الغادر كاذب حانث خادع، قد جعل كلامه وعهده حبالة لمآربه، حبالة واهية ذليلة كحبالة العنكبوت، يصيد بها الذباب، ودب من وراء الأمن إلى خصمه كما تدب الثعالب والذئاب، أين هذا من الإنسانية في أخلاقها العالية، والرجولة في سجاياها الحرة؟ وأين هذا من أخلاق القرآن كتاب الإنسانية الكاملة؟
القرآن الكريم يأمر بالوفاء بالعهد، ويؤكد الأمر به، ويعظم شأنه، ويكبر الموفين، وينهى عن الغدر، ويشتد في النهي عنه، ويقبحه، ويلعن الغادرين.
من يتدبر آيات القرآن يجد العهد فيما ضربين: العهد العام، والعهد الخاص، فأما العهد العام فهو أداء الواجب الذي يقتضيه عمل الإنسان، فمن تولى عملاً فقد عاهد أن يفي به على الوجه الأكمل، فإذا لم يفعل فقد خالف العهد، ومن آمن بدين فقد عاهد أن يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، فإن لم يفعل فقد نقض العهد، ومن دخل في جماعة فقد عاهدها على أن ينفعها ولا يضرها، فإن ضرها أو قصر في نفعها فقد غدر، ومن تصدى للدفاع عن أرض أو جماعة أو عقيدة فقد عاهد ألا يألو جهداً في الدفاع، فإن نكص فقد خان، ومن أوتي علماً حقاً فكأنه عاهد أن يبينه للناس ليهتدوا به، فإن كتمه فقد خان بعهده، وهكذا.
نقرأ في الكتاب الكريم: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187]، (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِين) [آل عمران: 81]، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) [الأحزاب: 7]، (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) [الأحزاب: 8].
فهذه مواثيق عامة تضمنتها رسالة الأنبياء وعلم الذين أوتوا الكتاب، كأن النبوة عهد على الوفاء بما تقتضيه الرسالة من الدعوة والإصلاح والنصب، واحتمال الأذى الصبر، وكأنها عهد على أن ينصر النبيون الحق وينصروا من جاء به.
وكذلك العلم الذي حمل أهل الكتاب أمانته، هو عهد عليهم أن يعلِّموه الناس، ويظهروه غير مبالين ما ينفعهم وما يضرهم في إظهاره، وكذلك كل من عرف حقاً وهُدى إلى معرفة، وكل من ولي ولاية للناس، وكل من وكل إليه عمل، كل هؤلاء كأنهم عاهدوا الله والناس على أن يُعرِّفوا الناس ما عرفوا، وأن يؤدوا أعمالهم على الوجه الأحسن.
ومن ذلك قول القرآن الكريم في وقعة الأحزاب: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23]، (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ)[الأحزاب: 24].
فهذا العهد هو ما التزمه المسلمون حين قبلوا الإسلام من القيام بفروضه، ونصرته والدفاع عنه، والاستماتة في تأييده.
والقسم الثاني من العهد الخاص: معاهدة رجلين أو فريقين على أن يسالم بعضهم بعضاً، وخشي بعضهم بعضاً.
وقد حث القرآن على الوفاء بالعهد كله وبالغ في الأمر به، يقول في سورة الأنعام: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام: 152]، وفي سورة الإسراء (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً) [الإسراء: 34]، وفي سورة النحل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
وفي سورة النحل: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [النحل: 92]، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 93]، (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل: 94]، (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [النحل: 95].
يأمر الله - سبحانه - في هذه الآيات الجامعة بالعدل والإحسان، وصلة الأرحام، وينهى عن الفحشاء وكل منكر، وعن البغي على الناس، وهذا أمر بكل خير، ونهي عن كل شر.
ثم يخص الوفاء بالعهد، فيأمر به ويسميه عهد الله، وكل عهد بين اثنين يسمى عهد الله؛ لأن الله رقيب على أعمال الناس، وقد أمرهم بأن يصدقوا ويحسنوا ويفوا بالعهود، ولأن العهد قسم بالله، وشهادة لله على الوفاء، وأكد الأمر بقوله: (وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً).
فالإنسان حين يعاهد يشهد الله على عهده، ويجعل الله كفيلاً عليه بالوفاء، فكيف تنقض صفقة تكفَّل بها الله؟ [النحل: 91]، (
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق