الخميس، 4 أغسطس 2011

أحكام الصيام في شهر رمضان

أحكام الصيام في شهر رمضان




الحمد لله الملك الديان، والصلاة والسلام على حبيبنا محمد سيد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه الأطهار وشموس الزمان، وبعد:

تعريف الصيام


فإن الصيام لغةً : الإمساك ومنه قوله تعالى عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً}، أي إمساكاً وسكوتاً عن الكلام، وشرعاً : إمساك مسلم مميِّز عن المفطرات من الفجر إلى المغرب.

دليل مشروعية الصيام

والأصل في وجوبه قبل الإجماع آية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}. وقد كان الصيام في الأمم السابقة لقوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، ولكن الله خص أمة نبينا محمد بالصيام في شهر رمضان فضلاً منه وكرما، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.



أقبل شهر رمضان المبارك يحمل إلينا في صيام أيامه عبادةً عظيمة خصها الله بخصائص، منها ما ورد في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري: قال الله تعالى [كل حسنةٍ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلاَّ الصيام فإنه لي وأنا أجزي به].والصيام هو الإمساك عن إدخال كل ما له حجم من منفذ مفتوح إلى الرأس أو البطن أو الجوف أو الأمعاء سواء كان ماءً أو دواء أو غير ذلك، من الفجر حتى المغرب مع النية المبيتة بالقلب.



مراقبة هلال رمضان



ويجب مراقبة هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان، لأنه يجب صيامه لأحد أمرين:

1- رؤية هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان.

2- إكمال شعبان ثلاثين يوماً.



لقوله صلَّى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً" رواه البخاري ومسلم.

أمَّا من لم يرى هلال رمضان في ليلة الثلاثين من شعبان فإنه يأخذ بقول مسلم ثقة عدل غير كاذب.



فقد روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيت الهلال فصام وأمر الناس بالصوم. صححه ابن حبان.





رمضان - شرائط وجوب الصيام



والصيام واجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصيام.

ولا يصح من الكافر الأصلي ولا المرتد ولا يصح من حائض ولا نفساء.

ولا يجب على الصبي، ولكن إذا أكمل عشر سنين قمرية من العمر يجب على وليه أن يضربه على تركه الصيام إن كان يطيقه ولا يجب عليه القضاء إن أفطر.



ولا يجب على المجنون ولا قضاء عليه، ولا يجب أداؤه على المريض الذي يضره الصوم، ولا المسافر سفراً طويلاً وعليه القضاء. ولو صام المريض والمسافر صح منهما، وإذا ضرهما حرم عليهما.



ولا يجب على العجوز الفاني مخافة التلف والموت.





رمضان - فرائض الصيام



وفرائض الصيام اثنان:



1- النية:

ومحلها القلب فلا يشترط النطق بها باللسان. وهي واجبة لكل يوم من رمضان في ليلته ولا يصح الصيام بدونها يقول بقلبه: "نويت الصيام يوم غد من شهر رمضان" وعند البعض يكفي أن ينوي في ليلة اليوم الأول منه عن جميع أيام رمضان فيقول بقلبه: "نويت صيام ثلاثين يوماً عن شهر رمضان هذه السنة".



ولا يضر الأكل والنوم والجماع بعد النية وقبل طلوع الفجر.



ومن نام ليلاً ولم ينوي الصيام حتى استيقظ بعد الفجر وجب عليه الإمساك عن المفطرات وعليه قضاء هذا اليوم من رمضان. أما صوم النفل فلا يشترط في نيته التبييت. فلو استيقظ بعد الفجر ولم يشرب ونوى صيام هذا اليوم قبل الزوال أي قبل دخول وقت صلاة الظهر تطوع لله تعالى صح له.



2- الإمساك:

الإمساك عن الأكل والشرب وعن إدخال كل ماله حجم، ولو كان أجزاء صغيرة كدخان السيجارة، إلى الرأس أو البطن أو الأمعاء ونحوها من منفذ مفتوح كالفم أو الأنف، أو القبل أو الدبر من الفجر إلى المغرب.



ومن أكل ناسياً أو شرب ولو كثيراً لم يفطر ولو في صيام النفل، ففي الحديث الصحيح "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه البخاري.



ومن أدخل شئ إلى فمه كإصبعه عمدا فأخرج القيء أفطر، ولو لم يرجع منه شيء إلى الجوف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء (أي غلبه) وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء فليقضِ". رواه الأربعة.



كما يجب الإمساك عن الجماع وإخراج المني بالاستمناء بنحو اليد والمباشرة فأنه مفطِّر.





رمضان - وقت المغرب والفجر



ولما كان وقت الصيام من الفجر حتى المغرب وجب معرفة طرفي النهار على كل مكلف بالصيام أي الفجر والمغرب.



والفجر: هو البياض المعترض في الأفق الشرقي، والمغرب: هو مغيب قرص الشمس كله.

فمن أكل بعد الفجر معتقداً أن الفجر لم يطلع فسد صومه ولزمه القضاء وعليه الإمساك عن المفطرات باقي النهار فإن كان اجتهد فأكل ثم تبين له أنه دخل الفجر لم يأثم كأن اعتمد على صياح الديك المجرب.



أما لو أكل قبيل مغيب قرص الشمس معتقداً أنه قد غربت الشمس ثم تبين له خلاف ذلك فسد صومه ولزمه قضاء هذا اليوم. والَّذي يأكل بدون عذر قبيل الغروب فقد أثم. قال تعالى: {ثمَّ أتموا الصيام إلى الليل} سورة البقرة [187].



وغروب الشمس علامة على دخول الليل.



وكذلك يجب على المسلم الثبوت على الإسلام واجتناب ما يخرجه عن الإسلام من قولٍ أو فعلٍ أو اعتقادٍ وذلك على الدوام في رمضان وغيره. ومن وقع في الكفر وهو صائم فسد صومه وعليه العودة فورًا إلى الإسلام و القضاء.



رمضان - مفسدات الصيام



والَّذي يبطل الصيام أشياء هي:

1- الأكل: ولو قدر سمسمة أو أقل عمداً غير مكره عالماً بالتحريم، والشرب ولو قطرة ماء أو دواء.



ولا يضر غبار الطريق أو غربلة دقيقٍ لعسر التحرز منه. ومن بالغ في المضمضة والاستنشاق فدخل الماء إلى جوفه أفطر.



وإذا أخرج ريقه من فمه إلى خارج الشفة ثمَّ ردَّه وبلعه أفطر. أما ما دام متصلاً باللسان فلا يفطر إن بلعه.



وإذا جمع ريقه في فمه وابتلعه صرفاً أي غير متغير لم يضر. أما ابتلاع البلغم ففيه تفصيل:

فإن كان البلغم بلع من ظاهر الفم فإنه يفطِّر، وإن كان مما تحت مخرج (( الحاء)) فلا يفطر.

والبلغم لا يفطر عند الإمام أبو حنيفة ولو بلعه بعد وصوله إلى اللسان. أما إذا بلع ريقه المتغير بدخان السيجارة التي شربها قبل الفجر أو غيرها أفطر.



2- وإذا غلبه القيء ثمَّ انقطع القيء ثم بلع هذا الريق قبل أن يُطَهّر فمه فسد صيامه لأن هذا الريق تنجس بالقيء الذي وصل إلى الفم.



أما الدخان الذي يصل إلى جوف الصائم من غيره كمن يشرب سيجارة قربه فإنه غير مفطر.

وكذلك دخان البخور وشم العطور فلا يفطر.



والقطرة في الأنف والأذن مفطرة. وكذلك الحقنة في القبل، وعلى قول: ((القطرة في الأذن لا تفطر))، أما القطرة في العين فهي غير مفطرة. والإبرة في الجلد لا تفطّر.



3- ومن أغمي عليه في نهار الصيام وأفاق ولم يستغرق كل اليوم لا يفطر، أما إذا استغرق الإغماء كل اليوم من الفجر حتى الغروب لم يصح صيامه. أما إذا طرأ جنون عليه ولو لحظة أفطر.



4- وكذا إذا طرأ على المرأة حيض أو نفاس ولو قبيل الغروب بقليل أفطرت.

5- ويفسد الصيام بالجماع عامداً باختياره نهاراً ذاكراً للصيام ولو لم ينزل المني.



أما من جامع ناسياً فلا قضاء عليه. أما الصائم النائم إذا احتلم فلا يفطر، بخلاف خروج المني منه بالمباشرة أو الاستمناء بنحو اليد عمداً لا ناسياً.



ومن استيقظ جنباً من جماع أو غيره. فإنه يصوم نهاره ويغتسل للصلاة. فعن عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يدركه الفجر وهو جُنُبُ من أهله ثمَّ يغتسل و يصوم"، رواه البخاري. وتقبيل الزوجة المحرك للشهوة حرام لكنه لا يفطر إذا لم ينزل المني.



ومن مفسدات الصيام أيضاً:

6- الوقوع في الكفر عامداً ولو مازحاً أو غاضباً باختياره ذاكراً للصوم أو غير ذاكر، لأنه لا تصحّ العبادة من كافر.



ما يجب على المفطر عامداً في رمضان



1) منه ما يوجب القضاء فقط.

2) ومنه ما يوجب القضاء والفدية معاً.

3) ومنه ما يوجب الفدية فقط.

4) ومنه ما يوجب القضاء والكفارة معاً.



1- فأما المفطر الذي يجب عليه القضاء فقط هو:

أ?) الذي أفطر بسبب المرض.

ب?) ومن كان في سفرٍ طويلٍ أفطر فيه.

ج) والحائض والنفساء.

د) والّذي أفطر عامداً في رمضان بدون عذر إلاَّ أن هذا عليه الإثم أيضاً.

ه) والحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما. فهؤلاء جميعاً عليهم قضاء كل يومٍ بيومٍ فقط.



2- أما المفطر الذي يجب عليه القضاء والفدية معاً فهما الحامل والمرضع إن خافتا على ولديهما فأفطرتا فعليهما القضاء والفدية لكل يومٍ.



3- وأما المفطر الذي يجب عليه الفدية فقط فهو:



أ?)الشيخ العجوز الذي لا يتحمل الصوم أو تلحقه مشقة شديدة فإنه يُفطر، ويفدي عن كل يوم بيومه.



ب?) وكذلك المريض الذي لا يُرجى شفاؤه فلا صوم عليه ولا قضاء، وإنما يجب عليه الفدية فقط والفدية هي مقدار ما يغدّي ويعشي أو قيمتها عند أبي حنيفة، وعند الشافعي مُدُّ قمحٍ أو غيره على حسب غالب قوت البلد.



4- وأما المفطر الذي يجب عليه القضاء والكفارة معاً فهو الذي جامع في نهار رمضان عامداً باختياره ذاكراً للصيام ولو لم ينزل المني فإنه عليه قضاء هذا النهار الذي أفسده كما يجب عليه الكفارة.



والكفارة على هذا الترتيب:





أ?) عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، وبما أن هذا غيرُ متيسرُ عندنا اليوم فينتقل إلى ما بعده وهو:

ب?) صيام شهرين متتابعين غير يوم القضاء ولو أفطر خلال الشهرين لمرضٍ مثلاً فعليه إعادة صيامهما.

ج) فإن عجز عن الصيام فإطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مقدار ما يغدي ويعشي عند أبي حنيفة، وعند الشافعي مدُّ من غالب قوت البلد. فإن عجز عنها كلها استقرت الكفارة في ذمته ولا شيء عليه بدلها.





رمضان - ويستحب في الصيام أشياء منها:



أ) تعجيل الفطر إذا تحقق من غروب الشمس لقوله صلَّى الله عليه وسلم: "لا يزال الناسُ بخيرٍ ما عجلوا الفطر". ويستحب أن يفطر على رُطبٍ أو تمرٍ فإن لم يجد فعلى ماء وذلك قبل أن يصلي المغرب. ويقول: "اللهمَّ لك صمت وعلى رزقك أفطرتُ"، ولا بدَّ من قبل الإفطار من التحقق من غروب الشمس.



ب) تأخير السحور إلى أخر الليل وقبل الفجر ولو بجرعة ماء.



ج) وكذلك يتأكد في حق الصائم صون لسانه عن الكذب والغيبة والكلام البذيء و غير ذلك من الأمور المحرمة. وفي الحديث الصحيح "رُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلاَّ الجوع والعطش" (رواه ابن حبان).



كالذي لا يتورع عن الشتم بغير حق والغيبة وشهادة الزور.



فاعلم أخي المسلم أن الصبر على طاعة الله سبحانه وتعالى أهون من الصبر على عذابه، فكف بطنك عن المحرمات وقت الإفطار، وغُض بصرك عن النظر المحرم والكلام البذيء المنهي عنه كالكذب والغيبة وهي ذكرك أخاك المسلم لما يكره لغير سبب شرعي، وكفَّ عن الفحش والخصومة والجفاء والمراء.



روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلَّى الله عليه وسلم قال: "إنما الصوم جنَّة (أي وقاية) فإذا كان أحدهم صائماً فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم".



وكف السمع عن الإصغاء إلى كل ما حرم الله الإصغاءُ إليه، وكف بقية الجوارح من اليد والرجل عن المعاصي والآثام والمكاره.



كما يندب في رمضان كثرة الجود، وصلة الرحم، وكثرة تلاوة القرآن، والاعتكاف في المسجد لاسيما في العشر الأواخر من رمضان، وأن يُفطّر الصوام وأن شوتم فليقل أني صائم. والحمد لله أولاً وأخراً

رمضان شهر الانتصارات

رمضان شهر الانتصارات

د. راغب السرجاني
معارك رمضانالمتأمل في أحداث شهر رمضان عبر التاريخ الإسلامي سيجد أمورًا عجيبة، هذه الأمور ليست مصادفة، وكل شيء عند الله عز وجل بمقدار، سيجد أن المسلمين ينتقلون كثيرًا من مرحلة إلى مرحلة أخرى في شهر رمضان، من ضعف إلى قوة، ومن ذلٍّ إلى عزَّة.

ارتبط شهر رمضان بالجهاد بشكل لافت للنظر، حتى آيات الصيام في سورة البقرة -بدايةً من قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إلى آخر الآيات- تنتهي في ربع من القرآن، ثم يبتدئ ربع جديد، وثاني آية فيه تتحدَّث عن الجهاد والقتال، وهي آيات كثيرة تحضُّ على الجهاد، يقول ربنا عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 190-193].

آيات تحضُّ على الجهاد والقتال بشدَّة، والعلاقة واضحة بينها وبين آيات الصيام؛ فالإعداد للجهاد هو إعداد للنفس، إعداد للجسد، إعداد للأمة كلها.. العلاقة بين الصيام والجهاد وثيقة جدًّا؛ فالتاريخ الإسلامي يؤكد هذا الارتباط، ومن ذلك ما يلي:

أول خروج للمسلمين لقتال مشركي قريش كان في رمضان، وليس المقصود هنا غزوة بدر، فقبْل بدر خرج جيش إسلامي لأول مرة لقتال المشركين بعد الإذن بالقتال وكان في رمضان سنة 1هـ، ولم يكن صيام رمضان قد فُرض بعد، وكانت هذه هي سرية حمزة بن عبد المطلب عمِّ رسول الله، وكانت السرية في مكان يُعرف باسم (سَيف البحر). إذن أول مرَّة يرفع المسلمون سيوفهم للدفاع عن حقوقهم وأنفسهم كانت في رمضان، ولم يحدث قتال في هذه المرَّة؛ فقد حجز بينهم أحد حلفاء الفريقين، كان اسمه مجدي بن عمرو الجهني.

وتمر الأيام ويأتي شهر رمضان سنة 2هـ، ويحدث في هذا الشهر حدث هائل من أهم الأحداث في تاريخ الأرض، ليس في تاريخ المسلمين فقط، ألا وهو غزوة بدر الكبرى في 17 رمضان سنة 2هـ، وقد انتهت بالنصر الباهر للمسلمين، وهي أول صدام حقيقي بين المسلمين وبين مشركي قريش، وكانت قريش تحمل لواء الكفر في الجزيرة العربية.

وكل شيء في حياة رسول الله محسوب؛ فليس فيه أمر صدفة، ليس فيه قولنا: من الممكن أن يكون هذا الحدث في رمضان، ومن الممكن في غير رمضان. فإن الأمر مقصود، فمقصود أن يكون أول لقاء حقيقي مع المشركين في بدر، مقصود ومحسوب، والحِكَم كثيرة جدًّا؛ قد نعلم بعضها وقد نجهل بعضها! ولكن في النهاية هذا شيء محسوب.

لماذا تكون أول غزوة في رمضان؟ لماذا أول صدام حقيقي مع المشركين يكون في رمضان؟ لماذا هذا الانتصار الباهر الهائل يكون في رمضان؟ لماذا لا يكون في أي شهر؟!

أعتبر هذا رسمًا لسياسة الأمة وتخطيطًا لمستقبلها، فأُمَّة لديها شهر تستطيع أن تُغَيِّر فيه نفسها تمامًا، أن تبني نفسها، أن تنتقل من مرحلة إلى مرحلة؛ يقول ربنا سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ...}. وأنتم ماذا؟ {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. لقد تغير المسلمون تمامًا بعد موقعة بدر، فبعد بدر أصبحت للمسلمين دولة معترف بها، أصبحت لهم شوكة قوية ومكانة ووضع مستقر؛ انتقل المسلمون إلى مرحلة جديدة، العالم كله سمع عن هذه الدولة، اليهود رعبوا، والمشركون انهزموا، والمنافقون ظهروا.

تغير هائل بدأ يحدث في الأرض في كل شيء؛ بدر ليست كأي غزوة، فهي غيَّرت مجرى التاريخ؛ لذلك سماها ربنا عز وجل يوم الفرقان، وربطها بشهر رمضان من أجل أن نتفكر دائمًا في هذا الشهر، فمَنْ مِنَ المسلمين لا يعرف أنها كانت فيه؟! حُفِرَت في وجدان كل صغير وكبير، وفي وجدان كل رجل وامرأة، يجب أن نتذكر علاقتها برمضان دائمًا.

ولكن لماذا غزوة بدر خاصة؟ لماذا يطغى ذكر غزوة بدر على ذكر أي غزوة أخرى من غزوات الرسول ؟!

لأن في بدر وُضِعَتْ كل قواعد بناء الأمة الإسلامية؛ في غزوة بدر عرف المسلمون أن النصر من عند الله وليس بالعدد ولا العدة، فلا يصلح لأمة بعيدة عن ربها، وبعيدة عن دينها أن تنتصر؛ واقرءوا سورة الأنفال التي تتحدث عن غزوة بدر: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]. كيف يمكن لعدد مثل 313 أو 314 أن يغلبوا ألفًا؛ هذا العدد القليل معه 70 جملاً، والعدد الكبير معه 700 جمل، هذا العدد القليل معه فرسان، والعدد الكبير معه مائة فرس، العدد القليل خارج بسلاح المسافر، والعدد الكبير خارج بسلاح الجيوش.

كيف؟! كيف يمكن لهذا العدد القليل في كل المقاييس المادية أن يغلب هذا العدد الكبير؟!

هذا ليس له إلا أمر واحد، ألا وهو أن الله عز وجل هو الذي نصر المؤمنين، نصر الضعفاء القلَّة الأذلة؛ كما عبَّر -سبحانه- في كتابه الكريم، انتصروا بأسلحة غير تقليدية تمامًا، لم ينتصروا بأسلحة دمار شامل، أو صواريخ باليستية، أو أقمار صناعية، انتصروا بالمطر والنعاس، وبالرعب في قلوب الكافرين، وبالتوفيق في الرأي، وبضعف الرأي عند الأعداء، وانتصروا بالملائكة؛ الملائكة نزلت تحارب مع المؤمنين في بدر، أفضل الملائكة، وجبريل -عليه السلام- على رأس الملائكة: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال: 10]، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].

راجعوا غزوة بدر؛ ففيها زُرِعَ الأمل في نفوس المسلمين إلى يوم القيامة؛ ما دام الله معك فالنصر -لا شك- حليفك، قواعد وأسس وأصول وُضِعَتْ في غزوة بدر.

وعلينا بوحدة الصف لننتصر، قال ربنا سبحانه: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، هذه القاعدة وُضعت في بدر.

والتضحية بكل شيء؛ بالنفس والمال، وبالوقت والجهد ليتم النصر، هذه القاعدة وضعت -أيضًا- في بدر.

والإعداد قدر المستطاع لمواجهة الأعداء، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، هذه القاعدة -أيضًا- وضعت في بدر.

وطاعة الرسول في كل أمر؛ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، قاعدة وضعت -أيضًا- في بدر.

كل قواعد بناء الأمة الإسلامية وُضعت في بدر، كل هذه القواعد نتعلمها في رمضان، نقترب من الله -سبحانه وتعالى- الذي بيده النصر في رمضان، نزيد من أواصر المودة والأخوة بين المسلمين، وهي قاعدة من أهم القواعد التي تبني الأمة الإسلامية، تضحِّي بمالك وجهدك ووقتك في رمضان، تقوِّي صحتك وبدنك ولياقتك في رمضان.. وبإيجاز يكون الجهاد والإعداد له في رمضان.

وكم نخسر عندما نفقد هذه المعاني، ويمر الشهر علينا من غير أن نعرف قيمته في الجهاد في سبيل الله والنصر!

أما في سنة 8هـ فكان الموعد مع حدث من أهم أحداث التاريخ، إنه فتح مكة، اللقاء الأخير والفيصل مع مشركي قريش؛ فقد خرج الرسول وجيش المؤمنين من المدينة المنورة قاصدًا مكة في 10 رمضان سنة 8هـ، وفتحها في 21 رمضان.

والموقف في فتح مكة مختلف عن بدر؛ ففي غزوة بدر كان الخروج في رمضان على غير اختيار المؤمنين؛ لأن القافلة المشركة بقيادة أبي سفيان جاءت في ذلك التوقيت فخرجوا لها، لكن الخروج في فتح مكة كان بتخطيط وتدبير من رسول الله ومن المؤمنين، كان من الممكن أن يُؤَخِّروا الخروج 3 أسابيع فقط ليخرجوا في شوال بعد انتهاء رمضان، كان من الممكن أن يقول بعضهم: نستفيد بالصيام والقيام وقراءة القرآن، ونُؤَخِّر الجهاد 3 أسابيع فقط.. لكن كل هذا لم يحدث.

انتصارات رمضانفرمضان شهر الجهاد، ليس فيه تعطيل للقتال، لا توجد به راحة للمؤمن، بل على العكس، عندما انطلق الرسول بالجيش، واقترب من مكة، وكان صائمًا وكان الصحابة كلهم صائمين معه، قيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت. فماذا فعل الرسول ؟ هل أخَّر الصيام، أم أخَّر الجهاد؟ لقد "دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ". تخيَّل اليوم قَرُب على الانتهاء، ومع ذلك يُرَسِّخ معنى في غاية الأهمية في قلوب المسلمين، إذ "شَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ وَصَامَ بَعْضُهُمْ".

تأمل منهم مَنْ قلد، ومنهم من لم يقلد الرسول في هذه النقطة؛ الأمر على الجواز، فبلغه أن أناسًا صاموا، يا تُرى ماذا قال؟ قال: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ"[1].

أولئك العصاة مع أنه في الأيام الأخرى كان يسمح لمن أراد أن يفطر فليفطر، ومن أراد الصوم فليصُمْ، لكن في هذه المرة الأمر مختلف؛ فهم ذاهبون إلى مكة للجهاد، والجهاد يحتاج إلى قوة وجلد.

لم يُؤَخِّر الجهاد بل أفطر؛ لأن الجهاد متعين الآن، أما الصيام فيمكن قضاؤه بعد ذلك، ولكن الجهاد لا يُؤَخَّر؛ الجهاد ذروة سنام الإسلام، لذلك أفطر الرسول في هذا اليوم، لأن الرسول كان مسافرًا سفرًا طويلاً جدًّا في الصحراء في رمضان، فكان الصيام صعبًا جدًّا.

وضعت كذلك في فتح مكة مئات القواعد لبناء الأمة الإسلامية؛ ففتح مكة كان في رمضان، وكل رمضان نتذكر فتح مكة، نتذكر صدفة أن أول صدام حقيقي مع مشركي قريش كان في رمضان في غزوة بدر، وآخر صدام مع المشركين كان -أيضًا- في رمضان في فتح مكة، هل يُعقل أن تكون صدفة؟! قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].

هذا الشهر تتغير فيه أحوال الأمة بشكل رائع؛ علامات في منتهى الوضوح، في هذا الشهر الكريم الرسول هدم صنم هبل، ومعه أكثر من 360 صنمًا بداخل الكعبة المشرفة، وهذه الأصنام ظلت داخل الكعبة 21 سنة، بداية من نزول البعثة على الرسول عليه الصلاة والسلام، وبالتأكيد ظلت هذه الأصنام سنين طويلة قبل البعثة موجودة، في كل هذه الشهور السابقة والسنوات السابقة ربنا -سبحانه وتعالى- يختار أن هذه الأصنام تُدَمَّر وتكسر وتقع في شهر رمضان.

في الشهر نفسه بعث الرسول خالد بن الوليد ليهدم صنم العزى، فهدمها.

في الشهر نفسه بعث عمرو بن العاص ليهدم صنم سواع، فهدمه.

في الشهر نفسه بعث سعد بن زيد ليهدم صنم مناف، فهدمه.

ما هذا؟ أمعقول كل هذا في شهر واحد؟ في شهر رمضان تقع كل هذه الأصنام؟ أمعقول أنها صدفة؟

هذا شهر إعزاز الإسلام، وتمكين الدين، ونصر المؤمنين، رمضان شهر الإنقاذ والنجدة والنصر والعزة، فلا يصح ألا يعلم المسلمون هذه المعاني، ويظنون أنه شهر الأعمال الفنية الجديدة، والدورات الرياضية، والخيم الرمضانية، ليس هذا هو رمضان الذي يريده ربنا سبحانه.

أما في سنة 13هـ فحدث في منتهى الأهمية، إذ استطاع المسلمون في موقعة البويب بقيادة البطل الإسلامي الفذ المثنى بن الحارثة، وكان عدد المسلمين في هذه الموقعة 8 آلاف فقط، والفرس مائة ألف بقيادة (مهران) وهو من أعظم قُوَّاد الفرس، وتم اللقاء في الأسبوع الأخير من شهر رمضان سنة 13هـ، ودارت موقعة من أشدِّ مواقع المسلمين، أمر فيها المثنى جنوده أن يُفطروا؛ ليتقوَّوا على قتال عدوهم، اقتدى بفعل الرسول في فتح مكة، وثبت المسلمون ثباتًا عجيبًا، وأبلى المثنى وبقية الجيش بلاءًً حسنًا، وتنزَّلت رحمات الله وبركاته على الجيش الصابر، فانتصر المسلمون انتصارًا رمضانيًّا هائلاً.

تُرى كم من الفرس قُتل في هذه الموقعة؟!

فني الجيش الفارسي بكامله في هذه الموقعة، تجاوز القتلى 90 ألف فارسي من أصل مائة ألف، هزيمة مروعة للجيش الفارسي بعد شهر واحد من هزيمة المسلمين في موقعة الجسر. ولنفكر ونتدبَّر كيف لثمانية آلاف أن يهزموا أكثر من 90 ألفًا، وفي عُدة أضعف من عدتهم، وفي عقر دارهم، كيف يحدث هذا؟ لن تعرف تفسيرها أبدًا إلاَّ أن تقول: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17]. هذا هو التفسير الوحيد لهذه الموقعة، التي لا تُنْسَى في التاريخ الإسلامي.

وتمرُّ الأيام ويأتي رمضان جديد على المسلمين سنة 53هـ، تفتح فيه جزيرة رودس في البحر الأبيض المتوسط، فقد أرسل إليها أمير المؤمنين الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أحد التابعين الأبرار لفتحها، وهو جنادة بن أبي أمية الأَزْدِي من قبيلة الأزد اليمنية، ولم يؤخِّر المسلمون القتال إلى ما بعد رمضان مع الصعوبة الشديدة لقتال البحر، وفي الحديث عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: "غَزْوَةٌ فِي الْبَحْرِ خَيْرٌ مِنْ عَشْرِ غَزَوَاتٍ فِي الْبَرِّ، وَمَنْ أَجَازَ الْبَحْرَ فَكَأَنَّمَا أَجَازَ الأَوْدِيَةَ كُلَّهَا..."[2]. فلم يُؤَخِّروا الجهاد؛ لأن الجهاد لا يُؤَخَّر، والمسلمون في جهاد دائم؛ لذلك لم ينتظروا انتهاء رمضان، بل مَنَّ الله عليهم بفتح الجزيرة في رمضان سنة 53هـ.

ويتسلسل بنا التاريخ لنصل إلى رمضان سنة 91هـ، ليفتح المسلمون أولى صفحاتهم في سِفْر الأندلس الضخم، في رمضان سنة 91هـ تنزل الفرقة الاستكشافية المسلمة التي أرسلها موسى بن نصير -رحمه الله- بقيادة طريف بن مالك رحمه الله؛ لاستكشاف الأندلس.

وفي رمضان سنة 92هـ يلتقي المسلمون -وهم 12 ألف رجل- بقيادة طارق بن زياد رحمه الله بمائة ألف إسباني صليبي بقيادة رودريك -أو في الروايات العربية يسمونه لوذريق- معركة هائلة داخل أرض الإسبان وفي عقر دارهم، والفارق هائل في العدد، ومع ذلك انتصر المسلمون فيها، وقد استمرت ثمانية أيام متصلة؛ ليبدأ المسلمون قصة طويلة في الأندلس استمرت أكثر من 800 سنة، هذا الانتصار الباهر كان في رمضان سنة 92هـ، وراجعوا ذلك في فتح الأندلس أو موقعة وادي برباط، فهي معجزة عسكرية بكل المقاييس، تغيَّر على إثرها كل تاريخ المنطقة في شمال إفريقيا وفي غرب أوربا، بل تاريخ أوربا كله.

أما عن جهاد صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- فحدث ولا حرج؛ إذ ما كان يُفَرِّق بين رمضان وبين أي شهر من شهور السنة، كل الشهور عنده جهاد، ليست هناك راحة، فما أن انتهى من حطين وفتح بيت المقدس اتجه مباشرة إلى حصار صور في 9 رمضان سنة 583هـ.

معارك متصلة في كل شهر إلى أن حرَّر -رحمه الله- صفد في رمضان سنة 584هـ، بعد سنة من حطين، وعندما كان بعض الوزراء يعرضون عليه تأجيل القتال بعد شهر الصوم، كان -رحمه الله- يرفض ويصر على الجهاد.

وفي 25 رمضان سنة 658هـ حدثت الموقعة التي هزَّت الأرض بكاملها موقعة عين جالوت، وفيها كان الانتصار الإسلامي الباهر بقيادة سيف الدين قطز -رحمه الله- على جحافل التتار، وكانت جيوش التتار تنتصر على جيوش المسلمين انتصارات متتالية بلا هزائم ولسنوات عديدة، مذابح من أبشع مذابح التاريخ، إبادة لكل ما هو حضاري، تدمير لكل شيء في البلاد الإسلامية، من أول يوم دخل فيه التتار في أرض المسلمين سنة 616هـ وإلى هذه السنة سنة 658هـ؛ 42 سنة متصلة وصل المسلمون فيها إلى أدنى درجات الذل والهوان، ثم تغيَّر الوضع، وعادت الكرامة والعزة للمسلمين مرة أخرى في رمضان سنة 658هـ، وليس كأي انتصار؛ لقد فني جيش التتار بكامله.

وبعد، فإننا نلاحظ شيئًا عجيبًا جدًّا بعد هذه الرحلة التاريخية في رمضان!

فقد انتصر المسلمون تقريبًا على كل الفرق المعادية للإسلام في شهر رمضان، انتصرنا على المشركين في بدر وفتح مكة، انتصرنا على الفرس عُبَّاد النار في البُوَيْب، انتصرنا على الصليبيين في وادي برباط في الأندلس، وأيام صلاح الدين في فتح صفد، وانتصرنا على التتار في عين جالوت، وكذلك حرب التحرير العظيمة التي حدثت في 10 رمضان سنة 1393هـ، التي اشتهرت بحرب 6 أكتوبر سنة 1973م، فتحررت سيناء، وهو انتصار مجيد؛ فالحواجز التي عبرها الجيش المصري تدخل في عداد المعجزات العسكرية، والروح الإيمانية كانت مرتفعة جدًّا عند الجيش وعند الشعب، فكانت النزعة والتربية الإسلامية في الجيش ملموسة وواضحة، ونداء (الله أكبر) كان يخرج من قلب كل مسلم، والوحدة الإسلامية كانت في أبهى صورها.

كل هذا دفع إلى النصر، وللأسف عندما بدأ الشعب يتغير وبدأت كلمة (أنا) تعلو بديلاً عن كلمة الله عز وجل، وبدأت مقولة: (أنا فعلت)، بدلاً من (الله فعل). لَمَّا حدث هذا حدثت الثغرة، وبدأ التأزُّم في الموقف، لكن على كل حال كان نصر رمضان سنة 1393هـ نصرًا باهرًا، كان دفعة قوية ليس لمصر وسوريا فقط، بل لشعوب مسلمة كثيرة على وجه الأرض.

إذن لا يوجد عدوٌّ من أعداء الإسلام إلاَّ وحاربناه وانتصرنا عليه في رمضان؛ سواء كانوا مشركين أو صليبيين أو تتارًا أو فرسًا أو يهودًا، ولا يأتي رمضان إلاَّ ونتذكر هذه الانتصارات، وهذه نعمة عظيمة مَنَّ الله عز وجل بها علينا؛ لنظلَّ نتذكر الجهاد والانتصار إلى يوم القيامة.


[1] مسلم: كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان... (1114) عن جابر بن عبد الله، والترمذي (710)، والنسائي (2263)، وابن حبان (2706).
[2] ابن ماجه (4154)، والحاكم (2634) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (4154).

الطهطاوي وإحياء نعرات الجاهلية، وإحلال ولاء الوطن محل الدين

دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية

من مركز المقريزي للدراسات والأبحاث التاريخية

- الفصل الرابع : الطهطاوي وإحياء نعرات الجاهلية، وإحلال ولاء الوطن محل الدين والعقيدة لأول مرة في تاريخ المسلمين تظهر كتابات تتكلم عن الوطنية وللمواطن والتغني بالوطن على حساب الدين.
لأول مرة في تاريخ الإسلام تحل رابطة الأرض والعرق والدم والقرابة محل الرابطة الدينية الإيمانية، ولما كانت القضية الوطنية تحتاج إلى سياج يحميها، نبش دعاة التغريب في تاريخ ما قبل الإسلام، من تاريخ الفراعنة والفينيقيين وبابل آشور...إلخ
لقد تكلم الطهطاوي عن تاريخ الفراعنة بفخر واعتزاز بغية تأكيد مفهوم الولاء والبراء على أساس الأرض والدم والقرابة، فتمجيد تاريخ ما قبل الإسلام كان لتأكيد مصطلحات الجاهلية الجديدة (الوطن/المواطن/الوطنية).
كانت هذه تقدمة لما سنتناوله في هذا الفصل الذي خصصناه لمناقشة هذه القضية التي تكلم الطهطاوي عنها في مؤلفاته وتعليقنا على آرائه المطروحة والمبثوثة في كتبه.
أولاً: الطهطاوي ومفهوم الوطن والوطنية:
يعرف الطهطاوي الوطن بأنه: "عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج ومجمع أسرته، ومقطع سرته وهو البلد الذي نشأته تربته وغذاؤه وهواؤه، وربّاه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه"[1]
ويقول عن (حقوق المواطن) ثم إن ابن الوطن المتأصل به، أو المنتجع إليه، الذي توطن به واتخذه وطناً، ينسب إليه، تارة إلى اسمه فيقال: مصري مثلاً، أو إلى الأهل فيقال: أهلي، أو إلى الوطن فيقال: وطني، ومعنى ذاك أنه يتمتع بحقوق بلده، وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التأنسية، ولا يتصف الوطني بوصف الحرية إلا إذا كان منقاداً لقانون الوطن ومعيناً على اجرائه، فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية، والتمزي بالمزايا البلدية، فبهذا المعنى هو وطني وبلدي، يعني أنه معدود عضواً من أعضاء المدينة، فهو لها بمنزلة أحد أعضاء البدن، وهذه أعظم المزايا عند الأمم المتمدنة. وقد كان أهالي غالب الأمم محرومين من تلك المزية، التي هي من أعظم المناقب"[2]
ويتحدث عن واجبات الوطن: "فالوطني المخلص في حب الوطن يفدي وطنه بجميع منافع نفسه، ويخدمه ببذل جميع ما يملك، ويفديه بروحه، ويدفع عنه كل من تعرض له بضرر كما يدفع الوالد عن ولده الشر، فينبغي أن تكون نية أبناء الوطن دائماً متوجهة في حق وطنهم إلى الفضيلة والشرف، ولا يرتكبون شيئاً مما يخل بحقوق أوطانهم وإخوانهم، فيكون ميلهم لما فيه النفع والصلاح، كما أن الوطن نفسه يحمي عن ابنه جميع ما يضره، لما فيه هذه الصفات، فحب الأوطان وجلب المصالح العامة للإخوان من الصفات الجميلة التي تتمكن من كل واحد منهم محبوباً للآخرين، فما أسعد الإنسان الذي يميل بطبعه لإبعاد الشر عن وطنه ولو بإضرار نفسه، فصفة الوطنية لاتستدعي فقط أن يطلب الإنسان حقوقه الواجبة له على الوطن، بل يجب عليه أيضاً أن يؤدي الحقوق التي للوطن عليه للوطن، فإذا لم يوف أحد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها على وطنه"[3]
ويتكلم عن الأخوة في الوطن: "الأخوة الوطنية: فجميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن يجب على أعضاء الوطن في حقوق بعضهم على بعض، لما بينهم من الإخوة الوطنية فضلاً عن الأخوة الدينية، فيجب أدباً لمن يجمعهم وطن واحد: التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه فيما يخص شرف الوطن وإعظامه وغناءه وثروته، لأن الغنى إنما يتحصل من انتظام المعاملات وتحصيل المنافع العمومية، وهي تكون بين أهل الوطن على السوية"[4]
نلاحظ تبني الطهطاوي للمفهوم الأوروبي للتعريف بالوطن "للمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوروبا، الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض، يراد اتخاذها وحدة وجودية، يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر، فكوّنا وحدة متكاملة، ذات شخصية مستقلة، تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين. وللمرة الأولى نجد اهتماماً بالتاريخ القديم يوجه لتدهيم هذا المفهوم الجديد للوطن"[5] وهذا سر اهتمام الطهطاوي بتاريخ ماقبل الإسلام وهو ما سنوضحه في الفقرة التالية.

ثانياً: تمجيد الطهطاوي لتاريخ الفراعنة:

تحت عنوان حضارة مصر القديمة يقول الطهطاوي: "فقد أجمع المؤرخون على أن مصر عظم تمدنها، وبلغ أهلها درجة عليا في الفنون والمنافع العمومية، فكيف لا وإن آثار التمدن وأماراته وعلاماته مكثت بمصر نحو ثلاثة وأربعين قرناً يشاهدها الوارد والمتردد، ويعجب من حسنها الوافد والمتفرج، مع تنوعها كل التنوع، وسلاطينها هي من أقوى دلائل العظمة الملوكية. وفيها بيت فرعون، وهو قطعة واحدة من الحجر وسقفه وفرشه وحيطانه من الحجر الأخضر، وكان لها سبعون باباً، وهي مدينة المملكة المصرية، وكانت منازل الملوك من القبط الأولى والعماليق ومسكن الفراعنة، ومازال الملك بها إلى أن ملك الروم اليونان ديار مصر، فانتقل كرسي المملكة منها إلى الإسكندرية ومع ذلك لم تزل عامرة إلى أن جاء الإسلام، ثم خربت، وفيها كانت الأنهار تجري من تحت سرير الملك وكانت أربعة أنهار"[6]
ويستمر الطهطاوي في مدح الفراعنة:
"والمصريون من قديم الزمان كانوا منقادين للحكم الملوكي، فكانوا مطيعين لملكهم، وكان الملك منقاداً أيضاً لقوانين المملكة وأصولها، وكانت حكماء مصر تذكر الملوك دائماً بالحقوق والواجبات، وتحثهم على التمسك بالفضائل الملوكية، وتعلن من يصرفهم عنها من بطانة السوء وأهل النفاق، وكانت الملوك في تلك الأوقات يشتغلون بمطالعة الحكم والآداب والمواعظ، والتواريخ، وكل مايرشد إلى العدل والإستقامة. وكانت مصر منقسمة إلى عمالات (أي محافظات) وعلى كل عمالة حاكم فهذا التقسيم قوى شوكة أمناء الدين وجعلهم مختصين بممارسة العلوم، وبتقنين القوانين الملكية، وبنفوذ الكلمة في الحكومة[7]
"وأما الديانة عن المصريين فكانت أيضاً مرتبة إذ كان أمناء دينهم يعتقدون ألوهية الذات العليا، وكان لهم أسرار عجيبة، فكانوا لايظهرونها إلا لقليل من الناس، وكان عامة الناس يعبدون الأوثان، ومنشأ عبادتها عندهم أنهم كانوا يؤلهون كل من اخترع أمراً غريباً من قانون أو علم أو فن، فكانوا متقدمين في الهندسة والمساحة والآلات الهندسية كعلم الجغرافيا والنجوم[8]
ويقول في مدح قوانين الفراعنة:
"وكانت قوانينهم تميل إلى الحث على العمل، فقطع عرق البطالة والغش والتدليس، وغير ذلك من الموبقات، فمن هذا يفهم تقدمهم في التمدن، وأن مملكتهم في الأزمان السالفة كانت عادلة محترسة مستنيرة بالمعارف"[9]
وفي تعليقه على قصة نبي الله يوسف عليه السلام يقول مادحاً قانون الفرعون:
"ويستدل بهذا أيضاً على أن قوانين معاملة الخدم والرقيق كانت عادلة لايسوغ فيها للسيد الذي أساءه عبده كل الإساءة أن ينتقم منه لنفسه، كما يحب ويختار، فهذا يفيد أن الملة كانت متمدنة"[10]
ويضيف أيضاً فمنه يعلم أنه كان بمصر إذ ذاك أحكام عادلة وحدود مشروعة خالية من الأغراض والنفسيات وهي نتيجة التمدن التام"[11]
أقول: لكن لماذا سجن نبي الله يوسف عليه السلام إذا كانت أحكامهم عادلة؟!
ألم يقل عزيز مصر وحاكمها لما تأكد من براءة نبي الله يوسف عليه السلام كما يقول القرآن الكريم: (فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إنّ كيدكن عظيم. يوسفُ أعرضْ عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)[12]
فبعد أن تحقق حاكم مصر من صدق يوسف عليه السلام وكذب زوجته يقول لزوجته (إنه من كيدكن).. (إن كيدكن عظيم).. ثم يقول للبرئ آمراً ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع (يوسف أعرض عن هذا).. ثم يقول العزيز لزوجته بكل هدوء ولين شأن أصحاب القصور وأهل الحكم (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين).. ويتمادى القوم في غيهم وظلمهم ليوسف عليه السلام فيضعونه في السجن بعدما رأوا الآيات : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين).. يقول الحافظ ابن كثير معلقاً على هذه الآية: (يقول تعالى ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين أي إلى مدة وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الآيات وهي الأدلة على صدقه وعفته ونزاهته. وذكر السدي أنهم سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ويبرأ عرضه فيفضحها)[13]
ثم يأتي الطهطاوي بعد ذلك ليقول : "ويستدل بهذا أيضاً على أن قوانين معاملة الخدم والرقيق كانت عادلة لايسوغ فيها للسيد الذي أساءه عبده كل الإساءة أن ينتقم منه لنفسه، كما يحب ويختار، فهذا يفيد أن الملة كانت متمدنة".. فأي عدل هذا وأي تمدن هذا الذي يتكلم عنه الطهطاوي والقوم قد سجنوا البرئ؟!!
ويقول مادحاً فرعون مصر رمسيس:
"من المعلوم أن من أسس في مملكة مصر السعادة والسياسة والأمنية وحفظ حقوق الرعية هو الملك رمسيس الذي اشتهر باسم سيزوستريس وهو الذي شيد في مصر القصور الشامخة والهياكل السامية المنافسة للأطواد الراسخة، واتخذ ما يلزم للوطن من الجسور والقناطر والخلجان، ولم يفارق الدنيا حتى ترك مصر على غاية من الثروة والغنى والسعادة والهنا وكل إنسان شاكر لفعله وعلى تداول الأزمان لازال التاريخ يثني على شمائله وجميل خصاله"[14]
ويزيد في مدح فرعون مصر:
"فكان هذا الملك في الحقيقة فخر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ومصباح تاريخها، اعتنى بتاريخه مؤرخو اليونان، لأنه أول ملك مصري قربهم إلى بلاده، واستمال قلوبهم بتوظيفهم لرئاسة أجناده وخالف عوائد أسلافه، وعامل يونان وآسيا وأوروبا بأخص استعطاف وأقطعهم الإقطاعات من الأراضي المصري، و سوى في الحقوق بينهم وبين الجنود في الوطنية"[15]
من خلال هذا التصور الجديد للوطن والوطنية ضرب الطهطاوي أمثلة للأسوة والقدوة من تاريخ الفراعنة وتعظيمه لفرعون مصر (فخر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ومصباح تاريخها)!! فأي فخر هذا لملك يفرط في أرضه ويدخل الأجانب ويمنحهم هذه الامتيازات على حساب شعبه وأبناء جلدته!!
فهذه دعوى الجاهلية الأولى، ولسنا نتقول على الرجل بل هذه أقواله شاهدة على آرائه الغريبة على عالمنا الإسلامي!! فالطهطاوي لم يكتف بتحسين التاريخ الفرعوني بل تمادى في إطرائه لدرجة أنه مدح ديانة الفراعنة كما ذكرنا آنفاً.
تأمل! هذا الإحياء الجديد لهذه الرمم التي عفا عليها الزمن. إنها دعوى للفرعونية وبعثها من جديد لتأكيد مفهوم الوطن والوطنية والعودة إلى العصبية للأرض والقرابة أي دعوة إلى عدم اعتبار رابطة الإسلام والإيمان التي دعا إليها القرآن الكريم (إنما المؤمنون أخوة)
وتكمن خطورة الطهطاوي في كونه عالماً أزهرياً يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكثير من أبيات الشعر، مما يسهل مهمة تلبيس الحق بالباطل، وهذا نجده واضحاً في قوله:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، علا مطيته، واستقبل الكعبة، وقال:
(والله لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله تعالى، ولولا أن أهلك أخرجوني منك لما خرجت"[16]
أقول: هذا الحنين إلى الديار أمر فطري لاجناح عليه، ولايتناقض وعقيدة الولاء والبراء في الإسلام، لكنه في حالة تعارض الولاءات، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدم ولاء العقيدة والإسلام على ولاء الأرض رغم أن مكة خير بقاع الأرض، فهنا انتصر ولاء العقيدة على ولاء الوطن، ومن قبل فعل نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما تعارض ولاء الأبوة والرحم مع ولاء العقيدة قال تعالى: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه)[17]
وقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)[18]
وقد كان هذا منهج الصحابة رضوان الله عليهم؛ ففي غزوة بدر تباينت الولاءات، وتمايزت البراءات، فالمهاجرون يقاتلون آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم من المشركين، وهم بنو وطن واحد، وعشيرة واحدة، بل وعائلة واحدة، فهذا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يقتل أباه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقتل خاله، فانتصر ولاء العقيدة على ولاء القرابة والدم والأرض.
وهذا عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي كان حليفاً لليهود يعلن ولاءه لله ورسوله ويتبرأ من حلفائه من يهود بني قينقاع الذين غدروا ونقضوا عهدهم إذ يعلن على الملأ براءته من حلفائه من يهود مظاهرة لله ورسوله قائلاً: (يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله).
هكذا عندما تعارضت مصلحة العقيدة مع المصلحة الشخصية قدم عبادة بن الصامت ولاء العقيدة وأسقط تحت قدميه ولاء المصلحة الشخصية.
وقد أفاض القرآن الكريم في هذه القضية وركز على ولاء العقيدة والإيمان فقال تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون)[19]
(ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لايهدي القوم الظالمين)[20]
لكن الطهطاوي يتغافل عن هذه الآيات البينات في عقيدة الولاء والبراءة ويضرب بها عرض الحائط ويضّيق المفهوم الواسع للولاء والبراء في العقيدة الإسلامية وينادى برابطة جديدة تحل محل رابطة الإسلام.
"ولكي يفصل القرآن مبدأ (الولاء) الذي هو مبدأ أساسي في سياسة الأمة الإسلامي، ويبرر أسباب ما يراه فيه فيقول: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)[21]
فالآية الأولى تحدد من يكون له الولاء والمودة. وهم الله ورسوله، والمؤمنون الذين يباشرون العبادة والطاعة لله. والآية الثانية تعد بنجاح التماسك في الأمة على أساس مثل هذا الولاء. ثم يستطرد القرآن مبرراً لما حدده هنا فيقول:
(ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعباً ذلك بأنهم قوم لايعقلون)[22]
فقد اعتاد الفريقان أن يسخرا من الصلاة عندما يؤذن لها. وسخريتهم من دين المؤمنين على هذا النحو يعبر عن عدم احترامهم للمؤمنين. وليس من حسن السياسة أن يكونوا هم وأهل الكتاب والمشركون على السواء، موضحاً: أن منع المؤمنين والمؤمنات من أن يكون لهم ولاء لغيرهم: يكون الإنسان موالياً أو صاحب ودّ وصداقة لمن لايحترمه، ولمن يسئ إليه فيما يعتقده.
وكما ينهى القرآن عن أن يتجاوز المؤمنون والمؤمنات بولائهم أو صداقتهم وودهم: إخوانهم في الإيمان، إلى غير المؤمنين من أهل الكتاب والمشركين ممن اعتادوا أو ممن شأنهم أن يسخروا من المؤمنين ومن دينهم على السواء، ينهي أيضاً عن أن يتخذ المؤمنون والمؤمنات (خاصة) و(مستشارين) من غير المؤمنين، فيقول: (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ماعنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ. قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لايضركم كيدهم شيئاً إن الله بما تعملون محيط)[23] ، وإذا كان القرآن يبرر ما يدعوا إليه المؤمنين والمؤمنات من قبل: من عدم الولاء لغيرهم، بسبب سخرية هؤلاء لدين المؤمنين واستهزائهم بما يؤدونه من عبادة، فإنه يبرر دعوته الثانية إلى المؤمنين والمؤمنات بعدم اتخاذ (بطانة) و(خاصة) و(مستشارين):
أ) بعدم تقصير هؤلاء من أهل الكتاب والوثنيين أو الماديين الملحدين ـ إذا ما أصبحوا بطانة للمؤمنين والمؤمنات ـ فيما يسبب الأزمات والشر والفساد لهم (لايألونكم خبالاً).
ب) وبالرغبة في التفتيش عما يشق على نفوسهم، ويسبب لهم العنت: (ودوا ماعنتم).
ج) وبانطواء نفوسهم على البغض والحقد (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر).
د) وبالرغبة في الانتقام منهم: (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ).
هـ) وبأن نجاح المؤمنين يسوؤهم.. بينما يسعدهم اخفاقهم (إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها).
وقد بلور القرآن ما دعا إليه المؤمنين والمؤمنات من مواقف في سياستهم مع غيرهم على الأخص في قوله تعالى: (تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق)[24]، هم في واقع أمرهم أعداء للممؤمنين وأعداء لله جل جلاله لأنهم جميعاً يكفرون بالقرآن كآخر رسالة سماوية. وقد حذر القرآن المؤمنين بعد أن كفر أعداؤهم بما جاء إليهم من الحق، وهو القرآن الكريم: من أن يمدوا إليهم يد الولاء والمودة.. أو أن يتخذوا منهم خاصة وبطانة لهم. لأن نفوسهم تنطوي على البغض والحقد، لأنهم إن صادقوكم وانفردوا بكم يكشفوا لكم عن عدوانهم وتمتد أيديهم إليكم بالسوء، كما تمتد ألسنتهم، ونهاية مطافهم معكم: أن تعودوا كفاراً وتتحولوا إلى أن تكونوا أتباعاً لهم (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون)[25]، فهل يعي المؤمنون سياسة القرآن بالنسبة لأمتهم في تماسكهم.. وبالنسبة لأعدائهم في عدم موالاتهم، واتخاذ بعضهم خاصة له؟. ما أصاب المسلمين بالأمس.. وما يصيبهم اليوم أو غداً، هو بسبب عدم اتباعهم لسياسة القرآن.. وبقائهم مع حزب الشيطان فياتباع سياسة الهوى والشهوة"[26]
من منطلق هذا المفهوم الجديد للوطن، أعلن الطهطاوي عداءه للخلافة العثمانية، وتغنى ببطولات محمد علي باشا، وأشاد بانتصاراته على العثمانيين وفي ذلك يقول: "وحروبه مع والي عكا معلومة، وجولان جنوده في الشام، وغير الشام مفهومة، ولم تكن من محض العبث، ولا من ذميم تعدي الحدود، إذ جل مقصوده تنبيه أعضاء ملة عظيمة تحسبهم أيقاظاً وهم رقود، والدليل على حسن النية أن هذه الحسنة التي على صورة الجنية، أنتجت أصل وارثي مصر، التي ترتب عليها رفع الإصر"[27]
"ولولا بقاؤه (يقصد محمد علي باشا ت: 1849) تحت ولاء الدولة العلية، ومراعاة حفظ الحالة الراهنة عليه من الراجحية والمرجوحية، لجال في الفتوحات الخارجة مجال اسكندر الأكبر"[28]
ويشيد محقق الأعمال الكاملة بهذا الفكر التقدمي! لرفاعة الطهطاوي فيقول: "فهو هنا يقدم فكراً محدداً يرى في العمل العسكري الذي مارسه الجيش المصري ضد العثمانيين، وحرر به أغلب أجزاء المشرق العربي، عملاً لا يدخل في إطار (العبث) أو(التعدي) وإنما هو تنبيه الأمة وإيقاظها من نومها ورقودها، فيا للكهف المظلم للأتراك العثمانيين، هو فكر قومي عربي لانطلب من الطهطاوي أكثر منه في ذلك التاريخ وتلك الظروف[29]
وانتشرت عدوى الفكر الطهطاوي في عقول أمتنا؛ فيقول أحدهم في معرض مدحه لحرب محمد علي باشا ضد الخلافة العثمانية: "ونحن في نوفمبر 1831 ها هو محمد علي يرسل ابنه إبراهيم على رأس جيش إلى فلسطين، وهاهو الجيش يتقدم بسرعة من فلسطين إلى باقي أجزاء الشام ـ في تلك الفترة كان لفظ الشام يعني فلسطين ولبنان وسوريا"[30]
ويقول مادحاً الفلاح المصري: "الآن يتحول الفلاح نفسه إلى مقاتل منظم في جيش حديث، يهزم الإمبراطوية التي حكمته من قبل ثلاثة قرون"[31]
من منطلق المفهوم الجديد للوطن نادى الطهطاوي بتقعيد اللهجة العامية والاعتناء بها، وحقق مشروعه بتعريبه لصحيفة (الوقائع المصرية) وتشجيعه للكتابة العامية: "وموقف الطهطاوي من اللهجة العامية جدير بالتأمل والدراسة، فقد كان الرجل يستخدم مصطلحاتها عند الترجمة إذا أعوزه المصطلح الفصيح، ويقدم المصطلح العامي على المصطلح المعرب، كما استخدم الكثير من ألفاظها في تأليفه.. وهو قد تحدث عن أهمية تقعيد قواعدها والإستفادة منها في تعليم الصناعات لأبناء الشعب، فقال: "إن اللغة المتداولة في بلدة من البلاد، المسماة باللغة الدارجة، التي يقع بها في المعاملات السائرة، لامانع أن يكون لها قواعد قريبة المأخذ تضبطها، وأصول على حسب الإمكان تربطها، ليتعارفها أهل الإقليم، حيث نفعها بالنسبة إليهم عميم، وتصنف فيه كتب المنافع العمومية والمصالح البلدية"[32]
وقد كان الطهطاوي عملياً فكتبه زاخرة بهذه الألفاظ العامية.. ونلاحظ ذلك جيداً في مجلة الوقائع التي كان يشرف على تحريرها وتطوير أسلوبها حيث غلبت عليها العامية المصرية.. وهكذا سن الطهطاوي سنة الكتابة بالعامية المصرية في الصحف التي صدرت في وقته وصار الخلف على نفس السنة الطهطاوية إلى وقتنا الحاضر.
أقول: أود أن أشير إلى أن هناك بعض المحاولات قد جرت للكتابة بالعامية بعد الطهطاوي عن طريق نقل أعمال من التراث العالمي أو من الأعمال الأدبية الكلاسيكسة كمسرحيات شكسبير إلى لهجتنا العامية: "مثل تجربة محمد عثمان جلال لتعريب أعمال من التراث الكلاسيكي الفرنسي للقرن السادس عشر. إذ قام في نهاية القرن التاسع عشر بنقل مسرحيات المؤلف الكوميدي موليير إلى العامية المصرية؛ فترجم أربع مسرحيات هي (تاتوف) وقام يتعريبها بما يتلاءم مع البيئة الثقافية والإجتماعية المصرية، واعطائها عنوان (الشيخ متلوف) وكذلك مسرحية (النساء العاملات) ومسرحيات أخرى من هذا التراث الفكاهي الساخر. ولم تقف تجربة محمد عثمان جلال عند تعريب التراث الكلاسيكي الكوميدي، بل أقدم على ترجمة وتعريب مسرحيات (راسين) التراجيدية، وجاءت الترجمة لمسرحية (ايستير) و (ايفيجيني) كذلك في صورة أشعار زجلية. وفي نفس هذه الفترة شرع (وليام ولكوكس) بترجمة مقتطفات من روايتي (هنري الرابع) و (هملت) لشكسبير إلى العامية المصرية ونشرها عام 1893م ولكن في أغلب الظن لم يكن ولكوكس يفكر في نقل ما كان يقدمه إلى خشبة المسرح، بل كان هدفه الأساسي هو تعضيد رأيه أن العامية هي أداة التعبير التي يجب على المصريين تبنيها والكتابة بها لجميع أغراض الإتصال"[33]
وتعتبر جريدة (أبو نضارة) أول صحيفة هزلية تكتب بالعامية تنتقد حكم الخديو إسماعيل المتوفى 1879، وهذه الجريدة أسسها جمال الدين الأفغاني المتوفى 1897م الذي يلقب برائد اليقظة في الشرق! وتجاوب معه يعقوب صنوع والشيخ محمد عبده[34] في تحرير هذه الجريدة.
وانتشرت الكتابة بالعامية على نطاق واسع وهناك محاولات مستميتة لإقصاء اللغة العربية من حياة الناطقين بها. لكن الفصحى لم تزل والحمد لله تشغل وظائف الإتصال الأكثر رسمية كتابية كانت أو شفهية، ولم تزل هناك مجالات عملية لاتستخدم إلا الفصحى كالخطابة وحتى الكتابة الإدارية ونقل المعلومات العلمية ووسائل الإتصال الحديثة التي تنقل هذه المعلومات لا تترجم إلا بالفصحى وطالما كان القرآن حياً لم يرفع من صدور الناس بعد فلن تموت الفصحى مهما حاول أعداؤها الذين يتسترون بالعامية القضاء عليها!!
أما عن العلاقة بين الوطنية وتمجيد ماقبل الإسلام: لقد كان من لوازم مفهوم الوطنية أن نبش الطهطاوي في تاريخ ما قبل الإسلام وإحياءه نعرات الجاهلية كالفرعونية، واعتبارها امتداداً طبيعياً لتاريخ المصريين مع الحض على تعظيمها، مما أدى فيما بعد إلى إحياء طقوس حرمها الإسلام وأبطلتها الشريعة الإسلامية الغراء كالإحتفال بيوم وفاء النيل وتقديس الحجارة والمقابر الفرعونية.
وكان من ثمرة ذلك الفكر من الناحية التطبيقية انشاء مدرسة اللسان المصري القديم (اللغة الهيروغليفية) وكان ذلك عام 1879م وكان مديرها الألماني (بروكش باشا) ومنها تخرج أحمد كمال باشا المولود 1851 والمتوفي 1923م وهو أول مصري حمل لواء علم الآثار الفرعونية القديمة وأول مصري يتقن هذا الفن الحديث فهو العربي المصري الأول الذي تلقى هذا العلم من أثري الغرب وعربه وأقام له فلسفة واضحة. وله موسوعات وأبحاث في قواعد اللغة الهيروغليفية وقاموس بمفرداتها.
وقد استطاع هذا الرجل أن يحمل الحكومة المصرية على تعليم اللسان المصري لبعض الطلبة المصريين وقد تخرج على يديه مجموعة من أزكي تلاميذ مدرسة المعلمين: مثل سليم حسن عالم الآثار المشهور المتوفى سنة 1961م وسليم حسن هو مكتشف أول مقبرة في الدولة الفرعونية القديمة وهي مقبرة (رع ور) الكاهن الأكبر للوجهين البحري والقبلي. وهو مكتشف الهرم الرابع للجيزة وصاحبته هي الملكة (خنت كاوس) أول مصرية تحمل لقب الملوكية كما يقولون!! ومحمود حمزة ورمسيس شافعي وغيرهم من علماء الآثار المصريين.
ومع ظهور كشوف مقبرة الملك (توت عنخ آمون) عام 1922م تفرعنت الصحف المصرية وظهرت الدعوة إلى احياء طابع الفرعونية في المجتمع المصري.
وقد كان الإهتمام بهذه الحفريات والكشوفات بغية خلق تيار التشرذم والتجزئة في المنطقة، والقضاء على وحدة الأمة حيث سيهتم كل قطر بنفسه ويتقوقع داخل حضارته القديمة فيمجد المصريون الفرعونية، واللبنانيون الفينيقية، والعراقيون الآشورية وهكذا تحل ولاءات الجاهلية محل رابطة العقيدة والدين.
هكذا "نشأت فكرة الوطنية وقتذاك، فكرة تحاول أن تجمع الناس حول المطالبة بحقوقهم، ودعوة إلى الحرية وإلى هدم صرح الظلم والإستعباد. ثم تطورت الفكرة على أيدي أصحاب الثقافة الأوروبية، وبدأت تهاجم الرابطة الدينية وتعتبرها مصدر شر وتفرقة بين أبناء الجنس الواحد. فدعا هذا لفهم الجديد للوطنية إلى أن يهاجمها المتمسكون بالرابطة الدينية، ويعتبرونها خطراً يهدد وحدة الأقطار الإسلامية ويفرق كلمتها ويهدم تعاطفها ويضعف تكتلها، بما يعرضها للسقوط تحت أقدام الدول الأوروبية الطامعة، واحدة تلو أخرى"[35]
مما لاشك فيه أن هذه الأفكار (اتخاذ الوطن معبوداً من دون الله ) وإحلاله في الشعر والأناشيد محل الدين، وقد ظهر ذلك جلياً في قصائد زوج ابنته ـ صالح مجدي بك ـ الذي سار على منهج أستاذه الطهطاوي وحامل أفكاره والمدافع عنه.. وكما يقول د. محمد حسين: "وربما كان صالح مجدي من أسبق الشعراء في العصر الحديث إلى ترديد كلمات الوطن والوطنية في شعره بعد أستاذه رفاعة الطهطاوي. وله في آخر ديوانه خمس عشرة مزدوجة سماها (الوطنيات)، امتدح فيها سعيد باشا والي مصر، وعرضت عليه فأمر بتلحينها والتغني بها بمصاحبة الموسيقى العسكرية في المحافل والمواسم. وهو في هذه الوطنيات يشيد بالوطن محاولاً أن يغرس حبه في القلوب، ويتغنى بأمجاد الأجداد، ويفاخر بجيش البلاد، مبرزاً قوته، معتداً بشدة بأسه. ولكنه يربط ذلك شخصياً بشخص سعيد، ويجعله سبباً للتعظيم من شأنه وتحبيبه إلى أبناء جنسه، فمن ذلك قوله في الوطنية:
فامتداح الصدر غنوا ***** فهو للأوطان حصن
وهو للإيمان ركن ***** ولكم في الحتوف أمن
في ميادين الوقائع ***** في الوغى أنتم أسود
يا بني الأوطان سودوا ***** ولها بالروح جودوا
وادخلوا الأحياء وصيدوا ***** يا بني الأوطان هيا
خيموا فوق الثريا ***** واهجروا النوم مليا
واطعنوا الضد الأبيا ***** واجدعوا أنف الممانع"[36]

"من الواضح أن الصياغة ليست هي التي تلفت النظر في شعر صالح مجدي. فهو قليل الحظ من هذه الناحية، لا يقارن بشاعر كالبارودي. لكن الذي يلفت النظر في شعره هو هذا الوضوح المبكر للفكرة الوطنية، التي تعتز بمصر وجيش مصر، وتمتلئ حماساً للحرب والقتال في سبيل مجد الوطن ورفعته"[37]. لقد سار على هذا النهج شاعر النيل حافظ إبراهيم المتوفى 1932 إذ يقول في قصيدته التي نشرت في 15/12/1921م وهذه القصيدة على لسان مصر تتحدث بنفسها:

وقف الخلق ينظرون جميعاً ***** كيف أبني قواعد المجد وحي
وبناةُ الأهرام في سالف الدهـ ***** ر كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء في مفرق الشر ***** ق ودرَّاته فرائدُ عقدي
قل لمن أنكروا مفاخر قومي ***** مثل ما أنكروا مآثر وُلْدي
هل وقفتُمْ بقمّة الهرم الأكـْ ***** بر يوماً فرَيْتُمُ بعضَ جُهْدي
هل رأيتم تلك النقوشَ اللّواتي ***** أعجزتْ طَوْقَ صنعة التحدي
حال لون النهار قديم العهـ ***** ـد وما مسّ لونَها طولُ عهدي
هل فهمتم أسرار ما كان عندي ***** من علوم ٍ مخبوءة ٍ طَيّ بَرْدي
ذاك فن التحنيط قد غلب الدهـ ***** ـر وأبلى البلى وأعجز ندِّي
قد عقدتُ العهودَ من عهد فرعو ***** ن ففي مصر كان أولُ عقد
إنّ مجدي في الأولياتِ عريقٌ ***** من له مثل أُولياتي ومجدي
أنا أمُّ التشريعٍ قد أخذ الرّو ***** مانُ عنّي الأصولَ في كلِّ حدِ
ورصدتُ النجومَ منذ أضاءتْ ***** في سماءِ الدُّجى فأحكمتُ رَصْدي
وشدا (بنتئور)[38] فوق ربوعي ***** قبل عهد اليونان أو عهد (نجدِ)[39]

هكذا يتغنى شاعر فحل مثل حافظ إبراهيم بذلك المعبود الجديد الذي حل محل رابطة الدين والعقيدة!!

وهذا أحمد لطفي السيد[40] المتوفى سنة 1963 الذي يلقبه أتباعه بأستاذ الجيل يوجه رسالة إلى فتيان مصر بشأن الوطنية:
"يابني عليك مصرك لا ينفعك إلا مجدها، ولا يذلك إلا ضعفها، ولو قلّبت تاريخها حديثاً على قديم، لما وجدتها في الحقيقة مدينة إلى أحد من الناس، تدعوك الذمة إلى أداء الدين عنها. إنها كانت مطمع الطامعين، يأخذون منافعها بقوة السلاح، أو بقوة العقل، فما أنت مسئول إلا عنها، ولو أنفقت من عواطفك ومن نتائج جهادك العقلي والبدني مثقال ذرة على غيرها، في حين أنها أحوج ماتكون إلى ما أنفقت، لو سمتك بالعقوق. وكما أنك بين أقرانك لك شخصية تجب عليك رعايتها، فإن لوطنك بين الأوطان شخصية أيضاً رعايتها واجبة على أهله، وأن فناءك في إرادة الغير، واهتمامك بأن تكون في رق اختياري، شر من الرق الإضطراري، كذلك اهتمامك بتمجيد غير وطنك، والسعي في انجاحه دون بلادك نقص في وطنيتك، واحتقار لنفسك وأهلك وبلادك، وما الأمم الطبيعية إلا آكل أو مأكول. ولو جعلت وطنك شيوعاً بين من لا تتفق منفعته مع منفعتك دون أن تحدده بحدود بلادك، لكنت عديم الوطن، وحاشاك أن تجهل حقوق وطنط عليك"[41]
وكان أحمد عرابي المتوفى 1911 صاحب الثورة العرابية الشهيرة ضد الإنجليز يستعمل لفظ المصريين والأمة المصرية بمعناه الحديث ويعتبر من ليسوا من أهل البلاد سواء كانوا من الأرمن والأتراك، وسواء أكانوا من المسلمين أو غير المسلمين، أجانب لايحق لهم أن يحكموها وهو أمر جديد ـ على حد قول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى ـ لم يوجد له أثر في التفكير المصري منذ أن احتضنته الموجة المسيحية، وقد قال في هذا في جريدة الأستاذ التي أنشأها عبد الله النديم[42] المتوفى 1896 في بداية حكم الخديو عباس الثاني تحت عنوان (المسلمون والأقباط) مايلي: "هم أبناء مصر الذين ينسبون إليها وتنسب إليهم، لايعرفون غير بلدهمم ولايرحلون لغيرها إلا زيارة... ورغم تقلبات الدولية إخوان الوطنية يتزاورون تزاور أهل البيت ويشارك الجار جاره في أفراحه وأتراحه علماً منهم أن البلاد تطالبهم بصرف حياتهم في إحيائها بالمحافظة على وحدة الإجتماع الوطني الذي يشمله اسم مصري من غير النظر إلى الإختلاف الديني (الأستاذ ج1 ص749 وما بعدها"[43]
ويروي أحمد عرابي باشا[44] عن نفسه قائلاً:
"إنني فلاح مصري، وقد اجتهدت قدر طاقتي أن أحقق الإصلاح لوطني الذي أنا من أبنائه ومحبيه. لقد كنت أجتهد في حفظ استقلال بلادي مع نيل الحرية والعدل والمساواة للمساكين الذين أنا خادم لهم. فلسوء البخت لم يتيسر لي الغرض المقصود. وإنني مكتف بشرفي الشخصي الذي سوف يلازمني ماحييت ويبقى بعدي إذا مت. وسوف يرضيني دائماً أن أنادى بـ (أحمد عرابي المصري) فقط، وبغيرألقاب. لقد ولدت في بلاد الفراعنة وستظل أهراماتهم قبري. إن الأمة المصري بأسرها كانت معي، وصحبة لي، كما أني محب لها أبداً، فآمل أنها لاتنساني"[45] وفي مقالة بعنوان (دروس الوطنية التي أخذها مصطفى كامل من النديم) يبين د.عبد المنعم إبراهيم الجميعي أوجه الإختلاف بين مصطفى كامل وأستاذه عبدالله النديم:
"رغم أن مصطفى كامل[46] كان تلميذ عبدالله النديم ــ الذي نادى بأن تكون مصر للمصريين وفضل الوطنية المصرية عما عداها ــ فقد دعا إلى دعم تبعية مصر لتركيا وضرورة التمسك بالرابطة العثمانية بقوله: (يجب على المصريين أن يتمسكوا أشد التمسك بالرابطة الأكيدة التي تربطهم بالدولة العثمانية) بل وصل به الأمر أن طلب من السلطان ارسال جيوشه لاغراج الإنجليز منها واحتلالها باعتبارها ولاية عثمانية. كما أعلن في خطبة له بباريس بمناسبة عيد جلوس السلطان في 31 من مارس أغسطس 1895 (أن الراية العثمانية هي الراية الوحيدة التي يجب أن نجتمع حولها).
لقد كان الفرق شاسعاً بين سياسة النديم وسياسة مصطفى كامل تجاه الدولة العثمانية، فالنديم فضّل الولاء للوطنية عن الإرتباط بجامعة الدين وعندما تعارضت مصلحة مصر مع مصلحة الدولة العثمانية وقف النديم بجانب مصر، وهاجم سياسة الدولة العثمانية تجاه القضية المصرية، ورفض أن تتنازل مصر عن الإمتيازات التي نالتها بالستقلالها في شئونها الداخلية، بينما نجد مصطفى كامل يطلب من السلطان ارسال جيوش عثمانية لاحتلال مصر وإخراج الإنجليز منها"[47]
هكذا وضع الطهطاوي النطفة الأولى لتخريب الهوية الإسلامية ولتمزيق رابط الدين والعقيدة، فصار المسلم المصري يقاتل المسلم السوداني أو الليبي أو العراقي بحجة الدفاع عن الولاء الجديد: الوطن!!


المراجع

[1] المرشد الأمين/ص429.
[2] المرجع اسابق/ص434.
[3] المرشد الأمين/ص434.
[4] منلهج الألباب/ص319.
[5] الإسلام والحضارة الغربية/د.محمد محمد حسين/ص19.
[6] المرجع السابق/ص383.
[7] مناهج الألباب/ص384.
[8] المرجع السابق/ص385.
[9] السابق/ص385.
[10] السابق/ص390.
[11] السابق/ص390.
[12] سورة يوسف/ آية 28 ، 29.
[13] تفسير ابن كثير/مج2/ص478 بتصرف.
[14] السابق/ص393.
[15] السابق/ص393.
[16] مناهج الألباب/ ص256.
[17] التوبة/114.
[18] الممتحنة/4.
[19] التوبة/ 24.
[20] المائدة/ 51 ـ 52.
[21] المائدة/ 55.
[22] المائدة/ 57 ـ 58.
[23] آل عمران/ 118 ـ 120.
[24] الممتحنة/ 1.
[25] الممتحنة/ 2.
[26] مجلة الأمة/ مرجع سابق/ص39 وما بعدها بتصرف يسير.
[27] مناهج الألباب/ص414.
[28] السابق/ص414.
[29] الأعمال الكاملة/ص147.
[30] كتاب وعليكم السلام/محمود عوض/ص38.
[31] المرجع السابق/ص38.
[32] الأعمال الكاملة/ ص136.
[33] مجلة وجهة نظر/العدد9/السنة الأولى/مقالة (شكسبير بالعامية من يقرأه) مديحة دوس/ص68.
[34] الشيخ محمد عبده هو ابن عبده بن حسن خير الله؛ ولد في محلة نصر بمحافظة البحيرة بمصر عام 1266هـ (1849م) وتعلم العلم في الجامعين الأحمدي والأزهر، وتولى عدة مناصب علمية وقضائية ودينية وآخر منصب تولاه منصب الإفتاء، وظل فيه إلى أن توفي بالإسكندرية في سنة 1323هـ/ 1905م. ودفن بالقاهرة. شارك في الثورة العرابية ثم انقلب عليها وهاجم أحمد عرابي بعد ذلك وقد حكم عليه بالنفي وقد أمضى خمس سنوات منها بين فرنسا والشام وعاد سنة 1888م وكان يتردد على فرنسا وفي باريس صار الشيخ محمد عبده أوروبياً متفرنساً فقد تغير زي الشيخ ومظهره وخلع الجبة والعمامة ولبس الطربوش!! وكان عضواً في المحفل الماسوني. قد تقرب الشيخ محمد عبده من المعتمد البريطاني اللورد كرومر الذي ظل الحاكم الفعلي لمصر إذ بقي فيها على ما يزيد على أربعة وعشرين عاماً ، فقد حضر إلى مصر في سبتمبر 1883م وتركها في سنة 1907م. وظل صديقاً وفياً لهذا اللورد الإنجليزي.. وان من رأي الشيخ محمد عبده مسالمة الإنجليز المحتلين لمصر بغرض انتفاع الأمة من المحتلين على حد زعمه!! وبعد عودته من المنفى كان يتردد على صالون الأميرة نازلى فاضل ــ وهي الأميرة نازلى هانم؛ حفيدة إبراهيم باشا، وابنة فاضل باشا، الذي كان من المطالبين بالدستور في عهد السلطان العثماني عبد المجيد، وكانت الأميرة نازلى مثقفة ومستنيرة ـ أي متفرنجة ـ وصاحبة صالون أدبي وسياسي يلتقي فيه المعتدلون ـ أي المنهزمون ـ من المفكرين المصريين من أمثال: سعد زغلول والشيخ محمد عبده واللقاني وآخرين.. وكانت الأميرة نازلى افتتحت هذا الصالون بعد عودتها إلى مصر إثر الإحتلال البريطاني وبعد أن قويت علاقاتها مع اللورد كرومر المعتمد البريطاني الذي كان مقره قصر الدوبارة .. وهذه المرأة كان له دور خطير في إفساد المرأة في مصر..
أما الملكة نازلى: فهي زوجة الملك فؤاد.. وقد تكلم عنها مصطفى أمين في مقالات من عشرة لعشرين في أخبار اليوم بتاريخ 9 يناير 1982 عندما تكلم عن الملك فؤاد وعن غيرته وأنه لم يكن يسمح للملكة نازلى أن تكشف وجهها أمام رجل غريب بل إنه ألغى استضافة ملك أفغانستان الأسبق أمان الله في قصر عابدين حتى لا تختلط زوجته الملكة ثريا التي كانت سافرة الوجه وحتى لا تسمم أفكار الملكة نازلى على حد تعبير الأستاذ مصطفى أمين.. الخلاصة أن صاحبة الصالون هي الأميرة نازلى وليست الملكة نازلى زوجة الملك فؤاد.. ـــ، المعروفة بصداقتها للورد كرومر فقد عرف أنه أعيد إلى مصر برجائها وبعد أن أعطت المواثيق إلى كرومر بأنه لن يشتغل بالسياسة!! وكان الشيخ محمد عبده يرفع تقارير إصلاح الأزهر إلى صديقه المعتمد البريطاني كرومر!! وقال تلميذه الشيخ مصطفى عبد الرازق: بعد اتصال الشيخ بالأميرة نازلى التي كان هواها مع انجلترا وكانت صديقة اللورد كرومر فقد تلاشت عداوة انجلترا من صدر أستاذنا وأصبح يصرح في دروسه وكتاباته بأن بريطانيا أحسن الدول الأوروبية استعماراً!! هكذا كانت شخصية الشيخ الإمام محمد عبده!! شخصية ضعيفة متقلبة ينقلب على أصدقائه ويقف مع أعداء الأمة تماماً مثل ما خذل أستاذه جمال الدين الأفغاني فقد انقطع عنه وتركه ولم يرثه بكلمة واحدة عند موته!!
[35] الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر/د.محمد محمد حسين/ص78.
[36] المرجع السابق/ص79.
[37] الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر/ص81.
[38] بتناءور: شاعر مصري قديم كان أيام الفراعنة وقيل إنه أقدم شاعر عرفه التاريخ.
[39] عهد نجد: يشير الشاعر إلى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم!!!
[40] ولد أحمد لطفي السيد في 5 ذي القعدة سنة 1288هـ (1872 ـ 1963) ببلدة (برقين) من أعمال مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية.. التحق أول عهده في مكتب برقين ومنه انتقل إلى مدرسة المنصورة الأميرية ومنها إلى المدرسة الخديوية بمصر فمدرسة الحقوق التي تخرج فيها سنة 1895 حتى تعين عضواً بالنيابة فمساعداً ببني سويف فالقيوم سنة 1896 ثم صار وكيلاً لها في ميت غمر سنة 1901 فنائباً للفيوم سنة 1904 وفي سنة 1906 استقال من الحكومة واشتغل بالمحاماة إلى سنة 1908 التي ألف فيها حزب الأمة وأسس جريدة (الجريدة) واشتغل بالعمل النيابي فانتخب عضواً في مجلس مديرية الدقهلية.. واختير مديراً لدار الكتب فكان أول مصري يعمل في هذا المركز واختير أيضا ليكون أول مدير مصري للجامعة المصرية عام 1925م ثم وزيراً للمعارف عام 1928 وعين عضواً بمجمع اللغة العربية عام 1940، فرئيساً له عام من عام 1945 إلى 1963م، عين وزيراً للخارجية عام 1946، في عهد عبد الناصر منح جائزة الدولة التقديرية في العلوم الإجتماعية عام 1958. راجع ترجمته في كتاب (صفوة العصر) لزكي فهمي.. و (كتاب تذكاري عن أستاذ الجيل) صادر من المجلس الأعلى للثقافة.. و (قصة حياتي: بقلم الأستاذ أحمد لطفي السيد) نشر في كتاب الهلال في 4 فبراير 1962م.. أقول: إن هذا الرجل كان من أعداء الرابطة الإسلامية وكان عدواً للخلافة الإسلامية ومن المتعصبين للهوية المصرية كان موالياً للإنجليز ولكل دعاة التغريب وكان يحتضن كل من يطعن في الإسلام يفتح له مكتبه وجريدته ويساعده بحكم علاقاته الواسعة مع أهل الحكم والمحتلين وله مواقف مخزية في تاريخ مصر الحديث لذلك يعظمه العلمانيون ويقلبونه بـ (الأستاذ) و(الأستاذ الكبير) و(أستاذ الجيل)!! توفي أحمد لطفي السيد في عام 1963م..
[41] كتاب تذكاري عن أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد/المجلس الأعلى للثقافة/ص164 ومابعدها.
[42] هو عبد الله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسي الحسيني، كاتب وشاعر وخطيب وسياسي مناضل، وراسخ القدم في علوم اللغة العربية الفصحى، ومبرز في النظم والكتابة باللهجة العامية. ولد بالإسكندرية، وحصل على ماحصل من الثقافة والعلوم بالجهد الذاتي، والمناهج غير النظامية. شارك في قيادة الثورة العرابية (1298هـ ـ 1299 هـ) الموافق (1881م ـ 1889م) وكان أبرز خطبائها وكان يلقب بخطيب الثورة العرابية، وأصدر إبان الثورة صحيفة (التنكيت والتبكيت) و (الطائف) التي مثلت لسان حال الثورة. بعد هزيمة الثورة طاردت السلطة الإستعمارية عبد الله النديم، فاختفى عشر سنوات وفيها ألف عدة كتب متنوعة. وبعد القبض عليه نتيجة وشاية وذلك في صفر 1309هـ سبتمبر 1891، حبس أياماً ثم نفي من مصر إلى فلسطين، فأقام فيها حتى عفى عنه الخديو عباس حلمي الثاني المتوفى 1944م فعاد إلى مصر سنة 1310هـ (1892م) وأصدر مجلة الأستاذ سنة 1892م وبسبب مقالاته في الأستاذ نفاه الإنجليز إلى الآستانة حتى توفي هناك سنة 1896م. وقد قيل إن لقب النديم الذي اشتهر به يرجع إلى منادمته للأمراء والكبراء. أخذنا ترجمة النديم من كتاب (بحوث ندوة الإحتفال بذكرى مرور مائة عام على وفاة عبد الله النديم) بتصرف كبير. أقول: مما لاشك فيه أن شخصية عبد الله النديم تحتاج إلى دراسة مستقلة من خلال منظور إسلامي حتى يتسنى لنا التعرف على هذه الشخصية والحكم عليها.
[43] الإستعمار وحقوق الأمة في فكر عبد الله النديم/د. أحمد عبد الرحيم مصطفى/92 وما بعدها وهو بحث ندوة الإحتفال بذكرى مرور مائة عام على وفاة عبد الله النديم صدار في كتاب عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر عام 1995.
[44] ولد أحمد عرابي في 21 مارس 1841م في قرية (رزنة) من محافظة الشرقية بالقرب من الزقازيق، وكان أبوه شيخ البلد، وقد تعلم في قريته خمس = سنوات، ثم دخل الأزهر فمكث به أربع سنوات، ثم انتظم في الجيش المصري في سنة 1854م. وترقى في الجيش إلى أن صار وزيراً وقائداً للثورة المنسوبة إليه وبعد الهززيمة حكم عليه ونفي ومات 1911م. أقول: لم تكن حركة هؤلاء الضباط التي قادها عرابي ضد الإنجليز من منطلق إسلامي ولاعلاقة للدين بها وهي حركة تحتاج إلى تقويمها تاريخياً بعيداً عن أي مؤثرات ومن ثم الحكم عليها من المنظور الإسلامي عقب تلك الدراسة المتأنية.
[45] الثورة العرابية/صلاح عيسى/مقدمة الكتاب.
[46] ولد مصطفى كامل باشا صاحب جريدة اللواء بمدينة القاهرة في 14 أغسطس 1874م وبعد أن نال شهادة الدراسة الثانوية دخل مدرسة الحقوق الخديوية والحقوق الفرنسية في وقت واحد، ثم ذهب إلى فرنسا، ومنها أخذ شهادة الحقوق، وبدأ حياته السياسية في سنة 1895م وكانت باكورة أعماله كتابه الذي رفعه إلى مجلس النواب الفرنسي في 4 يونية 1895م ثم كان زعيم النهضة الوطنية في مصر وبالغ في التغني بالوطنية إلى حد غير مقبول شرعاً ويحمد له وقوفه ضد دعاة التغريب والمنادين بالإنفصال عن الخلافة العثمانية ويحمد له تجنيد قلمه للدفاع عن قضية الحجاب والرد على قاسم أمين ومن وراءه و بعد أن ألف الحزب الوطني توفي وهو في سن الشباب في 1908م.
[47] دروس في الوطنية التي أخذها مصطفى كامل من النديم/د.عبد المنعم الجميعي/ص156 وما بعدها/المرجع السابق.

عن بداية التيار العلماني في مصر

عن بداية التيار العلماني في مصر…

 

كتب :خالد صقر في أفكار


بدأ انتشار الفكر العلماني الغربي في الوطن العربي مع دخول الإحتلال الفرنسي إلي مصر في عام 1798 ، حيث كان أول احتكاك حقيقي وفعال بين الثقافة الإسلامية العربية وبين الحضارة الأوروبية الناشئة علي مبادئ العلمانية المادية والمسيحية البروتستانتية ، وبخروج هذه الحملة العسكرية سريعاً ، لم ينته ذلك الإحتكاك كما تصور الكثيرون ، بل كانت البداية لبناء جيل كامل من (النخبة) المثقفة في مصر والوطن العربي التي تدين بالولاء لأصول هذه الحضارة الأوروبية الناهضة ، وقد كان العثمانيون في ذلك الوقت من الضعف بحيث أنهم لم يتسطيعوا مواجهة ذلك المد الحضاري والثقافي لأوروبا في البلاد العربية.
رفاعة الطهطاوي...مؤسس العلمانية المصرية
كان لمحمد علي والي مصر أبلغ الأثر في نشر الفكر العلماني عن طريق إيفاد البعثات العلمية من الأزهر الشريف إلي الجامعات الفرنسية ، حيث بهرت أضواء باريس هؤلاء المشايخ المعممين الذين جاؤوا من الريف المصري بغير زاد حقيقي من العلوم الطبيعية ولا الشرعية التي تمكنهم بنجاح من خوض مواجهات فكرية مع الحضارة الفرنسية ، فكان أن (تعلمن) هؤلاء المشايخ وعادوا إلي مصر مفتونين منبهرين ، ليس بمفردات التقدم الماديّ الأوربيّ فقط ، وإنما بالأسس التي قامت عليها حضارة الأوربيين من (فصل للدين عن الحياة العامة وخاصة النظم السياسية) و(إطلاق الحريات الشخصية) و (المساواة بين الرجل والمرأة) ، إلي آخر المبادئ المعروفة التي احتفي بها رفاعة الطهطاوي (1801-1873 م) وغيره من تلامذة الغرب في تلك الحقبة ، ، وغيره من تلامذة الغرب في تلك ‏الحقبة ، ولعل أفضل من كتب عن دور رفاعة الطهطاوي في مهاجمة الثقافة أفسلامية في مصر هو فضيلة ‏الدكتور هاني السباعي في كتابه القيم دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية” المنشور بفعاليات مركز المقريزي للدراسات التاريخية.‏
إستمر ذلك الجيل حيناً من الزمان ، ومع دخول المحافل الماسونية إلي ديار الإسلام خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، ظهر جيل من العلمانيين أقوي من سابقه ، رجاله مسلحين بالفلسفة والمنطق والخطابة ، وظهر منهم الإقتصاديين والساسة وكبار رجال الدولة ، فحدث أن أصبح (نخبة) الدولة في مصر في تلك الحقبة مكونة تكويناً خالصاً من (العلمانيين) المتنكرين لمفردات الحضارة الإسلامية بشكل كامل ، والساعين لنسخ الحية الأوروبية في مصر نسخاً دقيقاً يحول مصر من بلد (إسلامية) حتي ذلك الحين إلي بلد (علمانيّ) كفرنسا وإنكلترا وغيرهما من الدول الأوروبية الناهضة مادياً في ذلك الحين.
ولكن التحدي الرئيسي الذي واجه الجيل الثاني من العلمانيين العرب ، كقاسم أمين (1863-1908) والأفغاني (1838-1897) وأحمد لطفي السيد (1872-1963) وغيرهم ، أن التراث الإسلامي كان متأصلاً إلي حد كبير بين طلاب الأزهر ومشايخه ممن لم يسافر إلي أوروبا – وهم الأغلبية في ذلك الوقت – وكان تأصل ذلك التراث مانعاً حقيقياً يحول بين انتشار الفكر العلماني ومفرداته بين طبقات الشعب المصري التي كانت تبجل الأزهريين وتنقاد لهم في ذلك الوقت ، ويرجع تأصل التراث الإسلامي بين الأزهريين وطبقات الشعب المصري عامة إلي سببين ، الأول يتلخص في مكانة المذاهب الفقهية الأربعة عند الأزهريين والشعب بأكمله ، وجعلت تلك المذاهب الأربعة ، بتفصيلها الواضح وتدوينها لكل المسائل المتعلقة بالحياة الخاصة والعامة ، أبناء الشعب يستنكرون العديد من مفردات الثقافة العلمانية الجديدة ، والسبب الثاني هو التقاليد المصرية التي كانت في ذلك الوقت خليط من التقاليد العربية الأصيلة والتقاليد التركية المحافظة ، فكان من الصعوبة البالغة علي الجيل الثاني من العلمانيين أن يتقدموا في نشر فكرهم وثقافتهم مع إصطدامهم شبه الدائم مع المذاهب الأربعة ومع تقاليد المجتمع ، فكان أن واجهوا تلك التحديات بأمرين: الأول هو ما أسموه (فتح باب الإجتهاد) و(التجديد الديني) ولم يقصدوا بهذا فتح باب الإجتهاد لاستنباط أحكام فقهية تناسب التطور العلمي والمادي للأمة الإسلامية ، كلا ، بل قصدوا (إعادة كتابة أحكام الشريعة الإسلامية بما يناسب تبعية الدول الإسلامية للغرب ثقافياً وحضارياً) ، فظهرت الدعوات (لنبذ المذهبية) تحت راية (نبذ التعصب) ، وشتان بالطبع بين المذهبية والتعصب ، والأمر الآخر الذي واجهوا به التقاليد الإجتماعية والثقافية في مصر هو ما أسموه (الفن المسرحي) فكان أن أنشأت الفرق المسرحية علي يد فريق من غير المصريين ، بل من غير المسلمين ، علي رأسهم يعقوب صنوع (1839-1912) وجورج أبيض (1880-1959) ، وأخذت هذه الفرق المسرحية باستخدامها لعوامل الإبهار الفني الجديدة تسيطر علي وعي الطبقة المتوسطة من المصريين آنذاك وتهاجم كل التقاليد المحافظة للمجتمع المصري ، كالفصل بين الرجال والنساء ، وارتداء البرقع (النقاب) للنساء والترابط الأسري والعائلي ، إلي آخر قائمة الفضائل ومفردات الثقافة الإسلامية المصرية حينئذِ.
أما علي الجانب السياسي ، فقد عملت نخبة من رجال الدولة العلمانيين آنذاك علي إذكاء فكرة (القومية العربية) وفكرة (القومية المصرية) بين طلاب الجامعات والنقابات العمالية ، وكانت دعوتهم تقوم أساساً علي فكرة واحدة : هي قطع الصلة بين مصر والعالم الإسلامي ، واستبدال القومية العربية/المصرية بالقومية الإسلامية القائمة علي مبدأ (الخلافة) ومبدأ (وحدة المسلمين). ومن أشهر هؤلاء سعد زغلول (1858 – 1927) ومكرم عبيد (1889–1961).
فكانت هذه المحاور الثلاثة هي خط المواجهة بين العلمانية والثقافة الإسلامية في مصر: هدم المذهبية الفقهية بدعوي (التجديد) و(الإجتهاد) – إستخدام عناصر الفن لهدم التقاليد المحافظة – الدعوة للقومية العربية/المصرية في مواجهة الدعوة الإسلامية لإحياء الخلافة توحيد المسلمين.


العلمانيون وضلالاتهم

العلمانيون وضلالاتهم

للكاتب : محمد يوسف عدس
 
أذكر أننى زرت تونس فى ثمانينات القرن الماضى بدعوة من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم لحضور مؤتمر انعقد فى مقر الجامعة.. وقد احتجت لشراء بعض أشياء فسألت أحد الزملاء التونسيين عن أقرب "محلّ" يمكن أن أذهب إليه فقال: نذهب إلى "المغازى".. ولم أفهم .. فقال: أنتم تسمونها "سوبرماركت" وهى كلمة أمريكية ونحن أخذناها من كلمة Magazan الفرنسية.. قلت له مُمَازِحًا: يعنى كلانا مصاب بالغزو الثقافي.. ولكنى أعلم أن كلمة مجازان عربية فى أصلها.. ونطقها الصحيح هو "مخازن".. وقد أخذها الإنجليزفى استخدام آخر فأطلقوها على المجلّة”Magazine” وقصدوا بها مخزن المعرفة و المعلومات.. ولكننا نحن العرب تحت تأثير الانبهار بلغات الغرب ومنتجاته الفكرية نقلّدهم ولا نتوقف لفحص أصول هذه الأشياء فكثير منها لها أصل عربي إسلاميّ .. ولو قُدِّمت إلينا بصيغتها الأصلية لاحتقرها البعض منا واعترض عليها واعتبرها رجعية و"ماضويـّة".. ولكنها تصبح جميلة وذات قيمة إذا نطقتْها (محرّفةً) ألسنةٌ أجنبية..
هل أقول : إن هذا بالضبط هو موقف المثقفين العلمانيين من الشريعة الإسلامية..؟! تعجّب كما شئت .. ولكن تعالَ معى نفحص هذه الحقائق التى تكشّفت لى...! وقبل كل شيء لا بد لى أن أعترف بأنه رغم ما قد يجمع بين الإسلاميين وفريق من العلمانيين المعتدلين فى الشأن الوطني إلا أننى أرى أن الصدام حتمي بينهما.. لا لشيء سوى الكبرياء والعجرفة العلمانية.. ولرصيدها المتراكم من الجهل وسوء الظن بالفكر الإسلامي.. الذى يجعلهم مستميتين فى استبعاد الإسلام والنظام القانوني للشريعة الإسلامية بصفة خاصة من السياسة والحكم..
فى هذا المقال أركّز على ضلالات الفكر العلماني: فلو سألت العلمانيين أى نظام قانوني تريدون لمصر الحديثة..؟؟ لما وجدت عندهم سوى إجابة واحدة هى: "لا.. للشريعة الإسلامية".. علما بأن القانون المصري فى أصوله مشتق من القانون الفرنسي (قانون نابليون).. وأن نابليون أقام قانونه على مبادئ من الفقه المالكي الذى تُرجم له أثناء الحملة الفرنسية على مصر.. ولكنه حرّف فيه بما يتناسب مع العقلية الفرنسية.. ونحن بدورنا سعدنا بالقانون المحرّف من شريعتنا.. لأنه أصبح ماركة فرنسية.. تماما مثل "المغازى" وإن شئت فهى "المخازي"...!
أقول: لقد ظهر فى التاريخ االعالمي أربعة نظم قانونية كبرى كان لها أكبر الأثر على قوانين العالم.. وهى: القانون الروماني ، والقانون الإسلامي "الشريعة" والقانون الإنجليزي والقانون الفرنسي المعروف باسم قانون نابليون .. ولكن يمكن الآن استبعاد القانون الروماني فلم يعد له إلا قيمة تاريخية.. حيث استوعبته وخلفته منظومتا القانون الفرنسي و القانون الإنجليزي.. ومعنى هذا أن العلمانيين ماداموا يرفضون العودة إلى الشريعة الإسلامية فليس أمامهم سوى القانون الفرنسي والقانون الإنجليزي..
وهذا الأخير معمول به فى إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، واستراليا ونيوزيلندة وباكستان والهند، وعدد آخر من المستعمرات البريطانية السابقة .. أما القانون الفرنسي فهو مستخدم فى فرنسا وفى عدد كبير من الدول التى كانت فى السابق مستعمرات فرنسية..
فإذا اكتشف العلمانيون بالصدفة [مثلا] أن المنظومتين القانونيتين الفرنسية والإنجليزية قد استندتا فى أصولهما أو تأثرتا تأثّرًا عميقا لا يمكن إنكاره بمبادئ الشريعة الإسلامية، فأكبر ظنى أنهم سيكونون بين أمرين: إما أن يكابروا كعادتهم.. وإما أن يفضلوا العودة إلى قانون الدكتاتور مبارك .. فقانون الهوى والمزاج الدكتاتوري هو أفضل لهم من الشريعة الإسلامية..
أول ملاحظة على منظومة القانون الإنجليزى أنها قائمة على أساس ما يسمى بالقانون العرفي Common Law وهذا يعنى أن الأحكام القضائية تستند .. أو تأخذ فى اعتبارها رصيد الأحكام القضائية السابقة التى صدرت فى قضايا وحالات مشابهة .. لا حظ أن هذا الرصيد من الأحكام السابقة قد أصبح مصدرا [يُقاس عليه] فى الأحكام اللاحقة وهى نفس فكرة القياس التى قعّد لها فقهاء المسلمين فى علم أسموه "علم أصول الفقه"..
هذا مجرد تبسيط لنظام قانوني شديد التعقيد يلتزم فيه القضاة فى أحكامهم برصيد هائل من أحكام قُضاة كبار سبقوهم فى المجال وصنعوا بأحكامهم مصدرا قانونيا يطمئن القضاة والمتقاضون جميعا أنهم باتباعه والالتزام به يحصلون على أكبر قدر من العدالة..
الملاحظة الثانية: أن القانون الإنجليزي يحتوى على مفاهيم أساسية ثلاثة هى: الـ( Jury) و الـ( Contract) و الـ( Trust)، ولو تأملت فيها جيدا بعين الخبير وعلمت ماذا يُقصد بها فى القانون اللإنجليزي فسوف يتبين لك أنها ترجع إلى أصول إسلامية لا شك فيها فقبل ظهورها خلال القرن الثانى عشر الميلادي لن تجد لها مصدرا آخر فى أوربا كلها سوى مصدرا واحدا فى جزيرة سيسلى الإيطالية حيث سادت الثقافة والفكر الإسلامي مترجما من العربية إلى اللغة اللاتينية..
يكره الإنجليز أن يعترفوا بهذه الحقيقة.. ولكن بروفسور "جون مكدسى" عميد كلية الحقوق بجامعة ليولا السابق يتحدى -فى دراسة موثّقة- الفكرة التقليدية أن القانون الإنجليزي قد تم تطويره من قوانين أوربية خالصة؛ بل يؤكد لنا فى دراسته لنشاة القانون الإنجليزي (خلال القرن الثانى عشر الميلادى) أن هناك عناصر لا يمكن إنكار نسبتها إلى الفقه الإسلامي ..
يقول جون مكدسى: "خلال هذه الفترة من الزمن كان "توماس براون" يعمل وزيرا لمالية الملك هنرى الثاني ملك إنجلترا .. وكان "براون" هذا يعمل فيما سبق مديرا للمالية فى بلاط الملك روجر الثانى ملك جزيرة سيسيلى، وكان مسئولا عن كثير من الإجراءات المالية والقانونية المختلفة لهذه الدولة الجزيرة.. وقد اعتاد براون أن يستخدم قوانين الشريعة الإسلامية التى كانت سائدة خلال هذه الفترة هناك .. ونظرا لهذه الخبرة الحميمة و العميقة بأحكام الفقه الإسلامي توفرت لديه حصيلة من التقاليد القانونية الإسلامية استطاع أن يستخدمها فى عمله عندما عاد إلى وطنه الأصلي فى إنجلترا.."
ويتابع بروفسور مكدسى فيقول: " على إثر عودة براون مع عدد آخر من النبلاء الإنجليز المغتربين من سيسلى إلى إنجلترا حدثت ثورة خطيرة فى النظام القانوني الإنجليزي.. فلم يكتفِ هنرى الثانى بإصلاح مبادئ القوانين النورماندية القديمة التى ورثها من الملوك السابقين عليه ، ولكنه جاء بأفكار قانونية راديكالية جديدة ليس لها مثيل فى أى قانون أوربي آخر، وإنما تحمل علامات لا يمكن إنكارها من الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية.. من بين هذه الأفكار نظام "الجوري "وهو المقابل لمنظومة اللفيف( المؤلفة من إثني عشر شاهدا) مشهود لهم بالعدالة والخبرة، ينظر القاضى فى شهادتهم الموثّقة قبل إصدار حكمه النهائي فى القضية..
ويقول بروفسور مكدسي: إن فكرة "العقد" التى بمقتضاه تنتقل الملكية آليًّا بمجرد النطق به لم تكن معروفة فى أي قانون إلا فى الشريعة الإسلامية، وكذلك فكرة "الاستحقاق" المتعلقة بالملكية نزعا إو إثباتا، ودعوى الاستحقاق، وحكمه وأسبابه وشروطه، وحقيقة العقار المنقول، والاستحقاق فى البيع والشفعة والإرث.. عالم واسع من الفكر القانوني لم يكن فى النظم القانونية الأوربية كلها مثيل له حتى تبنّاه الملك هنر الثاني اقتباسا من الفقه الإسلامي..
حتى أسلوب التعليم القانوني اقتبسه هنرى الثاني من المدارس الإسلامية الملحقة بالمساجد.. التى كان يسكن فيها ويتعلم طلاب الشريعة المذاهب الفقهية المختلفة.. على غرار هذه المدارس أنشأ الملك الإنجليزي مدارس لطلاب القانون ملحقة بالمحاكم يسكن فيها الطلاب ويتعلمون القانون على أساتذتهم من القُضاة..
وقد استقرت هذه الممارسات القانونية التى استعارها الملك من الشريعة الإسلامية فى النظام القانوني الإنجليزي والأمريكي وأصبحت جزءً من تراثهم المقدس .. دون أن يعرف أحد أنها تنتمي إلى أصول إسلامية..
أنا لا أزعم أن الإنجليز والأمريكان لم يسْهموا فى تطوير الفكر القانوني .. ولكن هدفى البسيط والواضح هو أن أنبه إلى أن الصخب الهستيري الذى يثيره المتطرفون الأمريكيون وعملاؤهم العلمانيون فى مصر ضد الشريعة الإسلامية إنما يشيرون فى نفس الوقت بأصابع الاتهام إلى النظام القانوني الأمريكي/الإنجليزي نفسه لأنه مؤسس فى أصوله على مفاهيم مقتبسة من الشريعة الإسلامية.. يعلمون هذا أو يجهلونه ... هذه مسألة أخرى...!
ولكن قبل أن يتمطّع العلمانيون ويتذاكَوْن على الإسلاميين بقولهم: مادام النظام القانوني الإنجليزي قد استوعب القانون الإسلامي وطوّره فلماذا لا نأخذ به..؟! أقول لهم عليكم أن تفكّروا أولا لتفهموا أن القانون الإسلامي مقارنة بالقانون الإنجليزي ما يزال متقدّما فى أمور كثيرة.. وأنا هنا مضطر لاستخدام مصطلحات فقهية غير مألوفة للقارئ العادي .. فأقول: إن التمييز بين "الحكم التكليفيّ و "الحكم الوضعي" فى الشريعة الإسلامية لم يكن معروفا ولا معمولا به فى النظام الإنجليزي حتى اكتشفه القانوني الشهير H.L.A. Hart (من جامعة أكسفورد) سنة ١٩٦٠ فى كتابه:" The Concept of Law، حيث أطلق عليه إسم: "القواعد الأولية والثانوية".. ولم يعلم أن الإمام الشافعى قد سبقه بالكشف عن هذه الحقيقة بألف سنة من الزمن .. ومعنى ذلك أنه كان من واجب الإنصاف أن يُنسب الاكتشاف العلمي إلى صاحبه الأصليّ الإمام الشافعي..
وأضرب لك مثالا بسيطا عن أهمية التمييز بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي فى قضية واحدة: باع شخص ما لشخص آخر مخدرات وقبض الثمن فانتقلت إليه الملكية قانونيا بفعل الحكم الوضعي.. وتستطيع أن تتبيّن فى الحكم الوضعي ثلاثة محاور أساسية هى: السببية والشرط والمانع وهى تعمل معا متفاعلة فى أى حكم.. وفى هذه الحالة لا يوجد [مانع] من إنفاذ العقد بنقل ملكية المخدرات لمن دفع ثمنها..
ولكن فى ضوء الحكم التكليفي نحن أمام مجموعة أخرى من القواعد الشرعية تتعلق بالحلال والحرام فى الأعمال والأحكام .. وتطبقا على حالة بيع المخدرات فى ضوء الحكم التكليفي يكون البيع باطلا والعقد باطلا.. لا يترتب عليه حقوق لأحد بل يستوجب توقيع العقوبة على جميع الأطراف..
لا بد أن أضيف هنا حقيقة أخرى عن عبقرية الشافعي القانونية .. فخلال مناقشة مع أستاذ لست فى حل من ذكر اسمه الآن.. ولكنه حجة فى تحليل نوعية الأحكام، وشريك لبروفسور "رونالد سْتامبر" فى تطوير نظرية حديثة فى تحليل النظم يطلق عليها إسم: Semantic Analysis .. قال: إن الشافعي لا يزال متقدما على بروفسور هارت فى أمور أخرى فقد قام الشافعي بتصنيف "الحكم الوضعي" تصنيفا دقيقا و قدّم النظرية التى أقام عليها هذا التصنيف.. مما لا يزال مجهولا وغير مفهوم من قِبل فقهاء القانون الإنجليز حتى هذه اللحظة.. ولو تم استيعابها لكان لذلك أثر كبير فى فهم الاستنباط وإقامة الأحكام على أسس أصحّ، وأشد رسوخا.. ولكان لها تأثيرعملى عميق فى مجالات أخرى مثل تحليل النظم وإدارة المشروعات العملاقة فى نظم المعلومات..
لم تقتصر عظمة الفقه الإسلامي على أنه أكثر تقدّما من النظم القانونية الأخرى، ولكنه يتفوق عليها برصيد هائل من التجربة العملية فى التطبيق قرونا من الزمن.. وفى العديد من البيئات الثقافية المختلفة.. أما القانون الإنجليزي والفرنسي فقد انحرفا إلى مسارب مظلمة شتى.. مما أدى إلى تفكيك وحدة الأسرة فى المجتمعات الغربية .. وأخطر ما انحرف إليه القانون الإنجليزي أنه لم يستفد من تحريم الربا فى الشريعة الإسلامية.. لذلك أقول بكل ثقة أن العالم الآن يعيش لحظة من أخطر لحظاته التاريخية، فهذا الانحراف وحده جعل العالم الأنجلو ساكسوني وكل توابعه من دول العالم على حافة انهيار مالي واقتصادي مروّع ..
إن الجدال العلماني العقيم ضد النظام الإسلامي هو نوع من الجنون يرتكبه العلمانيون المتطرفون الذين قطعوا جذور الاتصال بثقافتهم الإسلامية الأصيلة وأهالوا التراب بجهلهم وحماقتهم على أعظم كنوز هذه الأمة .. حتى أصبح الواحد منهم عاجزا عن فهم صفحة واحدة فى أصول الفقه .. عاجزا عن الاتصال باجتهادات أئمة الفقه وعلمائه القدامى أو المحدثين.. عاجزا حتى عن قراءة آية واحدة من القرآن قراءة صحيحة.. ثم يخرج علينا بعد ذلك متبجّحا بفتاوى ونصائح فيما ينبغى وما لا ينبغى من أمور السياسة والدين والحياة..
فهل يمكن أن يُؤتمن أمثال هؤلاء الحمقى.. الجُهّال بثقافة الأمة.. على مستقبل هذه الأمة ومصيرها...؟!

................
المقال للاستاذ محمد يوسف عدس نقلا عن صحيفة ( المصريون) الالكترونيه

بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة