شبهات النصارى حول الإسلام
للدكتور منقذ السقار
شبهات النصارى عن القرآن الكريم
لما كان القرآن الكريم الكتاب المقدس للمسلمين ، فهم يعتبرونه كلام الله ووحيه الخاتم ،حيث نـزل على آخر رسله ، لما كان بهذه المثابة عند المسلمين كان من الطبيعي أن يتجه النصارى للطعن والثلب لهذا الكتاب الذي يبين ضلالهم ويزيف باطلهم ، ويقيم حجة الله عليهم .
وقد وجه النصارى إلى القرآن الكريم شبهات متنوعة متعددة راموا منها تزييف نسبة هذا الكتاب لله رب العالمين ، وتتمحور هذه الشبهات حول خمس محاورنتحدث عنها في هذا المطلب .
المحور الأول : حول المصدر
و يشكك النصارى في مصدر القرآن الكريم ، و يعتبرونه من صناعة محمد صلى الله عليه وسلم و يذكرون له مصادر أرضية، و يلخص القس أنيس شروش مزاعم النصارى في مصادر القرآن الكريم ، فيقول مخاطباً ديدات:" دعني أتحداك 75% من القرآن الرائع في لغتي العربية الرائعة مأخوذ من الكتاب المقدس"، و يقول:"الواقع أن هناك نصوصاً عديدة من مقاطع العهد الجديد قد استعارها القرآن و اقتبسها ، هناك حوالي 130 مقطعاً في القرآن مستوحاة من سفر المزامير ، و نجد الروايات غير القانونية المرفوضة(الأناجيل الأبوكريفا)عند النصارى موجودة في القرآن ، إن سورة آل عمران الآية 35-37 تحكي بدقة الرواية الإنجيلية الأسطورية التي تحكي قصة زكريا المشهورة و مولد ابنهما " .
و يتحدث القس شروش عن مصدر آخر للقرآن هو أشعار العرب ، فيقول عن امرئ القيس" كان من أعظم شعراء العرب القدامى قبل محمد ، و في إحدى قصائده…هناك أربع آيات مأخوذة منها تم إدخالها في القرآن من قبل محمد ، و تظهر في سورة القمر الآية 1، 29، 31، 46…".
و يوضح ذلك فيقول { اقتربت الساعة و انشق القمر } هذا في القرآن ، أما امرؤ القيس فيقول: دنت الساعة و انشق القمر." ، و لم يذكر شاهداً للثانية و الثالثة ، ثم ذكر لقوله تعالى { بل الساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر } فادعى أنها منقولة من قول امرئ القيس: و إذا ما غاب عني ساعة كانت الساعة أدهى و أمر.
ثم ذكر القس أن ابنة امرئ القيس أدركت الإسلام ، و سمعت أبيات أبيها فعرفتها و طالبت بمعرفة كيف ظهرت أبيات أبيها فجأة في السورة .
و يتحدث القس عن مصادر الإسلام عموماً فيقول :" من المنطقي استنتاج أن الإسلام نابع من ثقافة قبيلة مشركة هي قبيلة محمد" و يقول:" لأنه لمن المدهش أن نكتشف أن محمداً لم يؤمن بالثالوث الأقدس و لا بألوهية و لا قيام المسيح ، و لفهم السبب علينا معاينة عقيدة نسطور و أتباعه ، إنها طائفة مسيحية مهرطقة هاجرت إلى الجزيرة العربية قبل140 سنة من مولد محمد ، لقد اكتسب محمد ذاك الإنكار من هذه الهرطقة…لقد هرب (نسطور) هو و أتباعه و تفرقوا في أماكن مختلفة من بلاد الفرس و الجزيرة العربية حيث احتكوا بأسرة النبي .
معظم المفكرين المسيحيين يؤمنون ، و يشهد لهم التاريخ الإسلامي أيضاً أن محمداً كان يلتقي بنسطور (و لعله أراد بحيرا) خلال أسفاره إلى الشام ، و حين كان في سن 12 رأى بحيرا فيه علامات النبوة ، و بعد سنة أقنعه بذلك ، و سافر معه ، و علمه كل ما يتعلق بما نسميه قصص الكتاب المقدس " .
و في التمثيل للاقتباسات من الوثنية ذكر شروش تقبيل الحجر الأسود ، و مثله قال صاحب كتاب " الحق " و هو كاهن لم يذكر ابن الخطيب اسمه ، و زعم بأن الحجر الأسود من بقية آلهة العرب التي كانوا يعبدونها .
و نلمس في هذه الشبهات الكثير من الكذب الصراح كالزعم بنقل القرآن من الكتاب المقدس أو من أناجيل لا ترتضيها الكنيسة فهذا لا يصح بحال ، و يظهر بجلاء لكل من وقف على موضوعات الكتاب المقدس و موضوعات القرآن الكريم ، و قد تحدى ديدات القس بأن يأتي بمثال واحد ، فعجز عن ذلك و ينقل ديدات عن العالم ولير قوله : " هناك فقرة واحدة في القرآن جرى اقتباسها من كتاب المزامير " و هي " الأبرار يرثون الأرض " (المزمور 37/11).
و قد ذكر القرآن وجود هذه الفقرة في المزامير فقال { و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } ، فالقرآن ذكر أن الفقرة موجودة في الزبور ، فيما نقل متى الفقرة ذاتها في إنجيله (انظر متى 5/5) و لم يشر إلى أنه اقتبسها من المزامير.
و يتساءل ديدات مراراً عن الـ(75%) المقتبسة من الكتاب المقدس ، و يقول :" أي شيء في الكتاب المقدس يستحق النسخ أو الاقتباس…هذا كتابك المقدس بالعربية ، و هذه نسخة من القرآن بالعربية لأسهل الأمر عليك " .
و لا ريب في أنه لو كان الكتاب المقدس من عند الله لوجدنا صوراً أكثر من التشابه و التماثل التي تقتضيها وحدة المصدر و الهدف ، و لا يعني حينذاك بأن القرآن مقتبس من الكتب السابقة ، بل ذلك معناه أن الله كما أنزل هذه المعاني على الأنبياء السابقين أنزلها على رسوله الخاتم صلى الله عليه وسلم.
و من التماثل بين شرائع الله تعظيم الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام و عظمها لأمر الله ، ثم عظمها رسول الله لتعظيم الله لها فقد جعلها قبلة لعباده ، و تقبيل الحجر الأسود من ذلك التعظيم ، و قد قال عمر رضي الله عنه عندما وقف عليه يقبله " إني أعلم أنك حجر لا تضر و لا تنفع ، و لولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك " .
و لم يكن تعظيم الرسول للكعبة تعظيم عبادة، إنما كان تعظيماً لشعائر الإسلام و هي منها ، فقد أمر الله نبيه إبراهيم ببناء هذا البيت و تطهيره لعبادته.
هذا و لم يعرف في العرب قط رغم عبادتهم للأصنام أن أحداً منهم عبد الكعبة أو الحجر الأسود.
و أما قول القس و غيره من النصارى عن بحيرا الراهب و نسطور فهو كلام لا دليل عليه البتة ، و الموجود في كتب التاريخ الإسلامي أن رسول الله سافر إلى الشام مرتين إحداهما في طفولته حيث لقيه بحيرا الراهب ، و طلب من أبي طالب أن يحذر على ابن أخيه ، و الثانية في شبابه حيث ذهب في تجارة خديجة ، و عاد بعدها مباشرة ، و من الكذب القول بأن بحيرا قد ذهب معه إلى مكة ، و أنه قد علمه قصص الكتاب المقدس ، بل إن مجرد المقارنة بين قصص الكتاب المقدس و القرآن الكريم المشابهة كقصة آدم و نوح و إبراهيم ، إن مجرد التأمل فيها و المقارنة بينها يكفي في رد هذه الشبهة.
و هذه الشبهة قديمة ذكرها القرآن الكريم و أجاب عنها قال تعالى { و لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون عليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين } { وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه و أعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلماً وزوراً * و قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و أصيلاً * قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات و الأرض إنه كان غفوراً رحيماً } { و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } .
و من المعلوم أن أول ترجمة عربية للتوراة كانت بعد ظهور الإسلام بقرن من الزمان ، حيث كان أسقف اشبيلية يوحنا أول من ترجم التوراة إلى العربية عام 750م ، ثم ترجمها سعدية بن يوسف عام 942م ، وكتبها بأحرف عبرية ، ثم كتبها يافث بن علي في أواخر ذلك القرن بأحرف عربية .
و يعجب المرء كيف ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم الاطلاع على كتب لم يكن بمقدور الأحبار و الرهبان في ذلك الزمان أن يطلعوا عليها كاملة ، بل كيف يقال بأنه أخذ من الأناجيل غير القانونية التي اختفت في بلاد المسيحية ، و إن كشفت الدراسات و عمليات تنقيب الآثار عن بعض هذه الكتب في هذا الزمان، و لكن كيف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصل إليها قبل قرون و في بلاد لا تعير لكتب أهل الكتاب أدنى اهتمام.
و بقيت أمية الرسول حجر عثرة أمام شبهات القس ، لذا يزعم شروش بأن رسول الله كان يقرأ و يكتب ، و يقول : " هذا كان مجرد دعوى لإظهار عظمة عمل محمد في إنتاج القرآن و ليثبت إعجاز القرآن ، و حجتي الدامغة : قيل لنا أنه حين رفض أهل مكة الاعتراف بالعبارة المكتوبة على وثيقة المعاهدة (محمد رسول الله)، و انصياعاً لمطالبهم حذف محمد لقب"رسول الله "، و خط بيده عوضاً عنها عبارة محمد بن عبد الله. و إليكم حدثاً آخر يؤكد إلمامه بالكتابة و القرآن حين لوحظ احتضار محمد أوعز إلى زوجته المفضلة عائشة أن تحضر له قرطاساً ليخط عليه اسم خليفة من بعده" ، ثم ذكر شروش أنه رأى وثيقة عليها توقيع رسول الله كما أن عمل رسول الله في التجارة يوجب عليه أن يجيد القراءة و الكتابة و الحساب.
و أخيراً استشهد بقول الله { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ و ربك الأكرم * الذي علم بالقلم }.
وفي إبطال هذه الحجج اكتفى العلامة ديدات برمي القس بالكذب مستدلاً بتغييره للرواية في مسألة صلح الحديبية حيث ثبت أن رسول الله استعلم الصحابة عن مكان عبارة " رسول الله " ثم أزالها ، و أنه أمر علياً بكتابة: " ابن عبد الله ".
و يؤكد دمشقية في تعليقه على مناظرة شروش بأن لو كتب رسول الله بنفسه اسمه و اسم أبيه فإن ذلك لا يرفع الأمية عنه ، إذ لا شيء يمنع من أن يتعلم الإنسان رسم اسمه و هو لا يعرف الكتابة .
و مثله يقال فيما رآه شروش من توقيع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن صدق في زعمه.
و أما قصة الكتاب الذي أراد رسول الله كتابته فقد ذكره البخاري ، و ذكر بأنه قد كان عنده جمع من الصحابة و أنهم اختلفوا فلما رأى اختلافهم قال: " قوموا عني ، لا ينبغي عندي التنازع " .
فكما كانوا حوله يكتبون الوحي طلب منهم أن يكتبوا هذا الكتاب.
و أما الآيات في أول سورة العلق فقد سبقها قول النبي صلى الله عليه وسلم " ما أنا بقارئ " ، فالمقصود باقرأ هو أن يتلو ما يسمعه من وحي ينزل به جبريل.و لا يمكن أن يكون المقصود بالقراءة القراءة من كتاب إذ لم يدفع جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً مكتوباً ليقرأه .و إنما دفع إليه وحياً مقولاً فقرأه بعده.
و قد أثبت القرآن في غير موضع أمية النبي صلى الله عليه وسلم ، و لو كان قارئاً لما خفي ذلك على قومه فكذبوه ، فعدم تكذيبهم دليل على معرفتهم بصدقه.
و أما قول القس بأن القرآن منحول من شعر العرب و استدلاله بتماثل بعض الآيات مع شعر امرئ القيس فهو مرفوض لأن التماثل في بعض الألفاظ لا يعني النقل على كل حال ، و وقوع التماثل أمر طبيعي إذ جاء القرآن بما تعهده العرب في كلامها من أمثلة و استعارات و سوى ذلك من ضروب البلاغة.ثم أن الشعر المنسوب لامرئ القيس هو المنقول عن القرآن كما قد سبق بيانه .
المحور الثاني : حول ثبوته
اثار النصارى شبهات تتعلق بثبوت القرآن الكريم ، فالنصارى يعتقدون أن القرآن كان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نصوصاً متنافرة و حدها عثمان ، يقول سويجارت: " بعد وفاته ( أي صلى الله عليه وسلم ) كان يوجد عدد لا بأس به من نسخ القرآن المتداولة التي لم تستقر بعد…الخليفة عثمان كان عليه أن يوحد النصوص…لأن نصوصاً كثيرة من القرآن كانت موجودة … بعث عثمان إلى كل إقليم إسلامي بنسخة مما تم نسخه ، و أمر أن تحرق جميع المواد القرآنية الأخرى…، إن لم تكن متناقضة فإني أستغرب لماذا أمر بإحراقها ؟".
و يقول الحداد الخوري عن اقتصار عثمان في جمعه للقرآن على حرف واحد : " بذلك أضاعوا علينا معرفة ما كان في الأحرف الستة من مباينات و مناقضات و اختلافات بالنسبة إلى الحرف الذي أثبتوه و اقتصروا عليه".
و تحدث الحداد أيضاً عما أسماه " الإصدار الثالث للقرآن " ، و قصد به المصحف الذي نقطه الحجاج بن يوسف الثقفي ، و أراد الحداد أن يوهم بأن ثمة تبديلاً أو تغيراً طرأ على القرآن حينذاك".
و تحدث النصارى عن إسقاط المسلمين لبعض الآيات و السور القرآنية كآية رجم الزاني و سورة الحفد و الخلع ، و يقول الخوري معقباً :"و هكذا فقد أسقط عثمان من الصحف قرآناً كثيراً " .
و للرد على هذه الشبهة شرح علماؤنا كيفية نزول القرآن و حفظه من قبل الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم و بعده.
و قبل أن نشرع في تفصيل ذلك ننبه لأمرين هامين غفل عنهما النصارى أولهما: أن المسلمين لا يسمون كل ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً ، بل ما يطلق عليه " القرآن " هو ما لم ينسخ تلاوة من الوحي ، و هو الذي تدارسه جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم.
و الأمر الثاني : أن الأساس الذي حفظ القرآن ، و اعتمد عليه المسلمون هو حفظ الصدور و السطور ، و قد كان الاهتمام بتدوين القرآن في الصحف أمراً متمماً موثقاً لحفظ الصدور.
و قد نزل القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث و عشرين سنة ، فكان صلى الله عليه وسلم إذا نزلت السورة أو بعضها أمر الصحابة بكتابتها و وضعها في مكانها بين سور القرآن وآياته ، و كان له كتاب مختصون بكتابة الوحي.
و توفي رسول الله و لما يجمع هذا الكتاب المكتوب في مصحف واحد ، و ذلك لتتابع الوحي و عدم انقطاعه ، و إن كان قد علم ترتيب السور و آياته.
و قد كان أصل تنزل القرآن على حرف واحد ، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته فقال:"يا جبريل إني بعثت إلى أميين، منهم العجوز ، والشيخ الكبير، و الغلام و الجارية ، والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط….." فاستجاب الله له و جعل نزول القرآن على سبعة أحرف قال صلى الله عليه وسلم : " أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده و يزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف " ، و في رواية أخرى أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف. فقال أسأل الله معافاته و مغفرته . و إن أمتي لا تطيق ذلك…إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة حروف ، فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا " .
و حذر رسول الله من المراء في الأحرف السبع فقال:" أنزل القرآن على سبعة أحرف ، على أي حرف قرأتم أصبتم ، فلا تماروا ، فإن المراء كفر " .
و خبر نزول القرآن على سبعة أحرف خبر متواتر أراد الله به التيسير على الأمة عند قراءتها للقرآن الكريم ، و ليس في الأحاديث السابقة و غيرها ما يفهم منه أن هذه الأحرف كانت نصوصاً مختلفة ، بل غاية ما فيه هو التسهيل في قراءة القرآن.
و قد ذكر علماؤنا أن الأحرف هي وجوه في القراءة توافق لغات العرب مع السماح ببعض الإبدال لحروف بعض الكلمات أو إبدال بعض الكلمات بدلاً لكلمات أخرى تقاربها في المعنى أو ترادفها من غير مضادة و لا تناقض.
و قد حفظ عدد من الصحابة القرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استحر القتل بالقراء يوم اليمامة خشي الصحابة من ضياع القرآن فجمعه زيد بن ثابت في مصحف واحد بعد أن تتبعه من مكتوبات الصحابة و محفوظاتهم ، واستوثق له بتواتر الصحابة وإجماعهم ، و كان هذا المصحف عند أبي بكر ثم عمر ثم حفصة رضي الله عن الجميع.
و في عهد عثمان أتى حذيفة بن اليمان من فتوح أذربيجان و أرمينيا يحذر عثماناً و يقول:" يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود و النصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت و عبد الله بن الزبير و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف ، و قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ، و أرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، و أمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق " .
و في رواية الترمذي" فاختلفوا في "التابوت" و" التابوة " ، فقال القرشيون بالأول، و قال زيد بالثاني ، فرفعوا اختلافهم إلى عثمان ، فقال: اكتبوه بالتابوت ، فإنه نزل بلسان قريش " .
و يفهم من الحديث أن ما فعله عثمان هو نسخ صحف أبي بكر مع إعادة رسم الكتابة و جعلها حسب لغة قريش ، و أهمل الجمع الأخير من الأحرف السبعة ما تعارض مع الرسم العثماني ، و ليس في ذلك إهمال لنص القرآن ، بل عاد الصحابة للأصل الأول و هو لسان قريش بعد أن زال سبب التخفيف و الرخصة التي أنزل الله من أجلها بقية الأحرف، و الذي دعا الصحابة لهذا الصنيع خوفهم من تفرق الأمة و اختلافها بسبب هذه الرخصة التي فات محلها ، و التي وقع الناس لجهلهم بحكمتها في المراء الذي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
و قد كان فعل عثمان رضي الله عنه بإجماع الصحابة يقول علي رضي الله عنه : " لا تقولوا في عثمان إلا خيراً ، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا " .
و قد امتثلت الأمة طائعة لأمر خليفتها، فأحرقوا ما في أيديهم من الصحف والمصاحف التي كانت قد كتبت قبل العرضة الأخيرة ففيها ما نسخت تلاوته ،كما فيها بعض الأجزاء الناقصة التي يخشى أن يظن بعد برهة بأنها هي الصحيح فقط .
و امتثال الصحابة و فعلهم إقرار لعثمان على صحة ما فعله، و دليل على أن ما فعله عثمان هو إعادة نسخ مصحف أبي بكر ، و لو كان في فعله شائبة لثاروا عليه ، كما ثار عليه البعض حين ولى بعض أقاربه ، و من المعلوم أن عثمان لم يأمر عماله بمتابعة الناس في بيوتهم و معرفة من أحرق و من لم يحرق ، فقد فعل المسلمون ذلك بمحض إرادتهم .
و ما أثبته عثمان في مصحفه هو العرضة الأخيرة كما أثبتها مصحف أبي بكر ، لذا اسقط منه كل منسوخ تلاوة ، و مما يدل على دقة عثمان في جمعه أن عبد الله بن الزبير يقول:" قلت لعثمان { و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها ؟ أو تدعها ؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه عن مكانه" فلم يرفع عثمان الآية و هي منسوخة بآية سورة البقرة رقم: 234.
و أما الحجاج فقد اقتصر فعله على وضع النقط، و لم يصنع سوى ذلك ، و لو صنع باطلاً لشنع عليه أعداؤه في عهد بني أمية ثم بنو العباس ، و لكان فعله من الأمور التي يستمسك بها أعداء دولته ، لكن شيئاً من ذلك لم يكن .
وقد صدق وليم موير حين قال مافند دعاوي النصارى في كتابه " حياة محمد "، فقال :" إن نظم القرآن ومحتوياته تنطق في قوة بدقة جمعه ، فقد ضمت الأجزاء المختلفة بعضها إلى بعض ببساطة تامة ، لا تعسف فيها ولا تكلف ولا أثر لأحد في هذا الجمع سوى التأكد والمراجعة لكل ما كتب ، وهو يشهد بإيمان الجامع وإخلاصه لما يجمع ، فهو لم يجرؤ على أكثر من تناول هذه الآيات المقدسة ووضع بعضها إلى جانب بعض " .
المحور الثالث : حول بعض المزاعم المثارة حول القرآن الكريم
زعم النصارى أيضاً أن في القرآن تناقضات و أخطاء تاريخية بل و لغوية كما زعموا أنه ليس بكتاب معجز بل يمكن للبشر أن يأتوا بمثله.
أولاً :التناقضات
و من التناقضات التي تخيلها النصارى في آيات القرآن الكريم التناقض بين قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } فهو يثبت النسخ في القرآن، و يرونه مناقضاً لقوله تعالى { و اتل ما أوحي إليك من ربك لا مبدل لكلماته } و لا تناقض فالآية الأولى تتحدث عن نسخ الله بعض الأحكام وفقاً لمصلحة العباد ، فيما تذكر الثانية أن أحداً غير الله لا يستطيع أن يبدل كلماته .
و كذا توهم النصارى تناقضاً في قوله تعالى { في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } و قوله تعالى { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } وقالوا: اختلفت الآيتان في مقدار يوم القيامة. لكن شلبي لا يراه تناقضاً لأن العدد لا مفهوم له في النصين ، بل يراد منه الكثرة كما يقول الرجل: أرسلت خمسين رسالة ، و أتيتك عشرين مرة . و مراده الكثرة .
و كذا توهم النصارى تناقضاً في قوله تعالى { لا أقسم بهذا البلد } ، فرأوه مناقضاً لإقسامه به في قوله تعالى { و هذا البلد الأمين } فظنوا أن لا في الآية الأولى نافية ، و هي للتوكيد ، فتأتي في القسم كما في قوله { فلا وربك لا يؤمنون } أي أقسم بربك .
و رأى النصارى أيضاً أن ثمة تناقضاً في مفهوم القضاء و القدر في القرآن الكريم فقد جاءت آيات تتحدث عن مسئولية الإنسان عن عمله ، و يرونه مناقضاً للنصوص التي تقرر هيمنة الله على هذا الكون { فيضل الله من يشاء و يهدي من يشاء } و قوله تعالى { و لقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن و الإنس } فأبان الجزيري عن معتقد المسلمين في القدر ، و يتلخص في أن الإنسان لا يؤاخذ و لا يعاقب إلا بكسبه ، و لكن أعمال الإنسان الخيرة و الشريرة مخلوقة لله يفعلها الإنسان باختياره ، و لولا خلق الله لها لما استطعنا فعلها.
و يرى الجزيري أن قوله { فيضل من يشاء } لا علاقة له بأفعال العباد ، بل هو في باب الإخبار في أن الله قادر على أن يضل أو يهدي من يشاء بإرسال الرسل أو ترك البشرية على ضلالتها ، لكنه برحمته أرسل الرسل.
و نقل قولاً آخر يفسر الآية و هو أن الله يخلق الهداية للعبد الذي أرادها و سعى إليها ،كما يخلق الضلال لمن أراد العماية و الغواية.
و أما ما جاء عن ختم الله على قلوب العصاة و الكفرة { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم و على سمعهم } فليس معناه أنهم ولدوا كذلك و قد ختم الله على قلوبهم، بل هذا حصل لهم بمقتضى أعمالهم .
و يقرر الجزيري أن مثل هذا اللبس يمكن أن يطرح على النصارى ، فبينما جاءت نصوص تقرر مسئولية الإنسان عن عمله كما في (متى 12/ 336-37، 16/ 25) ، و غيرها جاء ما يفيد بأن الله يضل من يشاء، ففي سفر حزقيال " النبي إذا ضل و تكلم بكلام ، فأنا الرب أضللت ذلك النبي " (حزقيال 14/9) ، و قد أضل الله فرعون فقال: " إني أقسي قلب فرعون " (الخروج 7/3) ، و يقول بولس عن الله " هو يرحم من يشاء و يقسي من يشاء، فتقول لي: لماذا يلوم بعد؟ لأن من يقاوم مشيئته! بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله ؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا ؟ أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة، و آخر للهوان ، فماذا إن كان الله و هو يريد أن يظهر غضبه و يبين قوته احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك…" (رومية 9/18-22).
و في سفر إشعيا أن الله "مصور النور خالق الظلمة و صانع السلام و خالق الشر . أنا الرب صانع كل هذه " (إشعيا 45/7).
فهو خالق الشر بما فيه الكفر الذي يقع فيه الناس فكيف يوفقون بين هذه النصوص؟
و هكذا تعرض علماؤنا لما ساقه النصارى من نصوص توهموا منها التناقض و التعارض فأزالوا و بينوا حقيقة المراد من النصوص و ما فيها من عموم و خصوص أو ناسخ و منسوخ…
ثانياً : الطعن في عربيته وبلاغته
و ذكر النصارى أيضاً أن في القرآن ألفاظاً غير عربية كأسماء الأنبياء السابقين و بعض الأسماء المستعارة من لغات أخرى مثل: استبرق، جهنم، ماعون، سندس، مشكاة… فوجود هذه الكلمات في القرآن كما يرى النصارى يقدح في عربية القرآن بل و بلاغته.
و يرد الألوسي بأن وجود كلمات يسيرة لا تتجاوز الثلاثين غير عربية في القرآن أو في كلام عربي لا تخرجه عن عروبته ، ثم هذه الألفاظ ، و إن كانت في أصولها غير عربية فإن العرب عربتها بألسنتها فصارت عربية، و كان الإمام الشافعي يمنع أن تكون أصول هذه الكلمات أعجمية ، بل يراها عربية وإن وجدت في لغات أخرى فهي مما نقله العجم عن العرب ، و كان يقول " لا يحيط باللغة إلا نبي " .
و يرى محمد عزة دروزة أن سبب تعريب العرب لهذه الكلمات لأنها تتعلق بمسميات غير مستعملة في الحياة العربية، و صلت إلى العرب من الاحتكاك بالأمم أوزان ألفاظهم ، و ذلك قبل نزول القرآن الكريم .
و مما قاله النصارى مشككين في بلاغة القرآن و جزالته قولهم بأن في القرآن أخطاء نحوية ، و ضربوا لذلك أمثلة نورد بعضها.
و قد جهل هؤلاء أن القرآن سابق على قواعد النحو التي وضعها سيبويه و الخليل الفراهيدي معتمدين في استنباطهم لهذه القواعد على القرآن الكريم و بعض أشعار العرب فلا يمكن أن تكون هذه القواعد اللاحقة حكماً على الأصل الذي صدرت عنه.
ثم إن المتبصر العارف بلغة العرب يرى أن هذه المواضع التي أنكرها النصارى لم تخالف لغة العرب و ما عهد عنهم و إن ظهر ذلك للعامي أو الأعجمي.
فأما قوله تعالى { إن هذان لساحران } فجاءت فيه { إن } ساكنة، و هي ليست " إنّ " التي تستلزم نصب الاسم و رفع الخبر ، و يرى شلبي بأن لكلمة " هذان " توجيهان : الأول : أن اسم إن المخففة هو ضمير الشأن المحذوف ، و خبرها جملة { هذان لساحران } و الثاني: أنها للنفي بمعنى : ما هذان إلا ساحران ، و في كلا الحالين ترفع كلمة { هذان } .
و أشكل على النصارى أيضاً نصب لفظة { الصابرين } في قوله { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس }
و يرى دمشقية عجمة القس شروش و هو يحتج على هذه الآية التي نصبت لفظة { الصابرين } لعطفها على قوله { و في الرقاب } أو نصبها كان بسبب فعل محذوف ، و تقدير الكلام: أعني الصابرين. و سبب الإضمار هو الإشعار بفضل الصبر.
و أما تأنيث العدد في قوله { و قطعناهم اثني عشر أسباطاً أمماً } فسببه أن التميز ليس { أسباطاً } بل: فرقة. و هي مؤنثة و وافقها العدد، و أما أسباطاً فهي بدل كل من كل .
و أما نصب قوله { المقيمين } في قوله تعالى { لكن الراسخون في العلم منهم و المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك و المقيمين الصلاة } فقد نصبت لأن الواو التي قبلها ليست بواو العطف، بل الواو المعترضة و ما بعدها نصب على المدح ، و تقدير الكلام: أعني المقيمين الصلاة .
فيما رفعت كلمة { الصابئون } في قوله { إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون و النصارى من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحاً } قال سيبويه: الرفع محمول على التقديم و التأخير ، و التقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا ….و الصابئون و النصارى كذلك ، و يورد الجزيري وجهاً آخر يجيز الرفع : أن { الصابئون } معطوفة على اسم محل إن ، و اسم إن ينصب لكنه يبقى مرفوعاً للمحل ، سواء كان محل الاسم قبل الخبر أو بعده .
و هذه الصور و غيرها مما ذكر علماؤنا يدل على جهل مثيري الشبهات من النصارى بقواعد اللغة كما يدل على عظمة القرآن و بيانه.
ثالثاً : الزعم بوجود الخطأ في القرآن
و زعم النصارى أيضاً بوجود أخطاء تاريخية في القرآن الكريم ، فذكروا أن إبراهيم هو ابن تارح و ليس آزر ، و أن الذي وجد موسى و رباه بعد أن ألقته أمه في اليم هو ابنة فرعون- و ليس زوجه -كما ذكر الكتاب المقدس،و عجبوا كيف يذكر القرآن بأن الذي صنع العجل هو السامري ، و السامرة مدينة في فلسطين لم تكن أيام موسى و وجدت بعده عام 742. ق. م ، و رأوا أن الذي صنع العجل هو هارون عليه السلام ، و اعتبر النصارى أن من الخطأ ذكر هامان على أنه وزير لفرعون ، إذ هو وزير لملك فارس كما صرح سفر استير ، و بنى صرحه ببابل و ليس بمصر (و يقصدون برج بابل).
و قد رد علماؤنا على زعم النصارى بأن ما ذكروه ليس بحجة إذ أن التوراة المحرفة لا يمكن أن تكون حجة على القرآن الكريم.
و بالنسبة لما ورد في اسم أبي إبراهيم فإن المفسرين ذكروا أن آزر هو عم إبراهيم ، و سماه القرآن أباً له ، لأن العم بمقام الأب ، وهو استعمال معهود في اللغة ، ومستعمل في المجتمعات العربية حتى الآن.
و أما تسمية القرآن لصانع العجل لبني إسرائيل بالسامري فليس نسبة لمدينة السامرة التي بنيت فيما بعد ،بل هو اسم قديم ،فالسومريون اسم لحضارة قديمة وجدت الميلاد بأربعة آلاف سنة في جنوب العراق ، واستمرت هذه الحضارة قائمة حتى عام 2000 ق.م ، وقد تميز السومريون بالمصنوعات الخزفية ، فلعل السامري الذي صنع العجل لبني إسرائيل منهم ، ومما يؤكد قدم هذا الاسم أن السامرة قد سميت بذلك نسبة لسامر الذي باع جبل السامرة بوزنتين من فضة (انظر ملوك (1)16/24) ، وعليه فإن السامري اسم لرجل كان قبل مدينة السامرة ، و ليس من دليل يمنع ذلك ، و الياء الملحقة بالاسم ليست ياء النسب ، فهي كقولنا : الشافعي .
ثم إن كلمة " السامري" في أصلها كلمة عبرانية معناها: " الحارس " فقد يكون مقصود القرآن أن الذي أضل بني إسرائيل هو المعروف بالحارس .
و أما هامان فليس هناك ما يمنع أن يكون اسماً لأحد وزراء أو مستشاري فرعون ، و لا يمكن إقامة دليل على عدم وجود مستشار بهذا الاسم أو اللقب
هذا و لم تتحدث التوراة عن الصرح الذي طلب فرعون بنائه ، و أما المؤرخون فإن منهم من يقول بأن البناء قد تمّ ، ثم دكه الله فليس هو برج بابل .
و أرى أن القرآن لم يتحدث عن بناء الصرح و إن ذكر جرأة فرعون على الله و استخفافه بقومه بأن أوهمهم بأنه إذا بنى الصرح سيغالب الله، لكن كما قال المفسرون فإن فرعون أعقل من أن يجهل عظمة الله ، و لن يجهل ضعف مثله و قعوده عن مقام الربوبية.
رابعاً : الزعم بوجود مبالغات في القرآن
و في نقد النصارى للقرآن ذكروا أن فيه مبالغات و أموراً هي للأسطورة منها أقرب للحقيقة ، و مثل القس شروش لذلك بما جاء في قصة الرجل الذي أماته الله و حماره مائة عام ، ثم بعثه ، و تساءل عن الحكمة من بعث الحمار ، و ذكر أيضاً باللمز والسخرية استخدام سليمان للجن و وصف الصرح الذي دخلته ملكة اليمن ، و مثله مسخ البشر إلى قردة و خنازير .
و مثل هذه الإخبار لم يقم دليل ينهض بتكذيبها، و غرابتها غير كافية للحكم بردها ، ثم قد وقعت في موقع الأعجوبة المعجزة أو العقوبة الإلهية المتناسبة مع عظم الضلال الذي وقع به بنو إسرائيل قتلة الأنبياء ،فكان من المناسب أن يعاقبوا بعقوبة يشعرون بمرارتها طويلاً ، ولو أماتهم حينذاك لكان في الموت راحة لهم ، ومسخهم عقوبة أبلغ في لبعقوبة ، و الله على كل شيء قدير.
و أما مسخ عصاة بني إسرائيل إلى قردة و خنازير الوارد في قوله تعالى { و جعل منهم القردة و الخنازير و عبدة الطاغوت } فقد ذكر العلماء له معنيين : أولهما أن المسخ كان مسخاً للقلوب فقط أي أنه مجازي.و ثانيهما: و هو قول جمهور المسلمين أنه مسخ حقيقي . و أياً كان فإن النصارى الذين يقولون بتقمص الخالق للمخلوق لا يليق بهم أن يعترضوا على مثل هذه العقوبة الإلهية ، كما أن المسيح يورد ما يفيد جواز وقوع هذا المعنى فيقول:" إن الله قادر على أن يحول هذا الحجر إنساناً " (انظر متى 3/9)
المحور الرابع : حول إعجاز القرآن الكريم
و إبطالاً لمعجزة القرآن فإن النصارى يرون بأن قوة الكتاب اللغوية و جزالته ليست بكافية للحكم بنبوة صاحبه ، و يذكرون بأنه قد كان في الدنيا أعمال أدبية صدر بعضها من أناس لا يعرفون القراءة و الكتابة كالإلياذة اليونانية و التي يقال بأن كاتبها هو الأعمى هوميروس، و كذلك الحال في قوانين حمورابي و المعلقات السبع للعرب.
و المسلمون لا يقولون بأن فصاحة كتاب و بلاغة كاتب دليل على نبوته ، بل يرون أن القرآن ظهر في أمة تتفاخر بنظمها و نثرها ، فدعاهم لمعارضة القرآن، فعجزوا ، فدعاهم ليأتوا بمثل سورة منه ، فعجزوا لمعرفتهم بعظمة هذا الكتاب ، و قد عرفوا قعودهم عن الإتيان بمثله ، و لو كانوا يرون في المعلقات السبع أو غيرها ما يقارب القرآن في نظمه لقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، و لكسبوا منه التحدي، لكنهم في الحقيقة عجزوا عن مقارعته ، و أقر الوليد بن المغيرة - و هو للنبي صلى الله عليه وسلم عدو و خصم - أقر بعظمة القرآن فقال: " قد سمعت من محمد أنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجن ، و إن له لحلاوة ، و إن عليه لطلاوة ، و إن أعلاه لمثمر ، و إن أسفله لمغدق، و إنه يعلو و لا يعلى عليه ، و إنه ليحطم ما تحته " و لذلك لم يجدوا أمام بيان القرآن إلا أن يقولوا { إن هذا إلا سحر يؤثر } .
ثم إن إعجاز القرآن لا يتوقف على بلاغته فقط، يقول نديم الجسر:" إن إعجاز القرآن لا يقوم على بلاغته فحسب كما يظن البعض ، و لكن يمتد إلى ما فيه من آيات معجزات تحمل لعلماء الطبيعة أسراراً من حقائق الطبيعة، و لعلماء الاجتماع أسراراً في نواميس المجتمع ، و للفلاسفة أسراراً من حقائق الوجود، و لعلماء التاريخ أسرار من دقائق الأخلاق[ هكذا ]، و علماء النفس أسراراً من قواعد علم النفس ، و لعلماء التربية أسراراً من أساليب التربية.
و سر الإعجاز في تلك الآيات أنها نزلت على رسول الله محمد النبي الأمي وليد البيئة الأمية قبل قرون طويلة من انكشاف أسرار العلم التي وصلنا إليها اليوم " .
و بقي التحدي القرآني يدعو أرباب الفصاحة للإتيان بمثل هذا القرآن ، فما قدر على معارضته أحد على كثرة الأعداء ، و توافر البلغاء ، لكن القس أنيس شروش يرى أن هناك من لبى تحدي القرآن ، فيقول: " أذكركم أن شعراء قبل محمد (!) و بعده لبوا هذا التحدي ".
و لم ينقل لنا شروش من هذه المحاولات سوى ما ذكره من اقتباس من إحدى المحاولات الحديثة ، و قامت به " مجموعة صغيرة من المفكرين في أورشليم عملوا لتحقيق مشروع عمره 16سنة " ، و المشروع كما يظهر في السياق الآتي هو محاولة لصياغة الإنجيل على محاكاة القرآن ، و قد عرض لنموذج منه القس شروش فقال:" بسم الله الرحمن الرحيم. قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقاً فآمنوا بي و لا تخافوا. إن لكم عنده جنات نزلاً. فلأسبقنكم إلى الله لأعدها لكم ، ثم لآتينكم نزلة أخرى ، و إنكم لتعرفون السبيل إلى قبلة العليا. فقال له توما الحواري: مولانا إننا لا نملك من ذلك علماً. فقال له عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقاً ، و من دوني لا تستطيعون إليه سبيلاً ، و من عرفني فكأنما عرف الله ، و لأنكم منذ الآن تعرفونه و تبصرونه يقيناً ، فقال له فيليب الحواري : مولانا أرنا الله جهرة تكفينا، فقال عيسى: أو لم تؤمنوا بعد و قد أقمت معكم دهراً ؟ فمن رآني فكأنما رأى الله جهراً "…النص مأخوذ من إنجيل ( يوحنا 14/1-6 ) إنه نص جميل بلغة عربية جميلة ".
ثم عرض القس قولين آخرين اعتبرهما من بلاغة العرب التي حاذت أو فاقت بلاغة القرآن ، فقال: "مثال آخر لعلي بن أبي طالب : إنما الدنيا فناء ليس للدنيا ثبوت ، و إنما الدنيا كبيت نسجه العنكبوت "، و القول الثاني : " كيفية المرء ليس يدركها ، فكيف كيفية الجبار في القدم ، هو الذي أنشأ الأشياء مجتمعاً فكيف يدركه مستحدث النسم ؟ ".
و كتب من قبل مسيلمة "نقي كما تنقين ، لا الماء تدركين ، و لا الشراب تمنعين" و قال أيضاً :" ألم ترى كيف فعل ربك بالحبلى ، أخرج من بطنها نسمة تسعى ، من بين شراشيف و حشى " فيما قال النضر بن الحارث و كان من فصحاء قريش : " و الزارعات زرعاً. و الحاصدات حصداً. و الطاحنات طحناً. و العاجنات عجناً. و الخابزات خبزاً…." .
و كان الأقدمون قد عرفوا قدر معارضات مسيلمة و النضر فزادت يقينهم بالقرآن و إعجازه ، و ما على نصارى اليوم إلا أن يعرضوا جهد ستة عشر عاماً قامت به مجموعة من المفكرين بإعادة صياغة نص قديم، ثم يضعوه إزاء أسلوب القرآن الكريم لتظهر الثريا من الثرى. و قد صدق ابن المقفع عندما أراد معارضة القرآن ، ثم رأى عجزه عن مثل هذا البيان فقال: أشهد أن هذا لا يعارض، و ما هو من كلام البشر. ، و مثله صنع يحيى الغزال بليغ الأندلس .
و كان علماؤنا من قبل قد نقدوا أساطين الشعر العربي في الجاهلية و بعد الإسلام و بينوا ما تخلل شعرهم من نقص البشر و سوء التعبير ، و من ذلك نقد الباقلاني لمعلقة امرئ القيس .
و يكفي أن نعرض المقارنة و الدراسة نموذجاً سريعاً لمعنى جاء به القرآن و قالته العرب في حكمتها، فإن الناظر فيهما يقف على الفارق بين كلام البشر و كلام رب البشر ، فقد قالت العرب في قتل القاتل " القتل أنفى للقتل "، و قال القرآن { و لكم في القصاص حياة } .
و يحكي الدكتور إبراهيم خليل في كتابه" لماذا أسلم صديقي، و رأي الفاتيكان في تحديات القرآن " يحكي قصة طبيب مصري مسيحي قرر كتابة كتاب يرد فيه على تحدي القرآن ، يعنون له بعنوان : "و انتهت تحديات القرآن " .
و قد كتب الطبيب المصري رسالة ، و أرسل صورة منها إلى ألفي عالم أو معهد أو جامعة ممن تخصصوا بالدراسات العربية و الإسلامية في مختلف أنحاء العالم، وكان مما سطره في خطابه قوله :" القرآن يتحدى البشرية في جميع أنحاء العالم في الماضي و الحاضر و المستقبل بشيء غريب جداً ، و هو أنها لا تستطيع تكوين ما يسمى بالسورة باللغة العربية…السورة رقم 112 ، و هي من أصغر سور القرآن ، و لا يزيد عدد كلماتها عن 15 كلمة ، و يتبع ذلك أن القرآن يتحدى البشرية بالإتيان بـ(15) كلمة لتكوين سورة واحدة كالتي توجد بالقرآن….
سيدي: أعتقد أن مهاجمة هذه النقطة الهامة و الخطيرة ، و ذلك بالإتيان بأكبر عدد ممكن من السور كالتي توجد، أو - آمل أن تكون - أفضل من تلك الموجودة بالقرآن سيسبب لنا نجاحاً عظيماً لإقناع المسلمين بأنا قبلنا هذه التحديات ، بل و انتصرنا عليهم….فهل تتكرم يا يدي مشكوراً بإرسال 15 كلمة بالغة العربية أو أكثر من المستوى البياني الرفيع مكوناً جملة كالتي توجد في القرآن…".
و قد أثبت إبراهيم خليل العناوين الألفين التي أرسل لها الخطاب ، و تكررت محاولة الطبيب المسيحي أربع مرات طوال سنة 1990م .
فكانت محصلة ثماني آلاف رسالة أرسلها أن وصلت إليه ردود اعتذار باهتة عرض صورها إبراهيم خليل ، منها اعتذار كلية الدراسات الشرقية و الإفريقية في جامعة لندن فقد كان ردها :" آمل أن نتفهم أن كليتنا و أعضاؤها يرفضون الخوض في المنازعات الدينية ، و بالتالي فإنه لا يمكننا إجابة طلبك "، و أما رد إذاعة حول العالم (مونت كارلو) فكان " الموضوع الذي طرحته موضوع هام ، لكننا كإذاعة لا نحب أن ندخل في حمى و طيس هذه المعركة ، إذ لا نظن أنها تخدم رسالة الإنجيل، فرسالتنا هي رسالة محبة ، و ليست رسالة تحدي…".
و أما رد الفاتيكان فقد جاء فيه "بوصفنا مسيحيون فنحن 0لا نقبل بالطبع أن يكون القرآن هو كلام الله على الرغم من إعجابنا به حيث يعتبر القمة في الأدب العربي..و لقد أخبرني زميل مصري بأن أفضل أجزاء القرآن تذكره بأجزاء من الكتاب المقدس ، و لكن هذا بالطبع لا يعني أنه أوحي به من عند الله كما هو الحال في الكتاب المقدس ، و هناك نقطة عملية تعوق مسألة الإتيان بسورة من مثل القرآن ، و هي : من ذا الذي سيحكم على هذه المحاولة إن تمت بالفعل…" و لذلك اعتذروا عن إجابة طلبه ، فأعاد المراسلة جميع معاهد و مؤسسات الفاتيكان طالباً إجابة التحدي ، وعرض أن يكون هو الحكم بين القرآن والفاتيكان ، و طلب من الأب " ليو" في الفاتيكان أن ينقل أي جزء مكون من 15 كلمة من الكتاب المقدس ليعارض بها القرآن ، فكانت الإجابة مشابهة لإجابة المئات الذين لم يردوا على الطبيب، بل صمت مدقع .
{ فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة أعدت للكافرين }
و كنموذج للإعجاز القرآني عرض إبراهيم خليل لكلمة " علق " الواردة في قوله تعالى { خلق الإنسان من علق } فلمادة " علق " في اللغة واحداً و ثلاثين معنىً ذكرها ابن منظور في قاموسه " لسان العرب "، و هذه المعاني كما يرى إبراهيم خليل تنطبق جميعاً على الإنسان فقد " و صفت جميع صفات الإنسان التشريحية و الفسيولوجية و النفسية و العاطفية و الاجتماعية منذ كان جنيناً في بطن أمه حتى صار رجلاً يحب و يكره…
فالإنسان بحق من علق قد خلقه الله من السائل المنوي (العلوق) ، وعلقت بأمه (حملت به) ، فأصبح علقة (كدودة حمراء تكون في الماء تعلق بالبدن و تمتص الدم ثم إذا خرج من بطن أمه احتاج إلى الشراب و اللبن و الطعام (العليق و العلوق) ، و يطلق العلق أيضاً على ما يتبلغ به من العيش.
و الإنسان شديد الخصومة محب للجدل (علاقي معلاق)يكره (امرأة علوق) و يحب (علقت منه كل معلق)…إلى آخر تلك المعاني التي فصلت خصائص الإنسان و أطوار حياته الأولى.
و صدق العلماء الذين درسوا إعجاز القرآن حين قالوا:" إن القرآن رغم إيجازه المعجز في عدد كلماته، بل و في عدد حروفه إلا أن المعاني التي تجيء بها كل كلمة فيها إرباء و إنماء و زيادة ، أي أن كل كلمة تولد ، و تعطي من المعاني ما لا يحصر له ".
و مرة أخرى سارع الطبيب النصراني إلى مراسلة كليات و معاهد العالم طالباً منهم أن يأتوا بكلمة بديلة لـ" علق " تقوم مقامها أو تعطي نصف المعاني التي تعطيها كلمة " علق " ، و مرة أخرى لا مجيب !!
المحور الخامس : الزعم بأن القرآن أيد المعتقدات المسيحية
و أثار النصارى في وجه علمائنا شبهة تأييد القرآن لعقائد النصرانية كألوهية المسيح و صلبه و التثليث و مثله قولهم بأن القرآن شهد بسلامة كتب النصارى من التحريف.
و قد تداول النصارى هذه الشبهة قروناً متعاقبة ، و قد انبرى للرد عليها علماء الإسلام من قبل القرافي و الطوفي و ابن تيمية ، و ما يزال النصارى حتى يومنا هذا يثيرون هذه الشبهات متأولين ومحرفين لبعض النصوص القرآنية ، و قد كان هذا الاتجاه واضحاً في كثير من الكتابات التي دسها النصارى بين أبناء المسلمين يدعون فيها أن القرآن الكريم قد وافقهم في هذه المسائل و من هذه الكتابات " منار الحق " الذي تبنت نشره الكنيسة المصرية ، و كتاب " استحالة تحريف الكتاب المقدس" لوهيب خليل ، و أسهم فيه الأنبا شنودة الذي كتب كتابه " القرآن والمسيحية "، و منها كتاب " الباكورة الشهية في الروايات الدينية " و لم يذكر اسم مؤلفه ، و صدر عن مطبعة النيل المسيحية عام 1926م.
و أصدر الأب إبراهيم لوقا كتابه " المسيحية في الإسلام "و نيقولا غبريل كتابه" أبحاث المجتهدين في الخلف بين النصارى و المسلمين " و كتب أسقف آخر من البروتستانت لم يذكر البغدادي اسمه كتاب " الأقاويل القرآنية في الكتب المسيحية " ، و كتب القمص زكريا بطرس رسالته " بين المسيحية و الإسلام ".
و في كتابه " أديان العالم " كتب حبيب سعيد مبحثاً عنون له " عقيدة الثالوث في الإسلام "، و ينقل محمد جمعة عن المبشر جون تاكلي قوله:" يجب أن نستخدم القرآن، و هو أمضى سلاح ضد الإسلام نفسه، بأن نعلم المسلمين بأن الصحيح في القرآن غير جديد ، و أن الجديد فيه غير صحيح " .
و يقول المنصر الإنجليزي برجس : " يجب أن نستخدم القرآن ضد الإسلام نفسه حتى نقضي عليه ، و سواء كانت الوسيلة هي الكذب أم الزيف ، فالمهم أن نثير في أنفسهم الشك ، و أن نطفئ في قلوبهم جذوة الإيمان بهذا الكتاب الذي يتفوق في جاذبيته و تأثيره على أي كتاب مقدس عرفه الناس من قبل " .
دعوى تأييد القرآن لألوهية المسيح :
و كان أهم المسائل التي تنادى بها النصارى للاستدلال عليها من القرآن ألوهية المسيح ، و قد تعلق النصارى بقول الله تعالى عن المسيح { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه } ، و قوله لمريم { إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } يقول البابا شنودة عن لفظي " روح الله و كلمة الله " اللتان وردتا في حق عيسى : " و أياً كانت النتيجة فإن هذين اللقبين يدلان على مركز رفيع للمسيح في القرآن لم يتمتع به غيره" فالنصارى يفسرون الكلمة بالمفهوم اليوناني القائل بأن الكلمة هي العقل الإلهي الضابط لحركات الموجودات ، فمادام المسيح هو كلمة الله أي عقله ، فهو أزلي لا ينفصل عن ذاته و لا يتخلف عنه في الوجود ابتداء ، و يقول القمص إبراهيم لوقا في رسالته عن التثليث :"إنه لا فرق بين الله و كلمته، كما لا فرق بين الإنسان و كلمته " .
و أما روح الله فهي عندهم جزء من ذاته كحال البشر فإذا وصف المسيح بها دل ذلك على ألوهيته.
و يضيف النصارى إلى هذين اللقبين ما جاء في القرآن من وصف لميلاد المسيح و معجزاته الباهرة و تلقيبه بالمسيح…يقول البابا شنودة : " لم يقتصر الأمر على كنه المسيح أو طبيعته من حيث هو كلمة الله و روح منه ألقاها إلى مريم ، و إنما الطريقة التي ولد بها و التي شرحها القرآن في سورة مريم كانت طريقة عجيبة معجزية لم يولد بها أحد غيره من امرأة. زادها غرابة أنه يكلم الناس في المهد. الأمر الذي لم يحدث لأحد من قبل و لا من بعد " ، ثم يتحدث عن معجزات المسيح و يقول " لماذا يختص بهذه المعجزات التي لم يعملها أحد، و التي هي من عمل الله ذاته " .
و يلحظ علماؤنا اجتزاء النصارى للنصوص التي أيدوا بها منطقهم ، فالآيات التي تحدثت عن المسيح فوصفته بأنه:" روح منه أو كلمة " وردت في سياق ذم النصارى و تثليثهم لا تأكيد عقائدهم ، فالآية من أولها: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه فآمنوا بالله و رسله و لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات و ما في الأرض و كفى بالله وكيلاً * لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله…} فوصفته الآيات أيضاً بأنه رسول الله و أنه عبده.
و عندما تحدث القرآن عن المعجزات المسيح تحدث عن أنها وقعت بإذن الله ، فأهمل النصارى ما تناقض غرضهم ، و لما ذكر ميلاد المسيح العجيب ذكر أيضاً ميلاد آدم الذي يشبهه في بعض الوجوه ، و كما تحدث عن أعجوبة كلامه في المهد، ذكر بأنه قال { آتاني الكتاب و جعلني نبياً }
و مثل هذا الاجتراء على النص القرآني و الانتقاء منه صنعه الحداد الخوري حين أورد قول الله { إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } أوردها كدليل على بنوة المسيح لله. و أعرض عن الآية التي تليها فلم يذكرها و هي قوله { سبحان رب السماوات و الأرض رب العرش عما يصفون } ، و لا ريب أن هذا الصنيع يدل على عدم دلالة النصوص على ما يرومونه إلا باجتزائها، و هو صنيع مجاف لروح البحث عن الحقيقة و احترام الدليل.
و عند النظر في تلك الأجزاء التي أوردها النصارى كشف علماؤنا لبس النصارى في استدلالهم.فبخصوص" الكلمة " فإن الأطير ينبه إلى أن الآيات لم تصف المسيح بالكلمة كما هو الأقنوم الثاني من الثالوث، بل سمته كلمة { بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } و قال { و كلمته ألقاها إلى مريم } .
و سبب تسمية المسيح " كلمة "جاء لأحد أمور ذكرها المفسرون و نقلها أصحاب الردود الإسلامية.
أ- أن المسيح لم يخلق وفق ناموس الطبيعة المعتاد ، بل خلق بأمر التكوين الإلهي " كن" فكان ، فقد خلق بكلمة الله التي ترجع إليها جميع المخلوقات التي ننسبها إلى السبب القريب (الأبوة) ، بينما المسيح ليس له سبب قريب فينسب إلى السبب الأصل الذي نشأ عنه وجوده.
فإن اعترض النصارى و قالوا: إذاً لماذا لم يسم آدم أيضاً كلمة من الله ؟ فيجيب عبد الرحيم محمد بأن سبب ورود ذلك في حق المسيح دون آدم أن ميلاد آدم لم يثير تلكم الريبة التي وجدناها في ميلاد المسيح عندما ولد من غير أب ، فقال القائلون : هو ابن الله .و قال آخرون : ابن زنى . و سوى ذلك فاستلزم بيان سبب وجوده ، و أنه ليس بذاك و لا ذا ،بل هو مخلوق بكلمة الله.
ب_أن المقصود بالكلمة البشارة التي بشر الله بها مريم.
ج- و ذكر السقا بأن المراد بأن المسيح يتكلم بكلام الله ، فسمي بذلك كلمة .
و نبه علماؤنا بأن معنى الكلمة بمعنى أنها صفة الله المتولدة عنه أو أقنومه الثاني لم ترد في القرآن الكريم و لا في الكتب المقدسة سوى ما جاء في مقدمة يوحنا.
و تتبع علماؤنا مع التمثيل معاني " الكلمة " في الكتاب المقدس فوجدوها لا تخرج عن معانٍ: القول ، الوعد ، العقيدة ، التعليم ، الحكم ، المخلوق ، النظام أو الناموس. و ليس في كتب النصارى إطلاق لفظة الكلمة بمعنى : الإله المتجسد أو صفته المنفصلة عنه، أو المولودة … و قريباً من هذه المعاني استعملت لفظة " الكلمة " في السياق القرآني .
و أما قوله تعالى { وروح منه } فلفظة (منه) فيه ليست تبعيضية كما قال النصارى ، بل هي لابتداء الغاية أي أن المخلوق بدأ من الله، أو هي للبيان أي أن هذه الكلمة من الله، و ليست من الشيطان أو من غيره كما يقول اليهود في المسيح عليه السلام.
و أما قوله { ألقاها إلى مريم } فهو إلقاء مجازي كما يقال: فلان ألقى كلمة أو أمراً ، و مثله جاء في التوراة و الإنجيل (انظر الخروج 15/4، المزمور 50/16-17، مرقس 21/1).
ووصف المسيح بأنه روح منه يعني أن المسيح من روح الله، فـ(من) ليست تبعيضية ، بل هي -كما سبق - بيانية أو لابتداء الغاية، كما قيل في آدم { و نفخت فيه من روحي } و قال تعالى عن سائر المخلوقات { و سخر لكم ما في السماوات و الأرض جميعاً منه } .
و كلمة الروح وردت في القرآن بمعنيين :
الأول : جبريل عليه السلام
و الثاني : القوة و التأييد الإلهي
ويرى المطعني أنه يصح أن يقال بأن المقصود بالروح هو النفخ كما جاء في شعر ذي الرمة " و أحيها بروحك " أي أشعلها بنفخك . و يرى السقا أنه يصح أن يقال بأن معنى { روح منه } هو إلهام منه ، و كما ورد هذا الاستعمال أيضاً في مواضع متعددة في الكتاب المقدس.
و أياً كان معنى الروح فإن عبد السلام محمد يؤكد بأنه حتى النصارى لا يقولون بأن المسيح هو روح القدس .
و ينقل عن سعيد الحاوي في كتابه " البرهان القويم في إثبات الثلاثة أقانيم " قوله: " الروح القدس المتحد مع الأب و الابن أقنوم خاص مميز له عن أقنوميهما ، فهو أقنوم ثالث في اللاهوت ".
و يقول ياسين منصور في رسالته " التثليث و التوحيد " عن الروح القدس :"هو ذات حقيقي و شخص حي و أقنوم متميز لكنه غير منفصل ، و هو أقنومية غير أقنوم الأب و غير أقنوم الابن ، و هو نظير الأب و الابن و مساوٍ لهما " .
و زعم البعض من النصارى أن المسيح هو الحمل الفادي الذي ذكره القرآن في ثنايا قصة الذبيح في قوله تعالى { و فديناه بذبح عظيم } . و مما لا خلاف فيه عند المفسرين أن الذبح هو كبش فدى الله به إسماعيل.
و بمثل هذا التمحل للنصوص فعلوا عندما فسروا قول الله { قلنا اهبطا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون } فقد زعم صاحب كتاب " الحق " أن الهدى المراد بالآية هو المسيح .
و ما نبه إليه عبد السلام محمد آنفاً يصح في حق الكاثوليك ، و لا يصح في دفع مذهب الأرثوذكس الذين يرون أن الله هو المسيح و أنه روح القدس.
و أما ميلاد المسيح و معجزاته و نجاته و رفعه إلى السماء و تخصيصه باسم المسيح ، فكل ذلك لا يخرج به عن مقام العبودية التي أوضحها القرآن الكريم بجلاء لا يقبل اللبس ، و قد سبق بيان ذلك حتى في كتب النصارى.
دعوى تأييد القرآن لعقيدة التثليث :
و عقيدة التثليث التي لم يجد لها النصارى دليلاً في كتبهم المقدسة زعموا أنها موجودة في القرآن الكريم، و استدل لذلك حبيب سعيد في كتابه " أديان العالم " بالنصوص التي تذكر الله بصيغة الجمع أي جمع التعظيم كما في قوله تعالى { و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } .
و استدل آخرون بصيغة البسملة فاعتبروها صيغة مثلثة . يقول وهيب عزيز خليل في كتابه " استحالة تحريف الكتاب المقدس " : " البسملة المسيحية كالآتي: بسم الآب و الابن و الروح القدس ، و البسملة الإسلامية: بسم الله الرحمن الرحيم…و هاتين البسملتين هما صورة طبق الأصل من بعضهما ، فالمسيحية تعرف الأقنوم الأول بالأب ، بينما الإسلام يعرفه بالله ، و المسيحية تعرف الأقنوم الثاني بالابن بينما يصفه الإسلام بالرحمن… " و يزعم الحداد الخوري أن ما جاء في القرآن من تكفير المثلثة كما في قوله { و لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد } و قوله { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } ، يزعم أن هذه النصوص وردت في غير ثالوث النصارى ، فيقول الحداد:" إن تقرير القرآن بكفر من يقول : إن الله هو المسيح ابن مريم ، و إن الآلهة ثلاثة ، و إن الله ثالث ثلاثة ، و إن هناك من يتخذ مريم إلهاً مع ابنها ، ليس موجهاً لجميع النصارى ، و إنما هو لبعض طوائفهم ".
و عليه فإن الخوري يرى أن التكفير متوجه إلى اليعاقبة الأرثوذكس أو للقائلين بأن مريم أحد أطراف الثالوث ، أما سواهم من أهل التثليث فلا يكفرون.
و في الإجابة عن هذه الشبهة رأى علماؤنا تمحلاً في الاستدلال من النصارى لا يقبل ، فالبسملة فيها تكرار لصفات الواحد ، فالله هو الرحمن ، و هو الرحيم ، و هو الملك ، و هو القدوس… و له جل و علا تسعة و تسعين أسماً ، بل وله أسماء أكثر من ذلك ، لكنه ذات واحدة.
و أما ثالوث النصارى فالآب فيه ليس الابن و لا الروح القدس ، بل لكل ذاته المستقلة و خصائصه فالابن ابن الآب و ليس الأب أباً لنفسه ، و قد ربط النصارى بين أطراف الثالوث بالواو العاطفة التي تقتضي المغايرة ، فعطفهم إذاً عطف ذوات و ليس عطف صفات.
و لو صح مثل هذا السبيل في الاستدلال لكان قوله { الرحمن الرحيم } دليلاً صحيحاً لمن يقول بثنائية الله، و تكون خواتيم سورة الحشر دليلاً لمن يؤمن بتعدد الآلهة.
و أما تعلق النصارى بالألفاظ التي تحدثت عن الله بصيغة الجمع فهو مردود لأن الجمع فيها جمع تعظيم و ليس جمع تعداد ، و هو معهود في كلام الأمم ، كما ورد في القرآن آيات تحدثت عن الله فذكرته بصيغة الإفراد كقوله { إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } .
و قد ورد الإفراد والجمع جنباً إلى جنب في سورة العلق ، ففي أولها { اقرأ باسم ربك الذي خلق } و في آخرها { سندع الزبانية } .
و هذا المعنى اللغوي لا يحتاج إلى كثير علم و فهم لإدراكه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق