاج الفكر العقلاني في التعامل مع النصوص الدينية. يقول " براتراند رسل " : بدأ يظهر في أعقاب عصر الإصلاح الديني موقف جديد إزاء السياسة والفلسفة في شمال أوروبا، وقد ظهر هذا الموقف بوصفه رد فعل على فترة الحروب الدينية والخضوع لروما مركزا في إنجلترا وهولندا.. ويطلق على هذا الموقف الجديد تجاه مشكلات الميدان الثقافي والاجتماعي اسم الليبرالية، وهي تسمية أقرب إلى الغموض، يستطيع المرء أن يدرك في ثناياها عددا من السمات المميزة، فقد كانت الليبرالية أولا بروتستانتية في المحل الأول، ولكن ليس على الطريقة الكالفينية الضيقة، والواقع أنها أقرب بكثير إلى أن تكون تطورا للفكرة البروتستانتية القائلة: إن على كل فرد أن يسوي أموره مع الله بطريقته الخاصة، هذا فضلا عن أن التعصب والتزمت يضر بالأعمال الاقتصادية" .
والبروتستانتية في حد ذاتها اختصرت الطريق أمام الليبرالية العقلانية المحضة، وهذه الحركة الفكرية داخلها أطلق عليها اسم الليبرالية مع أنها لازالت حركة دينية لأنها فسرت الدين بطريقة معينة جعلته متوافقا مع الليبرالية العلمانية.يقول منير البعلبكي: " كما يطلق لفظ " الليبرالية " كذلك على حركة في البروتستانتية المعاصرة تؤكد على الحرية العقلية، و على مضمون النصرانية الروحي والأخلاقي، وقد كان من آثار هذه الحركة انتهاج الطريقة التاريخية في تفسير الأناجيل" .
فقد نشأت الليبرالية كردة فعل غير واعية بذاتها ضد مظالم الكنيسة والإقطاع، ثم تشكلت في كل بلد بصورة خاصة، وكانت وراء الثورات الكبرى في العالم الغربي (الثورة الإنجليزية، والأمريكية، والفرنسية)، ولكن نقاط الالتقاء لم تكن واضحة بدرجة كافية، وهذا يتبين من تعدد اتجاهاتها وتياراتها.يقول "دونالد سترومبرج" : "والحق أن كلمة الليبرالية مصطلح عريض وغامض، شأنه في ذلك شأن مصطلح الرومانسية، ولا يزال حتى يومنا هذا على حالة من الغموض والإبهام" .و في الموسوعة الشاملة: "تعتبر الليبرالية مصطلحا غامضا لأن معناها وتأكيداتها تبدلت بصورة ملحوظة بمرور السنين" .وتقول الموسوعة البريطانية: "ونادرا ما توجد حركة ليبرالية لم يصبها الغموض، بل إن بعضها تنهار بسببه" .وإذا ذكر اسم " الليبرالية " فإنه – كما يقول رسل - : تسمية أقرب إلى الغموض، يستطيع المرء أن يدرك في ثناياها عددا من السمات المتميزة" .
ومن أهم أسباب غموض مصطلح الليبرالية : غموض مبدأ الحرية:
حيث يعتمد مفهوم الليبرالية على الحرية اعتمادا تاما، ولا يمكن إخراج "الحرية" من المفهوم الليبرالي عند أي اتجاه يعتبر نفسه ليبراليا.
ولكن مفهوم، وكثرة كلام الناس فيه، لا يمكن تحديده وضبطه، لأن أصحاب الأفكار المختلفة في الحرية الليبرالية يعتمد كل واحد منهم على " الحرية " في الوصول لفكرته....... وقد خرجت أفكار مضادة لليبرالية من رحم الحرية التي تعتبر المكون الأساسي لليبرالية مثل الفاشية، والنازية، والشيوعية، فكل واحدة من هذه المذاهب تنادي بالحرية، وتعتبر نفسها الممثل الشرعي لعصر التنوير، وتتهم غيرها بأنه ضد الحرية.
وقد حصل التنازع بين اتجاهات الليبرالية في تكييف " الحرية"، والبرامج المحققة لها، ومن هذا المنطلق جاء المفهوم السلبي، والمفهوم الإيجابي للحرية.
تقوم الليبرالية على أسس فكرية هي القدر المشترك بين سائر اتجاهاتها وتياراتها المختلفة، ولا يمكن اعتبار أي فرد ليبراليا وهو لا يقر بهذه الأسس ولا يعترف بها، لأنها هي الأجزاء المكونة لهذا المذهب والمميزة له عن غيره.
وتنقسم هذه الأسس المكونة لليبرالية إلى قسمين:
ذاتية مميزة لليبرالية عن غيرها من المذاهب الفكرية الغربية التي ظهرت في عصر النهضة والتنوير، وهي أساسان هما: " الحرية " و " الفردية ".
مشتركة بين الليبرالية وغيرها من المذاهب الفكرية الغربية، وهي أساس واحد هو: "العقلانية"، فكل المذاهب التي ظهرت في أوروبا في العصر الحديث خرجت من الفكر العقلاني الذي يعتقد باستقلال العقل في إدراك المصالح الإنسانية في كل أمر دون الحاجة إلى الدين.
فالليبرالية حقيقة مركبة تركيبا تاما من " الحرية الفردية العقلانية "، ولكن هذه الأسس المكونة لحقيقتها مجملة، تعددت تصورات الليبراليين في تفصيلاتها الفكرية، فضلا عن آثارها العملية، والطريقة التطبيقية أثناء العمل السياسي أو الاقتصادي......,
الأساس الأول: الحرية:
التي تعني أن الفرد حر في أفعاله، ومستقل في تصرفاته دون أي تدخل من الدولة أو غيرها، فوظيفة الدولة حماية هذه الحرية، وتوسيعها، وتعزيز الحقوق، واستقلال السلطات، وأن يعطى الأفراد أكبر قدر من الضمانات في مواجهة التعسف والظلم الاجتماعي........،
الأساس الثاني: الفردية:
"الفردية هي السمة الأساسية الأولى لعصر النهضة، فها هو عصر النهضة يأتي كرد فعل لفكر القرون الوسطى، ويتحرر الفرد من الانضباط الكاثوليكي الطويل " .
وقد ارتبطت الحرية بالفردية ارتباطا وثيقا، فأصبحت الفردية تعني استقلال الفرد وحريته.
وقد جاءت هذه الفردية بمفهومين مختلفين:
أحدهما: الفردية بمعنى الأنانية وحب الذات، وهذا المعنى هو الذي غلب على الفكر الغربي منذ عصر النهضة وإلى القرن العشرين، وهذا هو الاتجاه التقليدي في الأدبيات الليبرالية.
والثاني: الفردية بمعنى استقلال الفرد من خلال العمل المتواصل والاعتماد على النفس، وهذا هو الاتجاه البراجماتي، وهو مفهوم حديث للفردية.
الأساس الثالث: العقلانية:
تعني العقلانية استقلال العقل البشري بإدراك المصالح والمنافع دون الحاجة إلى قوى خارجية، وقد تم استقلاله نتيجة تحريره من الاعتماد على السلطة اللاهوتية الطاغية.
ونلاحظ أن الاعتماد على العقل وتحييد الدين جاء بصورة متدرجة، ولكنه استحكم في عصر التنوير، وزاد ترسيخه كمصدر وحيد للمعرفة في القرن التاسع عشر الذي هو قمة الهرب الليبرالي. وقد أصبح الاعتماد على العقل المجرد وإقصاء الدين والقيم والأخلاق سمة من أبرز سمات الفكر الأوروبي المعاصر......,
أوروبا بين الانحراف الديني والاستبداد السياسي:
أولا: الانحراف الديني : ظهرت دعوة المسيح – عليه السلام - في المستعمرات الشرقية للإمبراطورية الرومانية، وهي إمبراطورية وثنية لا تؤمن إلا بالأمور الحسية، وشديدة الاعتداد بالشهوات الجسدية. وتعتبر الإنساني سيد المخلوقات .
وقد قابل الرومان أتباع الدين الجديد بالاضطهاد والتعذيب وساندهم في ذلك اليهود الحاقدون على المسيح – عليه السلام – والحواريين، مما اضطرهم إلى الهروب والاختفاء بدينهم.
في هذه الأجواء القاسية عاشت النصرانية، و في مناخ الاضطهاد والمطاردة والقتل والتعذيب تربى أتباع المسيح – عليه السلام – وقد ظن الرومان أنهم قضوا على هذا الدين بصلب نبيهم وقتله. وقد قام اليهود بدور خطير في القضاء على النصرانية، وهو التحريف والتبديل من الداخل..........وعند التأمل في عقائد النصارى بعد التحريف نجد التشابه الكبير مع عقائد فلسفية كانت موجودة في حوض البحر المتوسط كالعقيدة المترائية، والأفلاطونية الحديثة، والفلسفة الرواقية وغيرها ....,
ثانيا: الاستبداد السياسي: النظام السياسي الذي كان يحكم المجتمع الأوروبي في العصر الوسيط هو " نظام الإقطاع " وهو نظام جاهلي مستبد، وصل إلى ذروة الطغيان والعدوان على حرية الإنسان. وقد تكون هذا النظام بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، ودخول البرابرة إلى روما، وانهيار الإمبراطورية الغربية وتفكك الدول المرتبطة بها وانقسامها ....,
بدأت التحولات الفكرية في أوروبا في عصر النهضة، وهو العصر الممتد من القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر الميلادي، وقد كانت هذه التحولات متدرجة وكانت البداية الفعلية في إيطاليا من خلال الحركة الأدبية التي قامت بإحياء الآداب الإغريقية دون أي تعرض للأوضاع الدينية والاجتماعية، ثم جاءت حركة الإصلاح الديني التي هزت المجتمع الغربي بقوة، وكان دورها في الاتجاه نحو الليبرالية أقوى من الحركة الأدبية...,
وأبرز المعالم التي كان لها دور بارز في الاتجاه نحو الليبرالية :
أولا: الحركة الأدبية ذات النزعة الإنسانية (إحياء الآداب الإغريقية).
ثانيا: حركة الإصلاح الديني.
ثالثا: الفكر التجريبي المادي.
يعتبر " النظام الإقطاعي " الذي سيطر على أوروبا في العصور الوسطى من أقسى الأنظمة وأكثرها عنصرية وطبقية. وهو مكون من طبقتين إحداهما: السادة، (النبلاء والملوك)، وهم الطبقة السياسية، ورجال الدين (الاكليروس)، وهم الطبقة الدينية، والثانية: الفلاحون (الرقيق) وهم عامة الشعب....,
....ومن عامة الشعب نشأت طبقة ثالثة ليست من النبلاء، ولا الرقيق، يعتمدون على التجارة والكسب من غير أن يكونوا رقيقا في الأرض. ويدخل في هذه الطبقة التجار، والمدرسون، والأطباء، والمهندسون، وأصحاب المهن الحرة. وقد عرفت هذه الطبقة بالطبقة الوسطى (البرجوازية).
وقد ضاق التجار وأصحاب رؤوس الأموال من القيود والانغلاق الذي يقف حائلا دون تنمية رؤوس أموالهم، وتوسيع طموحاتهم المادية، وقد كانت لهذه الطبقة الجديدة دور بالغ الأهمية في تأسيس مجتمع السوق القائم على المنافسة، كما كان لها أثر بالغ في التحولات الاجتماعية في أوروبا، والوقوف في وجه الإقطاع والكنيسة. وقد كان يعوز هذه الطبقة: " النظرية الفلسفية " التي تساعدهم في الخروج من قبضة الإقطاع والكنيسة، وقد وجدوا بغيتهم في " الليبرالية " التي تقوم على " الحرية الاقتصادية " ورفع العوائق عن آليات السوق، وترك حركته مرسلة دون تدخل أو رقابة.....وبهذا نستطيع أن نقول إن الليبرالية هي فكر ومنهج الطبقة الوسطى، باعتبارها تقوم على أساس الفردية، وخاصة من خلال آراء " جون لوك " في الملكية الخاصة. وقد انتقلت الليبرالية من الفكر المجرد إلى الواقع العملي من خلال: الملكية الدستورية في إنجلترا (1688م)، والثورة الأمريكية (1775م)، والثورة الفرنسية (1798م).
أولا: الليبرالية الكلاسيكية:
هذا الاتجاه هو النموذج المعتمد لليبرالية فهو الأقدم من حيث النشأة حيث ظهرت في القرن الثامن عشر، وكذلك تعود إليه الأفكار الليبرالية القديمة، ويعتمد هذا الاتجاه على الحرية الفردية، ومنع تدخل الدولة وغيرها سواء في الاقتصاد أو غيره، ويعتقد الكلاسيكيون أن ترك الفرد يحقق مصلحته الذاتية الخاصة كفيل بتحقيق السعادة للمجتمع بشكل طبيعي دون تدخل بشري.
ثانيا: الراديكالية الفلسفية (مذهب المنفعة القانونية):
يعتبر هذا الاتجاه في جوهره برنامج من إصلاحات قانونية واقتصادية وسياسية، تعتمد على مبدأ " تحقق أعظم السعادة لأكبر عدد "....,
ثالثا: الليبرالية الفكرية:
ارتبطت الليبرالية في المجال الفكري بجهود " جون ستيورات مل "، وقد جاءت جهوده في فترة مهمة من تاريخ الليبرالية، وقد اقتضت هذه الفترة وجود آراء تجديدية، لأن الشعارات الليبرالية تبين زيفها مما دعا لإعادة التقويم لليبرالية....,
رابعا: التحليل الحديث (المدرسة الكلاسيكية الحديثة):
ظهر هذا الاتجاه في ظروف اجتماعية متناقضة، وناقمة على أسلوب الإنتاج الرأسمالي، فهو اتجاه فكري اقتصادي ليبرالي، وأسلوب جديد مبتكر للتحليل الاقتصادي وقد قام هذا الاتجاه على فكر ثلاثة من أبرز الاقتصاديين الليبراليين وهم: ستانلي جيفونز "، " وليون فالراس "، و " كارل منجر "....,
خامسا: الليبرالية الاجتماعية:
يعد هذا الاتجاه من أقوى وأشهر الاتجاهات الليبرالية في مقابل الليبرالية الكلاسيكية وهو صورة من صور تنازل الليبرالية عن تطبيق منهجها الصارم المتمثل في الكلاسيكية والمبرر لظهور هذا الاتجاه هو المساوئ الاجتماعية العنيفة، والأزمات المتعددة لليبرالية، ومن أبرز هذه الأزمات أزمة الكساد العظيم في 1929م وما بعدها، وانتشار البطالة ووصول طبقات من المجتمع إلى قريب من الموت وعدم وجود ضمانات صحية وتعليمية، وغيرها....,
سادسا: الليبرالية البراجماتية:
هذا الاتجاه هو اتجاه " الليبرالية الأمريكية "، فقد بدأت الليبرالية الأمريكية متأثرة بجون لوك، ولكن ما لبثت أن تطورت بعد الثورة الصناعية الهائلة لتصبح أكثر عملية ومادية، ومن ثم اعتنقت فلسفة جديدة تعتمد على النتائج العملية في النظرة للحياة وهي (البراجماتية) وقد أصبحت النظرة الأمريكية الجديدة للحياة (البراجماتية) بمثابة إصلاح وتعديل للفكر الليبرالي ليكون موافقا لروح العصر وظروفه المتغيرة، وليكون دعما لتقدمه ونموه في ظل المتغيرات التقنية.
والبراجماتية فلسفة أمريكية خالصة تركز على فردية الإنسان ونفعيته بصورة عملية مستقبلية...,
سابعا: الليبرالية الجديدة:
هذا الاتجاه هو آخر أطوار الليبرالية، وهو الليبرالية التي تبنته الدول الصناعية الكبرى والمنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية وبدأت آثاره ومعالمه تتضح أكثر فأكثر.
وقد أصبح صوت هذا الاتجاه هو المرتفع لتبني التجارة العالمية وبدأت آثاره ومعالمه تتضح أكثر فأكثر.
وقد أصبح صوت هذا الاتجاه هو المرتفع لتبني الإمبراطورية الأمريكية له، لاسيما في ظل نظام القطب الواحد وقد شعرت بقية الدول المعتقدة لأفكار اقتصادية غيره تشعر أنه لا مجال في قبوله ولا مندوحة عنه، ولهذا أخذت في تعديل ما تعتقده من أفكار ليتوافق معه، ويسير مقارنا له، كما حدث في الاتجاه الأوروبي الذي يعتقد أكثر أعضائه الليبرالية الاجتماعية.
بدأت الليبرالية في عصر النهضة الأوروبية ثم تطورت في عصر التنوير، وكان أعلى فترة صعدت فيه هو القرن التاسع عشر الميلادي، وهو القمة التي وصلت إليها الليبرالية ولم تعد إلى مستواها بعده، وقد هبطت الليبرالية في القرن العشرين هبوطا كبيرا بعد ظهور نتائج الليبرالية الكارثية، ولكنها بدأت مرحلة جديدة بعد سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي.
1- الليبرالية السياسية:
تعتمد الليبرالية على " الحرية الفردية " كمفهوم أساسي لها، ولكنها تواجه وضعا طبيعيا في الحياة الإنسانية وهو أن الإنسان اجتماعي بطبعه، ومن صور حياة الإنسانية الاجتماعية "الحياة السياسية"، وقد وجد لليبرالية أفكار سياسية تحاول الجمع بين ضرورة المحافظة على حريات الأفراد، وتنظيم شؤونهم السياسية......وقد اتجه بعض الليبراليين إلى تغليب جانب الحرية – وهذا هو الأصل في الفكر الليبرالي – فمنع تدخل الدولة حتى على مستوى إعانة الفقراء والمحتاجين، وحماية البيئة، وغلب آخرون جانب المساواة فطالبوا بالحد من الحريات لمصلحة المساواة الاجتماعية. وكذلك يحصل الاختلاف في أشكال الحكومات وصورها، وأنواع التدخل المشروع وغير المشروع في المجال الخاص للفرد.
وأشير هنا إلى:
أبرز المعالم السياسية لليبرالية :
وهي نظرية العقد الاجتماعي باعتبارها النظرية الأساسية في تكون الدولة، وعلاقتها بالأفراد. والحقوق الأساسية للأفراد. وفصل السلطات باعتباره أهم ضمانات الحرية الفردية. وحدود سلطة المجتمع على الأفراد، وحرية التعبير.
أولا: نظرية العقد الاجتماعي: تعود فكرة وجود عقد بين الحاكم والمحكوم، أو بين الدولة والأفراد في الفكر الأوروبي إلى الفلسفة اليونانية والرومانية، فكثير من السوفسطائيين بنوا تصورهم للدولة على أساس تعاقدي، و في الفكر اليوناني " ذهب كارتيادس " إلى أن الناس كانوا يعيشون قديما بلا قانون وكان كل منهم يعتدي على الآخر مما أدى إلى انتشار القلق والخوف ولذلك أبرموا عقدا فيما بينهم يخضعون وفقه لنظام يختارونه ...,
ثانيا: الحقوق الأساسية للفرد:
يعد القانون الطبيعي القاعدة والمرجعية للحقوق الأساسية للإنسان في الفكر الليبرالي، وهو المصدر الأساسي في التقنين الوضعي لها على شكل مواد محددة.
وأي حكم قانوني أو قضائي يخالف هذه الحقوق فهو لاغ لا قيمة له، لأن هذه الحقوق هي أساس التشريع...,
ثالثا: فصل السلطات: نشأت الحاجة إلى فصل السلطات في النظام السياسي الليبرالي باعتباره أكبر ضمان للحرية السياسية، وهو يعني انقسام السلطات إلى : تشريعية، وتنفيذية، وقضائية، بحيث تستقل كل منها بالتشريع، وتنفيذ القوانين، والقضاء، ولا تتدخل أي واحدة في شؤون الأخرى . والسلطة عندما تكون بيد واحدة فإنها تكون سببا في الاستبداد والطغيان.
رابعا: حدود سلطة المجتمع على الفرد:
فسلوك الفرد الذي يجب عليه مراعاته مع بقية أفراد المجتمع هو:
أولا: عدم الإضرار بمصالح الآخرين، و على أقل تقدير الحقوق الأساسية، سواء ذكرت هذه الحقوق بنص القانون الصريح، أو بالفهم الضمني.
ثانيا: تحمل الفرد لنصيبه من الأعباء التي يفرضها الدفاع عن المجتمع، وحماية أعضائه من الأذى...,
خامسا: حرية الفكر والرأي: المنطلق الأساسي لليبرالية هو " الحرية " كقيمة إنسانية ضرورية، ولهذا فإن من واجبات الدولة حفظ الحريات، وحرية الفكر والرأي من أهم الحريات، فهي الضمان اللازم لحماية الفرد من استبداد الحكومات ومفاسدها .
ويعتقد الليبراليون أن توسيع الخلاف، والتعددية في الآراء والأفكار ظاهرة إيجابية تنمي الفكر وتقوي الرأي، وتظهر الإبداع. ومن لوازم حرية الفكر عندهم: اعتقاد عدم امتلاك "الحقيقة المطلقة" لأن دعوى امتلاك هذه الحقائق يمنع من التفكير الحر, فالإيمان المطلق الذي لا يعتريه أدنى شك لا يتوافق مع الفكر الليبرالي الذي لا يبني عقيدة محددة يقينية, لأن ذلك يناقض حرية الفكر والمناقشة حسب وجهة نظرهم.
ولهذا فالمعتقدات الدينية – عندهم – تعصب لاعتقاد المؤمن بها والجزم بعقيدته، واعتقاد المتدين بطلان الدين الآخر! – وهذا مما يناقض الإسلام كما سيأتي -. ومن لوازم حرية الفكر عندهم – أيضا - : " التسامح الديني "، وهو موقف ليبرالي ظهر أول الأمر أعقاب عصر الإصلاح الديني كرد فعل على الحروب الدينية، فأصبح التسامح محور "الموقف الليبرالي". وهذا الموقف (التسامح) يعني عدم اعتقاد يقينية الإنسان لرأيه أو فكره أو مذهبه أو دينه، لأن هذا الاعتقاد ينافي التسامح في الفكر الليبرالي. فالتسامح يقتضي الاعتراف بالآخر، وعدم الجزم في الأفكار، واحتمال صواب المخالف .
2- الليبرالية الاقتصادية:
سبق أن بينا أن "الليبرالية" ارتبطت في صعودها وأفكارها بالطبقة الوسطى (البرجوازية)، وهذا يدل على أن الجانب الاقتصادي أكثر أصالة في المذهب الليبرالي من الجانب السياسي. وقد اعتبر "جون لوك" الملكية الخاصة من أهم الحقوق الأساسية للفرد، ولهذا أعطى الملاك حق الانتخاب، ومنع غيرهم من هذا الحق.
كانت أغلب البلاد الإسلامية تحت حكم الدولة العثمانية في عصر النهضة الأوروبية، وهي دولة قائمة على تحكيم الشريعة الإسلامية في الجملة، وكانت الدولة العثمانية هي الحامية لبيضة الإسلام والقائمة على نشر العلم واحترام العلماء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحاملة لراية الجهاد في سبيل الله، وقد فتحت أقطارا واسعة في القارة الأوروبية، وأخضعتها للإسلام. وقد تسللت الليبرالية إلى البلاد الإسلامية من خلال "الجمعيات السرية" التي كونها أفراد تأثروا بالفكر الغربي وانبهروا بحضارته المادية. وقد كانت بقية الأمة الإسلامية ثابتة على دينها لا تحتاج إلى الأفكار والنظم الغربية، وهي معتزة بدينها واثقة بصحته، وصلاحيته للحكم والعمل في كل زمان ومكان .
ولكن وجدت عوامل أضعفت ثقة الأمة بدينها، وهيئت المجتمع الإسلامي لتقبل الليبرالية وعدم مقاومتها، وهذه العوامل هي: الانحراف العقدي، والاستبداد السياسي، والجمود والتقليد، وهي ليست أسبابا مباشرة في وجود الليبرالية، ولكن هذه العوامل أوجدت أرضية متقبلة، ومناخا مناسبا للرضى بالليبرالية، والسكوت عليها.
ولا شك أن السبب المباشر لدخول الليبرالية في العالم الإسلامي هو " الاستعمار وأذنابه " من دعاة التغريب، والمنبهرين بالحضارة الغربية، ولكن دخولها لم يكن له أن يتم لولا وجود عوامل معينة ساعدت على عدم الوقوف الجاد في وجه هذه الأفكار الإلحادية.
ويجمع هذه العوامل " الانحراف "، وقد تم هذا الانحراف على يد الفرق الضالة كالمرجئة والصوفية ودعاة المذهبية، فهذه الانحرافات ساعدت على وجود الفكر الليبرالي عندما قدم مع الاستعمار وقد استغل المستعمرون هذه الانحرافات أبشع استغلال، ووظفوها في خدمة أهدافهم.
ولما احتلت بلاد المسلمين فرضت الليبرالية عليها في النظام السياسي والاقتصادي، ولما رأى الاحتلال عدم تقبل المسلمين لأي أمر غير مرتبط بالإسلام جاء بفكرة " تطوير الإسلام وتحديثه "، ومن هذه الفكرة خرج " مشروع الإسلام الليبرالي ".
أولا: الانحراف العقدي:
الانحراف العقدي هو السبب المباشر في ضعف الأمة الإسلامية وتخلفها وانحطاطها، وتراجعها في القرون المتأخرة، وتأثير الذنب (الانحراف العقدي) في الإنسان والمجتمع حقيقة شرعية، وسنة ربانية قدرها الله تبارك وتعالى في هذه الأمة، وهي من باب العقوبة على الذنب بالمصيبة. ويدل على ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ الرعد:11]، وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [ الأنفال:53]، فالضعف والهوان، والقابلية للمبادئ المنحرفة حصلت في الأمة الإسلامية بعد التغيير والتبديل في العقائد والتصورات.
....ولبيان حقيقة الانحراف العقدي في الحياة الإسلامية العامة، وآثاره العميقة، فإنه يجدر بنا توضيحه من خلال النقاط التالية:
أ- الفرق الباطنية المنحرفة وآثارها:
الباطنية : اسم عامل يدخل تحته عدد كبير من الفرق الكافرة في الحقيقة مع بقاء انتسابها للإسلام في الظاهر، ومنها: الإسماعيلية، والنصيرية، والدروز، والقاديانية، والبهائية، والرافضة لاسيما في العصور الأخيرة. وليس المقصود هنا بيان عقائدهم على التفصيل، ولكن المقصود بيان آثار هذه الفرق على المجتمع الإسلامي، فمن هذه الآثار:
1- إشاعة العقائد الكفرية بين المسلمين، وإلصاق هذه العقائد بالإسلام، فهذه الفرق لا تدعي أنها أديان مستقلة عن دين الإسلام، بل يدعي أصحابها أنهم مسلمون مع المناقضة التامة بين عقائدهم وبين الإسلام.
2- تفريق صفوف المسلمين وإشاعة الفوضى والاضطراب فيها، وقد كان لهم دول وحكومات وحركات وجماعات، وقد قاموا بحروب طاحنة داخل المجتمع الإسلامي، وأشغلوا الدول الإسلامية بمقاومتهم ورد كيدهم.
3- التعاون مع اليهود والنصارى للكيد بالمسلمين ؛ وقد كان لهم دور خبيث في إعانة الاستعمار ومساعدته في الاستيلاء على بلاد المسلمين...,
ب- الإرجاء وآثاره:
يعتبر الإرجاء من أخطر الانحرافات العقدية المؤثرة في حياة المسلمين، فمسألة الإيمان أهم مسألة عقدية لأنها أصل الدين وأساسه، وهي المعيار في معرفة المؤمن من الكافر، والموحد من المشرك، فالانحراف فيها لابد أن يكون له آثار عظيمة في المجتمع الإسلامي...,
ج- التصوف وآثاره: ظهر التصوف في فترة مبكرة من تاريخ المسلمين ، وتعود مصادره إلى نساك الهنود والفلسفة اليونانية الإشراقية، والزهد المسيحي وغيرها ، وقد أطلق عليهم كتاب الفرق الأوائل اسم " الزنادقة " ، ولا شك أن التصوف بصورته الراهنة ليس له علاقة بالزهاد والعباد الأوائل، بل هو بعيد كل البعد عن عقيدة الإسلام وسلوكه...,
ثانيا: الاستبداد السياسي:
وقد وجدت أسباب ساعدت في نموه، وبررت لوجوده، ودافعت عنه، ودعمته حتى وصل إلى هذا الحد المزري في الأمة.
ومن هذه الأسباب:
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
انتشار عقيدة الإرجاء والجبر – كما سبق – من خلال الصوفية والأشاعرة والماتريدية، وهاتان العقيدتان لهما تأثير كبير في ظهور روح الاستسلام للظلم، وتهوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالإرجاء يبرر الطغيان ويعتذر له.
دعم القوى الاستعمارية الأجنبية، والتي من مصلحتها بقاء الأمة الإسلامية تحت سلطة الأنظمة الاستبدادية، وهذا الدعم لا تكاد تخطؤه العين, ولا يزوغ عنه الفكر.
ثالثا: الجمود والتقليد:
ولهذا وقفت الدولة العثمانية موقفا سلبيا من دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، والعلامة الشوكاني، والشيخ الآلوسي وغيرهم، لأن علماء الدولة يعتمدون اعتمادا كاملا على المذهب الحنفي، وهو من أقوى المذاهب منعا للاجتهاد وأكثرها تعصبا، وأبعدها عن الواقعية لكثرة الافتراضات فيه، وقد زاد الأمر سوءا اعتمادهم على المذهب الماتريدي الكلامي في العقيدة، و على التصوف الغالي في السلوك.
وهذه الأمور الثلاثة (التقليد، والكلام، والتصوف) أحكمت غلق الباب في إمكانية عمل تجديدي من داخل المشيخة العلمية والسلطة السياسية في الدولة العثمانية...,
رابعا: القوى الاستعمارية:
تعود العداوة العميقة بين أوربا النصرانية والبلاد الإسلامية إلى الاختلاف الديني، وهذه حقيقة قررها القرآن الكريم ويشهد بها التاريخ والواقع، يقول تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [ البقرة:120]، ويقول تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [ البقرة:217]، ولهذا وقعت الحروب الصليبية القديمة والحديثة.
وعندما تخلت أوروبا عن النصرانية كدين لاهوتي، واعتنقت الفكر الليبرالي المادي العلماني بقيت معها " روح التعصب الصليبية "، وهذا ما يفسر التعامل الصليبي لأوروبا مع البلاد الإسلامية مع أنها دول علمانية مادية ملحدة.
وقد كانت البدايات الأولى للاستعمار في حركة الكشوف الجغرافية التي لبست ثوب العلم والاكتشاف، ورافق ذلك الحملة العسكرية التي تهدف إلى تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس. وقد انطلقت طلائع الاستعمار من روح صليبية حاقدة على الإسلام.
.....ويمكن الإشارة إلى:
جهود الاستعمار في فرض الليبرالية في العالم الإسلامي من خلال ما يلي:
إلغاء الحكم بالشريعة الإسلامية، واستبدال القوانين الوضعية بها، وذلك من خلال حكومة نيابية دستورية على النمط الغربي.
القضاء على التعليم الإسلامي، وتغيير مناهجه، وبناء المدارس الأجنبية، والمدارس التنصيرية في بلاد المسلمين بغرض التأثير على أبناء المسلمين ليسهل تقبل الأفكار الليبرالية، وتكسر الحواجز والعوائق دونها.
القيام بإبراز الطوائف والمذاهب غير الإسلامية، باسم "حقوق الأقليات "، وهذا العمل وغيره يبدو غطاؤه الظاهر حماية الحريات ونبذ الطائفية والتعصب، ولكنه يبطن أمرا آخر وهو إبراز هذه الطوائف، وتوليتهم على المسلمين، وإضعاف الروح الدينية في المجتمع الإسلامي.
تكوين جيل يحمل الفكر الليبرالي من أبناء المسلمين، وقد تم ذلك من خلال البعثات التعليمية، وبناء الجامعات المؤسسة على هذا الفكر، وجلب المستشرقين لها، ليكونوا أساتذة ومعلمين للجيل الجديد.
تعود جذور التقريب بين الإسلام والليبرالية إلى القرن التاسع عشر حيث تفككت الدولة العثمانية، واحتلت أكثر البلاد الإسلامية، وظهرت فيه قوة الغرب المادية، وضعف البلاد الإسلامية، وبرز فيه السؤال الفكري الشهير " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟".
وقد تمت عملية التقريب بين الإسلام والليبرالية في أجواء من الهزيمة النفسية أمام الغرب المنتصر، والذي أسر عقول الكثير من أبناء المسلمين في تلك الفترة، وجعل المقارنة بالغرب محمدة ومنقبة، وخاصة أنه صدم تلك الأجيال بأنواع جديدة من المعارف والعلوم في زمن ضعف العلم وانتشار الجهل وجمود التفكير وظهور التقليد من جراء آراء الفرق الضالة، والتعصب المذهبي، والاستبداد السياسي الذي سبق الكلام عنه.
وقد حصل التقريب بين الإسلام والليبرالية من طرفين:
أحدهما: "الحركة التلفيقية "
التي حصلت على يد محمد عبده وتلاميذه في التقريب بين الإسلام والحضارة الغربية وهي المعروفة " بالحركة الإصلاحية "، وقد انتهت بتحول تلاميذ محمد عبده إلى الليبرالية الصرفة.
والثاني: " الاستعمار "
وخاصة بعد دخول الولايات المتحدة للهيمنة على المنطقة بعد خروج الاستعمار البريطاني والفرنسي منها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وظهور الشيوعية ممثلة في الاتحاد السوفيتي كتحدي جديد لليبرالية الغربية.
وقد استفاد الاحتلال والقوى الاستعمارية مما يسمى الحركة الإصلاحية وقام بتوجيهها لتحقيق أهدافه في إضعاف المفاهيم الإسلامية الصحيحة في النفوس والقضاء على الوحدة الإسلامية.
أولا: المشروع الأمريكي لقضية الإسلام الليبرالي:
اهتمت الولايات المتحدة بتفسير الإسلام تفسيرا ليبراليا منذ وقت مبكر، لأن ذلك يحقق كثيرا من المصالح الحيوية لهيمنتها، فهي تعلم أن إقصاء الإسلام تماما من البلاد الإسلامية أمر مستحيل لقوة تأثيره وتعلق المسلمين به فوجدت في التبديل والتحريف له أنجح السبل للقضاء على فاعليته وتأثيره. ومن جهة أخرى فإن تفسير الإسلام وتأويله تأويلا ليبراليا يقوي علاقة هذه البلاد وشعوبها بالحضارة الغربية وقيمها مما يضمن عملية استمرار الخضوع لها.
ونشير هنا إلى بعض الوثائق والأعمال الأمريكية في هذا المجال:
مؤتمر الشرق الأدنى مجتمعة وثقافته، مارس 1947م.
مؤتمر الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة 1953م.
دراسة " الإسلام في العصر الحديث " (ولفرد كانتول سميث).
دراسة " الليبرالية الإسلامية: نقد للآيديولوجيات التنموية " ليوناردبايندر.
تقرير مؤسسة راندا الأمريكية عن الإسلام الديمقراطي.
والأهداف الحقيقية لهذا المشروع يمكن بيانها من خلال ما يلي:
أولا: إعادة ترتيب أوضاع المنطقة لتتقبل النموذج الليبرالي في الشأن السياسي (الديمقراطي)، والشأن الاقتصادي (الرأسمالية) لظنهم أن تطبيق الليبرالية في هذه البلاد الشرق أوسطية سيخفف الاحتفال الشعبي وبالتالي يفقد الإرهابيين (المجاهدين) التأثير على الشعوب الإسلامية في المنطقة.
ثانيا: تهيئة المنطقة للعولمة ودخول الشركات الغربية في أسواقها لزيادة الكسب، وحل مشكلة الفائض في الاقتصاديات الغربية، والبحث عن اليد العاملة الرخيصة.
ثالثا: العمل على تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول المنطقة من خلال الاقتصاد والشراكة في حلف جديد غير مرتبط بهوية دينية أو قومية.
ثانيا: الليبرالية في المال والاقتصاد :
دخلت الليبرالية في اقتصاد الدول الإسلامية من خلال سيطرة سيطرة الدول الراسمالية الكبرى على الاقتصاد العالمي، على ذلك ما كتبه "حسن حنفي" حيث يقول: " إن (الله) لفظة نعبر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرج، أي أنه تعبير أدبى أكثر منه وصفا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفا خبريا.. إنه لا يعبر عن معنى معين، إنه صرخة وجودية أكثر منه معنى يمكن التعبير عنه بلفظ من اللغة، أو بتصور من العقل، هو ردة فعل على حالة نفسية أو تعبير عن إحساس أكثر منه تعبيرا عن فقد، يكون في الحس الشعبي هو الله، وكل ما تصبو إليه ولا نستطيع تحقيقه فهو أيضا في الشهود الجماهيري هو الله ، ويقول أيضا " فالصفات السبع هي في حقيقة الأمر صفات إنسانية خالصة، فالإنسانية هو العالم، والقادر، والحي، والسميع، والبصير، والمريد، والمتكلم... هذه الصفات في الإنسان ومنه على الحقيقة، و في الله واليه على المجاز" .ومع أن هذه الإلحاد والإنكار لوجود الله تعالى منافيا للإسلام من أصله إلا أن حسن حنفي يلصقه بالإسلام، ويحتج لذلك بكتابات ابن عربي وابن سبعين والحلاج وغيرهم من زنادقة وحدة الوجود، وكتابات الفلاسفة كابن سينا وغيره، ويعتبر ذلك قراءة إسلامية للإسلام مختلفة عن القراءات السلفية غير العقلانية . وهو بهذا يؤسس للإلحاد الشيوعي إسلاميا . وبهذه الطريقة يناقش " أبو زيد " قضية النبوة ويجعلها إنسانية محضة، ولا تعدو أن تكون اتصالا بين الفكر والواقع، وهي مجرد درجة قوية من درجات الخيال الناشئ عن " فاعلية المخيلة الإنسانية" ، وأساس هذا الفكر الإلحادي هو أن تأويل النص لا توجد له حقيقة موضوعية وليس له معيار لمعرفة الحق من الباطل، لأنه مرآة صامتة " فالنص أخرس، صامت، مؤلفه قد مات، والمؤول هو الذي يجعله يتكلم "، والنتيجة أنه مع تعدد القراءات يكون كل قراءة ظنية ممكنة الصدق أو الكذب، ولا يمكن إقامة البرهان عليها .ومن النماذج التطبيقية لهذا الفكر " فصل الدين عن الدولة "، و" تنحية الشريعة وتطبيق القوانين الوضعية " ولهذا ظهر ما يسمى " الإسلام العلماني " .يقول حسن حنفي: " نشأت العلمانية استردادا للإنسان، ولحريته في السلوك والتعبير، وحريته في الفهم والإدراك، ورفض لكل أشكال الوصاية عليه، ولأي سلطة فوقية إلا سلطة العقل والضمير! العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ " . والفصل بين الدين والدولة، واعتبار الدين شأنا شخصيا بينما الدولة أمرا مدنيا يبني على العقل والمصلحة من النقاط التي اتفق عليها كتاب المدرسة العصرانية الحديثة منذ أيام علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم وإلى زماننا المعاصر .
ولاشك أن العصرانية وسيلة موصلة إلى العلمانية فيما مضى، أما الآن فقد اتفق العصرانيون والعلمانيون في تأويل عقائد الإسلام وأحكامه وأخلاقه ليتوافق مع التحديث الغربي، وهذا ما أصبح يعرف بالإسلام الليبرالي.
وقضية الموقف من الآخر والاعتراف به من أهم القضايا التي يناقض فيها دعاة الإسلام الليبرالي أصول الدين وحقيقة الإسلام والولاء والبراء. فالأديان السماوية متساوية في الصحة والقبول – عندهم -، وهذا يقتضي عدم تكفير الآخر المنافي في أساس الدين، يقول عبد العزيز كامل: "ونحن في منطقة الشرق الأوسط نؤمن بالتوحيد بطريقة أو بأخرى. وأقولها واضحة يستوي في هذا الإسلام والمسيحية واليهودية، حتى الإيمان بالأقانيم الثلاثة في الفكر المسيحي يختم بإله واحد، هذه منطقة توحيد والصور تختلف، حتى في مصر القديمة مع التعدد الظاهري كان للآلهة كبير هو أوزير . وتقف فكرة الاعتراف بالآخر واعتقاد صحة إيمانه، و في أقل تقدير عدم الجزم ببطلان عقيدة الآخر على أساس التعددية والتنوع والاختلاف.
ويتسع تعدد الحق عندهم إلى أن يصل إلى تصحيح الأديان الأخرى غير دين الإسلام، أو على الأقل عدم الجزم والتأكيد على أن عقائدهم باطلة، لأن هذا الجزم فكرة وثوقية مستعلية غير معترفة بالآخر.
ومدرسة الإسلام الليبرالي ذات تنوع عجيب في أشخاصها وأفكارها وأهدافهم ومقاصدهم وارتباطاتهم ومستوى آرائهم من حيث الغلو، فهي مكونة من نسيج متعدد يشكل تأويل الإسلام لموافقة العصر (العصرانية) قاعدته المشتركة. فقمة هذه المدرسة مجموعة من الزنادقة والملاحدة يناقضون جذور الإسلام وأصوله الأساسية ومنهم بعض المخلطين في الفكر والعقيدة، ومنهم منهزمون من الكتاب الإسلاميين وبعض الفقهاء والدعاة.
وتتنوع أفكارهم: فمنهم من يوافق الفلاسفة والحلولية والباطنية والملاحدة في نفي حقيقة الألوهية، والنبوة، والوحي، والغيبيات، ويرفض تحكيم الشريعة، ومنهم من يفصل بين الدين والدولة، ويرى ضرورة القانون الوضعي المدني، وضرورة الربا للاقتصاد المعاصر، وينفي الحجاب عن المرأة ويراه احتقارا لها، ويرى البعض عدم الاستدلال إلا بالقرآن، وينفي السنة والإجماع، ويطالب بتجديد أصول الفقه وغيرها من العلوم المعيارية، ولهم آراء ترفض الولاء والبراء، وتكفير المشركين، وتنكر الجهاد، وتؤمن بالديمقراطية، والتعددية، والحريات بما في ذلك التصريح بنشر الإلحاد وغيرها من الأفكار الشاذة.
وتختلف ارتباطاتهم: فمنهم عملاء للصليبية العالمية يتلقون الدعم المادي من العدو، ويتعاونون معه، ويشاطرونه الأفكار وأسلوب العمل، ويدافعون عن سياسيته، ومنهم مستلب حضاريا، منهزم فكريا غير قادر على الرفض مع ظهور علامات العدوان ودلائله ولكنه لا يتقاضى شيئا ماديا لآرائه، فهي ناشئة من الهزيمة الفكرية والنفسية مع قصور في العلم الشرعي، وتخليط في تكوينه الثقافي، ومنهم من يقف ضد المشروع الأمريكي ويناهضه، وهذا مع وجود آراء تقربه من مشروعه إلا أنه في تحسن مستمر، ووعي دائم، وتتكشف له الحقيقة، وهو مظنة العودة للحق إذا نوقش وتمت معه عملية حوار علمي مفيد.
وتختلف مستوى آرائهم: فمنهم من يناقض أصل الدين في العقائد والأحكام والأخلاق والأمور الاجتماعية، وهو الذي تمت الإشارة إليه في تقرير مؤسسة راند الأمريكية مثل من ينكر الألوهية والنبوة والغيبيات ويرى " تاريخية النص "، ويرفض تحكيم الشريعة، والحجاب، ويبيح الربا وغيره. ومنهم من يناقض أصول الدين بدرجة أقل غلوا مثل من لا يكفر المشركين، ويرفض الولاء والبراء، ويرى ضرورة القوانين الوضعية والربا وغيرها، ومنهم روافد لا يصلون لهذه الدرجة ولكن آراءهم ترفدهم عن غير قصد مثل من ينفي وجوب كراهة الكفار، ويجوز الحكم بالديمقراطية وغيرها.
دخلت الليبرالية إلى البلاد الإسلامية بشكل تدريجي وقد بدأ ذلك في أواخر عهد الدولة العثمانية التي كان لها دور كبير في المحافظة على ديار الإسلام، والحكم فيها بالشريعة الإسلامية في الجملة.
ولكن الدولة العثمانية رسخت الانحراف العقدي من خلال تبني الإرجاء والتصوف، وأهملت الشورى والمشاركة السياسية، وهذا ما جعل الدولة والمجتمع بحاجة ماسة للإصلاح، وقد كان هذا أثناء صعود الدول الأوروبية وقيام حركات التحرر بعدد من الثورات ضد العهد القديم مما نتج عنه تغير كبير في الأنظمة السياسية، والتركيبة الفكرية والاجتماعية في أوروبا.
في هذه الأثناء بدأت المطالبة بالإصلاح في الدولة العثمانية، ولكن عملية الإصلاح لم تتم بالأسلوب الصحيح، حيث تم ذلك على الطريقة الأوروبية. وقد كانت البداية غير مقصودة لتطبيق الليبرالية كنظام سياسي في الدولة، ويمكن تتبع عملية تسلل الليبرالية من خلال رصد بدايات التأثر بالنظام الليبرالي ومراحله متدرجا منذ التقليد الشكلي للأنظمة الغربية في أواخر الدولة العثمانية وإلى مشروع الشرق الأوسط الكبير ومنتدى المستقبل في واقعنا المعاصر، وذلك من خلال ما يلي:
عهد التنظيمات:
بدأ عهد التنظيمات عندما شعرت الدولة العثمانية بالوهن والضعف الشديد في حين أن أوروبا قد أثبتت تفوقا قويا في الميدان العسكري والسياسي والعلمي، وهذا ما جعل الدولة العثمانية تفكر في إيجاد طريقة تتمكن بها من اللحاق بالدول الأوروبية في التقدم الصناعي والإداري. وقد كان الخلل في هذه التنظيمات هو بناؤها على النموذج الغربي، وكان الواجب تحريك العقلية الإسلامية للاختراع والإبداع حسب الحاجة، وما يناسب الدولة، وتوسيع الإصلاح ليشمل تجديد الدين وتنقيته من شوائب الإرجاء والتصوف، وفتح باب الاجتهاد وغيره...,
المنهج التوفيقي بين الإسلام والحضارة الغربية الليبرالية : نشأ في عهد التنظيمات السابق، وما صاحبه من دعوة للإصلاح على النمط الأوروبي نخبة من الأساتذة والضباط وموظفي الدولة العثمانية تبنوا الإصلاح، واقتنعوا أن هذا الإصلاح لن يتم إلا بتبني بعض صيغ المجتمع الأوروبي.
.....ولكن هذه الحركة لم تبدأ منفصمة عن الإسلام، وهذا ما استدعى النظر في الإصلاحات الجديدة المأخوذة من أوروبا ومحاولة ربطها بأحكام الإسلام وعقائده. فقد مثل هذه الحركة من الجانب الفكري "ضياء باشا "، و " نامق كمال "، وهما ممن اطلع على الآداب الأوروبية وأعجبوا بها وشكلوا حزبا سياسيا وهو " حزب الشباب العثماني " وحاولوا الربط بين الفكر الليبرالي والإسلام.
......وفي مصر كان الطهطاوي ممن تشرب الأفكار الليبرالية وأعجب بها إعجابا كبيرا، وقد اطلع في رحلته إلى باريس على الفكر الليبرالي، وقرأ كتب التاريخ والفلسفة والفكر السياسي باللغة الفرنسية، وقد تعرف على فكر فولتير وروسو ومونتسكيو وغيرهم أثناء إقامته هناك. ....وممن تأثر بهذه المنهجية التوفيقية – أيضا – "خير الدين التونسي" الذي يقول عن الدول الأوروبية: " وإنما بلغوا تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي وتسهيل طرق الثورية " .
.....وممن ينبغي الوقوف عنده في هذا المجال " محمد عبده " فقد كان صاحب مدرسة مستقلة تخرج منها عدد من الليبرالية في البلاد الإسلامية.
ولهذا وقف الحاكم الإنجليزي لمصر كرومر مع محمد عبده وسانده في كثير من مشاريعه, ومن ذلك أنه احتضنه عندما اصطدم بالخديوي عباس حتى أصبح هو سنده في كل ما استهدفه من مشاريع تطوير الأزهر ومدرسة تخريج القضاة.
وقد ذكر كرومر في كتابه (مصر الحديثة) أنه منح محمد عبده خلال إقامته بمصر كل ما يملك من عون وتأييد, وأنه "محمد عبده" لم يكن يستطيع أن يحتفظ بمنصبه في الإفتاء لولا هذا التأييد.
الجمعيات والأحزاب السياسية الليبرالية :
ظهر في أواخر الدولة العثمانية جمعيات وأحزاب سياسية سرية تتلقى الدعم والمساعدة من الدول الاستعمارية التي كانت تتربص بالدولة، وتستعمل هذه الأحزاب للضغط عليها بما يوافق مصالحها.
وقد أنشأ كثيرا من هذه الجمعيات نصارى العرب في بلاد الشام، كما وجدت أحزاب تجمع بين بعض المسلمين والنصارى، وقد وجد بعض هذه الأحزاب لأفكار سياسية وقتية ثم انتهى. ومن أبرز هذه الجمعيات التي كان لها أثرا: جمعية الاتحاد والترقي: وهي أول جمعية منظمة تعتمد على الفكر الليبرالي بمفهومه العام، وترجع بداية ظهور هذه الجمعية إلى جماعة (الأحرار) التي تكونت في عهد السلطان عبد العزيز، وأنشأت في عام 1864م مجلة في لندن باسم "حريت" .
ومن خلال هذه الحركة تم التحول من الحكم بالشريعة الإسلامية – مع وجود التفريط والمخالفة- إلى الحكم بالطاغوت والتشريع بغير ما أنزل الله تعالى.
وقد كان وراء هذه الحركة يهود الدونمة في سلانيك, فمن خلال محافل الماسونية تكونت هذه الحركة الليبرالية, وأصبح كثير من أعضائها من اليهود الماسون. حزب الوفد :حزب الوفد هو امتداد لأول حزب ليبرالي تكون في مصر أثناء الاحتلال البريطاني، وهو حزب الأمة، وقد التأم حزب الأمة بين جماعة من كبار الملاك وآخرين من المثقفين و على رأسهم " أحمد لطفي السيد، وقد كان المثقفون أصحاب مذهب سياسي واجتماعي وهو (الليبرالية)، وحاولوا التوفيق بينه وبين رغبات هؤلاء الأعيان...,
التحول الديمقراطي ومشروع الشرق الأوسط الكبير:
لم تعرف البلاد الإسلامية الليبرالية إلا من خلال دعاة التغريب، ولم يكن لمفاهيمها السياسية تطبيق في الواقع إلا عن طريق الاستعمار الغربي، وقد كانت فترة الاستعمار هي " العصر الذهبي لليبرالية " في كل البلاد الإسلامية التي دخلها الاستعمار.
و " مشروع الشرق الأوسط الكبير " مشروع أمريكي، ولكن الاتحاد الأوروبي وخاصة ألمانيا وفرنسا كان له مشاركة فعالة لاسيما وأن الولايات المتحدة عرضت المشروع على قمة الدول الثمانية الكبار، وقد بدأ العمل بهذا المشروع من خلال "منتدى المستقبل". أما أبرز مبادئ مشروع الشرق الأوسط الكبير ، فهي:
أولا: تشجيع الديمقراطية (بمفهومهم! ).
ثانيا: بناء مجتمع معرفي.
ثالثا: توسيع الفرص الاقتصادية.
أما الأهداف الحقيقة لمشروع الشرق الأوسط الكبير:
مشروع الشرق الأوسط الكبير مشروع له أبعاد سياسية واقتصادية، وينطلق من المنفعة الغربية بالدرجة الأولى، فالغاية تبرر الوسيلة حسب الرؤية الميكافيللية الغربية، ولكنه يتذرع بالخوف على المصالح الغربية، ويتجمل بالحرص على الإصلاح وإشاعة الديمقراطية والحرية في العالم.
والمتابع للسياسة الغربية يجزم أن مصلحة المنطقة غير واردة في هذا المشروع، فالاستعمار البريطاني والفرنسي نهب ثروات الشعوب، واستعبد الناس وفق مصالحه الذاتية:
والأهداف الحقيقية لهذا المشروع يمكن بيانها من خلال ما يلي:
أولا: إعادة ترتيب أوضاع المنطقة لتتقبل النموذج الليبرالي في الشأن السياسي (الديمقراطية)، والشأن الاقتصادي (الرأسمالية) لظنهم أن تطبيق الليبرالية في هذه البلاد الشرق أوسطية سيخفف الاحتفال الشعبي وبالتالي يفقد الإرهابيين (المجاهدين) التأثير على الشعوب الإسلامية في المنطقة.
ثانيا: تهيئة المنطقة للعولمة ودخول الشركات الغربية في أسواقها لزيادة الكسب، وحل مشكلة الفائض في الاقتصاديات الغربية، والبحث عند اليد العاملة الرخيصة.
ثالثا: العمل على تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول المنطقة من خلال الاقتصاد والشراكة في حلف جديد غير مرتبط بهوية دينية أو قومية.
دخلت الليبرالية في اقتصاد الدول الإسلامية من خلال سيطرة الدول الرأسمالية الكبرى على الاقتصاد العالمي، ودمج بقية الدول فيه، والسعي لجعل الدول الصناعية مركز حركة المال في العالم، والدول النامية أطراف وحقول تجارب لهذه الدول، وهذا ما جعل الدول النامية في حالة خضوع كامل لتصرفات الدول العظمى الاقتصادية.
1- الليبرالية: تدعو إلى الحرية المطلقة وعبادة الفرد نفسه وهواه وشهوته وقد عبر عنها منظروها في الحضارة الغربية سواء في فرنسا أو في بريطانيا بأنها التفلت المطلق وهي أيضا تدعو إلى الحرية المطلقة التي لا تعترف بدين ولا نص مقدس ولا عادات ولا تقاليد ولا أي أمر يعيق الحرية الفردية.2- العصرانية : إشارة لتطويعهم نصوص الشريعة وأحكامها لتتوافق مع مستجدات العصر دون اعتبار لقداسة النص والمرجعية الشرعية وهي الكتاب والسنة .3ـ العقلانية : إشارة إلى تقديمهم وتقديسهم للعقل أو أنهم أهل عقل وحكمة ومن عداهم ليس لديه اهتمام بالعقل ويقصدون بذلك أصحاب الاتجاه السلفي تحديدا وتعاملوا مع العقل بالطريقة المنحرفة التي تعامل بها أهل البدعة عموما والمعتزلة على وجه الخصوص .4ـ التنوير: ظهر مصطلح التنوير(ENLIGHTENMENT) في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا تعبيرا عن الفكر الليبرالي البورجوازي ذي النزعة الإنسانية العقلية والعلمية والتجريبية ويتضمن هذا الفكر نزعة مادية واضحة بعد إقصاء اللاهوت وذلك بإحلال الطبيعة والعقل بدلا من الفكر الغيبي الثيولوجي والخرافي في تفسير ظواهر العالم ووضع قوانينه .
......فالتنوير إذن، كمصطلح شائع في الحياة الفكرية هو مصطلح أوروبي النشأة والمضمون والإيحاءات بل إنه عنوان على نسق فكري ساد في مرحلة تاريخية من مراحل الفكر الأوروبي الحديث حتى ليقال كثيرا في تقسيم مراحل هذا الفكر: "عصر التنوير".الفكر التجديدي: ويعنون به تغيير أصول الإسلام لا المقصود المتبادر من اصطلاح التجديد وهو إحياء ما اندرس من معالم الإسلام وأصوله فالمتمعن في كتب هذا التوجه يرى أنهم يدخلون في التجديد الابتداع في تغيير الإسلام وتغيير أصوله بما يتوافق مع الأهواء ويساير الواقع وتوجهات الأعداء ليقبلوا بهم .
أولا: اتباع الهوى:
فإن الهوى يعمي ويصم وعند غلبة الهوى لا ينفع العلم ولا المعرفة بل إن صاحب الهوى يستخدم العلم والمعرفة لتأييد ما يهواه ويسوع انحرافه وهذا ظاهر في كتابات هؤلاء حيث يفرقون بين المتماثلات وتظهر في كتاباتهم الخيانات العلمية والتناقضات حتى في أفكارهم وأطروحاتهم ومصادمة العقل والفطرة وكلها نتاج لاتباع الهوى ولهذا ماذا يمكن أن نسمي: بتر النصوص وإخراجها عن سياقها ومن ثم الطعن في صاحب المقال أو القدح في الفكرة؟ وما ذا نسمي الهجوم على رموز الإسلام ومناراته الشامخة والإشادة برموز البدعة والانحراف بل رموز الكفر والإلحاد؟.
وصدق الله العظيم إذ يقول: وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ[ الأنعام:119]
ثانيا : الانبهار بالحضارة الغربية:
وما يعبر عنه بالصدمة الحضارية وهي نتيجة لواقع المسلمين المؤلم من التخلف التقني والعملي التجريبي وهيمنة الحضارة الغربية في جانبها المادي وهؤلاء لم يرفعوا رأسا بالجانب الحضاري في تشريعات الإسلام التي لم يصل إليها الغرب ولن يصلوا إليها في تشريعاته وحفظه لحقوق الإنسان وحفظ كرامته وتوازنه بين حقوق الفرد والجماعة، وعظمة تشريعاته المعجزة التي تصلح لكل زمان ومكان وحتى لا نغرق في الواقع المؤلم فإن المؤشرات الحالية واستشراف المستقبل تبين أن المسلمين في طريق النهوض الحضاري وأنهم بدأوا في امتلاك كثير من أدوات التقنية والعلم.
ثالثا: الهزيمة النفسية:
والضعف والانكسار أمام الهجمات المتتالية، من قبل المستشرقين وتلاميذهم الذين كتبوا وألفوا في الطعن في الإسلام وتشريعاته وقدموا صورة مزيفة عن الإسلام الحقيقي الذي أنزله رب العالمين، وقد ظهر ذلك جليا في موقفهم من قضية الحدود والجهاد والولاء والبراء والموقف من القوانين الوضعية.
وصدق الله إذ يقول: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139] .
رابعا: الضعف العلمي:
وحين يقل العلم، ويتلقف هذه الشبهات قليلو البضاعة في العلم؛ فإنه بالتأكيد ستمرر عليهم الشبهات والتلبيس الحاصل الآن بدعاوى مختلفة كحرية النقد،أو الموضوعية، أو اختزال في النص،أو التقليد دون إعمال العقل، وهي في الحقيقة ـ لمن رزقه الله العلم النافع ـ دعاوى ساقطة مرذولة لأنها:
أولا: تخالف أصول الشريعة وضروراتها كحفظ الدين، فعلى سبيل المثال يطلب منا اليوم السماح بترويج الإلحاد ونشر باطلهم بحجة الرأي والرأي الآخر وتلغي هذه الضرورة المهمة التي هي محل إجماع.
وثانيا: أن ما يطرحه علماء الإسلام ودعاته يتوافق مع النصوص ولا يعارض ما يدعون إليه من الموضوعية والشمولية وعدم إقصاء الآخر ونحوها من العبارات المطاطة التي تحتمل معاني متعددة منها الحق ومنها الباطل.
خامسا: العوامل الشخصية:
لا شك أن شخصية الكاتب والملقي والمفكر لها تأثير على ما يطرحه من نتاج ثقافي، وهذا في الحدود الطبيعية لا يؤثر في الطرح كثيرا، أما إذا أصبحت هناك مشكلة في نفسية وشخصية الكاتب فهنا يحدث الانحراف والتطرف والغلو أو التفريط والتساهل في تقرير القضية العلمية وكثير ممن ينظرون لهذا الفكر تجد أن لديهم مشاكل شخصية ونفسية فعدد لا يستهان به من رواد هذا الفكر ومنظريه كانوا في ماضيهم أصحاب أفكار غالية ومتطرفة وحدثت لهم ردة فعل فأصبحوا أقرب إلى دعاة العلمنة والتحلل وجميع هذه الأفكار ـ وللأسف ـ تصاغ باسم الإسلام.
ساسا: الدعم الغربي لهذا التيار:
وهذا أمر حقيقي قطعي، فليس هو من قبيل الظن أو التوقع أو التخمين، وإنك واجد هذه الحقيقة فيما سجلته التقارير الغربية التي صدرت مؤخرا عن بعض المراكز البحثية التخصصية في الولايات المتحدة الأمريكية من الحث على دعم هذا التيار الذي يسمى بـ ( الإسلام الليبرالي) زورا وبهتانا ومنها: 1ـ تقرير جون بي آلترمان ( jon. Alnterman) مدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية الأمريكي ( studies centrer strategic and lnternational) حيث كتب جون بي آلترمان مقالا تحت هذا العنوان تحدث فيه عن تنامي الدعم الغربي لليبراليين العرب .
2ـ تقرير مؤسسة (راند) الأمريكية حيث نشرت مؤسسة (راند) الأمريكية تقريرا استراتيجيا بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي : الشركاء والموارد والاستراتيجيات) للباحثة في قسم الأمن القومي (شيرلي بينارد) وقد نشر هذا التقرير بعد أحداث سبتمبر 2001م وتحديدا في عام 2003م وفي ربيع عام 2004م قامت الباحثة نفسها بنشر ملخص عنه.
وقد جاء في الفصل الثالث من هذا التقرير وعنوانه : " استراتيجية مقترحة" توصيات عملية موجهة لصانع القرار الأمريكي لاستبعاد التيارات العلمانية والحداثية ولأنها أقرب ما تكون إلى قبول القيم الأمريكية الديمقراطية.وتقرر (بينارد) من خلال هذا التقرير أن الغرب يراقب بدقة الصراعات الإيديولوجية العنيفة داخل الفكر الإسلامي المعاصر وتقول بالنص : " من الواضح أن الولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث والمجتمع الدولي ككل تفضل عالما إسلاميا يتفق في توجهاته مع النظام العالمي بأن يكون ديمقراطيا وفاعلا اقتصاديا ومستقرا سياسيا تقدميا اجتماعيا ويراعي ويطبق قواعد السلوك الدولي وهم أيضا يسعون إلى تلافي ( صراع الحضارات) بكل تنويعاته الممكنة والتحرر من عوامل عدم الاستقرار الداخلية التي تدور في جنبات المجتمعات الغربية ذاتها بين الأقليات الإسلامية والسكان الأصليين في الغرب وذلك تلافيا لتزايد نمو التيارات المتشددة عبر العالم الإسلامي وما تؤدي إليه من عدم استقرار وأفعال إرهابية" .
3ـ تقرير صادر عن مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي ـ واشنطن، كتبه الخبير والمحلل السياسي بالمؤسسة المهتمة بشؤون الشرق الأوسط في الأيام القليلة الماضية نشاطا لافتا للنظر فقد نظم معهد " المؤسسة الأمريكية" مؤتمرا حول الديمقراطية في العالم العربي عنوانه " إلى المعارضين العرب: ارفعوا أصواتكم" ودعا إليه مجموعة من ممثلي التيارات الليبرالية لمناقشة دورهم في تحولات أوطانهم السياسية والاستراتيجية الأنجع للدعم الغربي لهم وتلاه " معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" بعقد ورشة عمل حول مستقبل الليبرالية العربية في ضوء نجاحات القوى الدينية في مجمل ما أجري من انتخابات في عام 2005م برلمانية في العراق ومصر و بلدية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
4ـ تقرير صادر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية بتاريخ 9 يونيو: ركز هذا التقرير على ضرورة أن يكون هدف أمريكا في الشرق الأوسط تشجيع التطور الديمقراطي وليس الثورة كما يجدر بصانعي السياسات أن يأخذوا بعين الاعتبار التنوع السياسي والاقتصادي في المنطقة وذكر التقرير أن عملية التطور الديمقراطي بطيئة ومتدرجة ويجب أن تتم من خلال النظم السياسية الموجودة في الدول العربية.وأشار التقرير إلى أن سياسة نشر الديمقراطية تؤدي إلى بعض المخاطر ولكن حرمان الشعوب من الحرية ينطوي على مخاطر أكثر، ونبه التقرير على أخذ الظروف الخاصة بكل دولة على حدة مع التأكيد على مبادئ أساسية مثل حقوق الإنسان وتقبل الآخر وسيادة القانون وحقوق النساء والأقليات وعدم ربط الإصلاح بالصراع العربي إلاسرائيلي" .
سابعا: الانكباب على تراث المنحرفين الزائغين من أمثال الصوفية الزنادقة والفلاسفة الملاحدة:
المتأمل في تاريخ هؤلاء الليبراليين يلحظ بجلاء أن انكبابهم على تراث المنحرفين الزائغين من أمثال الصوفية الزنادقة والفلاسفة الملاحدة ـ مع ضعف العلم والبصيرة ـ كان هو نقطة التحول الرهيبة في حياتهم الفكرية مثلما كان هو الشرارة النارية الأولى في تغير نسيجهم الثقافي حيث يفعل ذلك التراث فعله الفظيع في النفس الإنسانية إذ يغرز فيها حب التفلت والتحرر من أي قيود أو ضوابط شرعية كما أنه يعمق فيها منهج الشك في كل شيء حتى في قطعيات الدين وثوابته الراسخة.
جاءت الليبرالية إلى البلاد الإسلامية من خلال الاستعمار المباشر وإعادة تركيب البلاد المستعمرة على أسس ليبرالية تتوافق مع مصالح المحتل، وقد كان للمستغربين تأثير كبير في توسيع نطاق الليبرالية والمطالبة بها.
ولم تكن هناك حاجة ذاتية للفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية، وما يوجد من خلل في الأمة الإسلامية في مجال الحريات يمكن علاجه بالالتزام الحقيقي بالإسلام، وهو الكفيل بتحقيق الحرية والعدل في حياتها وهذا يؤكد أن الدعوة لليبرالية ذات مصدر خارجي أجنبي دعمته مجموعة معجبة بالغرب منهزمة أمام حضارته المادية.
وقد كانت البداية في الدعوة إلى الليبرالية تعتمد على الدعوة العامة للحرية واتباع الغرب في نهضته الجديدة للوصول إلى مستواه الحضاري المادي.
وهذه البداية تمت على يد تيارين هما:
- تيار عصراني:
يربط بين دعوته للحرية والإسلام، مع انبهار بالحضارة الغربية، ومحاولة نسبة بعض منجزاتها المحددة للإسلام مثل الحرية الديمقراطية، والتعددية، والاعتراف بالآخر وغيرها.
- تيار علماني: يطالب " بالحرية " على الطريقة الليبرالية الغربية دون الحاجة إلى الربط بالدين، يقول أحمد لطفي السيد " خلقت نفوسنا حرة، طبعها الله على الحرية. فحريتنا هي نحن.. هي ذاتنا، ومفهوم ذاتنا هي أن الإنسان إنسان، وما حريتنا إلا وجودنا وما وجودنا إلا الحرية ". وقد وضع " طه حسين " منهج النهضة في قوله: " هي أن نسير سير الأوروبيين، ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يعاب " .ويؤكد ذلك بقوله: " نريد أن نتصل بأوروبا اتصالا يزداد قوة من يوم إلى يوم، حتى نصبح جزءا منها، لفظا ومعنى، حقيقة وشكلا " .
وبهذا يتبين أن هذا التيار طالب بالحرية الغربية دون تهذيب أو تغيير, وقد كان لنصارى العرب دور كبير في ترسيخ هذا الفكر من خلال صحفهم ومؤلفاتهم.
وقد كانت هذه التيارات تهتم بالدعاية للفكر الليبرالي بصورة عامة, ولم تناقشه بطريقة علمية عميقة, ومما يؤكد ذلك أن صعود الليبرالية في البلاد الإسلامية لم يعرف مناهج الليبرالية واتجاهاتها الفكرية, وصراعها العقدي ولهذا لم تتأثر بموجبات المد والجزر لليبرالية الغربية.
وإذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر فإننا نجد الوضع قد تغير، حيث تعرف العالم الإسلامي على الليبرالية بشكل أكبر، ولهذا نشأت تيارات متعددة لليبرالية نذكر في هذا المقام أبرز هذه التيارات على النحو التالي: تيار الليبرالية الإسلامية :
وهذا التيار يسعى للتوفيق بين الليبرالية والإسلام ونفي التعارض بينهما، وقد نشأ هذا التيار أول الأمر في " الحركة الإصلاحية " على يد محمد عبده وتلاميذه، ثم بعد ذلك في " مدرسة التجديد " التي بدأت منذ الستينات الميلادية، وبعد أحداث 11 أيلول أصبح هذا الفكر أكثر بروزا من ذي قبل، وقد اعتنت الدول الغربية به للاستفادة منه في تسويق مشاريعها في البلاد الإسلامية.
وليست رؤية هذا التيار واحدة، ولكن إطارها العام هو التوفيق بين الإسلام والحداثة الغربية، والإصلاح الديني بما يتناسب مع هذه الحداثة، ولهذا اختلفت رؤيتهم بناء على معرفتهم بالحداثة الغربية وتطورها المستمر. يقول عبد الرحمن الحاج: " الوعي بالتاريخ هنا ليس في الشعور بالتغير الثوري الذي حدث في العالم، فجميع أشكال الخطاب الإسلامي " الإصلاحي " و "التجديدي" مؤمن من غير تردد بذلك، لكن تحليل هذا التغير وتفسيره أمر بدا مختلفا جدا في كل مرحلة من مراحله، وهي تتصل بمدى وعيه للحداثة وتطوراتها المتسارعة قربا وبعدا، ففيما " الخطاب النهضوي " لخط التقدم الغربي في شقه التنظيمي والمادي (الطهطاوي والتونسي) لم ير ضرورة في تطوير الخطاب الإسلامي، فمسألة " الإصلاح الديني " لم تستبعد وحسب، بل استهجنت ورفض التفكير فيها، وسرعان ما أدرك " الاصلاحيون " (عبده وتلاميذه) في إطار الحقبة الكولونيالية (الاستعمارية) أن المسألة أبعد من مجرد نقل للحضارة الغربية، وأن الفجوة الواسعة والمطردة بيننا وبين الغرب ليست مجرد تطورات تقنية وإدارية تنظيمية، إنها أيضا مسألة تطور في المعرفة الإنسانية، وليس في العلوم المادية فحسب، إلا أن تفسير التقدم الغربي بوصفه تطورا عن الصراع مع الكنيسة، وضع " الإصلاحيين " و " الخطاب الإسلامي " – بمنطق المقايسة بجامع علة متمثلة في النهضة الحديثة – أمام خيار إعادة إنتاج للنهضة على الإيقاع الغربي نفسه، وهكذا قرر زعماء الإصلاحية (عبده وتلاميذه) أنهم لابد أن يمارسوا دورا لوثريا، بل لقد صرحوا بأن الإصلاح الديني هو مثيل الإصلاح البروتستانتي تماما، هنا يبدو أن الزمن بدأ يصبح في الوعي الإصلاحي زمن الغرب وحضارته، وليس زمننا الخاص.. " ولم يكن حظ " مدرسة التجديد " أقل من ربط خطابها بتغيرات الحداثة الغربية، حيث سارت على خطا مدرسة محمد عبده مع غلو أكثر في تأويل النص الديني، ووضع أدوات جديدة في تأويله وصرفه عن حقيقته.وبهذا أصبح من الأمور العادية لدى هذا الخطاب التجديدي اعتبار قيم الليبرالية، وثقافة الديمقراطية أمورا ضرورية متوافقة مع حقيقة الإسلام، ولا ينكر ذلك إلا متشدد متطرف.
ومن ذلك النظر إلى الآخر (الكافر) دون تكفير أو إقصاء فضلا عن الجهاد والقتال، واعتبار الديمقراطية وما تقتضيه من تشريعات مدنية متوافقة مع الفكر السياسي الإسلامي. وينظر هؤلاء إلى التركيبة العالمية، وسيطرة الكفار، ونظم الحداثة الغربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية على أنها لا تعارض الإسلام، ويجب أن لا يسعى المسلمون إلى إنكارها بحجة وجوب تحكيم الشريعة، لأن الإسلام علاقة روحية وليس نظاما سياسيا شموليا يحكم حياة الناس بصورة كاملة، فالأمور المدنية تشريعية أو إدارية متروكة للناس يرون فيها ما يصلحهم .
تيار الليبرالية القومية :
وقد نشأ هذا التيار في وقت مبكر، وقد كان من رواده نصارى العرب، وقد استمرت القومية منذ نشأتها ليبرالية إلى الخمسينات ثم بدأت مرحلة جديدة، وكانت البداية عن طريق الانقلابات العسكرية في الوطن العربي، وقد كانت هذه الفترة وما بعدها تشهد مدا يساريا قويا، فتبنت الحكومات العسكرية النظرية الاشتراكية بحجة الاستقلال عن الإمبريالية الغربية، فأممت الكثير من وسائل الإنتاج، و في هذه المرحلة قطعت الحكومات العسكرية الصلة بالليبرالية قطعا باتا. ففي المجال السياسي اعتمدت فكرة الحزب الواحد مع التضييق على الحريات ومنع الأحزاب وتأميم الصحافة، و في المجال الاقتصادي قامت بتوسيع دور الدولة في تنظيم الاقتصاد، وتأميم بعض وسائل الإنتاج ولكن هذه التجربة فشلت وبدأت رياح التحول والعودة للديمقراطية، وكان ذلك على وجه التحديد في منتصف السبعينات .
وإذا تركنا جانب التطبيق العملي في أنظمة الحكم وسياسة الاقتصاد لأنها تتعرض لتغيرات متكررة فإن الجانب الفكري يعد منضبطا إلى حد ما.
ويتميز هذا التيار بقبوله لليبرالية في مجالها السياسي من خلال دعوته لتطبيق الديمقراطية، ورفضه لليبرالية في مجالها الاقتصادي المتمثل في اقتصاد السوق الحرة، والنظام الرأسمالي، ولعل أقرب اتجاه ليبرالي في أوروبا يشابه فكر هذا التيار ما يسمى " بالديمقراطية الاجتماعية " أو " الديمقراطية الاشتراكية ".
ولقد كان لهذا التيار دور إيجابي في بيان خطورة الليبرالية الاقتصادية ودورها المدمر للاقتصاد الوطني، وضرر تبني برامج التكيف الليبرالية على الأمة العربية وهو يدل على روح وطنية صادقة بعيدة عن التسويق لمشاريع المستعمر التي تريد الهيمنة على الأمة في ثرواتها وقيمها وثقافتها وحضارتها.
إن الباحث ليقف معجبا من الإنجاز المعرفي الذي قدمه هذا التيار في نقد الرأسمالية الليبرالية، والدور الرائد في كشف ألاعيبها وخداعها.
ولكن – مع الأسف الشديد – أن المنطق في ذلك منطلقا علمانيا صرفا، فهو لا يعرف الحق إلا من خلال الفكر الغربي ونتائجه، فعندما نقد وحشية الليبرالية وظلمها وعدوانها على الفقراء وتدميرها لمستقبل التنمية المستقلة، لم يبحث عن الحق في الشريعة الإسلامية الثرية، ولكنه اتجه للاشتراكية الغربية من خلال تبني أفكار طرف ليبرالي آخر (الديمقراطية الاشتراكية )، وهذا يدل على أنه لا يعرف الحق إلا من خلال الفكر الغربي، وهو – كذلك – يدل على الجهل العظيم بحقيقة الإسلام وشريعته الربانية....,فليس هناك فكر جديد سوى اجترار ما لدى الغربيين من أفكار، ربما يبدو هذا الاتجاه أبعد عن العمالة وأقرب للوطنية من " الليبراليين الجدد " على الأقل على المستوى النظري، ولكن المهم أن المرجعية الفكرية لديهم واحدة وهي العلمانية .
تيار الليبراليين الجدد:
هذا التيار حديث النشأة، فقد نشأ بعد سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي، وزاد حضوره في بداية القرن الحادي والعشرين، وبالذات بعد أحداث 11 أيلول 2001م. ويعتمد هذا التيار على تراث الفكر الليبرالي العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخاصة فكر حزب الأمة .وتتلخص أفكارهم فيما يلي: "حرية الفكر المطلقة، وحرية التدين المطلق، وحرية المرأة ومساواتها بالحقوق والواجبات مع الرجل، والتعددية السياسية، والمطالبة بالإصلاح الديني والتعليمي والسياسي، وفصل الدين عن الدولة، وإخضاع المقدس والتراث للنقد العلمي، وتطبيق الاستحقاقات الديمقراطية " .كما يعتمد على الأفكار الجديدة التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين وهي: "محاربة المجتمعات الديكتاتورية العسكرية والقبلية والحزبية المتسلطة، والمناداة بإقامة المجتمع المدني، وإحياء دعوة الإصلاح الديني من جديد، والتأكيد على العلمانية وفصل الدين عن الدولة" .تميز هذا التيار(تيار الليبراليون الجدد) عن التيارات الليبرالية الأخرى بعدة أمور ومنها :
أولا: الوقوف في صف المشروع الأمريكي في المنطقة، والمطالبة بما يريده ويسعى له مثل: تغيير مناهج التعليم، واستعمال القوة العسكرية لتغيير الأنظمة العربية، وفرض الديمقراطية عن طريق الاحتلال المباشر لهذه الدول، ولهذا فرحوا فرحا كبيرا باحتلال أمريكا للعراق، وقد صرح بعضهم بأنه يتلذذ بسماع صوت القنابل، ودوي الإنفجارات في بغداد، وكأنها " موسيقى بتهوفن".يقول شاكر النابلسي: " عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الدكتاتورية العاتية، واستئصال جرثومة الاستبداد، وتطبيق الديمقراطية العربية، في ظل عجز النخب الداخلية والأحزاب الهشة عن دحر تلك الدكتاتورية وتطبيق الديمقراطية" .
وأنه لا حرج من الإتيان بالإصلاح على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية.
ثانيا: تطبيق مقاييس النقد الغربي على نصوص الوحي، وإخضاع الوحي المقدس للمنطق العقلاني، وهذا عندهم هو الأساس العلمي في معرفة الحقيقة، وصحتها.
ثالثا: رفض العداء لغير المسلمين، واعتبار الموقف العدائي عند المسلمين ناتج عن ظروف سياسية واجتماعية معينة، وهي لم تعد قائمة الآن، ولهذا لا يصح أخذ هذه المواقف العدائية الموجودة في النصوص المقدسة، ومهاجمتهم وسفك دمائهم بناء على ذلك، لأن المصالح متغيرة، والمواقف متغيرة، فيجب تغير هذه العقائد. رابعا: " اعتبار الأحكام الشرعية أحكاما وضعت لزمانها ومكانها، وليست أحكاما عابرة للتاريخ كما يدعي رجال الدين، ومثالها الأكبر حجاب المرأة، وميراث المرأة.. إلخ " .
خامسا: رفض الارتباط بالإسلام لأنه ماض، واعتبار الموجود عبارة عن فكر علماء الدين كما يعبرون وليس الدين الرسولي، وهو يقف عثرة ضد الفكر الحر، وميلاد الفكر العلمي.
سادسا: "الشعوبية" وكره العرب واتهامهم بكل النقائص، وذكر مثالبهم ونقائصهم، واعتبار الدعوة للاستقلال مجرد شعارات غوغائية لا تمت للعقلانية بصلة. وقد تتبعت آراء هذا التيار فوجدت أنه تيار عميل للدول الاستعمارية، وخاصة الولايات المتحدة، ولا يخرج عن آرائها، فالمقاومة الفلسطينية والعراقية – عندهم – إرهاب وتطرف، ولا يمكن حل الصراع العربي الصهيوني إلا بالمفاوضات على الطريقة الأمريكية، وضرورة التطبيع الكامل مع إسرائيل، والدخول في العولمة واقتصاد السوق الحرة من أوسع أبوابها، وغير ذلك من الآراء، ولا تكاد تجد قضية سياسية إلا وتجد هذا التيار يتطابق في رؤيته مع الولايات المتحدة حتى على مستوى خلاف أمريكا مع الصين أو الهند، أو زيادة إنتاج النفط والموقف من شافير (الرئيس الفينزولي).
وهذا يؤكد أن هذا التيار عبارة عن احتياط إعلامي يستعمله الأمريكيون لتسويق أفكارهم وسياساتهم، وجناح فكر ورافد ثقافي لمشاريعهم في المنطقة الإسلامية.
كتب جون بي آلترمان (Jon B. Alterman) مدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية الأمريكي (Center for Strategic and International Studies) مقالاً تحت هذا العنوان تحدث فيه عن تنامي الدعم الغربي لليبراليين العرب محذراً من أن تعاظم هذا الدعم سيضر الليبراليين العرب ولن يفيدهم، ومحذراً الغربيين من الرهان عليهم. ويعد هذا المقال اختصاراً لمقال آخر كان قد كتبه أصبحت الحاجة ماسة إلى الليبراليين العرب أكثر من أي وقت مضى؛ حيث يرى فيهم بعض الغربيين الأمل والقوى القادرة على مواجهة خطر «القاعدة» لذلك يدعوهم كبار مسؤولي الحكومات في واشنطن ولندن وباريس وغيرها من العواصم الغربية إلى موائد الأكل وشرب الخمر.
لقد ازداد الدعم الغربي لليبراليين العرب، لكن يبدو أن تنامي هذا الدعم قد يحدث تأثيراً معاكساً؛ فبدلاً من أن يؤدي إلى تقويتهم فإنه سيؤدي إلى تهميشهم ووصمهم بالعمالة، بل جعل الكثيرين يتشككون في الإصلاح السياسي الذي يسعى الغرب إلى تحقيقه في المنطقة. يعتبر اتخاذ السياسة الغربية لليبراليين العرب قاعدة انطلاق لتنفيذ سياساتها في المنطقة أمراً منطقياً؛ بالنظر إلى التجانس الموجود بين الطرفين؛ فالليبراليون العرب على مستوى تعليمي جيد، ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة، وفي بعض الأحيان يتحدثون الفرنسية أيضاً. فالساسة الغربيون يجدون الراحة في التعامل معهم وهم كذاك يحبون التعامل مع الغرب.
لكن إذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، فيجب أن نعترف أن الليبراليين العرب القدامى قد كبر سنهم وازدادت عزلتهم وتضاءل عددهـــم، ولـم يعد لهــم إلا تأثيـر محدود في مجتمعاتهم والقليل من الشرعية؛ فهم بالنسبة لمواطني بلــدانهم وبخاصـة الشبــاب منهــم لا يمثــلون أمل المستقبل، بـل يمثلــون الأفكـار الغابـرة التـي لـم تنجـح في الماضي، ولـم يعـد لديهـم القـدرة على استمالة قلوب وعقول أبناء بلدانهم.
إن اهتمام الغرب المتزايد بالليبراليين العرب يُنذر بتأزم موقفهم، ويجعلهم يوصَمون بالعمالة، ليس العمالة الهادفة إلى تحقيق الحرية والتقدم، ولكن العمالة للغرب ومساعدته في مساعيه لإضعاف وإخضاع العالم العربي. بل الأسوأ من ذلك جعلهم يتحولون إلى الغرب؛ حيث يجدون حفاوة الاستقبال تاركين بذلك مجتمعاتهم؛ لأنهم لا يجدون فيها تلك الحفاوة التي يجدونها في الغرب.
إن الناظر إلى حال الليبراليين العرب يجد أن السواد الأعظم منهم ينتظر أن تأتي الولايات المتحدة لتسلمهم مفاتيح البلاد التي يعيشون فيها؛ في الوقت الذي تقوم فيه الجماعات المحافظة بعمل برامج نشطة إبداعية مبهرة يقدمون من خلالها مجموعة من الخدمات التي تمس الحياة اليومية للمواطنين. مع هذا؛ فإن كثيراً من الليبراليين يعتقدون حتى الآن أن دورهم ينتهي بمجرد كتابة مقالة.
وإن من غير المحتمل أن يؤدي هذا الدعم المتنامي إلى انغماس هؤلاء الأشخاص في مجتمعاتهم، بل على العكس؛ فإن ذلك الدعم سيشكل حافزاً لهم لتعلم كيفية الحصول على المساعدات من
الهيئات الغربية التي تقدم المعونة. وقد ذكر لي أحد أصدقائي بالإدارة الأمريكية أن نموذج المتلقين للمعونة التي تقدمها الإدارة الأمريكية هو ابن لأحد السفراء من أم ألمانية وتصادف أنه يدير منظمة أهلية. إن تقديم المساعدات إلى تلك المنظمات لا يجعلها تبدو نبتاً للوطن بل على العكس يقلل من ذلك التصور.
إن السياسة الحكيمة تقتضي تنفيذ النقاط الثلاث الأساسية التالية بدلاً من الرهان على الليبراليين العرب:
أولاً: أن نستثمر الحرية؛ وذلك بأن ندعم الحرية للجميع ليس فقط لمن يدعمون أفكارنا، بل ولمن يعارضونها. وقد يرى بعضنا أن الضغط على الحكومات العربية لإتاحة المجال أمام حرية التعبير وحرية إنشاء الجمعيات الأهلية والانضمام لها يشكل خطراً كبيراً، خاصة في ظل الحرب العالمية على الإرهاب. لكن ذلك أمر غاية في الأهمية؛ لأن تلك الحرية ستوجد سوقاً حرة تُعرض فيها كل الأفكار، وهو الأمر الذي سيمكِّن الليبراليين من كسب الدعم الشعبي بدلاً من أن يُنظَر إليهم على أنهم قد اختيروا من الغرب ليكونوا بديلاً عن القوميين والمحافظين والراديكاليين. نحن دائماً ندعي أننا نرغب في أن تقوم دولة عظمى بإدارة الشرق الأوسط كي تتيح المجال للمنافسة. إذاً لماذا لا نرحب بتلك المنافسة بين الأفكار المبنية على مبدأ تكافؤ الفرص للجميع؟
ثانياً: يجب أن نقلل من الشروط والصفات المطلوبة في المنظمات التي نقدم لها الدعم. فعدم تقديم الدعم لمنظمات تقوم بأعمال إرهابية يعد أمراً طبيعياً. لكن سياسة منع الدعم عن المنظمات التي لا تقدم الدعم لسياستنا تعتبر هزيمة لأنفسنا، وستؤدي بنا إلى العزلة، كما ستضعف من مصداقية كل من نرغب في العمل معه.
ثالثاً وأخيراً: يجب استحداث أنشطة جديدة لا تحمل ختم الإدارة الأمريكية؛ هذه الأنشطة الجديدة يمكن أن تنفذ بمشاركة من الحلفاء الأوروبيين الذين يشعر الكثير منهم بالقلق من تأزم الوضع السياسي والاجتماعي في العالم العربي. بعض الأنشطة الأخرى يمكن أن تقوم بها المنظمات الأهلية والجامعات ومؤسسات أخرى. الهدف من ذلك ليس إخفاء الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة في هذه الأنشطة، بل الهدف هو جذب قطاع كبير من المجتمعات الشرق أوسطية إلى قطاع كبير من المجتمعات الغربية.
كما يجب أن لا نتخلى عن الليبراليين العرب؛ فكثير منهم يقاتل بشجاعة في سبيل تحقيق أفكار ندعمها، والتخلي عنهم سيبعث بـرسـائل خاطئـة. لكـن فـي الوقـت نفـسه يـجب أن لا نعلق أملنا على نجاحهم؛ فالأفضل لنا أن نحقق نجاحات جزئية مع قطاع كبير من العامة بدلاُ من أن نحقق نجاحاً كبيراً مـع مجموعة مـن النخبـة المنعـزلة والتـي لا تتمتع بأي تفويض شعبي.
إننا نريد أن نروِّج للفكر التحرري بين جماهير العالم العربي الموجودة في القاهرة وبغداد وبيروت، وليس في واشنطن ولندن وباريس؛ لذلك يجب أن يأتي الدعم المقدم إليهم من حكومات تلك الدول وليس من الحكومات الغربية. وإذا نسينا ذلك فعندئذ لن نكون قد أسأنا لأنفسنا فقط، بل سنكون قد أسأنا في حقهم أيضاُ.
من المسلمات الشرعية أن النص الشرعي هو المرجع وهو الحاكم في حياة المسلمين والعقل مصدر تابع له.
وقد تباينت مواقف هذه المدرسة المنحرفة التي تخالف أصول الإسلام من هذه القضية الكبرى وهي مرجعية الشريعة وتعظيم النصوص الشرعية فحصل منهم تعد وتهوين من شأن النصوص الشرعية لأنها هي العائق الكبير أمام ما يطرحونه من أمور تخالف الشرع صراحة فعمدوا إلى موقف سيئ من النصوص الشرعية يتجلى في القضايا الآتية:
1ـ تقديس العقل في مقابل التهوين من شأن النصوص:
وقبل الحديث عن موقفهم من النص الشرعي وتقديمهم العقل عليه لا بد من تجلية موقف الإسلام من العقل وأهل السنة تحديدًا وأنهم هم أهل العقل والحكمة وليس كما يصمهم خصومهم بأنهم حرفيون ونصيّون وعبدة نصوص وجامدون وغيرها من الألقاب التي ـ إن شاء الله ـ لن تغير من الواقع والحقيقة شيئا فنقول:
أولا : صور تكريم الإسلام للعقل:
1ـ إشادة القرآن الكريم وثناؤه على من استعمل عقله وذمه لمن عطله.قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ".. مدح الله العلم والعقل والفقه ونحو ذلك في غير موضع وذم ذلك في مواضع .، وفي كتاب الله آيات كثيرة تثني على من أعمل عقله واستعمله فيما خلق له كما في مثل قوله تعالى وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ[العنكبوت: 43] وفي مثل قوله تعالى يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ[ البقرة:269]
2ـ جعل الإسلام للعقل حدودا لا يتعداها:
من المسَّلم به لدى العقلاء أن العقل البشري هو كغيره من أعضاء الإنسان له طاقة محدودة واختصاص معين ومن الخطأ والعبث أن يطالب بما فوق طاقته وأن يطالب كذلك بما هو خارج عن اختصاصه فإذا حمل فوق طاقته كان نصيبه العجز والهلاك وإذا استعمل خارج نطاق اختصاصه حاد عن الصواب وكان نصيبه التخبط والانحراف.يقول السفاريني ـ رحمه الله ـ : " فإن تسليط الفكر على ما هو خارج عن حده تعب بلا فائدة ونصب من غير عائدة وطمع في غير مطمع وكد في غير منجع" ....
3ـ العقل أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها:
جاءت الشريعة بحفظ العقل؛ لأنه أحد الضروريات الخمس التي لا بد منها لقيام مصالح الدين والدينا وقد حفظت الشريعة جانب العقل من ناحيتين: الناحية الأولى : من جانب الوجود؛ وذلك بفعل ما به قيام العقل وثباته ولما كان العلم النافع يزيد من قوة إدراك العقل ويزيد من عمق تفكيره جعل منه الإسلام ما يجب تعليمه على كل مكلف سواء كان ذكرا أو أنثى وهذا العلم منه ما هو فرض عين لا يعذر أحد بجهله ومنه ما يكون فرض كفاية .
الناحية الثانية: من جانب العدم وذلك بحفظ العقل من كل ما يؤثر فيه بشكل سلبي وهذا يتضح فيما يلي: أ ـ حرم الإسلام الجناية على العقل بالضرب والترويع، وجعل الدية كاملة على من تسبب في إزالته يقول ابن قدامة ـ رحمه الله ـ : " وفي ذهاب العقل الدية، لا نعلم في هذا خلافا.." .ب ـ النهي عن كل ما يؤثر على وظائفه ومن ذلك : تحريم شرب الخمر وكل مسكر ومفتر قال القرطبي ـ رحمه الله ـ : " إن السكر حرام في كل شريعة لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدها وأصل المصالح العقل كما أن أصل المفاسد ذهابه فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه" .ج ـ ومن صور محافظة الإسلام على العقل، تحريم ما تنكره العقول وله تأثير عليها كالسحر الذي يذهب العقل كليا أو جزيئا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ((اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله، والسحر..)) .
4ـ العقل مناط التكليف: من القواعد المعلومة في هذا الدين أن العقل مناط التكليف في الإنسان وإذا زال العقل زال التكليف فالتكليف يدور مع العقل وجودا وعدما ومن هنا يتبين أهمية العقل ومكانته في الإسلام إذ بالعقل الذي هو عمدة التكاليف يكون التفضيل لهذا الإنسان كما بين ذلك القرطبي ـ رحمه الله ـ بقوله : "والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب فمثال الشرع الشمس، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء" .ويقول الشاطبي ـ رحمه الله ـ " إن مورد التكليف هو العقل وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا وعد فاقده كالبهيمة المهملة" .
5ـ العقل له دور فعال في قضية الاجتهاد: من المعلوم أن استنباط الأحكام فيما لا يوجد نص من كتاب أو سنة أو إجماع يرجع إلى الاجتهاد الذي يقوم مداره على العقل حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ حاضا عليه ـ عند فقد النص: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) .فجعل من اجتهاد العقل أساسا للحكم ـ لمن هو أهله ـ عند فقدان النص مع تثبيت الأجر عند الخطأ. .
ثانيا : مكانة العقل في الإسلام:
العقل نعمة عظيمة امتن الله بها على بني آدم وميزهم بها على سائر المخلوقات غير أن هذا التكريم لا يتحقق إلا إذا كان العقل مهتديا بوحي الله محكوما بشرع الله وبذلك ينجو صاحبه من الضلال ويهتدي إلى الحق كما قال تعالىوَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[ آل عمران:101]
أما إذا كان العقل مقدما على وحي الله حاكما على شرع الله فقد ضل صاحبه سواء السبيل كما قال تعالىفَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[ القصص:50]
ومن هنا وقف الإسلام موقفا وسطا تجاه العقل فلم يتخذ مسلك الفلاسفة والمعتزلة الذين غالبوا في تقديس العقل وجعلوه الأصل لعلومهم ومعارفهم وسبيل الوصول إلى الحقائق والحكم المقدم على النقل والشرائع.
..........كما أن الإسلام لم يتخذ مسلك الصوفية والرافضة الذين ذموا العقل وعطلوه واعتقدوا ما لا يقبل ولا يعقل من الحماقات والخرافات.
......إن الإسلام كمنهج رباني أنزله اللطيف الخبير ـ جلا وعلا ـ اتخذ مسلكا وسطا تجاه العقل حيث عرف للعقل قدره فوضعه في مكانه اللائق به بلا إفراط ولا تفريط وإليك كلاما نفيسا بحق ـ يكتب بمداد من ذهب على صفحات من نور ـ لشيخ الإسلام ابن تيمية يوضح فيه حقيقة تلك المسالك المنحرفة تجاه العقل مع بيان المنهج الوسطي (المنهج الحق) في هذه القضية يقول ـ رحمه الله ـ : " ولما أعرض كثير من أرباب الكلام والحروف وأرباب العمل والصوت عن القرآن والإيمان : تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة يجعلون العقل وحده أصل علمهم ويفردونه ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له.
......هكذا وقف الإسلام متمثلا في منهج أهل السنة والجماعة موقفا متميزا تجاه العقل أما الليبراليون فقد اتخذوا مسلك الفلاسفة والمعتزلة تجاه العقل يظهر هذا بجلاء من خلال الجوانب الآتية:
1ـ تقديس العقل في مقابل التهوين والتهكم من شأن النصوص: أ ـ خالص جلبي يدعو إلى أن يتجاوز العقل نطاق الثوابت الدينية ويقفز عليها يقول " المواطن العربي اليوم محاصر في مثلث من المحرمات بين الدين والسياسة والجنس كل ضلع فيه مثل حاجزا شاهقا لا يستطيع أفضل حصان عربي رشيق أن يقفز إلا بالقفز إلى الإعدام فأمام حائط الدين يطل مفهوم الردة وأمام جدار السياسة يبرز مصطلح الخيانة، وعند حافة الجنس تشع كل ألوان الحرام والعيب فالعقل مصادر ومؤمم وملغى حتى إشعار آخر" ثم يدعو إلى ثورة عقلية : " لا بد من تدريب عقولنا على النقاش والجدل وذلك يفتح طرقا عصبية رائدة فالعقل النقدي والعقل النقلي ميت" .
ب ـ وها هو يوسف أبا الخيل يرى أن النصوص في الشريعة الإسلامية جاءت محدودة بطبيعتها باعتبار توقف الوحي بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن هنا اقتصرت الشريعة بناء على تلك النصوص على بيان الفروض والحدود أما ما سوى ذلك فهو ميدان العقل والتدبير الإنساني وقد استند أبا الخيل في رأيه هذا على كلام لابن المقفع الفارسي!
وها هنا حقيق بك أن تعجب أخي القارئ غاية العجب أتدري لمََ ؟لأن هذا الرجل الذي جعله أبا الخيل عمدته فيما ذهب إليه من رأي هو رجل متهم بالزندقة .
2ـ تقديم المصلحة المتوهمة على النص:
هذا الموقف المنحرف متفرع عما سبق من غلوهم في جانب العقل على حساب النقل ـ عياذا بالله ـ حيث اعتقدوا أن العقل له الصلاحية الكاملة والأهلية التامة في أن يستقل بإدراك المصالح والمفاسد بعيدا عن نور الوحي وهذا بلا ريب مصادم للحق والحقيقة إذ إن العقل ـ كما ذكرنا آنفا ـ تابع للشرع وخاضع تحت حكمه فلا يجوز له حينئذ أن يتخطى ما حده الشرع زاعما أنه إنما يتبع المصلحة ويرد الإحسان والتوفيق بل الحكم الأول والأخير للشريعة.
ومعلوم أن العلماء جعلوا المصالح على أنواع منها : مصالح معتبرة يؤخذ بها وهي ما دل الدليل على اعتبارها وجوازها وحليتها ودعا إليها ومصالح ملغاة لا اعتبار ولا ميزان لها وهي ما جاء النص صراحة بإلغائها كما حرم الخمر مع اشتماله على بعض المصالح وهي مصالح ملغاة بنص الشارع الحكيم وأصحاب هذه المدرسة يصرحون ـ كما سوف يأتي ـ باعتبار المصالح الملغاة ويضربون بالنصوص الشرعية التي جاءت مصادمة لهذه المصالح عرض الحائط فيصبح الدين تبعا لهوى وما تمليه الشهوات والأهواء لا عبودية لرب الأرض والسماء...
ثم نحن نتساءل أخيرا: إذا كان العقل له الصلاحية الكاملة والأهلية التامة ـ كما يعتقد الليبراليون ـ في أن يستقل بإدراك المصالح والمفاسد بعيدا عن نور الوحي فما الفائدة إذا من إنزال الكتب وإرسال الرسل؟! كما أن هذا الاعتقاد قد يقودهم إلى أمر خطير للغاية ألا وهو: اتهام الله ـ جل وعلا ـ بالعبث في أفعاله وتقديره ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ ذلك لأن من غايات إنزال الكتب وإرسال الرسل تعريف الناس بالشر والخير وبيان المصالح والمفاسد لهم . فإذا كان العقل البشري يستقل بمعرفة ذلك ـ كما يعتقد كثير من الليبراليين ـ كان إنزال الكتب وإرسال الرسل حينئذ ـ لا طائل من ورائه ولا جدوى فيه وهذا هو حقيقة العبث الذي يتعالى الله عنه علوا كبيرا.
إن هذه المفاسد الخطيرة الناجمة عن اعتقادهم باستقلال في إدراك العقل وفي إدراك المصالح والمفاسد تكفي العاقل المنصف في بيان فساد هذا الاعتقاد وانحرافه عن جادة الصواب.
أقوال الليبراليين في هذا الجانب:
أما أقوال الليبراليين التي تبرهن على أنهم يقدمون المصلحة المزعومة على النص الشرعي فهي كما يلي: أ ـ يقول مشاري الذايدي : " نحن مطلوب منا أن نمارس السياسة وفق مصالحنا وحيث ما كانت المصلحة كان دين الله هكذا أفهم الأمور هكذا أفهم الأمور" .ب ـ يقول محمد المحمود: " ما نحتاجه الآن : قطيعة نوعية مع تراث بشري تراكم على مدى أربعة عشر قرنا يقابله اتصال خلاق بالنص الأول في مقاصده الكبرى وليس مجرد ظاهرية نصوصية لا تعي ما بين يديها ولا ما خلفها" .
ـ دعوى تعدد قراءات النص الواحد: يعتقد الليبراليون أن النص الشرعي له قراءات متعددة وتفسيرات متنوعة وكلها صحيحة وهذه العقيدة من الفساد بمكان لأنها تفتح الباب على مصراعيه لكل مبطل أن يستدل على مذهبه الفاسد من النص الشرعي بدعوى (تعدد قراءات النص) ولا ريب أن هذا أصل خطير يسوغ زندقة كل متزندق وكفر كل كافر فالباطني مثلا الذي يفسر قول الله تعالى إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً[ البقرة: 67] بأنها عائشة ـ رضي الله عنها ـ بناء على ذلك الأصل قوله حق والذي يقول: إنها البقرة المعروفة قوله حق. .ويطلق بعض الأئمة على هذا الأصل (دعوى عدم إفادة النص للعلم واليقين) .
والعجيب أن زنادقة عصرنا من المتكلمين الذين يسمون (مثقفين!!) و(عصريين! ! ) اتكأووا على هذا الأصل لتسويغ باطلهم وتمرير انحرافهم ولهذا زعم من زعم منهم أن القرآن يمكن أن يدل على كل مذهب في الأرض.وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أن أصل هذا المذهب الفاسد، يرجع إلى قول السوفسطائية من الفلاسفة، ثم أخذه عنهم طوائف من ملاحدة الصوفية .
والفلسفة المعاصرة أخذت في بعض تقاريرها بهذا المذهب الفاسد، فصححوا كل الأديان والمذاهب الباطلة، ولم يجعلوا لنصوص القرآن والسنة منزلة ولا حرمة، فكل شخص يفهم النص بما يريد ويشتهي لا بما هو عليه الحقيقة.
أقوال الليبراليين في هذا الجانب:
يوسف أبا الخيل يزعم أن دعوى تعدد قراءات النص الواحد قد أصلها علي –رضي الله عنه- بينما القول بوجود قراءة واحدة للنص هو مذهب الخوارج!!ويقول أيضا:" إن أول خطوة في مكافحة العصاب الوسواسي للتعصب تكمن في تقديري في إصلاح مناهج المواد الدينية التي تقدم للناشئة في مراحل التعليم العام؛ بما يؤدي بها إلى أن تقدم مضمونا يعلم الطالب التفرقة بين النص الديني في ذاته المتعالية وبين قراءته البشرية، بحيث يتم (تعبئته) الذهنية الطرية الغضة بأن النص في ذاته كبنية متعالية هو واحد لا يتعدد ولا يتنسب (من النسبية)، أما قراءة البشر لهذا النص فهي تتعدد وفقا للدوافع الرغبوية للقارئ وللظروف الزمانية والمكانية والحاجات المعيشية والنوازل الجديدة التي تحيط به سواء أكان هذا القارئ فردا أو جماعة أو مذهبا أو طائفة". .
4- رد السنة صراحة لأنها لا تتوافق مع العصر ومتطلباته ومستجداته:
موقفهم من قضايا التوحيد والإيمان:
موقف الليبراليين من قضايا التوحيد والإيمان موقف في غاية القبح والشناعة، حيث يلوح في مقالاتهم التهوين والتقليل من شأن قضايا التوحيد، بل وصل الأمر ببعضهم إلى درجة الاستخفاف والسخرية بهذا الأصل العظيم الذي قامت من أجله السماوات والأرض.
كما أنهم حرفوا مفهوم الإيمان، وأخرجوه عن مدلوله الشرعي الذي جاء واضحا بينا في نصوص الوحيين، كذلك فإنك تلحظ في كتابات بعضهم النزعة الإلحادية المادية كقولهم: إن الطبيعة هي التي تعطي وهي التي تمنح!!
أقوال الليبراليين في هذا الجانب:يرى محمد المحمود أن تطبيق التوحيد على أرض الواقع من المنظور السلفي يقارب الهوس الأيديولوجي؛ حيث يقول:"إن السلفية التقليدية المتغلغلة في أعماق وعينا الاجتماعي والثقافي، تزعم أن (التوحيد) هو مرتكز خطابها، وأنها – كخطاب أيديولوجي نشط – تسعى للقضاء على مظاهر التوثن، أيا كانت تمظهراتها في المجتمع، هذا الزعم يكاد – إبان محاولة موضعته في الواقع – يقارب درجة الهوس الأيديولوجي، أو يتم من خلاله ممارسة سلوك النفي (المفاصلة) للآخر الإسلامي في الداخل والخارج، تحت وعاء التمذهب والافتراق" .كما يقول:"ربما كان من قدر المرأة لدينا، أن تواجه أكثر من سور منيع، يحول بينها وبين الحصول على أقل القليل من حقوقها الفطرية، تلك الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة ابتداء" .
وهاهو المحمود يضع تفسيرا غريبا لمعنى الإيمان ومدلوله بعيدا عن المعنى الشرعي المنصوص عليه، حيث يجعل الإيمان مرتبطا بالإنسان والعلم المادي، قائما عليهما كما هو الشأن في عصر التنوير الأوروبي، يقول:"لم ينهض التنوير الأوروبي المجيد، الذي أخرج إلى الإنسانية من ظلمات الجهل والتخلف والانحطاط، إلى نور العلم والتقدم والمدنية الإنسانية، إلا على إيمان راسخ وعميق بهذا الإنسان، إيمان متفائل، يتكئ على فعاليات عقلية، ومعطيات تجريبية من عالم الوقائع المادية، ولكنه – قبل ذلك وبعده – يكاد يكون عقيدة كلية، تستولي على مشاعر أولئك الفلاسفة العظام، في عصر النهضة الأوروبي"
موقفهم من قضايا الولاء والبراء والحكم بما أنزل الله:
يتضح من خلال كتابات الليبراليين التحريف والتبديل والتشويه لهذه القضايا العقدية.
أقوال الليبراليين في هذا الجانب:يوسف أبا الخيل يرى أن الأخوة ينبغي أن تبنى على أساس الإنسانية لا على أساس الدين والمعتقد، ولا ريب أن هذا هو دين الماسونية الخبيث، وليس دين الإسلام الذي أنزله الله جل وعلا على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم , يقول: "الإنسانية بآفاقها الرحبة الواسعة, والطائفية بأفقها الضيق المنعزل, ضدان لا يلتقيان........." .ويوسف أبا الخيل له فلسفة منحرفة للولاء والبراء، حيث يقول:"... مفهوم الولاء والبراء من هذه الزاوية يشير إلى موالاة الموالي المسالم الجانح للسلم والبراءة من المعتدي أيا كانت نحلته وديانته، ومن غير المعقول لكل من استقرأ نصوص الشريعة ومقاصديتها أن يتصور مفهوما ينادي بالولاء للمعتدي لأنه فقط يتمظهر أو ينطق بالإسلام وبنفس الوقت البراءة وما سيترتب عليها من استحقاقات أخرى من غير المسلم ولو كان مسلما برا مؤديا لشروط العلاقة السلمية مع المسلمين، هذا مفهوم مغلوط ومشين تتنزه عنه الشرائع السماوية فضلا عن الإسلام وهو خاتم الديانات؛ لأنه تعد صريح على عدل الله تعالى بين خلقه، ولا يمكن أن تستقيم علاقة سلمية تعاونية مؤدية لخير الإنسانية ما دمنا نتصور أن علاقة الولاء والبراء مبنية على الولاء للمسلم ولو كان من جنس "الحجاج بن يوسف أو صدام حسين" والبراءة من غير المسلم ولو كان على شاكلة داعيي السلام والإنسانية "المهاتما غاندي ونلسون مانديلا" .
ولم يقف يوسف أبا الخيل عند ذلك الانحراف الخطير في قضية الولاء والبراء، بل تعدى ذلك إلى القول بأن عقيدة الولاء والبراء التي طبقها النبي – صلى الله عليه وسلم – في المجتمع المدني قامت على أساس الوطن والبلد الواحد بغض النظر عن ملة الشخص وانتمائه الديني.
ويدخل في دائرة انحرافهم في عقيدة الولاء والبراء: الثناء والمدح لأرباب الضلال والانحراف، سواء أكان ذلك على مستوى الأديان والمذاهب الأرضية المعاصرة كالشيوعيين والزنادقة والفلاسفة أو على مستوى الفرق الضالة المبتدعة كالمعتزلة والجهمية، والترويج لما يحملونه من أفكار ومعتقدات.
أقوال الليبراليين في هذا الجانب:يقول جودت سعيد:"والشعور بالأناقة – المدنية – قد يكون في صورة انتصار عسكري، أو عدالة اجتماعية، كما في الثورة البلشفية، أو في صورة حقوق إنسان، كما في الثورة البلشفية..." .وها هو خالص جلبي (شيخ العصرانيين في القصيم) يشيد بالزنديق (محمود محمد طه) ويكيل له الثناء العاطر، ويتباكى على إعدامه من قبل الحكومة السودانية في عهد الرئيس محمد جعفر النميري، يقول:"وفي عام 1971م أعدم "محمود طه" في السودان بيد الطغمة العسكرية بتهمة الردة، وكان رجلا مجددا، ولم يكفر ولم يرتد، ولكنها السلطة التي لا تتحمل النقد والمعارضة" .ج- أما محمد بن علي المحمود، فقد أثنى على رموز التنوير من الفلاسفة، والتنويريين، حيث يقول:"بينما كان فيلسوف التنوير الأكبر (فلوتير) على فراش الموت حضر إليه رجل الدين الكهنوتي، يطالبه بالاعتراف؛ ليحقق له الغفران، وبما أن فيلسوف التنوير قضى عمره الطويل في العمل في فضح الدجل الكنسي، وتعرية الاستغلال الكهنوتي، فقد رفض هذا الإجراء الذي لو قبله لكان تضحية فضائحية، بمسيرة عمره التنويري المليء بالصراع مع عالم الخرافة" .ويقول:"رحلة البحث عن الإنسان، من خلال البحث عن العقل الممكن وإمكاناته، ومن خلال التمحور الحقوقي حول حريته المسلوبة، ومن خلال البحث عن سبل انعتاقه من أسر ماضيه، ووضعه على عتبات المستقبل، كانت ملحمة من أروع الملاحم في تاريخ البشرية. تلك الرحلة التي بدأت بوادرها الخافتة منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وظهرت جلية في المنجزات النظرية التي تعكس الوعي، كما عند لوثر، وسبينوزا، وديكارت.. إلخ، إلى راسل، وهيدجر، وفوكر، ودريدا.. إلخ، مرورا بكانت، وهيجل، وروسو، وفولتير" .ويقول:"لم ينهض التنوير الأوروبي المجيد، الذي أخرج الإنسانية من ظلمات الجهل والتخلف والانحطاط، إلى نور العلم والتقدم والمدنية الإنسانية إلا على إيمان راسخ وعميق بهذا الإنسان، إيمان متفائل، يتكئ على فعاليات عقلية، ومعطيات تجريبية من عالم الوقائع المادية ولكنه – قبل ذلك وبعده – يكاد يكون عقيدة كلية، تستولي على مشاعر أولئك الفلاسفة العظام، في عصر النهضة الأوروبي" .ويقول مشجعاً لنشر ثقافة رواد التنوير: "إن كثيرا من كتب رواد التنوير العربي منذ الطهطاوي وإلى آخر كتاب ثقافي صدر في دور النشر العربية لا وجود لها في ذاكرة أبنائنا" .
ونقول لهذا الكاتب المفتون: ماذا تركت للأنبياء والمصلحين؟!
المتأمل في مقالات الليبراليين، الدارس لها بتفحص وتمعن يظهر له – بجلاء – أن موقفهم من التراث يتمثل في الجوانب الآتية:
الجانب الأول: وصم هذا التراث بالرجعية والتحجر والجمود على الماضي وعدم استشراف المستقبل، وبالتالي عدم جدواه في ظل المستجدات الحديثة:يقول محمد المحمود:"لن نستفد من تراثنا ما لم نسلط عليه ترسانة العلوم المعاصرة، لن نصنع عالمنا ما لم يحرر تراثنا من أسر الفهوم التي تشل قدرة هذا التراث على الفعل الإيجابي في سياق العصر" .ويقول بكل استخفاف:"تصنيم التراث لم يقتصر على التراث، وإنما تعداه إلى سدنة التقليد، المتشدقين بصوت التراث وحمايته، لقد أصبح هؤلاء السدنة أعظم صنمية من مقولات التراث ذاتها" .
وقد ترتب على هذا الموقف السلبي من تراث الأمة دعوة خطيرة إلى التحرر من هذا التراث والانعتاق منه, وضرورة نقده بدعوى التجديد والاجتهاد كما ظهر ذلك جليا من خلال النقولات السابقة.
إن هذه الدعوة الخطيرة ترفع في ظاهرها شعارات خلابة كالتجديد والاجتهاد غير أنها تحمل في طياتها سما زعافا ورجسا قذرا فهي كما يقال :(كلمة حق أريد بها باطل)؛ ذلك أنها لم تؤسس في حقيقتها على تقوى من الله، ولا على هدى منه – جل وعلا -، ولك أن تبصر ذلك من خلال النقاط الآتية:
أنهم ينطلقون في حركة تجديدهم واجتهادهم من نظرة استعلائية ملؤها الغطرسة والغرور؛ حيث ينظرون إلى هذا التراث وأصحابه نظرة احتقار وازدراء كما تقدم معنا.
أنهم ينطلقون في حركة التصحيح والنقد من منهج تغريبي خارج عن تراث الأمة وقيمها الأصيلة.
أنهم يرمون من وراء ذلك إلى تمييع الدين، وإفراغه من معانيه الأصيلة وحقائقه الشرعية، وتطويعه بحيث يكون ملائما لأسيادهم الغربيين.
أنهم لا يملكون أدوات التجديد الاجتهاد الشرعية؛ إذ أنهم أجهل الناس بها، ومع ذلك تراهم عبر المجلات والجرائد والقنوات الفضائية ينعقون ويصيحون بضرورة هذا الأمر.
فدعواهم إذا بالتجديد والاجتهاد في هذا التراث لا تعدوا – في حقيقة الأمر – أن تكون إلا تحريفا وتخريبا وتدميرا لهذا التراث – عياذا بالله -.
الجانب الثاني: وصم هذا التراث بالتشدد والعنف والإقصاء واللا إنسانية، وأنه المنبع الأساسي للتفكير والتبديع والتضليل الظالم:يقول منصور النقيدان:"الجنون الذي نراه اليوم عرض من أعراض المرض، والعلة التي استشرت في جسد هذه الأمة وثقافتها، وهذه راجعة أساسا إلى تراث متعفن، وثقافة الصديد والضحالة التي يربى عليها أبناؤنا صباحا ومساء، في المساجد، وعبر خطب الجمعة، وفي دروس الدين، ومن إذاعة القرآن الكريم" .
تعليق:
فانظر – يا رعاك الله – كيف تكون الجرأة والتطاول أن يوصف تراث الأمة بالمتعفن!!ويقول محمد بن علي المحمود:"ثقافة الإرهاب المعلنة التي تدعو صراحة إلى التكفير والقتل تُشَرعن لذلك بطرح شرعي سلفي يتكئ على مقولات السلف واستدلالاتهم، والإعلام الذي يصدر التفجير والقتل – بجز الرؤوس – كل ذلك خدم الإرهاب الخفي الكامن في خطاب التطرف المتعاطف مع الإرهاب" .ويقول:"الإرهاب جزء من مكونات السلفية التي كانت ولا تزال تتغنى بقتل المعارضين بوصفهم زنادقة ومارقين وربما بوصفهم عقلانيين..." .
الجانب الثالث: وصم هذا التراث بعدم الموضوعية والانزواء عن الواقع, وأنه قائم على الخرافة والتنكر للعقل:يقول محمد المحمود: "إن النقد الحقيقي لا بد أن يفك البنية العامة للمناهج تلك البنية التي تكونت بفعل الوعي الجماهيري المتلبس بالخرافي والعاطفي". عبد الله بن بجاد يرى أن الكرامات هي من قبيل الخرافات التي تنافي العقل. ويقول: "ومما لا شك فيه أن ضخ هذا الكم الهائل من الرؤى التنويرية في المجتمع ساعد إلى حد كبير في مواجهة كتب الخرافة التي تبحث في عالم الأرواح والشياطين وأحوال الجان وثعابين القبور"
الجانب الرابع: وصم هذا التراث متمثلا في كتاب الاعتقاد بأنها كتب تجسيم وتشبيه:يقول حسن المالكي: "وقد احتوت كتب العقائد ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة – على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمة ولعل من أبرزها: التجسيم الصريح"
الجانب الخامس: وصم هذا التراث بأنه نشأ نتيجة لدوافع وصراعات سياسية:
هكذا استبان لك أخي الكريم – بما لا يدع مجال للشك والريب – موقف الليبراليين السلبي المخزي من تراث الأمة ورموزها، ونحن هاهنا نعني بالأمة، وبخاصة في المجال العقدي والتشريعي، نعني (أهل السنة والجماعة) الذين هم على الامتداد الطبيعي للأمة الواحدة المجتمعة على عقيدة ومنهج واحد في زمن الرسالة، وذلك قبل نجوم الفرق والمسالك الضالة المنحرفة, فأهل السنة والجماعة هم المعبر الفعلي عن الأمة (الصحابة رضي الله عنهم) وتراثهم هو الممثل الحقيقي لتراث الأمة, ذلك لأنه قائم على الأصول العلمية التي كان عليها الصحابة, رضي الله عنهم.
وهذا لا يعني بطبيعة الحال العصمة المطلقة والقداسة التامة لهذا التراث في الجانب الاجتهادي القابل للخطأ والصواب, فهذا غلو مذموم نرفضه بشدة ذلك بأن القائمين على هذا التراث مهما بلغوا من العلم والفضل فإنهم لا يزالون في دائرة البشرية ولم يخرجوا عن طوقها, وما دام الأمر كذلك, فإن هذا التراث لا يخلوا من وجود أخطاء وسقطات وهفوات تحتاج إلى حركة نقد وتصحيح, وهذا - ولله الحمد والمنة – موجود في علماء هذا التراث نفسه قديما وحديثا, فترى الواحد منهم يستدرك على الآخر, ويبين خطأه نصحا للأمة, وإبراءً للذمة, بل ترى العالم نفسه يستدرك على نفسه, ويصحح خطأها.
كذلك فإن من السمات البارزة لأهل السنة أن العصمة المطلقة ليست لأحد سوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما زال علماؤنا الأخيار يرددون أن كلا يؤخذ من قوله ويترك مهما كانت منزلته ومهما بلغ علمه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما زال أهل السنة والأثر من قديم الزمان وإلى عصرنا الحاضر يقومون بعملية النقد والتصحيح لهذا التراث في إطار النقد العلمي الذي يبني ولا يهدم وهاهي المكتبة الإسلامية تزخر بالمؤلفات الضخمة التي تشهد لهذه الحقيقة.
أما تراث أهل الانحراف والضلال كالفلاسفة والمعتزلة ومن دار في فلكهم فهو التراث الجدير حقا بالإبعاد والنفي عن تراث الأمة.
موقفهم من التاريخ الإسلامي:دأب الليبراليون على تشويه التاريخ الإسلامي, وشن حملات التزوير والتخريب عليه ولم تقف هذه الحملات الضارية على عصر دون عصر بل امتدت لتشمل كافة العصور الإسلامية حتى إن الصفحات المشرقة في تاريخنا لم تسلم من ذلك .
أقوالهم في هذا الجانب:
خالص جلبي يعلنها حربا شعواء على العصر الإسلامي في زمن بني أمية يقول: "هناك حزمة أمراض ثقافية تبلغ العشرة منها:أن العالم العربي ما زال يحكم بسيف معاوية, بعد انطفاء الوهج الراشدي... وأن الثقافة العربية تستحم بالعنف منذ المصادرة الأموية, وتوديع حياة الراشد, واعتناق حياة الغي, وتفش روح الغدر والقتل والانقلابات والتآمر, فليس بعد الرشد إلا الغي" .
وانظر- يا رعاك الله – كيف يتهجم خالص جلبي على الفتوحات الإسلامية بكل شناعة وفظاعة, ويشبهها بالجرائم اليهودية يقول: "إن السلطان محمد الفاتح, وفتح المدينة (القسطنطينية) يذكر بشارون وهو يريد احتلال القدس, وطرد أهلها منها.وبغض النظر عن فظاعات الفتح, وحجم النهب والسلب, والاغتصاب على يد الانكشارية, فإن أول ما فعله (محمد الفاتح) أن وضع يده على أقدس مقدساتهم: أياصوفيا, تلك التحفة التاريخية, ليحولها إلى مسجد, لم يكن هذا الفتح انتشاراً على منهج النبوة, بل اجتياحا عسكريا....ونسميه إسلامياً؟!!" .
المتأمل في مقالات هؤلاء الليبراليين, يجد أنهم مفتونون غاية الافتتان بالقيم الغربية والحرية حسب المفهوم الغربي وحدث والألم يعتصر قلبك عن إعجابهم شبه المطلق بالغرب بشكل عام, ووضعه مقياسا للحضارة والتقدم وحقوق الإنسان, ولنا أن نبرز موقفهم من الغرب, كما يلي:
تقديم حسن الظن بهم, وأنهم لا يكيدون للإسلام ولا أهله وأن المتدينين يعيشون عقدة المؤامرة.
اتهام المسلمين بأنهم سبب العداء الذي يعيشه العالم الإسلامي مع الغرب:يقول البليهي: "المحيط الحقيقي هو أن نزكي أنفسنا ونحن بهذا الوضع السيئ, العرب والمسلمون الآن أضحوكة في العالم, يعني ونحن كنا أضحوكة, ولا يهتم لنا أحد, لكننا الآن أصبحنا نعلن لهم أننا نبدع في قطع الرءوس ونبدع في القتل, وفي التفجير يعني هذا أقصى ما نستطيع أن نبدع فيه, وهذه معضلة كبرى يعني أصبحنا لسنا فقط عبئا على أنفسنا, وإنما أصبحنا عبئاً على العالم... أنا أعتقد أن العالم كله يتقهقر بسبب أفعالنا يعني مثلا البلدان الغربية البلدان الديمقراطية أمريكا وأوروبا وبريطانيا وغيرها يعني أصبحت تعدل أنظمتها بما يقيد الحريات" .
الدعوة إلى عدم المواجهة والمقاومة واتخاذ السبل السياسية والنقد اللاذع لمن يدعوا لمقاومة المحتل.
الانبهار بالحضارة الغربية والإشادة بأصحابها.يقول خالص جلبي: "يجب أن نحزن لحزن أمريكا لأن فشلها فشل لكل الجنس البشري, ولأنها تمثل طليعة الجنس البشري" .
ويقول مشيداً بالعدوان السافر على المسلمين في أفغانستان من قبل أمريكا:"والطالبان كانت دولة إسلامية تحكم بالشريعة, فقطعت الرءوس والأطراف, ووأدت المرأة, ونفت العقل إلى المجهول, ودمرت آثاراً إنسانية بدعوى الأصنام, فانتقمت أمريكا لبوذا, فدمرت الطالبان تدميرًا" .ويقول محمد بن علي المحمود في معرض انبهاره بالعالم الغربي: "لقد كان العالم المتحضر يعاملنا باحترام, حتى ضربناه في عقر داره, قبل اليوم وفي المملكة المتحدة (بريطانيا) التي أشرق منها نور الحضارة المعاصرة, حيث شق الهدى (هدى الحضارة الإنسانية) أكمامه, وتهادى موكبا دون موكب...." .ويمضي المغرور بزيف ذلك العالم في تصوره الأعمى قائلا: "لا جدال في أن الولايات المتحدة وبريطانيا, هما الدولتان الأكثر تعبيرًا عن قيم العالم المتحضر وعن حضارته وأنهما – والعالم الغربي (أوروبا الغربية وأمريكا) من ورائهما – التجلي الأكبر لاتجاهات الليبرالية العالمية التي صنعت هذا العالم المتحضر, وكان لها - أي الليبرالية – الفضل الكبير في مناعته ضد الانهيار" .ولك أن تتصور أخي القارئ كم هم القوم مفتنون بالحضارة الغربية, منبهرون بمكتشفاتها العلمية !! حينما تطالع هذا النص للكاتب نفسه (محمد المحمود) : "لقد كانت الحضارة الغربية – إبان لحظة اللقاء – معجزة إنسانية لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري, بل لم يوجد ما يقاربها, ولو في أدنى مستوياتها البدائية التي أفرزتها فترات الإصلاح الديني" .
وانظر - يا رعاك الله – إلى منصور النقيدان كيف يتهجم بأسلوب ساخر مقذع على أئمة الإسلام من حيث اتهامهم بالتناقض والقلق وهو في الحقيقة أولى الناس بهذه الصفات؟!:قال: "إنه نشر مقالا عن محنة خلق القرآن, قال وذكرت فيه الموقف المتناقض لأحمد بن حنبل كيف كفر ابن أبي دؤاد, وتغاضى عن المأمون. اهـ. وقال في إحدى الإجابات: وما قرأت ما قاله أحمد بن حنبل لعبد الرحمن بن ميمون: إياك أن تقول بمسألة ليس لك فيها إمام", ما قرأته إلا قلت, يا حسرة على العقول. ا. هـ. .وقال عن ابن تيمية – رحمه الله – في إحدى الإجابات: "وابن تيمية نفسه من الشخصيات القلقة التي عرفها تراثنا الفكري والديني" .ثم قال: "وإن هناك آثارا ومظاهر أزمة روحية كانت تلم به" ا.هـ. .
إنكار قضية سد الذرائع, والتشنيع على من يقررها من المتقدمين والمتأخرين من أهل العلم.
الهجوم على مناهج التعليم الشرعية في السعودية:شن الكاتب الليبرالي (محمد بن علي المحمود) هجوما ضاريا على المقررات الشرعية في المنهج التعليمي في المملكة, وذلك في مقال طويل له بعنوان "مفهوم التسامح, 2-2" .
دعوتهم للحرية بمفهومها المنحرف:يقول منصور النقيدان: "أعتقد أن الحل يمكن في أن يكون هناك حرية, وأن يطرح الجميع ما لديهم" .
نقد الثوابت والتشكيك فيها:
مارس أرباب هذا الفكر وأساطينه أساليب متنوعة, واتخذوا طرائق متعددة, لهدم الأصول, وهز الثوابت, والتشكيك بالمسلمات تحت مظلة (العلمية والموضوعية, والتجرد, والحيادية, والنقد الذاتي, والتصحيح والنصيحة, والإنصاف والعدل), وبدعوى (نسبية الحقيقة) وعدم امتلاك أحد للحقيقة المطلقة.
إذاً فما هي الثوابت, وما ذا يراد بها؟ وما مجالها؟ وهل هي ميدان فسيح يصلح للتطوير أو الاجتهاد؟الثوابت هي: القطعيات ومواضع الإجماع التي أقام الله بها الحجة في كتابه, أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم والتي لا يحل فيها الاختلاف, ويضاف إلى ذلك بعض الاختيارات العلمية الراجحة التي تمثل مخالفتها نوعا من الشذوذ أو الزلل" .قال الشافعي رحمه الله: "كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بينا لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه" .
وهي التي يسميها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الشرع المنزل وهو ما شرعه الله ورسوله من الأقوال والأعمال مما ليس للاجتهاد فيه مجال. وحقيقته: اتباع الرسول والدخول تحت طاعته, واتباع هذا الشرع واجب, وليس لأحد إلا التسليم والإذعان كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا [الأحزاب:36].
وقال جل وعلا : فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65].......ومجال هذه الثوابت إنما يكون في كليات الشريعة ومسائل العقيدة وأصول الفرائض وأصول المحرمات وأصول الفضائل والأخلاق, وأبرز ميادينها: العقائد والعبادات والأخلاق وأصول المعاملات .
وتأسيسا على هذه المعرفة الكلية الواضحة لمصطلح الثوابت, وانطلاقا من تحديد مجالات الثوابت وميادينها نأتي الآن لذكر الشواهد والأمثلة الكلية والجزئية من كتابات العصرانيين التي توضح للقارئ الكريم حجم التشكيك والنقد الذي طال الثوابت من جهتهم وهم يعبرون عنها تارة بالمسلمات, وتارة بالحتميات, وتارة بالمعرفة الأولى..إلخ, وهي دعوة خطيرة تكشف عن حقيقة ما يطرحونه من فكر.
ذكر الشواهد والأمثلة الكلية العامة:
أ- خالص جلبي يدعو إلى أن يتجاوز العقل نطاق الثوابت الدينية ويقفز عليها, فيقول: "المواطن العربي اليوم محاصر في مثلث من المحرمات, بين الدين والسياسة والجنس, كل ضلع فيه يمثل حاجزا شاهقا لا يستطيع أفضل حصان عربي شيق, أن يقفز إلا بالقفز إلى الإعدام, فأما حائط الدين يطل مفهوم الردة, وأما جدار السياسة يبرز مصطلح الخيانة. وعند حافة الجنس تشع كل ألوان الحرام والعيب, فالعقل مصادر ومؤمم وملغى حتى إشعار آخر" ثم يدعو إلى ثورة عقلية: "لا بد من تدريب عقولنا على النقاش والجدل, وذلك بفتح طرقا عصبية رائدة, فالعقل النقدي حي والعقل النقلي ميت" .
ب- المحمود يشن هجوما ضاريا على الثوابت تحت مسمى (الحتميات):يقول: "لا أريد أن أتحيز إلى تهميش الحتميات, بقدر ما أريد التأكيد على قدرة الإرادة الإنسانية على تجاوزها والتحرر منها مع الإقرار بنسبية هذا التحرر منها تحقيقا لتحرر الإرادة الإنسانية مما سوى الإنساني..." .
ج- يوسف أبا الخيل ينتقد الثوابت تحت مسمى (النظام المعرفي) ويدعو إلى فتح مجال الشك أمام العقل الناقد بدعوى (نسبية الحقيقة):هـ - يقول عبد الله بن بجاد العتيبي: "إذا فلا بد كمنطلق لعملية التنوير والإصلاح أن يدخل الشك في آلية العقل العربي الإسلامي الحالي أن يشك في قضية جوهرية وهي هل هو قادر على العمل الآن؟ هل آلياته ومناهجه ومنظومته المعرفية صالحة للتعامل مع الزمن الراهن" .و- يقول مشاري الزايدي في مقال له بعنوان: "وصية الغامدي: انج سعد.. فقد هلك سعيد: ولذلك فإن الحديث الذي لا معنى له عن حماية الثوابت, إن هو إلا فرضية ترفية لا تملك وجودًا حقيقيا في دنيا النقد التاريخي كثير من المفاهيم حورت, وشذبت, وتعرضت لإعادة تعبئة, طبقاً للمتغيرات الموضوعية, الإنسان هو من ينتج الفكر, وليس الفكر من يصنع الإنسان, حتى وإن توهم العقائديون الأشداء ذلك!"
وتابعوا مع مكتبة المنارة الازهرية الفكر الليبرالي في مقالات قادمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق