"نموذج لعابد ينهض بأمة"
ونحن اليوم نقطف ثمرة من بستان العُبّاد الذين كان لهم دور مباشر في نهضة الأمة، والذي قال الله عنهم في سورة الأنعام ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام: من الآية 90).
صُنِع سيدنا يوسف على عين الله عز وجل من خلال المحن والابتلاءات التي مر بها والتي بدأت بتدبير المؤامرات من إخوته حسدًا له وكراهيةً له، ﴿اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ (يوسف: من الآية 9)، ثم خُفف الحكم ﴿لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ (يوسف: من الآية 10).
تخيل نفسك في بئر عميقة وسط الصحراء عمقها شديد مليء بالحيات والعقارب وتظل فيه ثلاثة أيام وسَنّك في هذا الوقت اثنتا عشرة سنة، أصبح عبدًا من قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم". وكانت هذه المحنة في بيت عزيز مصر، ليست من امرأة العزيز فقط، ولكن أيضًا مع نساء الوزراء والطبقات العُليا، صويحبات امرأة العزيز.
ولكنه عُصم من الله عز وجل: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾ (يوسف).
وكذلك قوله عز وجل: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف: من الآية 24).
﴿مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌٌ﴾ (يوسف: من الآية 25)، فقد أصبح عزيز مصر، ملك كل شيء، أيها الأحباب في الله، لسنا بصدد سرد قصصي للتسلية أو الترف الذهني، ولكننا نُريد استخلاص العبر والعظات لنقتدي.
لنتأسي، لنقم، لننهض بأنفسنا ثم ننهض بغيرنا، لنشارك جميعًا في نهضة الأمة، إنها صناعة الله عز وجل للأنبياء والأصفياء من عباده، على عينه عز وجل، لكي يصطنعهم لنفسه فلا يُصبح لهم في أنفسهم شيء لأنفسهم، وذلك قول الله عز وجل: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طه: من الآية 39)، ثم ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)﴾ (طه).
فالمحن في حق الأنبياء، صناعة وترويض لكي يُؤَهلوا لحمل الرسالة، وهذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأي قلب أشربها نُكت فيه نُكتة سوداء وأي قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف مَعروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه".
وهذا هو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به، كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنهم من يخرج كالذهب إبريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيئات، ومنهم من يخرج كالذهب دون ذلك فذلك الذي يشك بعض الشك، ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي افتتن" رواه الحاكم في المستدرك، وعندما سُئل الإمام الشافعي "أيُبتلي العبد أم يُمكن له أولاً"، قال: لا يُمكّن حتي يُبتلي، كان سيدنا يوسف عليه السلام: نموذج العابد حال المحن والابتلاءات لأنه صبر على المحن بدءًا من كره إخوته وإلقائه في الجب ثم السجن، صبر على المعاصي، مع النساء اللائي راودنه عن نفسه ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾، صبر على الطاعة، في عفوة عن إخوته ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ﴾ (يوسف: من الآية 92).
وكذلك كان نموذج العابد حال الرخاء فقد أرجع الفضل كله لله عز وجل، ﴿قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)﴾ (يوسف)، تستطيع أخي الفاضل، أختي الفاضلة، مراجعة سورة يوسف عليه السلام لترى ثباته على طاعة وعباده ربه حال المحن وحال المنح والرخاء، وذلك قول الإمام أحمد بن حنبل "لله عبادتان يُعبد بهما، عبادة الرخاء وعبادة الشدة، عبادة الرخاء، الشكر، عبادة الشدة، الصبر.
وقد رأت وعايشت زوج عزيز مصر حال سيدنا يوسف وهو يمر بالمحنة تلو الأخرى إلى أن أصبح ملكًا لمصر.
فقالت قولتها المشهورة: سبحان من جعل العبيد ملوكًا بطاعته وجعل الملوك عبيدًا بمعصيته".
تلك الطاعة والعبادة لله هي التي أهّلت سيدنا يوسف عليه السلام ليكون ملكًا، هل يعتزل العابد بعيدًا عن الناس؟
هل يقتصر في طاعته على تزكية نفسه وتطهير روحه فحسب، ولا يشارك في همّ أمته؟؟
إن سيدنا يوسف العابد لم يفعل ذلك، وهذا هو النموذج التطبيقي العملي الذي نحتاجه الآن، وهذه الظروف العصيبة التي تمر بها مصرنا الغالية وأمتنا العربية والإسلامية، فقد سُجن سيدنا يوسف عليه السلام في سجون مصر ولكنه مارس دوره- كعبد ومُطيع لله عز وجل- في النهضة.
نهضة غيره، نهضة مصرنا، نهضة أمتنا، فقد نهض بغيره عندما استفتي، ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)﴾ (يوسف).
هل أفتي لهم مباشرةً؟؟، لا، ولكنه مارس دوره كعابد في نهضة هذين الفتيين بدعوتهما إلى التوحيد الخالص لله عز وجل، وترك الآلهة الأخرى، ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)﴾ (يوسف)، ثم جاءت الفتوى،
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)﴾ (يوسف)، هذا دوره مع الأفراد- كشعب- حتى وهو في السجن-.
* هو الشراكة الفعّالة الحقيقية في الاتفاق على مرجعيتنا كمسلمين نملك مشروعًا إسلاميًّا على منهاج النبوة الأولى، نقتضي ونلتزم بمراحل هذا المشروع في الآيتين الأخيرتين في سورة الحج، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)﴾ (الحج).
* ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)﴾ (الحج).
* ثم الأهداف: العبادة وفعل الخيرات، الجهاد لإعزاز الشريعة.
ثم انظر إلى الدور الريادي لسيدنا يوسف كعابد ومُطيع لله عز وجل في حل مشكلة مصر الاقتصادية، وهو ما زال حبيس السجن وتلكم القمة السامقة في دور العابد في تقديم المبادرات للمشاركة في حل المشاكل.
لقد قام يوسف عليه السلام بحل مشكلة قاسية ستعيش البلاد فيها بعد قليل، وقدم سيدنا يوسف عليه السلام مصلحة الأمة فوق مصلحته الشخصية، فلم يتوان لحظة واحدة عن تفسير رؤيا الملك بحجة أنه سُجن ظلمًا، واتُهم في شرفه زورًا وبُهتانًا، إنه الإخلاص والتجرد من كل حظ للنفس حتى أثناء المحن، وتلكم هي غاية العبادة الحقة لله عز وجل، فالعابد الحق لا ينتصر لنفسه قط.
والعابد الحق لا يربط عمله وجهاده بمصلحة شخصية، ولكن العابد الحق من يحمل نفسًا طيبةً ترى سعادتها في إسعاد الآخرين، "فليس لمن باع نفسه لله حق عند من آذاه".
لقد قام سيدنا يوسف بالإرشاد إلى الحق ورسم الخطة التي أنقذت البلاد من مجاعة حقيقية.
انظر وتدبر في الآيات التي تذكر رؤيا الملك بحل المشكلة ووضع خطة اقتصادية كأمهر خبير اقتصادي ينقذ البلاد من أزمة حقيقية، ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44)﴾ (يوسف).
﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)﴾ (يوسف).
* ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)﴾ .
* ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)﴾ (يوسف).
وانظر إلى أثر العبادة في تكوين مقومات الشخصية السوية التي حددت غايتها في الحياة وهي مرضاه الله عز وجل وحددت هدفها وهو إسعاد البشرية ولو على حساب المصلحة الشخصية.
انظر، تدبر، ثم حاول أن تتخلق بخلق الأنبياء، ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾.
﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)﴾ (يوسف).
فكان الرد الفوري دون تردد، دون نظر إلى مصلحة شخصية، دون شرط، دون شوق إلى انتهاز الفرصة للخروج من السجن ثم التأويل.
وكان الرد فوراً، ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)﴾ (يوسف).
* ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)﴾ (يوسف).
قال يوسف سيمر عليكم من اليوم سبع سنوات الخير فيهن كثير، ويفيض النيل، ويكثر المطر، فينتشر الزرع ويفيض الخير، ثم يأتي بعد هؤلاء السبع سنوات سبع سنوات من أشد ما يكون، والقحط فيهن شديد، ستجف منابع النيل، فتأكل هؤلاء السبع الشداد، ليس هنّ بل أنتم، أي ستأكل الزرع والخير الذي فاض وكثر من قبل ولذلك ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾.
أي: أنتم في حاجة إلى أن تكثروا من الزراعة وتُحسنوا استخدام الأرض في سنوات الرخاء ولا تستهلكوا كل الزرع بل اتركوه في سنبله، خزنوا القمح في السنابل حتي لا يضره شيء.
سبحان الله العظيم الذي علّم سيدنا يوسف عليه السلام علم تخزين الغلال، فقد أثبت العلم الحديث أن أحسن وسيلة لتخزين الغلال هي تركه في سنابله.
فاستخدموا القمح بحسب حاجتكم فقط، لا تسرفوا في استخدامه، حتى إذا جاءت سنوات القحط أخرجتم الغلال من المخزون ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾.
لأنه سيأتي بعد هذه السبع الشداد ﴿عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾.
أي عام يكثر فيه الخير ويزيد، فإذا جاء وجدتم مواد تزرعونها فيفيض عليكم الخير ويكثر"، أرأيت أخي الحبيب، أختي الفاضلة.
كيف يربي الإسلام أتباعه على حب الخير للآخرين، تقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، قارن بين ما فعله سيدنا يوسف عليه السلام وبين من يلقي قنبلة ذرية على ملايين البشر، أو من يلقي بالقمح في المحيط حتى يرفع سعره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق