من الكتابات الهامة التي تصدت للفكر العلماني في العالم العربي، وفضحت كثير من رموزه من خلال كتاباتهم وأرائهم هو كتاب: "العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام" لفضيلة الشيخ "مصطفى باحو"، والكتاب هو الإصدار الثاني ضمن سلسلة "بحوث في العلمانية" للمؤلف نفسه، وفي المقدمة يجيب المؤلف على تساؤل: هل يمكن للمسلم المحافظة على دينه في ظل العلمانية؟ حيث يقول: إذا كان يمكن للمسيحي المحافظة على دينه في ظل العلمانية؛ لأن المسيحية مجموعة وصايا وآداب تمارس داخل الكنيسة، فإن الإسلام بتشريعاته المتعددة والمتداخلة والشاملة لكافة مناحي الحياة يستحيل تطبيقه في ظل نظام علماني.
فالعلمانية تؤطر المجتمع وتوجهه بطريقة لا تمكن المسلم من ممارسة دينه في جو مطمئن. فلا يستطيع المسلم أكل الحلال وفق مفهوم الشريعة؛ لأن الشريعة كما ترى العلمانية لا دخل لها في التحليل والتحريم، فذبح الحيوان هو طقوس دينية لا تلزم العلمانية، وتحريم الخنزير والميسر والربا فروض دينية لا ترى فيها العلمانية إلا كوابح دينية يجب تجاوزها وإلغاؤها، وبالتالي فلن يجد المسلم أين يضع ماله ولا حلالا يأكله، وتبيح العلمانية للمرأة كشف مفاتنها وعورتها، وتبيح لها ممارسة الفاحشة برغبتها، فيتعرض المسلم للتحريش والإغواء والفتنة.
ولا يسمح في ظل النظام العلماني للمسلم منع ابنته من الاختلاط والتبرج، بل والعري التام، واتخاذ صديق لها تدخله معها منزل والدها المسلم، والويل للأب المسلم المسكين إن اعترض، فقوانين العلمانية صارمة في ردعه وتركه عبرة لأمثاله. وللابن في ظل العلمانية اتخاذ الخليلات، ومشاهدة أفلام الإباحة في منزل والده، الذي هو ملزم بالنفقة عليه. وليس أمام المسلم إلا طاعة المبادئ العلمانية والانصياع لها. فكيف يقال إن حرية التدين مكفولة في ظل العلمانية؟.
ثم يتناول المؤلف مظاهر محاربة العلمانية للتدين، قائلا: يلجأ العلمانيون إلى تأسيس خطاب خداعي تمويهي مخاتل ومراوغ لموقفه من الدين، فيخفى ذئبيته تحت ستار الحمل الوديع، وقد يتمسح بعضهم بالدين، وربما يعلن أنه مسلم يسره ما يسرنا ويحزنه ما يحزننا، ويتظاهر بالحرص على إبعاد الدين عن مجال السياسة، لكي لا يتلوث -وهو الطاهر النقي- بحممها الملتهبة وتقلباتها المتناقضة، محاولا تجميل صورته وتلميعها، ويناور لعله يرضى قارئه المسلم.
ورغم محاولة بعض العلمانيين إظهار أنفسهم أنهم ليسوا ضد الدين، وأنهم يقفون منه موقفا محايدا، إلا أنه بالتأمل في تصرفاتهم وأطروحاتهم يتبين أنهم يقفون منه موقف المعاند والمحارب له، ولا يعدو الأمر أن يكون مرحلة من مراحل التحذير والمواجهة. بل لا يعدو الأمر أن يكون شراكا خداعيا يتمترس به الخطاب العلماني بقصد التمويه والمخاتلة من باب ذر الرماد في العيون. مؤكدا أن العلمانية ليست فقط ضد الدين، ولكنها أسوأ من ذلك، إنها تسعى إلى أن تحل محله، وتعمل على إقصائه عن واقع الحياة، وتحويله إلى نوع من الفولكلور.
وينقل المؤلف عدد من تصريحات العلمانيين في كتابتهم بعدم تصديقهم للإسلام ونقدهم لها، حيث يقول أحد رموز العلمانية في العالم العربي "سيد القمني": إن شرط العلمانية هو السماح بالنقد الموضوعي دون حدود ولا سقوف حمراء، لذلك أفهم أن تكون مسلما أو مسيحيا وأن تكون أيضا علمانيا، أي أنك لا تفرض دينك على غيرك، وتقبل نقد دينك لأنه لا دليل على صدقه. إن من يزعم العلمانية وينزعج من نقد دينه هو منافق يرتد عند أول ناصية ويبيعنا جميعا عند أول موقف.
وأما الإسلام عند المفكر الجزائري محمد أركون فهو عبارة عن سلسلة من التلاعبات والاستخدامات الاستغلالية، حيث يقول في كتابه "نقد العقل المسلم" : "نحن نعلم أن كلمة إسلام هي كليا وبدون أيّ تردد أو حصر عبارة عن سلسلة من التركيبات المصطنعة والتلاعبات والاستخدامات الاستغلالية التي يقوم بها البشر (الإنسان) بصفتهم فاعلين حاسمين وشبه حصريين للتاريخ الأرضي المحسوس".
كما يعتبر أن الإسلام متعصب ويحتكر الحقيقة، حيث يضيف: "ثم يزداد الطين بلة فيما يخص الإسلام، فهو يزيد إلى هذه العاهة المشتركة مع الدينين الآخرين، أقصد عاهة التعصب واحتكار الحقيقة الإلهية المطلقة، عاهة أخرى إذ يرفض مناهج ونتائج علوم الإنسان والمجتمع بحجة أنها ولدت في الغرب ومن أجل الغرب فقط ... ثم إن الإسلام يذهب إلى أبعد من ذلك في نسيان العقل والتشكيك به ثم رفضه في نهاية المطاف".
ويطالب العلمانيون بتفكيك كل العقائد والثوابت الإسلامية والإطاحة بها، حيث يقول صادق جلال العظم في كتاب نقد الفكر الديني: الإسلام يتعارض مع العلم ومع المعرفة العلمية قلبا وقالبا، روحا ونصا. وهما على طرفي نقيض"، والدين من وجهة نظره بديل خيالي عن العلم.
ويبين أركون موقف العلمانية من الدين قائلا: أما الموقف العلماني فيتميز بإحداث القطيعة الجذرية مع كل ما يشرط الموقف الديني ويتحكم به. وهو يفترض - متسرعا- أن فرضية الله أو وجود الله ليست ضرورية من أجل العيش، وبالتالي فالوحي يشكل بالنسبة له ظاهرة أو معطى، مثله في ذلك مثل أيّ معطى آخر، ويمكننا أن ندرسه كمؤرخين وكعلماء اجتماع. ولكن لا يمكننا التقيد به.
والعلمانيون لا يكتفون بمجرد رفض الدين والإسلام، بل يتجاوزن ذلك إلى السخرية والتكذيب والتشكيك بالعقائد، وكتابات سيد القمني وغيره مليئة بمثل هذا.
ويوضح المؤلف موقف العلمانيين من العقائد الإسلامية، ومن القرآن والنبوة والعبادات والمعاملات الإسلامية. مؤكدا أنهم لا يؤمنون بالدين جملة وتفصيلا وينكرونه جملة وتفصيلا.
ويفرد المؤلف فصلا كاملا بعنوان: "وشهد شاهد من أهلها" وهو من أهم فصول الكتاب، ويتناول فيه شهادات العلمانيين بعضهم على بعض:
العلماني صنيعة الغرب: وينقل عن أحد رموز ومفكري العلمانية في العالم العربي "علي حرب" في كتابه "الممنوع والممتنع" ، قوله: المثقف العربي هو صنيعة الغرب بمعنى من المعاني.. وهكذا فإن المثقف العربي الحداثي يقع في المطب، أي أنه يلعب اللعبة التي يفرضها عليه الغرب".
ويقول: "ولذا فهو (أي: المثقف العربي الحداثي العلماني) إذ يجابه الغرب مدافعا عن هويته، فإنه يتحدث غالبا بلغة الغرب، ويستعير وجهه أو يضرب بيده، أعني يستخدم أدواته، ولكنه لا يفيد في النهاية من هذا الغرب ما يبني به قوته ويفرض حقيقته ويصنع عالميته، وإنما يأخذ منه ما يعيد به إنتاج عزلته وهشاشته وضيق أفقه".
العلمانية فقدت مصداقيتها: يقول "علي حرب" في كتابه "نقد النص": إن مقولات التنوير والتقدم والتحديث والعلمانية لم تؤت ثمارها، بل هي فقدت مصداقيتها وغدت مجرد أسماء يتعلق بها الدعاة المحدثون كما يتعلق المؤمن باسم ربه. ، وزاد: خاصة وأن هذا الخطاب فقد مصداقيته بعد أن أمست المقولات التي يطرحها مجرد أسماء بلا مسمى، بل شعارات خادعة ترجمت إلى مضاداتها: فالوحدة تترجم فرقة، والعلمانية أصولية، والعقلانية خرافة، والعلم جهالة، أليست هذه محصلة الأدلوجة التقدمية التحديثية على ما ترجمت في المجتمعات العربية. ويقول في كتابه "أوهام النخبة": ولا مبالغة في القول بأن المثقفين العرب دعاة الحرية والثورة والوحدة والتقدم والاشتراكية والعلمانية كانوا قليلي الجدوى في مجريات الأحداث والأفكار، فتاريخ تعاملهم مع قضاياهم ومع الواقع يشهد على فشلهم وهامشيتهم. إنهم مارسوا أدوارهم التحريرية أو التنويرية بعقلية سحرية وبآليات طقوسية. إن علاقة المثقف بالواقع حيث جُربت أفكاره كانت علاقة سلبية عقيمة، بل مدمرة في معظم الأحيان.
دفاع العلمانيين عن أنظمة دكتاتورية: يقول "علي حرب": إن أكثر المثقفين العرب قام نضالهم بوجه من وجوهه على الدفاع عن أنظمة ودول كان هاجسها نفي أو تصفية أمثالهم أو زملائهم. ولهذا لا أفتئت على الحقيقة عندما أقول: إن المثقف العربي أعني به المثقف التقدمي الطليعي كان -وربما لا يزال- يرى بعين واحدة، وأما المثقف اللبناني وأعني به بالطبع من انخرط في مشاريع التغيير والتحرير، فقد كان أعمى لأنه كان يطالب بالحرية حيث ينعم بها، ويؤكد وجودها حيث تنعدم. فالعلماني بحسب علي حرب: إما أعمى وإما أعور، والحق ما شهدت به الأعداء.
مشاريع العلمانيين أسطورية ووهمية: تحت فقرة أسطورة التحرير الكبير بين علي حرب أن مشاريع العلمانيين الكبار كأركون ذات مزاعم أسطورية سحرية، وأن الزعم بامتلاك مشروع لتحديث عالم متعدد كالعالم الإسلامي أو تراث ضخم كالتراث العربي، وهم من أوهام الماورائية، إنهم أسيروا وَهْم القطيعة الجذرية، وَهْم المراجعة الشاملة، وهم التحرير الكبير، وهم القبض على الحقيقة الساطعة... وذكر أن كل واحد منهم يرى مشروعه هو الأكثر شمولية وجذرية، والأكثر قابلية للتحقيق، وكلها أوهام زرعتها في العقول الحداثة والأنوار وعقيدة التقدم. وذكر أن المثقف تحول إلى مناضل فاشل، وأن الأفكار تحولت إلى مجرد هوامات أو تهويمات إيديولوجية لا علاقة لها بما يجري على أرض الواقع.
الخطابات العلمانية محكومة بسلف: ينطلق معظم العلمانيين في قراءاتهم وخطاباتهم من منظور سلفي مسبق، فعوض أن يكون سلفهم هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة والتابعون فسلفهم ماركس ولينين.، فحسب تركي علي الربيعو فالعلماني مثل صادق جلال العظم، وطيب تيزيني، وعزيز العظمة، وناصر حامد أبي زيد وآخرين ينطلقون في تحليلاتهم من قاعدة ماركسية متخشبة، ترى أن الحق المطلق فيما أبدعه ماركس في المادية الجدلية التاريخية والصراع الطبقي، وكل الفلسفات في نظرها هي فلسفات رجعية تستخدمها الطبقة البورجوازية للسيطرة على الطبقات المسحوقة. فكل ماركسي عندما يحلل الأوضاع والأفكار ينطلق من هذه العقيدة المطلقة التي تدعي العصمة لتحليلات الماركسية وتعد بجنة الفردوس على هذه الأرض لا في مكان آخر.
وأكد الجابري في الخطاب العربي المعاصر أن الخطاب العربي المعاصر بتفرعاته العديدة هو خطاب محكوم بسلف، والمطلوب هو تحريره من ربقة السلف الإيديولوجي.
ويقول "عبد الله العروي" في كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة": وراء كل نبي من أنبيائنا الجدد، يختفي جبريل يهمس له بإجاباته ونداءاته، لوثر وراء محمد عبده، ومونتسكيو وراء لطفي السيد، وسبنسر وراء سلامة موسى.
العلمانية تقوم على إقصاء الآخر ونفيه: يقول الربيعو عن تحليلات المثقفين العرب: هي تحليلات تقوم على نفي الآخر وإقصائه، إنها ثقافة إقصاء لما نتخلص منها بعد. فالإسلاميون عموما تكفيريون ورجعيون ولا فائدة منهم إلا بإقصائهم، بهذا يكشف التنويري العربي عن انحيازه المسبق وعن شعاراته الجوفاء التي تحيلنا إلى نتيجة أن هناك ديمقراطية لم يمل المثقف من رفعها كشعار، ولكن بدون ديمقراطيين. مؤكدا أن العنف سمة عامة لكل الحركات الإيديولوجية وليس خاصا بالإسلاميين. وواصفا الخطاب الحداثي بأنه يمتاز بـ نظرة نخبوية واستعلائية تهدف إلى إقصاء الجماهير العريضة عن المشاركة في الحياة السياسية، بحجة من تخلفها التاريخي الذي يرد-هذه المرة- إلى وجود عنصر أبدي يتمثل في سيادة الغيبي، وأنه يخفي رغبته في ممارسة السلطة أو التعاون مع السلطة الحاكمة للوصول إلى الهدف المتمثل بالحجر على الآخر أو نفيه وتشريده أو سحله عنوة تحت سلاسل دبابات النظم الحاكمة.
العلمانيون سلطويون مصلحيون استبداديون: يقول علي حرب في كتابه "أوهام النخبة": المثقف يزعم بأنه يعمل على مقارعة السلطة السياسية، فيما هو يعمل على منافستها على المشروعية، وهو يدعي القيام بتنوير الناس وتحريرهم، فيما العلاقات بين المثقفين ليست تنويرية ولا تحررية، بل هي علاقات سلطوية صراعية سعيا وراء النفوذ أو بحثا عن الأفضلية أو تطلعا إلى الهيمنة والسيطرة، وأخيرا فالمثقف يدعي التجرد والنزاهة والانسلاخ دفاعا عن قضية الأمة ومصالح الناس، فيما هو يمارس مهنته ويدافع عن مصلحته أو يلعب لعبته ويجرب فكرته، إنه يدعوك إلى التحرر من سلطة رأس المال، في حين هو يراكم رأسماله ويثبت سلطته.
ووصفهم بأنهم يزدادون توحشا وظلامية، وأنهم مارسوا علاقتهم مع الحرية على نحو استبدادي، مما أثبت جهلهم بأمر السلطة نفسها.
الخطاب العلماني يتستر خلف شعارات لتحقيق أهدافه: يقول "علي حرب" عن المثقف الحداثي: يتكلم على أشكال التسلط أو على آليات التلاعب بالحقيقة، أعني أنه يخفي حقيقته وسلطته، ويتستر على فعله وأثره، ويتناسى مخاتلته وألاعيبه، وهكذا فالمثقف يعلن انحيازه إلى المقهورين في مواجهة سلطة القهر، فيما هو يشكل سلطته ويمارس سيطرته، أو يعلن أن شاغله هو كشف الحقائق فيما هو يصنع حقيقته عبر نصه وخطابه، أو هو يحدثنا عن حلمه بمجتمع تنويري تحريري قائم على المساواة، فيما هو يمارس نخبويته، ويحجب إرادته في التفرد والتمايز. إن المثقف يقدم نفسه عادة بوصفه صاحب رسالة، وليس صاحب غاية خاصة أو منفعة مباشرة، فهو يعلن بأنه لا يبتغي سلطة، وإنما يدافع عن القيم والمقدسات. وهنا وجه الخداع والمخاتلة. فمهنة المثقف هي مهنة قوامها أن تخفي حقيقتها، أي: كونها تشكل مهنة ومصلحة أو تعمل على تشكيل سلطة خاصة.
العلمانيون العرب مقلدون مستنسخون: أخذ "كمال عبد اللطيف" في كتابه " التفكير في العلمانية" على أصحابه أن كتاباتهم تتضمن كثيرا من الحماسة الإيديولوجية وقليلا من النظر النقدي، أو ما سماه عملية النسخ والاستعادة.
ويؤكد علي حرب أنه لا يوجد علماني واحد أنتج فكرا ذا أهمية حول المجتمع العربي والبشري، وقال: إننا لا نجد مثقفا عربيا واحدا نجح في الكلام بصورة جديدة غنية أو فريدة. لم نجد مفكرا عربيا واحدا قدم لنا اليوم عملا فكريا فذا حول السلطة، وأكد أنهم عاجزون عن الابتكار، فهم مقلدون تابعون.
صفات العلمانيين: وصف علي حرب النخب العلمانية في كتبه "أوهام النخبة" و" الممنوع والممتنع" بما يلي:
- النرجسية.
- يتعاملون على نحو نخبوي واصطفائي.
- منعزلون عن الناس الذين يدعون قيادتهم.
- غارقون في أوهامهم، أسيرو أفكارهم.
- طالبوا بالحرية لكي يمارسوا الاستبداد.
- مشكلتهم مع أفكارهم لا في مكان آخر.
- يتعاملون مع العلمانية بعقلية لاهوتية ومارسوا العقلانية بصورة خرافية.
- تحول العلمانيون إلى مجرد باعة للأوهام.
- يتعامل الحداثي مع ذاته بوصفه صاحب مهمة نبوية رسولية.
- وقال: فكم من مطالب بالحرية تعاطى مع هذا الشعار بصورة امبريالية! وكم من ساع إلى تحقيق العقلانية يجعلنا نترحم على السلفية!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق