الحث على الرحلة وطلب علو الإسناد:
أصبح طلب علو الإسناد سنة عند علماء السلف ولهذا حرصوا على الرحلة إليه واستحبوها، وحثوا طلاب العلم على ذلك:
فعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: طلب علو الإسناد من الدين[1].
وعن أبي العالية قال: كنا نسمع بالرواية عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بالبصرة، فما نرضى حتى أتيناهم فسمعنا منهم[2].
وعن عامر الشعبي قال: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره رأيت أن سفره لا يضيع[3].
وقيل ليحيى بن معين في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: بيت خالي وإسناد عالي[4].
وعن جعفر الطيالسي قال: سمعت يحيى بن معين يقول: أربعة لا تؤنس منهم رشداً: حارس الدرب، ومنادي القاضي، وابن المحدث، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث[5].
3 - ظهور علم الأسانيد واختصاص المسلمين به:
ومن جهود العلماء في حفظ السنة اهتمامهم وبحثهم عن أسانيد الروايات، وهذا العلم لا عهد به لأمة من الأمم قبل المسلمين، فقد خصت الأمة الإسلامية بالأسانيد والمحافظة عليها حفظاً للوارد من دينها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست هذه المزية عند أحد من الأمم السابقة[6].
فعن محمد بن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ منهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم[7].
وعن أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني قال: قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم له هذا من حديث شهاب بن خراش، فقال: ثقة. عمن؟ قال: قلت عن الحجاج بن دينار قال: ثقة عمن؟ قال: قلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصدقة اختلاف[8].
وقال محمد بن حاتم بن المظفر: إن الله أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد وليس لأحد من الأمم كلها قديمهم وحديثهم إسناد، وإنما هي صحف بأيديهم وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وهذه الأمة إنما تنص الحديث من الثقة المعروف في زمانه المشهور بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ والأضبط فالأضبط والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقل مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهاً وأكثر حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عداً فهذا من أعظم نعم الله على هذه الأمة تستوزع الله شكر هذه النعم[9].
وقال الحافظ أبو علي الجبائي: خص الله - تعالى - هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب[10] - تدريب الراوي للسيوطي، ص: 359..
وقد اشتهر بين أهل العلم منذ عهد التابعين قولهم: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"، وقولهم: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء".
4 - منهج العلماء في حفظ السنة[11]:
التزم العلماء عند سماعهم للحديث أو روايته بالأمرين التاليين:
أ – الاحتياط في روايته، فكانوا حين يروون شيئاً من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحتاطون في روايته ويتحرون الدقة في الأداء، فكثيراً ما يقولون بعد رواية الحديث "أو كما قال، أو نحو هذا". ويقلون من الرواية خشية الوقوع في الخطأ، ولذا قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما منهم أحد يحدث بحديث إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه" [12].
ب - التثبت في قبوله: اجتهد العلماء بكل وسيلة تضمن لهم صحة الرواية والتأكد من ضبط ناقلها، ومن يتأمل في كتب الحديث وكتب مصطلح الحديث وأصوله يتبين له صدق هذه المقولة، فالكلمة الواحدة إن كانت من غير كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بينها العلماء وحددوها ليتميز كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غيره، فالمدرج مثلاً هو أن تزاد لفظة في متن الحديث من كلام الراوي فيحسبها من يسمعها منه مرفوعة في الحديث فيرويها كذلك، ومثاله حديث: "أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار"، فقوله: "أسبغوا الوضوء" مدرج من قول أبي هريرة كما ميزه الأئمة، وغير ذلك من قواعد ومصطلحات وضعها العلماء لتمييز الصحيح من الضعيف والمقبول من المردود..
ومن أمثلة تثبت العلماء في قبول الأحاديث سؤال أبي بكر - رضي الله عنه - للمغيرة حينما ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الجدة من الميراث السدس، سأله أبو بكر هل معك أحد، فشهد محمد بن سلمة بمثل ذلك.
قال الذهبي: كان أبو بكر أول من احتاط في رواية الحديث[13].
وكذلك فعل عمر مع أبي موسى الأشعري في مسألة الاستئذان.
وعن عبد الله بن ذكوان قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال ليس من أهله[14].
وكتب أنس بن مالك إلى محمد بن مطرف: سلام عليك.. ولا تأخذ كلما تسمع قائلاً يقوله فإنه ليس ينبغي أن يؤخذ من كل محدث ولا من كل من قال، وقد كان بعض من يرضى من أهل العلم يقول: إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم[15].
5 - أطوار جمع السنة وتدوينها:
إن جمع السنة النبوية وتدوينها، وظهور الفنون والقواعد المتعلقة بعلم الحديث من حيث الدراية والرواية له ثلاثة أطوار[16]:
الأول: في عصر الصحابة وكبار التابعين، واستمر هذا الطور إلى سنة 100 ه وفيه جمع الرجال ما عندهم من الحديث باجتهاد خاص، وكان الحديث يدون في صحف خاصة ببعض من يكتب، ولم يكن التدوين متداولاً بين الجميع، فعند علي صحيفة صغيرة كانت تشتمل على العقل وفكاك الأسير، وعند عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة سماها "الصادقة".
وبعض الصحابة كان يكتب شيئاً من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يعود فيحرق ما كتبه، لأنه ثبت عنده كراهة الكتابة، وذلك ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فالصحابة لم يكونوا على حالة واحدة من حيث تدوين الحديث بعضهم يدوّنه وبعضهم يشعر بكراهة الكتابة، والأمر عندهم متردد بين النهي والإباحة.
الثاني: في عهد صغار التابعين وأتباع التابعين واستمر هذا الطور إلى سنة 150 وفيه تم "التدوين الرسمي" للسنة، فقد قام العلماء في كل مصر من الأمصار الإسلامية بتدوين ما عندهم من الحديث، وذلك بناء على طلب من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فقد كتب إلى الآفاق "انظروا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجمعوه" وكتب أيضاً إلى أهل المدينة "انظروا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبوه فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله" [17].
فكتب محمد بن عمرو بن حزم (- 117 ه) ما ثبت عنده من الحديث، وكان عاملاً لعمر على المدينة، وطلب من محمد بن شهاب الزهري (- 124 ه) أن يجمع السنن ففعل وكتبها دفتراً دفتراً، وبعث عمر إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً [18].
وعلى هذا يحمل قول العلماء والمؤرخين: "أول من دون العلم ابن شهاب الزهري" والمقصود بذلك التدوين الرسمي، ولا يؤبه بقول أعداء الإسلام من الرافضة أو المستشرقين.
الثالث: عهد المحدثين وأئمة السنة من سنة 150هـ إلى القرن الثالث الهجري، وفيه توسع علم الحديث فظهرت المصنفات المختلفة وتنوعت الابتكارات والفنون المتعلقة بالسنة المطهرة، فظهرت المسانيد والمصنفات والموطآت، والجوامع، والسنن، والأجزاء، والمعاجم، وكتب المغازي، والطبقات، وكتب الجرح والتعديل، وكتب العلل، ومعرفة الرجال، وكتب التاريخ، وكتب أصول الحديث جملة.
وهذه الأطوار التي مر بها جمع السنن وتدوينها كانت متكاملة ومترابطة؛ لأن العلماء الثقات الذين اهتموا بحفظ الحديث وضبطه وجمعه وعرفوا قوانين الرواية وأصولها تناقلوا هذا العلم كابراً عن كابر، وأوصله كما سمعه أول إلى آخر.
فما جمع في الطور الأول دون في كتب الطور الثاني، وما دون في الطور الثاني جمع ورتب في الطور الثالث.
التدوين بين النهي والإباحة[19]:
وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث تنهى عن كتابة الحديث وأخرى تبيح الكتابة، "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"، "استعن على حفظك بيمينك"، للعلماء في هذا الاختلاف أجوبة مختصرها، أن النهي كان في أول الأمر حينما كان يكتب القرآن، فلما انتهى، وردت الإباحة وذلك لكي لا يختلط الحديث بالقرآن، أو أجاز لمن يحسن الكتابة، ولا يخطئ في كتابته ولا يخشى عليه الغلط أن يكتب الحديث، ونهى من كان يثق بحفظه، أو أن أحاديث الإباحة ناسخة لأحاديث النهي وهذا رأي ابن قتيبة وابن القيم وابن حجر، وأحمد شاكر من المعاصرين.
6 - عناية العلماء بنقد الحديث سنداً ومتناً [20]:
اتجهت عناية العلماء لحفظ السنة إلى دراسة الحديث ونقده من جهة السند ومن جهة المتن، وقد وضعوا لذلك قواعد علمية هي أصح ما عرف في التاريخ من قواعد علمية للرواية والأخبار لا مجال بعد ذلك للحيطة والتثبت.
ففيما ما يتعلق بسند الحديث فلهم قواعد ومصطلحات تعرف بحال الراوي من حيث العدالة والضبط أو عكس ذلك كالفسق والغفلة والاختلاط والبدعة والجهالة، ونشأ من جراء ذلك ما أطلق عليه علم الجرح والتعديل الذي هو من أهم علوم الحديث وأعظمها شأناً فبه يعرف المقبول من المردود، والصحيح من السقيم.
وأما ما يتعلق بمعرفة حال الرواة وذلك في عناية المحدثين بتاريخ الرواة وطبقاتهم: معرفة التابعين، وأتباع التابعين، المديح، ورواية الأقران، الأكابر عن الأصاغر، الآباء عن الأبناء، الأسماء والكنى، الموالي، أوطان الرواة، المتفق والمفترق، المؤتلف والمختلف، طرق تحمل الحديث وأهلية الراوي، ومعرفة إسناد الحديث من حيث الاتصال والانقطاع، العالي والنازل، المسلسل، المرسل، المسند المعلق، المعضل، المتواتر والآحاد.
ومما يتعلق بعناية المحدثين بنقد متن الحديث من حيث صحة الحديث أو ضعفه أو كونه من الموضوعات، أو من جهة دراية الحديث مما يتعلق بالغريب، والمختلف والناسخ والمنسوخ، والمقلوب والمدرج والمضطرب والمصحف والمحرف والشاذ والمحفوظ، وغير ذلك. وكثير من هذه المصطلحات مشتركة بين المتن والإسناد.
وهذه المصطلحات تجد معانيها مفصلة في كتب مخصوصة بهذا الفن يطلق عليها علم مصطلح الحديث، أو أصول الحديث وهي كثيرة جداً يحسن الرجوع إليها والاستفادة منها لمن يحرص على الخير والاستفادة والله الموفق.
ومن أمثلة اعتناء المحدثين بنقد متون الأحاديث ما ذكره السخاوي أن بعض اليهود أظهر كتاباً وادعى أنه كتاب رسول الله (بإسقاط الجزية عن أهل خيبر وفيه شهادة الصحابة - رضي الله عنهم -، وذكروا أنه خط علي - رضي الله عنه - فيه، وحمل الكتاب في سنة سبع وأربعين وأربعمائة إلى رئيس الرؤساء أبي القاسم علي وزير القائم، فعرضه على الحافظ الحجة أبي بكر الخطيب، فتأمله، ثم قال: "هذا مزوّر" فقيل له من أين لك هذا؟ قال: فيه شهادة معاوية، وهو إنما أسلم عام الفتح، وفتح خيبر كان في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ وهو قد مات يوم بني قريظة قبل فتح خيبر بسنتين، فاستحسن ذلك منه واعتمده وأمضاه ولم يجز لليهود على ما في الكتاب لظهور تزويره[21].
قال ابن القيم - رحمه الله - بعد أن بين وجوه بطلان هذا الحديث[22]: وأُحضر هذا الكتاب بين يدي شيخ الإسلام وحوله اليهود يزفونه ويجلونه، وقد غشي بالحرير والديباج فلما فتحه وتأمله بزق عليه وقال: هذا كذب من عدة أوجه وذكرها فقاموا من عنده بالذل والصغار.
7 - جهود العلماء في مقاومة الوضع:
الموضوع في اصطلاح المحدثين هو المختلق المصنوع وهو الذي نسبه الكذابون المفترون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو شرُّ أنواع الرواية.
ظهر الوضع في الحديث بعد وقوع الفتن وظهور البدع والفرق المنحرفة. عن محمد بن سيرين أنه قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سمّوا لنا رجالكم، فينظر إلى حديث أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".
وكان من فضل الله - عز وجل - أن هيأ رجالاً يذبون عن سنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فقاوموا الوضع والوضاعين، ونفوا الكذب عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أشهر العلماء الذين تصدوا للوضع والوضاعين: عامر الشعبي (- 103 ه)، وشعبة بن الحجاج (- 160 ه)، وسفيان الثوري (161 ه)، وعبد الله بن المبارك (- 181 ه)، وعبد الرحمن بن مهدي (- 198 ه).
قيل لعبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون))[23].
وأخذ الخليفة هارون الرشيد زنديقاً ليقتله، فقال له: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال له الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفاً حرفاً [24].
وقال الإمام سفيان الثوري: "ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث".
وقال الإمام عبد الله بن المبارك: "لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث لأصبح الناس يقولون فلان كذاب".
وقال الدار قطني: "يا أهل بغداد لا تظنوا أن أحداً يقدر يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حي".
وقال الإمام ابن خزيمة: "ما دام أبو حامد بن الشرقي في الأحياء لا يتهيأ لأحدٍ أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
وقد وضع العلماء ضوابط جامعة لمعرفة الحديث الموضوع منها[25]:
التزام السند، فلم يقبلوا من الحديث إلا ما يطمئن إلى ثقة راويه وعدالته وضبطه. والتوثق من الأحاديث، وتتبع الكذبة ونقد الرواية: فجابر الجعفي قال عنه أبو حنيفة: "ما رأيت أكذب من جابر الجعفي" [26].
وعبد الكريم بن أبي العوجاء الذي قتله أمير البصرة محمد بن سليمان بعد سنة 160 ه، وبيان بن سمعان النهدي من بني تميم ظهر بالعراق وادعى إلهية علي، ومحمد بن سعيد بن حسان الأسدي الشامي المصلوب، قتله أبو جعفر المنصور[27].
وضوابط أخرى تعرف في متن الحديث وتدل على وضعه كأن يكون الحديث مناقضاً للكتاب الكريم أو السنة المتواترة، أو ركيك اللفظ، أو مما يكذبه الحس.
8 - نبذة من جهود العلماء في ابتكار المصنفات لحفظ السنة:
إن المتأمل في الكتب التي صنفها العلماء فيما يتعلق بالسنة المطهرة، ثم روايتها ونقلها بالأسانيد الموثقة والسماعات يعلم مقدار وأهمية الجهد الذي بذلوه في حفظ السنة والحرص عليها أثابهم الله وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
فالمسانيد والمصنفات والجوامع والسنن والموطآت والمعاجم والأجزاء وكتب الأطراف وكتب الجرح والتعديل وكتب الرجال، وغير ذلك مما لا يمكن استقصاؤه في هذا المقام، كل ذلك ينبئ بلا شك ولا ارتياب بأن السنة النبوية حفظت ودونت وجمعت عن طريق رجال وفقهم الله وهيأهم لهذا المقام السامي.
وفيما يلي نبذة مختصرة عن كتاب صحيح البخاري كمثال على جهود العلماء:
كان الإمام البخاري أحد أعلام الدنيا في الحفظ والإتقان، وكان يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، وله قصة مشهورة امتحنه بها العلماء في بغداد لمعرفة حفظه وإتقانه ما جعلهم يطلقون عليه أمير المؤمنين في الحديث، ولد - رحمه الله - سنة 194 ه، وتوفي سنة 256 ه.
يعتبر البخاري أول من صنف في الصحيح المجرد وقد سمى كتابه "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه" وعدة ما فيه من الأحاديث الموصولة بلا تكرار (2602) وعدد الأحاديث بما فيها التعليقات والمتابعات (9082) اختارها من ستمائة ألف حديث.
واستغرق في تصنيف هذا الكتاب قرابة ستة عشر عاماً، ولم يضع فيه حديثاً إلا وصلى ركعتين، قال - رحمه الله -: "جعلته حجة بيني وبين الله - سبحانه - " فهو أصح كتاب بعد كتاب الله - عز وجل - ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن" [28].
وقد لقي هذا الكتاب من العلماء عناية فائقة، فقد تلقاه ستون ألفاً عن تلميذ واحد من تلاميذه وهو الإمام "الفربري"، كما بلغ عدد الذين كتبوا حوله ما بين شرح واختصار وترجمة رجال عدداً كبيراً جداً، وإن عدد شروحه فقط تجاوزت الثمانين كما ذكر صاحب كشف الظنون، فما بالك بمن جاء بعد حاجي خليفة وكتب عن صحيح البخاري[29].
وإن من أشهر الشروح على صحيح البخاري كتاب ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - المولود سنة 773 ه والمتوفى سنة 852 ه، وسمى شرحه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، ابتدأ تأليفه أوائل سنة 817 ه وانتهى في سنة 842ه، ولما أتمه عمل وليمة عظيمة حضرها وجوه المسلمين، وصرف فيها نحو خمسمائة دينار[30].
ولابن حجر - رحمه الله - كتب أخرى كثيرة سوى هذا الكتاب منها كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" ذكر ابن حجر أنه استغرق في تصنيفه نحو الأربعين سنة، ومجموع التراجم في هذا الكتاب (12279) بما في ذلك المكرر للاختلاف في اسم الصحابي أو شهرته بكنية أو لقب[31] - انظر الباعث الحثيث لأحمد شاكر، ص: 170..
ومع هذه اللمحة المختصرة عن صحيح البخاري، وعن أشهر شروحه فتح الباري لابن حجر العسقلاني فإن صاحب القلب السليم ومن وهب فطنة يعلم أن ابن حجر كان على قدر من العلم لا يبلغه أكبر الحفاظ والعلماء في زماننا، ومع ذلك فإن ابن حجر فيما يذكره أنه شرب ماء زمزم ودعا الله أن يرزقه ما رزق الذهبي من العلم!!.
وهذا الذهبي - رحمه الله - يذكر في كتابه تذكرة الحفاظ (2/628) بعدما ذكر ترجمة رجال الطبقة التاسعة قال:
"لقد كان في هذا العصر وما قاربه من أئمة الحديث النبوي خلق كثير وما ذكرنا عشرهم هنا.. فبالله عليك يا شيخ ارفق بنفسك والزم الإنصاف، ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشزر ولا ترمقنهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا، حاشا وكلا، فما في من سميت أحد ولله الحمد إلا وهو بصير بالدين عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال: من أحمد؟ وما ابن المديني؟ وأي أبو زرعة وأبو داود؟ هؤلاء محدثون ولا يدرون ما الفقه؟ وما أصوله؟ ولا يفقهون الرأي، ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون الله - تعالى - بالدليل، ولا هم من فقهاء الملة.
فاسكت بحلم أو انطق بعلم، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء، ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن ولا أنت، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل، ذوو الفضل، فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه، ومن تكلم بالجاه وبالجهل أو بالشر فأعرض عنه وذره في غيه فعقباه إلى وبال، نسأل الله العفو والسلامة" اه.
فهل يستوي هذا مع من يقول: "الاطروحات التي يحملها [التيار الديني] جامدة ومفهومه للحريات ينبع دائماً من كتب الفقه القديمة التي أنتجت في القرن الخامس والسادس والسابع الهجري وهي عصور التخلف.. "!! [32].
وفي الختام إن هذا الموضوع صنف فيه العلماء كتباً تعد بالمئات، وإن الذي فعلته ههنا هو التذكار والاختصار وجمع شتات الأفكار المبثوثة في بطون الكتب والأسفار، ولذلك فقد كنت متردداً في الكتابة في هذا الموضوع فكنت أقدّم رجلاً وأوخر أخرى كما يقولون.
ألم يعتبر الذين يهاجمون السنة في هذه الأيام بما حصل لأبي ريّة قبل سنين، فقد رد عليه المعلمي، والسباعي وعبد الرزاق حمزة وغيرهم.
ألم يعتبر ويتعظ الذين يهاجمون السنة بما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية من رده على الرافضي الذي صنف كتاباً سماه "منهاج الكرامة" يشنع فيه على أهل السنة ويطعن في الصحابة وأمهات المؤمنين، فكان رد شيخ الإسلام في كتابه الموسوم "منهاج السنة النبوية في نقض دعاوى الرافضة والقدرية" حيث ذكر فيه من وجوه التشابه بين الرافضة واليهود أشياء كثيرة في العقائد والعبادات.
إن الإنسان بحاجة إلى تذكير، ولذلك فإن كثيراً من سور القرآن الكريم يتكرر فيها الموضوع الواحد من أول سورة فيه إلى آخر سورة كالتوحيد، واليوم الآخر، والنبوات، ومصير الظالمين، وعاقبة المؤمنين مع أن نزول القرآن استمر أكثر من عشرين سنة. قال - تعالى -: ((الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)) [الزمر: 23].
- - - - - - - - - - - -
[1] - الرحلة في طلب الحديث، للخطيب البغدادي: 13/89.
[2] - المصدر السابق: 21/93.
[3] - المصدر السابق، ص: 80.
[4] - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، ص: 153.
[5] - الرحلة في طلب الحديث، رقم: 14/89.
[6] - أنظر الباعث الحثيث، لأحمد شاكر، ص: 152.
[7] - مقدمة صحيح مسلم، ص: 76.
[8] - المصدر السابق، ص: 80.
[9] - المختصر الوجيز للدكتور محمد عجاج الخطيب، ص: 24، نقلاً عن كتاب "شرف أصحاب الحديث".
[10] - تدريب الراوي للسيوطي، ص: 359.
[11] - أنظر أصول الحديث للدكتور محمد عجاج الخطيب، ص: 84 وما بعدها.
[12] - سنن ابن ماجة: 1/8.
[13] - أنظر تذكرة الحفاظ للذهبي: 1/3.
[14] - مقدمة صحيح مسلم، ص 77.
[15] - أنظر الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي، ص: 160.
[16] - أنظر الرسالة المحمدية لسليمان الندوي، ص: 76.
[17] - سنن الدارمي: 1/126.
[18] - جامع بيان العلم وفضله: 1/76 وانظر أصول الحديث، ص: 177.
[19] - انظر دراسات في السيرة النبوية لأستاذنا الشيخ محمد سرور زين العابدين، ص: 80.
[20] - اطلعت مؤخراً على كتاب مفيد بهذا الموضوع هو "اهتمام المحدثين بنقد الحديث سنداً ومتناً" للدكتور محمد لقمان السلفي.
[21] - الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، ص: 47.
[22] - المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ص: 105.
[23] - الباعث الحثيث لأحد شاكر، ص: 90.
[24] - تنزيه الشريعة المرفوعة: 1/16.
[25] - أنظر كتاب: "المنار المنيف في الصحيح والضعيف" لابن القيم، وانظر السنة ومكانتها في التشريع، للشيخ مصطفى السباعي، ص: 90.
[26] - المتكلمون في الرجال للسخاوي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ص: 87.
[27] - انظر الباعث الحثيث، ص: 88.
[28] - مجموع الفتاوى: 18/74.
[29] - بالرغم من كل ما ذكر عن صحيح البخاري من الثناء العظيم وتلقيه بالقبول فإن الرافضة يطعنون فيه ويدعون أن فيه تناقضات وأوهام!! وسأكتب إن شاء الله عن "دور الشيعة والباطنيين في الهجوم على السنة" والحط من قدرها.
[30] - انظر: "هدي الساري مقدمة فتح الباري" لابن حجر العسقلاني، ومقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري، والسنة ومكانتها في التشريع للسباعي، ص: 447.
[31] - انظر الباعث الحثيث لأحمد شاكر، ص: 170.
[32] - مجلة المجلة، العدد: 1026، تاريخ: 10 - 16/10/1999.
علمت مما ذكرناه في الحلقة السابقة مكانة السنة المطهرة في دين الإسلام، فهي أس العلوم الشرعية ومفتاحها، ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، لأن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها وأحكام الشريعة بتمامها تتوقف على بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما لم تكن أمور العبادة مرتبطة بذلك فلا يعتمد عليها ولا يصار إليها. قال - تعالى -: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة))، ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم))، ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً))، ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)).
وعلمت أيضاً كيف كان هدي السلف الصالح رضوان الله عليهم في التمسك بالسنة والحرص على التزامها والعمل بها ومحبة صاحبها - عليه الصلاة والسلام -. فعن عمر بن الخطاب قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته فضرب بابي ضرباً شديداً، فقال: أثمّ هو؟ ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث أمر عظيم.. قال: فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، قلت: طلقكن رسول الله؟ قالت: لا أدري، ثم دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت وأنا قائم: أطلقت نساءك؟ قال: لا، فقلت الله أكبر[1].
وأمثلة أخرى ذكرتها من قبل يظهر من خلالها حرص الصحابة على اتباع السنة.
ولما كان شأن السنة كذلك فقد قيّض الله - تعالى - في كل قرن لها رجالاً بذلوا من أجلها النفس والنفيس والغالي والرخيص، وركبوا من أجلها الصعب والذلول، وآثروا قطع المفاوز والقفار وتنعموا بالبؤس في الأسفار مع مساكنة أهل العلم والأخبار، وقنعوا عند جمع الأحاديث والآثار بوجود الكسر والأطمار، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
فقد جعلهم الله - تعالى - أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، فإن كل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم والسنة حجتهم، من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله.
ومن أراد أن يعرف حق المحدثين ومن سلك مسلكهم لحفظ سنة سيد المرسلين واجتهادهم في التحري للمسلمين فليتابع أخبارهم وليطالع مصنفاتهم في معرفة الرجال والعلل والأحكام وعلوم الحديث ومعرفة الحديث وطرقه إلى آخر ما هنالك من فنون ابتكروها وقواعد علمية سلكوها[2] طاعة لله ومحبة لرسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وإليك طرفاً من أخبار جهودهم في حفظ السنة شكر الله سعيهم:
1 - الرحلة في طلب الحديث[3]:
تذكر بعض كتب السير أن عدد الصحابة - رضي الله عنهم - في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما حج حجة الوداع وكانوا معه إذ ذاك أكثر من مائة ألف[4]، وعندما تمت الفتوحات الإسلامية ومكن الله لعباده الصالحين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فتحت بلاد الشام والعراق ومصر، فتفرق الصحابة في تلك الأمصار ونشأ عن ذلك الرحلة في طلب الحديث إذ أن الصحابة والتابعين لم يكونوا على درجة واحدة في معرفة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخباره.
فعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله، قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثاً بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال: "يحشر الناس يوم القيامة - أو قال العباد - عراه غرلاً بهماً"، قال: قلنا وما بهماً، قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحدٍ من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة"، قال: قلنا كيف وإنا إنما نأتي الله - عز وجل - عراة غرلاً بهماً قال: بالحسنات والسيئات"[5].
وعن عطاء بن أبي رباح قال: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر وهو بمصر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلّد الأنصاري وهو أمير مصر فأخبر به فعجل فخرج إليه فعانقه وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ قال: حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق أحد سمعه غيري وغير عقبة فابعث من يدلني على منزله، قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة فأخبر عقبة به فعجل فخرج إليه فعانقه وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق أحد سمعه غيري وغيرك في ستر المؤمن، قال: نعم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ستر مؤمناً في الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة"، فقال له أبو أيوب صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلّد إلا بعريش مصر[6].
وعن كثير بن قيس قال: كنت جالساً عند أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل فقال: يا أبا الدرداء أتيتك من المدينة مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا. قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"[7].
وعن ابن عباس قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترى؟ فترك ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه فتسفي الريح علي التراب فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني[8].
وعن عمرو بن ميمون الأودي قال: قدم علينا معاذ بن جبل اليمن رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلينا، قال: فسمعت تكبيره مع الفجر رجل أجش الصوت، قال: فألقيت عليه محبتي فما فارقته حتى دفنته بالشام ميتاً، ثم نظرت إلى أفقه الناس بعده فأتيت ابن مسعود فلزمته حتى مات فقال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة لغير ميقاتها؟" قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله؟ قال: صلّ الصلاة لميقاتها واجعل صلاتك معهم سبحة"[9].
وحدث عامر الشعبي رجلاً بحديث ثم قال له: أعطيناكها بغير شيء قد كان يركب فيما دونها إلى المدينة [10].
وعن محمد بن القاسم بن بشير: سمعت محمد بن يزيد النسوي العطار سمعت يعقوب بن سفيان يقول: كنت في رحلتي في طلب الحديث فدخلت إلى بعض المدن فصادفت بها شيخاً احتجت إلى الإقامة عليه للاستكثار عنه، وقلت نفقتي وبعدت عن بلدي فكنت أدمن الكتابة ليلاً واقرأ عليه نهاراً، فلما كان ذات ليلة كنت جالساً أنسخ وقد تصّرم الليل، فنزل الماء في عيني فلم أبصر السراج ولا البيت فبكيت على انقطاعي وعلى ما يفوتني من العلم فاشتد بكائي حتى اتكأت على جنبي فنمت فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فناداني: يا يعقوب بن سفيان لِمَ أنت بكيت؟ فقلت: يا رسول الله ذهب بصري فتحسرت على ما فاتني من كتب سننك وعلى الانقطاع عن بلدي. فقال: ادن مني فدنوت منه فأمرّ يده على عيني كأنه يقرأ عليهما، قال: ثم استيقظت فأبصرت وأخذت نسخي وقعدت في السراج أكتب[11]. مات يعقوب بن سفيان سنة 277 ه.
وقال الحافظ أبو إسحاق بن حمزة: سمعت أبي يقول: كنت رحلت إلى يعقوب ابن سفيان فبقيت عنده ستة أشهر. فقلت: طال مقامي عندك ولي والدة، فقال: رددت الباب على والدتي ثلاثين سنة [12].
وقال سعيد بن المسيب: إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد [13].
وقال أبو مسعود عبد الرحيم الحاجي: سمعت ابن طاهر المقدسي يقول: بلت الدم في طلب الحديث مرتين: مرة ببغداد ومرة بمكة المكرمة، كنت أمشي حافياً في الحر فلحقني ذلك، وما ركبت دابة قط في طلب الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري وما سألت في حال الطلب أحداً، كنت أعيش على ما يأتي[14]. ولد محمد ابن طاهر المقدسي سنة 448 ه، وتوفي سنة 507 ه.
وعن علي بن أحمد الخوارزمي قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة، قال: فأتينا يوماً وأنا ورفيق لي شيخاً فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا فاشتريناه، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس، فلم يمكنا إصلاحه ومضينا إلى المجلس فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام وكان أن تغير فأكلناه نيئاً، لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد[15]. ولد عبد الرحمن بن أبي حاتم سنة 241 ه، وتوفي سنة 327 ه.
هذا والأخبار في رحلات العلماء لطلب الحديث وتعلم السنة تفوق الحصر، فكيف يأتي شبعان مترف سمين فيجازف ويهوّن ويحط من شأن العلماء ويغمط جهودهم، هذا فعل المكذبين، فويل للمكذبين، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، الذين لا يعرفون أقدار الفضلاء ولا يجلونهم، إنه لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه، وقد علمت أيها القارئ اللبيب من خلال ما سبق ذكره عن الرحلات المضنية التي قام بها العلماء وذلك من فضل الله عليهم الذي أفرغ عليهم الصبر حتى حصلوا ما حصلوا من العلم والأجر، وإنما يقال لمبغضيهم ومنتقصي أقدارهم، يقال لهم: لا حظ لكم بهذه المكارم ولا صلة لكم بها، إنما يقال لهم:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
- - - - - - - - - - - - - -
[1] - صحيح البخاري، كتاب العلم، باب التناوب في العلم، رقم: 89.
[2] - انظر: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، لمحمد بن إبراهيم الوزير المتوفي سنة 840 ه ص: 120.
[3] - للإمام أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي المتوفي سنة 463 ه، كتاب بهذا العنوان وهو حافل بأخبار الرحلة في طلب الحديث.
[4] - أنظر الرحيق المختوم للمباركفوري ص: 4590.
[5] - مسند الإمام أحمد تحقيق حمزة الزين، رقم: 15984.
[6] - الرحلة في طلب الحديث، رقم: 34، ص: 118، وجامع بيان العلم لابن عبد البر: 1/93.
[7] - مسند الإمام أحمد، تحقيق حمزة الزين، وحسن إسناده. رقم: 21612، وأبو داود، والترمذي.
[8] - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ص: 29، وسير أعلام النبلاء: 3/326.
[9] - سنن أبي داود، باب: "إذا أخّر الإمام الصلاة عن الوقت".
[10] - أنظر صحيح البخاري، كتاب العلم، باب تعليم الرجل أمته وأهله، رقم: 97.
[11] - سير أعلام النبلاء: 3/183.
[12] - سير أعلام النبلاء: 13/180.
[13] - الرحلة في طلب الحديث، رقم: 41، ص: 127.
[14] - تذكرة الحفاظ للذهبي: 4/1242.
[15] - سير أعلام النبلاء: 13/263.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق