السبت، 30 يوليو 2011
الصوم ووحدة الصف
د.
فؤاد علي مخيمر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي
بعده، أما بعد:
فإن
دين الإسلام دين
الفطرة الصحيحة، دين يدعو إلى وحدة الصف؛ لأن أتباعه المؤمنين يُعَدّون أمة واحدة، إلههم
واحد لا شريك له، قال سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
ومن
ثَمَّ، جعل الله تعالى مظاهر هذا الدين تتجلى في الدعوة إلى الوحدة: وحدة في
الألوهية والربوبية وفي صفاته تعالى: {قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ
الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4]. ووحدة في
العبودية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. ووحدة في
الصف والقوة والبأس، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. ووحدة في الجهاد،
قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
فالعبادات
الدعوة فيها إلى وحدة الصف موجودة وقائمة، وتُعَدُّ مَظهرًا بَارزًا من مظاهرها..
فالصلاة:
النداء لأدائها واحد، وإمام الصلاة واحد، والمسلمون من خلفه وحدة متكاملة في
انتظام صفوفهم وائتلاف أرواحهم، وهم مؤتمون بإمام واحد؛ يؤدون خلفه أركانًا وسننًا
بنسق واحد بمتابعة إمام واحد، وكذلك توحيد وقت الصلاة مظهر وحدوي.
والزكاة:
في أدائها دعوة إلى وحدة الصف؛ ففي مال الغني حق معلوم للسائل والمحروم، كأن
الفقير شريك الغني في ماله، وفي ذلك من ارتباط القلوب والتراحم ما لا يخفى، وكذلك
إحساس الغني بالفقير؛ اعترافًا بأخوَّة الإيمان التي أفصح عنها القرآن في قوله
تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
والحج:
مظاهر الوحدة فيه كثيرة؛ فملابس الإحرام بهيئة واحدة، والتلبية واحدة لمناجاة رب
واحد، وأداء الأركان والواجبات والسُّنن في مكان واحد، وهو الحرم الشريف والكعبة
المكرمة، وعرفات ومزدلفة ومِنى وكلها في مكة المكرمة، فضلاً عن اجتماع المسلمين من
شتى بقاع الأرض على عرفات، وفي حَرم الله الآمن، وغير ذلك من مظاهر وحدة الصف
والكلمة.
والصوم:
رُقي للروح، وحصن للجسد، وتربية للأعضاء، وهو نصف الصبر، وتجديد للعهد مع الله
سبحانه بالتوبة والاستغفار وكثرة الذكر والدعاء والتوحيد الخالص، وتدريب الأعضاء
على مهام الرجولة، وإذا تأصّلت الرجولة الإيمانية في المسلمين اتحد صفهم، وقويت
شكوتهم، وعلت همتهم؛ ليصبحوا قوة ضاربة في الأرض.
لذا؛
نجد وحدة الصف تنبع من ساحة الصوم، ومن أبرز مظاهرها ما يلي:
قال
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]. فنداء
الله للمؤمنين تكريم لهم وتشريف، ودعوة لهم إلى وحدة صفهم، وتآلف قلوبهم، لعزتهم
ورفعة مكانتهم، وفي ذلك من المساواة بينهم ما لا يخفى: فلا فرق بين غني وفقير، ولا
بين أبيض وأسود.
البلد
الذي يشترك في مطلع الشمس مع غيره من بلاد العالم الإسلامي أو غير الإسلامي، أو
كان مطلعه قريبًا من بعضها يلزمه الاتحاد معها في بداية شهر رمضان؛ لأن ذلك يُعدُّ
مظهرًا لوحدة المسلمين، وقوة لرباطهم الإيماني، حيث يَتّحِدون في وقت الإفطار
والإمساك، ومناجاة الله عند فطرهم وإمساكهم.
كذلك
مظهر المسلمين في وحدة صفهم يبرز واضحًا في نهاية رمضان وبداية أول ليلة من شوال؛
فالمسلمون يتحدون في التكبير والتهليل، وفي اجتماعهم لصلاة عيد الفطر في
الخلاء، أو في مساجدهم على قلب رجلٍ واحدٍ، وفي ذلك من وحدة الصف ما لا يخفى.
اختصاص
رمضان باجتماع المسلمين بعد العشاء في كل ليلة منه؛ لأداء صلاة التراويح في جماعة
يُعدُّ دعوة إلى وحدة الأمة في عبوديتها لربها، ووحدة صفها.
فسنة
الاعتكاف اختصت بها العشر الأواخر من رمضان؛
تدريبًا لصفوة من أبناء الأمة المسلمة على الرجولة والجندية والاتحاد في المظهر
والجوهر؛ لتؤصل في المسلمين وحدة الصف. وهناك مظاهر أخرى للوحدة يطول المقام
بذكرها، ولكنها لا تخفى على ذي لُبٍّ.
إن
المجتمع المسلم المعاصر الذي تمزّق كيانه، وتفرّق صفه، فأضحى ساحة لمطامع أعدائه،
فاستولى العدو على بعض مقدساته، وأراق دماء أبنائه على أرضه.. أرى أن هذا المجتمع
في حاجة ماسة إلى إعادة بنائه.. ومعلوم أن لبناته هم أفراده.
والصوم
أحد أركان هذا الدين الحنيف الذي يتم به البناء؛ فمن أبرز آثاره في تربية الفرد،
وبناء المجتمع وتحصين وحدته ما يلي:
فالمسلم
ينتصر على نفسه، فيكبح جِمَاحها ويُربيها تربية إيمانية قوية، فعندئذ تَقوى إرادته
فينتصر على نفسه وعلى أعداء الله؛ لأن كل شيء يَهون أمامه إلا عقيدته ومقدساته، ويُفصح
ربُّنا عن هذه التربية فيقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. فالإرادة
الإيمانية عند أداء الصوم هي التي أصّلت فيهم هذه الروح، وأصّلت الهمَّة والرجولة
في كيانهم. فقبل أن يطلب العبد النصر على أعدائه، ينتصر هو على نفسه.
فالمسلم
إن لم تكن عنده إرادة منضبطة في ضوء الإيمان وصدق عزيمته على الصوم، فلا يمكن أن
يقدِّم نفسه فداء لدينه ومقدساته ووطنه؛ لأن من تأصّلت الإرادة في قلبه، فقد قَهر
نفسه وشيطانه وعدوه. فمن مأثورات عمر رضي الله عنه: اسألوا الله العون على أنفسكم قبل
أن تسألوه النصر على أعدائكم.
ومن
ثَمَّ يُعدُّ الصيام علاجًا للنفس وضَابطًا للإرادة، وداعيًا إلى وحدة الأمة؛ ولذا
نجد المسلمين قد انتصروا في معاركهم مع العدو في شهر رمضان كغزوة
بدر، وفي العاشر من رمضان
1393هـ.
أ-
وحدة الهدف والغاية: فالهدف: العبودية، والغاية: تقوى الله.
ب-
وحدة الضمير: فالصوم يُؤدَّى بنية صادقة في ضوء مراقبة الله سبحانه، وأثر ذلك يعود
على المجتمع في شئونه الاقتصادية والاجتماعية، والعسكرية والميدانية في ساحة
القتال.
ج-
وحدة الشعور بالمسئولية: فالإحساس بالمسئولية التضامنية في بناء المجتمع وازدهاره
أمر واجب، والدفاع عنه واجب، والشعور بآلام المسلمين واجب، والمشاركة الوجدانية
والمادية في تفريج كروبهم ومناصرتهم واجب... إلخ.
د-
وحدة الصف: تتجلى وحدة الصف في تربية الصائمين على الخشونة والصبر وقوة الإرادة،
واحتمال المتاعب، والتدريب على الجندية؛ فلا مجال للترف والإسراف، بل سبيل الصائم
التقشف وضبط النفس، والحسم والعزم؛ فتكتمل الوحدة على أساس متين من الدين.
فثورته
تتجلى في ذلك التغيير في الطعام والشراب، وضبط الوقت عند الإفطار والإمساك، وفي
السلوك التربوي، والقيم العالية في البيت والشارع والعمل، والاعتكاف في ساحة
العبودية، وغير ذلك مما يطول المقام بذكره.
والله
وحده من وراء القصد.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق