ويدور المحور الرئيسي للسورة حول غزوة بني النضير التي وقعت في ربيع الأول سنة4 هـ( الموافق أغسطس سنة635 م), وطردهم من الجزيرة العربية, وفضح مسلك المنافقين, والثناء على الأخوة الإسلامية الحقيقية بين كلٍ من المهاجرين والأنصار, وبيان أحكام الفيء, ووصية المؤمنين بالتزام التقوى والخشوع لله, والتفكر في تدبيره الحكيم, والاستعداد للآخرة, وبالثناء على الله ـ تعالى ـ وتسبيحه, وتنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله, وبيان عدد من أسمائه الحسنى, وصفاته العليا.
وتبدأ سورة الحشر بتأكيد حقيقة أن كل ما في السماوات والأرض يسبح لله ـ تعالى ـ العزيز الحكيم، ويمجده، وينزهه عن كل وصف لا يليق بجلاله, تسبيحاً فطرياً تسخيرياً لغير المُكلَّفين من الخلق, وتسبيحاً إرادياً اختيارياً للمُكلَّفين منهم, فقال ـ تعالى ـ:" سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " ( الحشر:1).
ثم أتبعت ذلك بذكر إخراج يهود بني النضير من جزيرة العرب, وقد وصفتهم بوصف الذين كفروا, وكانوا يحقدون على الإسلام والمسلمين, ويجاهرون بحقدهم عليهم, وكراهيتهم لهم, ولكنهم لم يكونوا أهل قتال لجبنهم وحرصهم على الحياة الدنيا, فلجأوا إلى الدس والتآمر لإيقاع الأذى بالمسلمين دون أن يقاتلوهم، وكانوا قد عاهدوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قدم المدينة أن يقفوا على الحياد بينه وبين كفار قريش بدعوى أنهم لا قِبَل لهم بهم, فلا يكونون معه ولا عليه, فلما انتصر المسلمون في يوم بدر قال اليهود: إنه النبي المنعوت في التوراة،لا تُرَدُّ له راية, ولكنهم نكصوا على أعقابهم بعد هزيمة المسلمين في معركة أحد, فنقضوا عهدهم مع رسول الله ـصلى الله عليه وسلم ـ وأظهروا له العداوة والبغضاء, وتحالفوا مع كفار قريش ضده, وتآمروا على قتله وقتل أصحابه، ولكن الله ـ تعالى ـ حفظه وحفظهم.
وكان كعب بن الأشرف ـ أحد زعماء يهود بني النضير ـ قد فَجُرَ في عدائه لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأُفْحَشَ في هجائه والتآمر عليه وتأليب الأعداء ضده فخرج في أربعين من أعوانه قاصدين كفار قريش للتحالف معهم على مقاتلة المسلمين, وعندما علم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنقضهم لعهدهم معه, أهدر دم كعب بن الأشرف, وأمر أخاً له من الرضاعة بقتل كعب فقتله.
ثم كان أن ذهب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع عشرة من كبار أصحابه ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ إلى محلة بني النضير, يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين بحكم ما كان بينه وبينهم من عهود في أول مقدمه على المدينة المنورة, فاستقبلوه بالترحاب واعدين بأداء ما عليهم من حقوق, بينما كانوا يدبرون في السر أمراً لاغتياله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واغتيال من معه, فأجلسوهم إلى جدار من بيوتهم, وتهامسوا فيما بينهم: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه, فمن منكم يأخذ هذه الرحى ثم يعلو هذا البيت فيلقي عليهم تلك الرحى، فيريحنا من محمد وأصحابه, فقال أشقاهم ـ عمرو بن جحاش ـ: أنا أقوم بذلك, فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليُخْبَرَنَّ بما هممتم به, وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه, ولكنهم صمموا على تنفيذ مؤامرتهم الخسيسة.
ونزل جبريل ـ عليه السلام ـ ليُعْلِمَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما همُّوا به, فنهض مسرعاً متوجهاً إلى المدينة, ولحق به أصحابه، فأخبرهم بما همَّ به اليهود من غدر.
وما لبث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن حاصر محلة بني النضير, فتحصنوا داخل جدرهم وحصونهم, وأمر الرسول بخروجهم من المدينة، وأمهلهم عشرة أيام، فمن وُجِدَ منهم بعد ذلك في المدينة ضربت عنقه, فوافق اليهود على الخروج, ولكن نفراً من المنافقين في المدينة ـ وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول ـ قاموا بإرسال رسالة إلى اليهود أن اثبتوا وتمنعوا ولا تخرجوا من دياركم، فإن معنا ألفين يدخلون معكم حصونكم, فيموتون دونكم, وسوف ينصركم يهود بني قريظة وحلفاؤكم من غطفان, فتشجع اليهود، وبعث زعيمهم حيي بن أخطب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرفض الخروج ويصر على المقاومة, ففرض المسلمون عليهم الحصار, وبدأ اليهود المتحصنون بجدرهم في رمي جيش المسلمين بالنبل والحجارة، وكانت كثافة نخيلهم في البساتين المحيطة بحصونهم عوناً لهم على ذلك, فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقطعها وتحريقها. وتخلى يهود بني قريظة عن نجدتهم, وتخلى عنهم كذلك رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المنافقين وحلفائهم من غطفان, فاضطروا إلى التسليم بالخروج بعد حصار دام لعدة ليال, فأمرهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالخروج بأنفسهم وذراريهم وما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح, فقبلوا بذلك، وأخذوا في هدم الجدران التي اتخذوها حصوناً وقت الحصار, وفي تخريب بيوتهم بأيديهم ليحملوا الأبواب والشبابيك وجذوع السقف والأوتاد, حتى لا تقع في أيدي المسلمين, وخرجوا بما حملوا إلى خيبر, وذهب أغلبهم إلى بلاد الشام ـ الحيرة, وأريحاء, وأذرعات, وغيرها ـ إلا رجلين منهم أسلما، فأحرزا أموالهما.
وفي هذا نزل قوله ـ تعالى ـ:" هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ . وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ " ( الحشر:2 ـ4).
وفي تخصيص غنائم لحرب قال ـ تعالى ـ:" لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " ( الحشر:8).
وفي الإشادة بموقف الأنصار يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ:" وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ " ( الحشر:10,9).
وفي ذم النفاق والمنافقين يقول ـ سبحانه وتعالى ـ:" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوَهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ " ( الحشر:11، 12).وفي تأكيد جبن كلٍ من اليهود والمتهودين وحرصهم على الحياة الدنيا, وعلى خلافهم فيما بينهم يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ:" لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ " ( الحشر:14).
ثم توجه سورة الحشر الخطاب إلى الذين آمنوا وذلك بقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ " ( الحشر:19,18).
وتؤكد الآيات أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستوون, فأصحاب الجنة هم الفائزون.
وفي تعظيم القرآن الكريم يقول ربنا ـ تبارك اسمه ـ:" لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ " ( الحشر:21).
وتختتم سورة الحشر بتسبيح الله ـ تعالى ـ وتوحيده وتمجيده, وذكر جانب من أسمائه الحسنى, وصفاته العليا التي لا تليق إلا بجلاله, مؤكدة مرة أخرى ما ذكرته في مطلع السورة المباركة من أن الله ـ تعالى ـ " ... يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " ( الحشر:24).
من ركائز العقيدة في سورة الحشر:
(1) أن جميع من في السماوات ومن في الأرض يسبح الله العزيز الحكيم تسبيحاً فطرياً تسخيرياً لغير المُكلَّفين, وتسبيحاً إرادياً اختيارياً للمُكلَّفين, فإذا لم تنطق به ألسنتهم فإن كل ذرة في خلايا أجسادهم تنطق بذلك رغم أنوفهم.
(2) أنه ما من حدث يحدث على الأرض أو في السماوات إلا بعلم الله.
(3) أنه من يشاقِّ الله ورسوله فإن الله شديد العقاب, وهو ـ سبحانه ـ رءوف رحيم.
(4) أن الله ـ تعالى ـ يسلط جنده على من يشاء من خلقه، وهو على كل شيء قدير.
(5) أن على كل مسلم أن يؤمن بما جاء به الرسول الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن ينتهي عما نهى عنه, ومن أوامره الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله, وباليوم الآخر, وبالجنة والنار, وبأن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستوون, وأنه حذَّر من الشيطان الذي هو للإنسان عدو مبين.
(6) أن من صدق الإيمان نصرة الله ورسوله ـ أي نصرة الإسلام الذي أنزله الله على خاتم أنبيائه ورسله ـ ونصرة المسلمين في كل مكان مهما يكن الثمن.
(7)أنه " وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ " ( الحشر:9).
(8) الإيمان بضرورة تعظيم القرآن الكريم.
(9) الإيمان بوحدانية الله وبتنزيهه عن الشرك وعن كل وصف آخر لا يليق بجلاله, وإثبات ما أثبت لذاته العلية من الأسماء الحسنى والصفات العُلَا.
من أقوال المفسرين:
في تفسير قوله ـ تعالى ـ:
" لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ " ( الحشر:14).
ذكر ابن كثير ـ يرحمه الله ـ ما مختصره:... يعني أنهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام, بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين, فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة, ثم قال ـ تعالى ـ: " بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ " أي عداوتهم فيما بينهم شديدة، كما قال ـ تعالى ـ: " وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ " (الأنعام:65), ولهذا قال ـ تعالى ـ: " تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى " أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين, وهم مختلفون غاية الاختلاف. " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ". (انتهى قول المفسر)
وجاء في تفسير الجلالين ـ رحم الله كاتبيه ـ ما نصه: " لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ " أي اليهود. " جَمِيعاً " مجتمعين. " إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ". " بَأْسُهُم " أي حربهم. " بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً " مجتمعين. " وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى " متفرقة خلاف الحسبان. " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ " فأهل الباطل مختلفة آراؤهم وأهواؤهم, لا يجتمعون إلا في عداوة أهل الحق. (انتهى قول المفسر)
وذكر صاحب الظلال ـرحمه الله رحمة واسعة ـ ما نصه:... ولا تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في تشخيص حالة المنافقين والكافرين حينما التقى المؤمنون بهم في أي زمان وفي أي مكان بشكل واضح للعيان، ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة بين المؤمنين المجاهدين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة، فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين المحتلة, فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولَّوا الأدبار كالجرذان, حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداءاً, وسبحان العليم الخبير.
وتبقى الملامح النفسية الأخرى " بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ " على خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم, وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان, والجنس والوطن والعشيرة.
والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا فيما بينهم, ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض, كما نرى تجمع المنافقين أحياناً في معسكر واحد، ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم، إنما هو مظهر خارجي خادع, وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع, فيبدو من ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور, وينكشف الحال عن نزاع داخلَ المعسكر الواحد, قائم على اختلاف المصالح, وتفرق الأهواء, وتصادم الاتجاهات. وما صدق المؤمنون مرة, وتجمعت قلوبهم على الله حقاً إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات, وهذا التضارب, وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال، وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار, وينكشف عن الخلاف الحاد, والشقاق والكيد, والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة.
والقرآن الكريم يقر هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين ليُهَوِّن بها من شأن أعدائهم, ويرفع منها هيبة هؤلاء الأعداء ورهبتهم، فهو إيحاء قائم على حقيقة, وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت، ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ الجد هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله, وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد, فلم تقف لهم قوة في الحياة. والمؤمنون بالله ينبغي أن يدركوا حقيقة حالهم وحال أعدائهم، فهذا نصف المعركة, والقرآن الكريم يطلعهم على هذه الحقيقة في سياق وصفه لحادث وقع, وفي سياق التعقيب عليه, وشرح ما وراءه من حقائق ودلائل, شرحها يفيد منه الذين شهدوا ذلك الحادث بعينه, ويتدبره كل من جاء بعدهم, وأراد أن يعرف الحقيقة من العالم بالحقيقة. (انتهى قول المفسر)
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن ـ رحم الله كاتبه ـ ما نصه: " لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ " ـ أي اليهود ـ لا يقدرون على قتالكم " جَمِيعاً " أي مجتمعين. " إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ " بالخنادق والحصون ونحوها. " أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ " يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم لفرط رهبتهم منكم." بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ " أي إذا لم يلقوا عدوا نسبوا أنفسهم إلى الشدة والبأس, ولكن إذا لقوا العدو انهزموا. " تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى " أهواؤهم متفرقة فيما بينهم .... (انتهى قول المفسر)
وجاء في كلٍ من المنتخب في تفسير القرآن الكريم وصفوة التفاسير كلام مشابه لا أرى حاجة إلى تكراره.
تكشف الآية الكريمة عن طبيعة النفسية اليهودية, فقد برع اليهود في التعصب الأعمى ضد كل من سواهم, بل ضد الإنسانية بصفة عامة, كما برعوا في تدبير المؤامرات, ونقض المعاهدات, وتزييف التاريخ, وتحريف الدين, والافتراء على الله ـ تعالى ـ وعلى كتبه، وأنبيائه ورسله, وفي تربية ناشئتهم على الاستعلاء الكاذب فوق الخلق. وقد أفاض القرآن الكريم في تحديد ملامح الشخصية اليهودية التي صاغت تلك الشخصية عبر التاريخ، ولذلك كان خوفهم من الأمم المحيطة بهم شعوراً مسيطراً دوماً عليهم، فعاشوا عبر التاريخ وراء القرى المحصنة, والجدر المرتفعة, والموانع والعوائق المتعددة, أو في حواري وأزقة معزولة, وأحياء مغلقة ـ عرفت باسم الجيتووات اليهودية, مفردها جيتو ـ كأقليات منبوذة, مضطهدة, من جميع أبناء الأمم التي عاشوا بينها.قرى اليهود المحصنة في القديم:
جاء في الإصحاح الثاني والعشرين/5 من سفر إشعياء في العهد القديم( طبعة دار الكتاب المقدس ـ لبنان) إشارات عديدة إلى نقب الأسوار, وإلى هدم البيوت لتحصينها، ووضع خنادق بين سورين لمياه البركة العتيقة, وهذا نفس ما يقوم به المحتلون لأرض فلسطين اليوم، وجاء في الإصحاح السابع والثلاثين من السفر نفسه إشارات إلى تخريب مدن محصنة حتى تصير روابي خربة.وجاءت أحداث كلٍ من يهود بني قينقاع, وبني النضير, وبني قريظة, وخيبر وأحداث غيرهم مؤكدة هذا الوصف القرآني المعجز للنفسية اليهودية في الوقت نفسه بالحرص الشديد على الدنيا, والخوف المرتعد من الموت؛ وذلك بسبب كثرة ذنوبهم, وآثامهم, ومؤامراتهم, وخياناتهم, ومبارزتهم لله بمختلف صنوف المعاصي, ولذلك لا يقاتلون أعداءهم أبداً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر؛ وذلك لأنهم مثلوا ركازة الكفر عبر التاريخ, فقد كفروا بالله على عهد موسى، فعبدوا العجل, وكفروا بأنبيائهم فقاتلوهم وقتلوهم, وكفروا بنبي الله عيسى، فأغروا الرومان به, وشوهوا صورته, ونالوا من عرض أمه الصديقة ـ شرَّفها الله ـ وحرفوا رسالته, وكفروا بخاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ فحاولوا قتله وسمه، ولكن الله ـ تعالى ـ حفظه بحفظه الذي لا يزول ولا يحول, وقلَّبوا عليه أهل الكفر والشرك, ونقضوا كل عهودهم معه, وحاولوا الدس عليه وعلى رسالته لولا أن الله ـ تعالى ـ قد تعهد بحفظها فحفظت.قرى اليهود المحصنة وجدرهم العالية في العصر الحديث:
(1) قبل نكسة يونيو1967 م:
. بتاريخ29 ـ31 أغسطس سنة1897 م عقد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول في مدينة بازل في سويسرا, وقرر إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية, والمطالبة بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين العربية المسلمة.
. وبتاريخ 2/11/1917 م أصدرت الحكومة البريطانية وعد بلفور اللعين.
. وبتاريخ 24/7/1922 م أقر مجلس عصبة الأمم المتحدة مشروع صك الانتداب البريطاني على أرض فلسطين من أجل تسهيل هجرة اليهود والمتهودين من جميع دول العالم إلى هذه الأرض المباركة, وتمكين القوات البريطانية المحتلة للأرض فلسطين هم من تلك البلاد.
. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنتين ـ أي في سنة 1947 م ـ أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها الجائر( رقم181) والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية.
. في 15/5/1948 م أعلنت الحكومة البريطانية انتهاء انتدابها على أرض فلسطين وانسحابها منها, إلا أنها لم تنسحب عملياً إلا من المناطق التي سلمتها إلى اليهود والمتهودين، وفيها جميع المعسكرات البريطانية بكامل معداتها وأسلحتها وقواعدها الاستراتيجية وكل أجهزة الدولة, بالإضافة إلى المستعمرات المحصنة تحصيناً رهيباً بالأسوار، والجدر، والخنادق، والأسلاك الشائكة، وحقول الألغام, فأعلن الصهاينة قيام دولة لهم على أرض فلسطين فور مغادرة المندوب السامي البريطاني ميناء حيفا, وتسابقت الدول الكبرى على الاعتراف بها، وفي مقدمتها كلٌ من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي الذي انهار, وسوف تلحق به الولايات المتحدة إن شاء الله تعالى.
(2) بعد نكسة يونيو1967 م:
في صباح الخميس الخامس من يونيو1967 م وبموافقة الولايات المتحدة الأمريكية قام سلاح الجو الصهيوني بهجوم مباغت على جميع المطارات العسكرية والمدنية في كلٍ من مصر وسوريا والأردن, ووسط هول المفاجأة تم احتلال كلٍ فلسطين وشبه جزيرة سيناء بأكملها, والمرتفعات السورية, ومساحات من الأردن.
وبتاريخ 27/6/1967 م صدر قرار من الكنيست بضم القدس الشرقية واعتبارها عاصمة موحدة لإسرائيل.
وعلى الرغم من وقوف أغلب دول العالم من وراء هذه المظالم ووجود قناة السويس كمانع مائي يصعب عبوره إلا أن نفسية اللص السارق للأرض, وطبيعة الجبان الخائف من الموت دفعتهم إلى إقامة جدار خط بارليف على طول الضفة الشرقية لقناة السويس كمانع حصين ليس له مثيل في العالم, في قلب ساتر ترابي ناتج من حفر القناة وتطهيرها يتراوح ارتفاعه من ستة إلى ثمانية عشر متراً بطول تلك الضفة الشرقية للقناة, وعلى الرغم من وجود خط المضايق الجبلية إلى الشرق, والبحر الأبيض المتوسط إلى الشمال, وكلٍ من هضبة العجمة وخليج السويس إلى الجنوب, قام الصهاينة بإقامة عدة نقاط حصينة في جوف هذا الساتر الترابي الضخم يبلغ عددها 22 موقعاً حصيناً تضم 31 نقطة قوية تبلغ مساحة كل منها أكثر من أربعة آلاف متر مربع على هيئة منشأة هندسية معقدة تتكون من عدة طوابق خرسانية مسلحة بقضبان السكك الحديدية وألواح الصلب وغائرة في الأرض, لترتفع حتى تصل إلى قمة الساتر الترابي, وكل طابق مفصول عن الذي يليه بطبقة من القضبان الحديدية والخرسانة المسلحة, والأتربة والأحجار, وشكائر الرمال, وسبعة صفوف من البلاطات الخرسانية فوق بعضها البعض, ثم طبقة أخيرة من الردم السميك, وسور من الأسلاك الشائكة وصناديق معبأة بالحجارة.
ويصف ثلاثة من قادة حرب رمضان المجيدة هم اللواءان حسن البدري وطه المجدوب والعميد أركان حرب ضياء الدين زهدي في كتابهم المُعَنْوَن (حرب رمضان وصفاً موجزاً لأحد هذه الحصون), وهو المعروف باسم موقع الكيلو متر10 جنوب بورفؤاد جاء فيه:
يلف الحصن من الشمال والجنوب خمسة عشر نطاقاً من الأسلاك الشائكة التي تفصل بينها حقول ألغام كثيفة, أما من الغرب فتوجد ثمانية نطق من تلك الأسلاك الشائكة المفصولة بحقول الألغام, والحصن مزود بأجهزة الإنذار, والشراك الخداعية, ويرتفع الساتر الترابي أمام الحصن إلى18 متراً, ويحيط به من جميع الاتجاهات, ويقع بداخل الحصن الكثير من الدشم والملاجئ والأسلحة الصغيرة, والرشاشات المتوسطة والثقيلة المبنية في جسم الساتر الترابي على طول محيط الحصن.
ويصل عدد الملاجئ للأفراد والمعدات الثقيلة إلى24, ودشم الرشاشات إلى26, ودشم الأسلحة المضادة للطائرات إلى4, بالإضافة إلى عدد من مصاطب الدبابات, وللأسلحة المضادة للدبابات.
وملاجئ الأفراد مصممة لمقاومة جميع الأسلحة دون الذرية منها, وبها كل وسائل التهوية والتدفئة والإضاءة, والاتصال التليفوني, والتطبيب والتمريض والإسعافات اللازمة والإعاشة, والترفيه, والتخزينات التي تكفي المدافعين عنها لأشهر طويلة من الحصار إذا حوصرت.
وترتبط جميع الدشم والملاجئ بخنادق عميقة، وهذه الملاجئ مجهزة للوقاية من الأسلحة الكيماوية, وغازات الحرب.
ويخرج من الحصن مواسير ضخمة تتصل بخزانات وقود ـ خاصة في الخلف ـ وتخترق الساتر الترابي لتلامس صفحة الماء في قناة السويس لتحويلها إلى كتلة من نار تصل درجة حرارتها إلى700 درجة مئوية لا تبقي ولا تذر.
ويذكر الكُتَّاب أن هذا وصف موجز لحصن واحد من اثنين وعشرين حصناً امتدت على طول القناة (175 كيلو متراًً).
ولم يكتف الجيش اليهودي بجدار خط بارليف, وبخط المضايق الجبلية إلى الشرق منه, فأقامت بينهما خطين دفاعيين أخريين يقع الأول على مسافة300 ـ500 م, ويقع الثاني على بعد3 ـ5 كم من القناة, وقد أنشئا بمواصفات الخط الأول نفسه.
وقد استطاع جيش مصر الباسل تدمير كل تلك التحصينات المنيعة في ساعات معدودة, وفر الجبناء كالجرذان المذعورة، ولم تنفعهم حصونهم المنيعة.
(3) إنشاء جدار أمني إسرائيلي على أرض فلسطين المحتلة:
في شهر مايو 2001 م قامت القوات الإسرائيلية المحتلة لأرض فلسطين باجتياح الضفة الغربية, أصدرت حكومة هذا الكيان الغاصب قرارها الغاشم بإقامة منطقة عسكرية عازلة بينهم وبين الفلسطينيين, سميت باسم الجدار الأمني الإسرائيلي, وصممت بتحصينات بالغة التعقيد لتمتد على طول الخط الأخضر مع تعديلات عديدة يبتلع بها اللص الصهيوني أكثر من58% من مساحة الضفة الغربية, بها مائة وثمانون ألف دونم من أجود الأراضي الزراعية, ومناطق عديدة تتميز بوفرة المياه تحت السطحية, وعشرات القرى الفلسطينية والمستعمرات التي بنيت اغتصاباً على أراضي الضفة الغربية, وذلك بغض النظر عما سوف يسببه هذا الجدار من تمزيق المدن الفلسطينية وتحويلها إلى كنتونات معزولة محاصرة, وتمزيق النسيج الاجتماعي لشعب فلسطين ( إلى 8 معازل محاصرة,14 جيتو محاطة بأكثر من46 حاجزاً عسكرياً، 126 طريقاً مغلقاًً)، والحيلولة دون إقامة أية دولة فلسطينية في المستقبل القريب.
وفي 23/6/2002 م بدأ الصهاينة بالفعل في بناء هذا الجدار الأسمنتي بارتفاع ثمانية أمتار, وبعدد من الأبراج المرتفعة التي تعلوه على مسافات متقاربة, والمزودة بآلات تصوير للمراقبة, وأحاطوا الجدار بمنطقة عازلة يتراوح عرضها بين50 م و60م تضم في الجانب الفلسطيني حاجزاً من الأسلاك الشائكة, وخندقاً يصل عمقه إلى أربعة أمتار, ثم طريقاً غير معبد لدوريات الجيش المحتل، ويشرف على هذا الطريق سياج من الأسلاك الشائكة بارتفاع ثلاثة أمتار ونصف المتر مزود بأجهزة رادار كاشفة، وعلى الجانب الآخر من الجدار أقيم حاجز من الأسلاك الشائكة المزودة كذلك بآلات تصوير للمراقبة, ويقدر أن يصل طول الجدار بتعرجاته المختلفة إلى ألف كيلومتر, وقد تم حتى اليوم بناء 128 كم منه.
وكما انهار جدار خط بارليف في ساعات محدودة تحت أقدام أبطال الجيش المصري فسوف يهدم أبطال الانتفاضة الفلسطينية هذا الجدار ـ إن شاء الله ـ في القريب العاجل, ولن يكون في بناء هذا الجدار حماية للغاصب المحتل كما لم يُغنِ عنهم خط بارليف، فتركوه كالجرذان المذعورة بعد ساعات محدودة من اقتحامه في سنة1973.
وهنا تتضح روعة التعبير القرآني الذي يصف النفسية اليهودية والمتهودة الجبانة بقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ:" لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ " ( الحشر:14).
وتاريخ هؤلاء اليهود يؤكد صدق القرآن الكريم بهذه الإشارة الربانية الصادعة. فالحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على نعمة الإسلام, والصلاة والسلام على النبي الخاتم الذي تلقاه، وعلى آله وصحبه، ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق