- عنوان الكتاب: أدب الإختلاف في الإسلام
- المؤلف: طه جابر العلواني
-الفصل الأول : في بيان حقيقة الإختلاف وما يتصل به.
-الفصل الثاني : تاريخ الإختلاف وتطوره.
-الفصل الثالث : إختلاف مناهج الأئمة في الإستنباط.
-الفصل الرابع : أسباب الإختلاف وتطورها.
-الفصل الخامس : في معالم الإختلاف بين الأئمة وآدابه.
-الفصل السادس : الخلاف بين القرون الخيرة وآدابه.
وأما أهل المائة الرابعة، فقد كان فيهم العلماء والعامة، فأما العامة من الناس فقد كانوا يتلقون من أهل العلم ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسائل التي لا خلاف فيها من جمهور المجتهدين، كمسائل الطهارة والصلاة والصيام والزكاة ونحوها، فيعملون بحسب ما روي لهم فيها، وإذا وقعت لهم أمور فيها من الدقة ما يحتاجون معه إلى الاستفتاء، استفتوا أهل العلم في ذلك دونما نظر إلى المذهب الذي يتمذهب به ذلك العالم.
وأما خاصة الناس وأهل العلم منهم، فقد كانوا يشتغلون بالحديث، ويتلقون من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه ما لا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو أقوال متظاهرة لجمهور الصحابة والتابعين، فإن لم يجد أحدهم في المسألة ما يطمئن إليه قلبه لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح ونحو ذلك رجع إلى كلام من سبقه من الفقهاء، فإن وجد قولين اختار أوثقهما سواء كان من أهل المدينة أو الكوفة.
وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدونه مصرحاً به ويجتهدون في المذاهب، وينسبون إلى المذهب الذي يخرجون عليه، فيقال: فلان شافعي وفلان حنفي، دون أن يكون هنالك التزام بالمذهب كما صارت إليه الحال فيما بعد. وأصحاب الحديث منهم ينسبون إلى المذاهب لشيوع التوافق، فالنسائي أو البيهقي أو الخطابي كانوا ينسبون إلى الشافعي مثلاً، وكان لا يتولى القضاء إلاّ مجتهد، ولا يسمى العالم فقيهاً إلاّ إذا كان مجتهداً.
الحالة بعد القرن الرابع:
أما بعد القرن الرابع فقد تغيرت الحال ولندع حجة الإسلام الغزالي (توفي: 505هـ ) يصف لنا ذلك حيث يقول: "اعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله تعالى، فقهاء في أحكامه، وكانوا مشتغلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلاّ نادراً في وقائع لا يستغني فيها عن المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة، وتجردوا لها وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم، فلما أفضت الخلافة من بعدهم (أي الخلفاء) إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات ، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء، وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبّوا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز، ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبوا على الفتاوى، وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرّفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من حرم، ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب، ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طلبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم، إلاّ من وفقه الله تعالى في عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجات إليها في الولايات والحكومات . ثم صدر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقلات الناس في قواعد العقائد، والمجادلة في الكلام، فأكب الناس على علم الكلام(156)، وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله، والنضال عن السنّة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى: الذين، وتقلد أحكام المسلمين إشفاقاً على خلق الله، ونصيحة لهم، ثم ظهر بعد ذلك من لم يستصوب الخوض في الكلام، وفتح باب المناظرة فيه، لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة، والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة، رضي الله عنهما، على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا على المسائل الخلافيّة بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد(157) رحمهم الله تعالى وغيرهم، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون عليه إلى الآن، وليس ندري ما الذي يُحدث الله فيما بعدنا من الأعصار، فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة وإلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضاَ معهم ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين، وأن لا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين (158)".
ومن استقراء الأفكار في النص نجد أن:
1 - الإمام الغزالي رحمه الله قد وضع يده هذه الكلمات على الداء الحقيقي الذي أصاب الأمة نتيجة ذلك الفصام النكد الذي وقع بعد الأئمة الراشدين بين القيادتين: الفكرية والسياسية، فدمغ تاريخنا بتلك السمة التي لم نزل نعاني منها، حيث وجدت ممارسات سياسية غير إسلامية، نجمت عن جهل الساسة بالسياسة الشرعية الإسلامية… لدينا فقه نظري افتراضي لا مساس له بقضايا الناس، ولا يعالج مشكلاتهم اليومية بالطريقة العملية نفسها التي كانت تعالج فيها تلك القضايا على عهد الصحابة والتابعين، فمعظم القضايا الفقهية، وكثير من المسائل الأصولية ليست إلاّ أموراً افتراضية ولدتها المناظرات والمجادلات والقضايا الخلافية.
2 - تحول الفقه، بعد تلك الممارسات الخاطئة، من وسيلة لضبط حياة الناس ووقائعها بضوابط الشريعة إلى وسيلة لتبرير الواقع المطلوب، أياً كان ذلك الواقع، فأورث ذلك الحياة التشريعية لدى المسلمين نوعاً من القلق الغريب كثيراً ما جعل الأمر الواحد من الشخص الواحد في زمن واحد في زمن واحد ومكان واحد حلالاً عند هذا الأصول الفقهية، وباب واسع من أبواب الفقه عرف بباب "المخارج والحيل " (159) وأصبح إتقان هذا الباب والمهارة فيه دليلاً على سعة فقه الفقيه ونبوغه وتفوقه على سواه، وكلما تقدم الوقت وضعف سلطان الدين على أهله تفاقم هذا الأمر وتساهل الناس في أمر الشرع حتى وصل الأمر لدى بعض القائمين على الفتاوى أنهم أخذوا يفتون بما لا دليل عليه، ولا يعتقدون صحته زعماً منهم أن في ذلك تخفيفاً على الناس أو تشديداً يضمن عدم تجاوز الحدود كأن يرخص بعضهم لبعض الحكام بما لا يرخص فيه لعموم الخلق (160).
وقد يسال أحدهم عن الوضوء من لمس المرأة، ومس الذكر فيقول: لا ينتقض به الوضوء عند أبي حنيفة.
وإذا سئل عن لعب الشطرنج وأكل لحوم الخيل قال: حلال عند الشافعي .
وإذا سئل عن تعذيب المتهم، أو مجاوزة الحد في التعزيرات قال: أجاز ذلك مالك .
وإذا أراد أن يحتال لأحد في بيع وقف إذا تخرب وتعطلت منفعته، ولم يكن لمتوليه ما يعمره به أفتاه بجواز ذلك على مذهب أحمد؛ حتى أصبحت أوقاف المسلمين تتحول من الوقف إلى الملك الخاص في كل مجموعة من السنين(161).
وهكذا ضاعت مقاصد الشرع بضياع تقوى الله، وأهملت قواعده الكلية، حتى بلغ الأمر بسفهاء الشعراء وغواتهم ومجّانهم حد التندر بأحكام الله كأن يقول أبو نواس:
أباح العراقي النبيـذ وشربه وقال حرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي الشرابان واحد فحلت لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها لأفارق الوازر الوزر
لقد هان الرجال الذين يحمون بيضة الدين، فهان على الناس دينهم حتى غدا تجاوز الحدود أمراً يقبل عليه الناس بحجة التيسير، فصار ذلك شأن بعض المفتين من الذين هدموا جدار الهيبة وأباحوا لأنفسهم الإفتاء بما يستجيب لهوى النفوس، قابلهم فريق تصلب وتشدد، وحاول أن يبحث عن أغلظ الأقوال وأشدها ليفتي من يستفتيه، ظناً منه أنه في هذا يخدم الإسلام، ويرد الناس إلى الأخذ بعزائمه، ولكن الأمر ليس كذلك، النتيجة لم تكن - دائماً - كما توقعوا إذ كثيراً ما يحدث العكس فتنفر العامة من الشرع، وتأبى الانقياد له، وترى فيه العسر بدل اليسر، كما في قصة الملك الأندلسي الذي سال الفتي المالكي يحنى بن يحنى(162) عما يجب عليه أن يفعله كفارة لوقاعه في نهار رمضان، فأجابه بأن عليه صيام شهرين متتابعين لا يجزئه غيرهما. وكان عليه أن يفتيه بالعتق أولاً، ولما سئل عن ذلك قال: إنه يستطيع أن يعتق مئات الرقاب فلا بد من أخذه بالأشق وهو الصيام، ولو احتكامه استجابة ذاتيّة فطرية طوعية بلا عنت ولا مشقة، وفي الوقت نفسه لا يدع الناس أحراراً يمتطون مراكب الهوى، لو فعلنا ذلك لتبين لنا أن كلا الطرفين كان مخطئاً وأن كلاّ منهما قد تجاوز ما قصده الشارع الحكيم.
إن مهمة العالم هي تبليغ رسالة الله تعالى للناس كما أنزلها الله في كتبه، وكما أرسل بها رسله، وليس له أمر التشديد أو التخفيف
((قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِنِكُمْ… )) (الحجرات :16)
((… قل أأنْتُمْ أعْلمُ أمِ الله ُ)) (البقرة: 140) والعبرة بالاتباع فما جاوزه ابتداع سواء أكان في جانب التشديد أم التخفيف.
التقليد وعواقبـه:
رأينا فيما تقدم كيف آل أمر الاجتهاد إلى ما أل إليه، لقد خاف كثير من الصلحاء من أن يلج بابه من لا يصلح له، فقد تصدى الفتيا رجال صنعوا على أعين السلطان فأصبحوا يلوون أعناق النصوص إلى حيث مالت بهم رياح الهوى، وتفاوت العلماء بين مرخص ومتشدد، وخشي صلحاء الأمة على مصيرها ومصير دينها وبدؤوا يبحثون عن العلاج فلم يجدوا منفذاً للخلاص إلاّ في إلزام الأمة يا تقليد، ويا لها من أزمة يكون المخرج منها درك التقليد.
إن تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، واستمرار مناقضاتهم ومعارضاتهم وممانعاتهم جعل المخرج الوحيد من الجدل هو الرجوع إلى أقوال المتقدمين في المسائل الخلافية، كما أن الناس فقدوا الثقة بكثير من القضاة لتقربهم من السلطان وإقبالهم على الدنيا وجورهم في كثير من القضايا، فأصبحوا لا يثقون بقضاء القاضي إلاّ إذا كان قضاؤه موافقاً لقول أحد الأئمة الأربعة.
وهكذا اعتبر تقليد الأئمة الأربعة عند جماهير المسلمين، والتزام أقوالهم في كل ما قالوا به، والتخريج عليها فيما لم يقولوا به ضمانة واقية من الاجتهادات المنحرفة التي قد تصدر عن غير أهل الورع من حملة العلوم الشرعية خدمة للأغراض، وتحقيقاً للرغبات، فقد ادعى إمام الحرمين (توفي 478هـ ) انعقاد إجماع المحققين على منع تقليد أعيان الصحابة، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذي سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا لمذاهب الأولين، ثم أكد ذلك وخلص إلى ذلك الحكم الغريب بكون العامي مأموراً باتباع مذاهب السابرين (163).
وعلى قول إمام الحرمين هذا، وعلى ادعائه إجماع المحققين، بنى لبن الصلاح (643هـ ) دعواه بوجوب تقليد الأئمة الأربعة لانضباط مذاهبهم وتدوينها، وتحرير شروطها، ونحو ذلك مما لم يتوفر لمذاهب سواهم من الصحابة والتابعين(164) وتناقله عنه - بعد ذلك - المتأخرون(165). ومن هنا بدأ إهمال الناس للكتاب الكريم وعلومه، وإعراضهم عن السنة وفنونها، وقنعوا من العم بنقل الأقوال والمذاهب وتقعيدها وتأصيلها والجدال عنها، والتفريع عليها، والتخريج منها في أحسن الأحوال.
واستمر الانحدار واشتد الخلاف وتعمق ونشأت بعد ذلك قرون على التقليد المحض، فركدت حركة الفكر، وذوت شجرة الاجتهاد، وانتشرت الفتن وعم الجهل، وأصبح الفقيه العالم - في نظر الناس - هو ذلك الذي حفظ جملة من أقوال الفقهاء وتزود بعدد من الآراء، دون تمييز بين قويها وضعيفها، وصار المحدث من حفظ جملة من الأحاديث. صحيحها وسقيمها.
وليت الأمر توقف عند هذه الحدود، فقد نزل الحال عن هذا الدرك الهابط إلى ما هو أشد هبوطاً منه، كأن شمس العلوم غابت عن دنيا المسلمين وعقم الفكر، فراجت سوق البدع، ونفقت بضاعة الانحراف، وشاعت الخرافات فاتخذت أشكالاً مختلفة، مما أفسح أمام الغزاة الطريق ليكتسحوا الحضارة الإسلامية ويستبيحوا ديار الإسلام.
حالة الأمة في الأحقاب الأخيرة:
كانت تلك حالة الأمة التي غفت في أحضان التقليد، ونامت على أحلام ماض مجيد، فمنذ وقوع الفصام النكد بين أولي الأمر ومصادر التشريع لهذه الأمة والناس حيارى تتقاذفهم الأهواء، وعلماء الأمة في شغل عنهم، كل بما يشغله ويرى أنه الأسلم، حتى إن من يطلع على تراث الأمة يكاد لا يصدق أن هذا الخلف الجامد المتحجر من ذلك السلف الحي المستنير؛ ولما قامت النهضة الأوروبية الحديثة، والأمة على تلك الحال، وجد الأوروبيون أمامهم أمة لم يبق من مقوماتها الحقيقية شيء يذكر:
فالعقيدة خاملة، وإيمان الكثيرين مزعزع، واليقين لم يعد يقيناً، والسلوك منحرف، والاستقامة معدومة، والفكر جامد، والاجتهاد معطل، والفقه مفقود، والبدع قائمة، والسنة نائمة، والوعي غائب، حتى لكأن الأمة ليست هي، وحالة كهذه قد أغرت الذين كانوا يتربصون بالأمة، فاهتبل الغربيون هذه الفرصة واحتلوا البلاد وامتلكوا أزمة العباد، وقضوا على البقية الباقية من مقومات شخصية الأمة حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه اليوم، من هوان واستكانة، وغدت مقاليد أمورنا بأيدي أعدائنا يقررون مصائرنا، فنلتمس عندهم الحل لمشاكل أوجدناها بأنفسنا، وشكلناها بأيدينا.
وخلال ذلك حاولت الأمة بما بقي لها من صبابة الحياة أن تنهض من كبوتها، وتستقيل من عثرتها، فباءت كل محاولاتها بفشل ذريع، لأنها أخطأت السبل المؤدية إلى النجاح وخالفت سنة الله، فقد قامت تلك المحاولات من منطلق تقليد الأجنبي والتبعية للمحتل حتى ازدادت أحوالها سوءاً وبدأ الجيل الجديد من الأمة يتطلع إلى الحل السليم، ويبحث عن البلسم الشافي، فبدأت فئات لا بأس بها من أبناء الأمة تدرك "أن آخر هذه الأمة لن يصلح إلاّ بما صلح بها أولها" فاتجهوا نحو الإسلام ينهلون من عذب معينه، وظهر ما اصطلح على تسميته "الصحوة الإسلامية" وما كان لأعداء الإسلام على اختلاف نحلهم إن يخلوا الساحة لهذه الدعوة المباركة، وما أكثر الأسلحة التي يستخدمونها المحاربتنا - وبعض أبناء جلدتنا الذين يعيشون بين ظهرانينا من تلك الأسلحة - حيث لم ير بعضهم بأساً في أن يكونوا معاول هدم بأيدي أعداء الأمة، وقد تمثل ذلك في أجهزة كثيرة تحاول الكيد للعصبة المؤمنة، وتحول بينها وبين تميد السبيل لاستئناف الحياة الإسلامية، مستعملة شتى الأسلحة، ناصبة بوجه هذه الصحوة أخطر التحديات، فإذا بهذه الصحوة المباركة توجه التحدي المقيت "الاختلاف " فيما تواجه من تحديات هائلة، وكانت التحديات الأخرى كافية لاستنزاف جهد العاملين المخلصين بله "الاختلاف " وإذا بكثير من الجهود تتفتت على هذه الصخرة المقيتة، فبدأنا نرى شباباً ينتسبون إلى السلفية، وآخرون ينتسبون إلى أهل الحديث، وفريقاً ينتسبون إلى المذهبية، وآخرين يدعون اللا مذهبية، وبين هؤلاء وأولئك تتبادل الاتهامات المختلفة من التكفير والتفسيق والنسبة إلى البدعة والانحراف والعمالة والتجسس ونحو ذلك، مما لا يليق بمسلم أن ينسب أخاه إليه بحال، فضلاً عن أن يعلنه للناس بكل ما لديه من وسائل غافلين أو متغافلين عن أن ما يتعرض له الإسلام من محاولات استئصال أخطر على الأمة من تلك الاختلافات، وإذا كان للأزمة المجتهدين أسباب اختلاف تبرر اختلافهم، وتخفف منها، وتساعد على وضعها ضمن ضوابط الاختلاف، فإن أرباب الاختلاف من المعاصرين لا يملكون سبباً واحداً من أسباب الاختلاف المعقولة، فهم ليسوا بمجتهدين، وكلهم مقلدون بمن فيهم أولئك الذين فعون أصواتهم عالياً بنبذ التقليد ونفيه عن أنفسهم، وأنهم يأخذون الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة دون تقليد، وهم في الحقيقة يعكفون على بعض كتب الحديث، ويقلدون كاتبيها في كل ما يقولون في الحديث ودرجته ورجاله ويتابعونهم في كل ما يستنبطونه من تلك الكتب أو ينقلونه من الفقهاء، وكثير منهم ينسب لنفسه العلم بالرجال ومعرفة مراتب الجرح والتعديل وتاريخ الرجال، وهو في ذلك لا يعدو أن يكون قد درس كتاباً من كتب القوم في هذا الموضوع أو ذاك فأباح لنفسه أن يعتلي منبر الاجتهاد، وحق له أن يتعالى على العباد، وحري بمن نال نصيباً من العلم أن ينهاه علمه أن يكون من الجاهلين، وأن يترفع عن توزيع الألقاب واتهام الناس، ويدرك خطورة ما تثعرض له عقيدة الأمة فيعمل على الذب عنها، ويحرص على جمع القلوب، وما دام الجميع يقلدون ويأخذون عن أئمتهم أقوالهم على اختلافهم - وإن زعموا غير ذلك - فلا أقل من أن يلتزموا بآداب الاختلاف التي عاش في كنفها كرام الأئمة من السلف.
لقد كان المؤمنون المخلصون يؤملون أن تنطلق هذه الصحوة الخيرة لتردم ما أحدثته الأفكار الكافرة والملحدة، والعقائد الزائفة المنحرفة من هوة سحيقة في كيان هذه الأمة التي اجتالت الشياطين عقول وأفئدة الكثير من أبنائها، وتطهر قلوبهم من ذلك الزيغ لتحل محله العقيدة الإسلامية الصحيحة، ثم تنطلق برسالة الله إلى هذا العالم الفسيح فتعلو كلمة الله في الأرض، ولكن ما يحز في النفس أن يعمل بعض أبناء المسلمين ما يستحق من الأمور وما لا يستحق، الأمر الذي شغل المسلمين بأنفسهم، وبدد الكثير من طاقاتهم، وخلط أمامهم الأشياء خلطاً عجيباً جعلهم لا يفرقون بين الهنات الهيِّنات وعظائم الأمور، وبين يسيرها وجليلها، فكيف يمكن لقوم هذا شأنهم أن يعالجوا قضاياهم حسب أهميتها وأن يرتبوا الأمور بشكل يجعلهم قادرين على استئناف مسيرة الحياة الإسلامية؟!
إن إثارة الخلاف بين المسلمين، أو تنمية أسبابه خيانة عظمى لأهداف الإسلام ، وتدمير لهذه الصحوة المعاصرة التي أحيت الأمل في النفوس، وتعويق لمسيرة الإسلام ، وتثتيت لجهود العاملين المخلصين لا يرضي الله جلّ شأنه، ولذلك فإن من أكثر وأهم واجبات المسلمين اليوم عامة - والدعاة منهم خاصة - بعد الإيمان بالله تعالى: العمل على توحيد فصائل حملة الإسلام ودعاته، والقضاء على كل عوامل الخلاف بينهم، فإن كان لا محالة فليكن في أضيق الحدود، وضمن آداب سلفنا الصالح، ولا يمنع اختلاف الآراء من التقاء القلوب لاستئناف الحياة الإسلامية الكريمة ما دامت النية خالصة لوجه الله تعالى، وعندها فلن يعدموا التوفيق والتأييد من الله.
كانت الحالة العلمية في بلاد المسلمين قبل دخول المستعمر الكافر إليها ما وصفنا، أما بعد دخوله ديار الإسلام فقد ازداد الأمر سوءاً، فقد عرف المحتلون أين يكمن فضل هذه الأمة، فوجهوا اهتمامهم إلى وضع برامج التعليم وبناء مؤسساته بالطريقة التي تضمن لهم عقول المسلمين وتغيير أفكارهم حتى تصبح مهيأة لقبول الأوضاع والأفكار العالمية الجديدة ومحاولة الانسجام معها، زعماً من المستعمرين الكفرة أن في تقبل المسلمين للواقع الجديد دفعاً لهم في مدارج الرقي والتقدم قياساً على البلاد الأوروبية التي لم تخط خطوتها الجادة نحو مدارج الحضارة إلاّ بعد أن تمردت على الأحكام الدينية، وتحررت من ربقة الكنيسة، وأن الدين - أي دين بزعمهم - ليس إلاّ قيداً يحول دون انطلاق الإنسان نحو النعيم المنتظر((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إلاّ كَذِباً )) (الكهف :5) وإذا كانت هذه الادعاءات صحيحة بالنسبة لأديانهم المحرفة فما أبعد أن يصح ذلك بالنسبة للإسلام الذي شاء الله أن تسعد به البشرية وتحقق سائر طموحاتها وهي تتحرك بنور الله.
وسعياً لقطع الأمة عن أسباب وجودها وحياتها الإسلامية وضع المستعمر الكافر كل العراقيل والعقبات أمام التعليم الإسلامي، وما يمكن منه وهو تعليم اللغة العربية، وتحقيقاً لهذا الهدف فقد أهمل الطلبة الذين ينحون منحى التعليم الإسلامي، وبث الأفكار التي تقلل من شأنهم وتستهين بدراساتهم التي لم تعد تؤهلهم لشغل أدنى المراتب والمناصب، وبالمقابل خص بالرعاية والعناية الطلبة الذين انخرطوا في المدارس الحديثة، وتلقوا تعليمهم فيها، وفتحت أمامهم أبواب المستقبل الزاهر، فأصبحت المواقع القيادية في الأمة وقفاً عليهم، وهكذا ضيق الخناق على أهل التعليم الإسلامي واللغة العربية وسدت جميع السبل المؤدية إليه، ولم يعد يقدم على سلوك سبيله إلاّ نزر يسير من الطلبة يتعرضون - عادة - إلى مضايقات كثيرة جداً قد تحملهم على التراجع في أي مرحلة من مراحل الطريق، ومن أصر على الاستمرار فإن أمامه -دائماً - ألواناً من التمييز بينه وبين لآخرين، كما قلنا، في الأعمال والوظائف والمرتبات والدرجات تجعله يشعر بالظلم وانتقاص القدرة، لذلك فإن التعليم الإسلامي، في معظم بلاد المسلمين، قد قلَّ طالبوه وتدنى مستواه، وصار معظم الذين يقبلون عليه كمن يزرع في أرض لا يرجو جني حصادها، وقد لا يدفعهم إلى هذا النوع من التعليم إلاّ ظروف معينة، لا يقوون على التحرر من ضغوطها حتى بعد التخرج حيث السبيل موصدة أمامهم، ولا قدرة لهم على ممارسة الدور الذي ينبغي العالم أن يقوم به في المجتمع وتحقيق الرسالة المنوطة به، وأمام الأبواب الموسدة يفقدون استقلالهم وتضمحل شخصياتهم ويُحْملون على الانخراط في مؤسسات دينية رسمية أعدت، من قبل، لخدمة أغراض مرسومة محددة لا يستطيعون تجاوزها، حيث يحال بينهم وبين تأدية دورهم في المجتمع، وفقد الناس ثقتهم بهم.
وفي محاولة لتعميق الهوة بين هذه الأمة وعقيدتها، ورغبة في قطع الجذور التي تصلها بشريعتها، حاول المستعمر الكافر وضع التعليم الإسلامي وتعليم اللغة العربية في الظل، وأخلى الساحة لأفكار ومبادئ اختارها، وزين لشباب الأمة ورود حياضها، فلم يجن هذا الشباب إلاّ الشوك والقذى. ولم يذق غير مر العلقم، لقد جرّب الشباب المسلم كل ألوان الفكر الذي قدم له من شيوعية إلى اشتراكية إلى راديكالية وقومية وديمقراطية وغيرها مما زُيِّنَ له من الغثاء الذي زاد الأمة الإسلامية هواناً على هوان، وذلاً فاق ما كانت فيه، وأيقن أن الإسلام - وحده - القادر على معالجة مشكلات الأمة، والنهوض بها من كبوتها، والقضاء على أسباب تخلفها، فقرر أن يتجه - بعد أن تاهت به السبل - إلى الإسلام ، وأن يسلك السبيل إليه من غير رفيق سوء يخاف على دينه ونفسه، ولما واجهته مشكلة التفقه في الدين ومعرفة أحكامه لجأ إلى الكتب من غير دراسات منهجية أن أصبح هؤلاء الشباب يفهمون الإسلام من خلال الكتب التي قرؤوها فرؤوا جانباً محدوداً من الإسلام لا يعطيهم الفكرة الشاملة المتكاملة عنه، ولا يمكنهم معرفة مقاصده وكلياته، ولا يمنحهم الرؤية السليمة من خلال غاياته، فهم أشبه بمجموعة من المكفوفين مرت أياديهم على مواضع متفرقة من جسم الفيل واعتبر كل منهم ما لمسه هو الفيل، وهكذا حال المسلمين مع الإسلام وتركب عربة الهوى تطوف بها بين شرق وغرب حتى كأن لم يعد يربطها بالإسلام إلاّ أسماء ورثتها، ولولا بقية حياء لتبرأت منها. وأخرى تحن للعودة إلى دوحة الإسلام الوارفة ولكنها تتخذ إليها سبلاَ مختلفة فيفرق بينها الاختلاف، ويمكِّن منها الأعداء، وتلاحقها عصا السلطان تحت كل سماء تحاول أن تسد عليها كل منفذ، وتستأصل شأفتها قبل أن يستقيم عودها.
سبيــل النجـاة:
والآن وقد شخص الداء الذي تعاني الأمة منه، فلعل فيما يأتي شيئاً من علاج:
أولاً:
إن على المسلمين المخلصين الذين يعلمون في حقل الدعوة الإسلامية، ويعيشون واقع مأساة الأمة وحقيقتها أن يختاروا مجموعة من أذكى أبناء الأمة وأنبه شبابها، ويهيؤوا لهم أفضل السبل لدراسة علوم الشريعة الذين يجمعون بين العلم والقدوة الحسنة والتقوى والفكر السليم والإدراك القويم لغايات الإسلام ومقاصده وكلياته والفقه في علومه، وأن يتخذوا من أسلوب التربية النبوية منهجاً لهم، ويعضد هؤلاء الشباب فئة أخرى تمكنت من العلوم العصرية المختلفة ممن نرى فيهم أنهم على قدر كبير من الإخلاص والتقوى، اعل هؤلاء وأولئك بعد ذلك أن يوجهوا المسيرة ويرشدوا الصحوة ويسددوا خطاها، فتستعيد الأمة عافيتها، وتستأنف دورها القيادي للبشرية التي تدنو من الهاوية يوماً بعد يوم، ولا نجاة لها إلاّ في الإسلام.
ثانيــاً:
تعديل مسار الفكر لدى المسلمين، بحيث تعالج الأزمة الفكرية التي يعيشها المسلمون اليوم، ولا يدرك إلاّ القلائل أبعادها، هذه الأزمة التي تبرز بوضوح من خلال انهيار مؤسسات الأمة، وانعدام منظماتها وتدني مستوى الوعي والمعرفة والتربية في أبنائها، وتفكك علاقاتها وانحراف الكثرة الغالبة من قياداتها، وإحباط المحاولات الخيرة للنخبة الصالحة من أبنائها، كل ذلك لأن الإسلام أقصي عن حياة الأمة، وغدت الهوة عميقة بين مُثُلِ الإسلام وبين جماعات بشرية ترى الإسلام سابة في السماء لا تمطر ولا تحيي الموات، أو ماء على صخرة ملساء لا ينبت زرعاً ولا كلأ، حيث القلوب غلظت وعلاها الران، والعيون عمشت فما عادت تفرق بين خير وشر.
إن المؤسسات التعليمية المختلفة قد أخفقت في أن تقدم للأمة الإنسان المسلم السوي، فالجامعات التي أقيمت على النمط الغربي في بلاد المسلمين، لم تر أن من مهمتها إعداد العالم المسلم في سائر فروع المعرفة والذي يقوى على أسلمة جميع المعارف والعلوم على يديه، بل رأت أن مهمتها: إعداد المتعلم المفتون بعلوم الغرب وفنونه، والذي سرعان ما يدير ظهره لعقيدة الأمة وأهدافها وغاياتها في الحياة. فخرجت تلك الجامعات أجيالاً ضعيفة في انتمائها، مرتبكة في علاقاتها، مضطربة في تفكيرها، عاجزة عن تسخير معارفها لخدمة الأمة.
وأما المؤسسات التعليمية التي أضفيت عليها الصبغة الشرعية، كالأزهر والجامعات المماثلة له، أو الكليات والمعاهد المشابهة لكلياته ومعاهده فهي وإن نجحت بشكل محدود في أن تقدم للأمة بعض المتخصصين الجيدين في بعض العلوم الشرعية، إلاّ أنها عجزت عن أن تعدم للأمة علماء مسلمين قادة ومفكرين ومجددين يستطيعون أن يقدموا الإسلام للأمة من خلال كلياته وغاياته ومقاصده، ويواجهوا التحديات المعاصرة، وينتصروا عليها، ولذلك انحسر الفكر الإسلامي، ولم يعد هو المهيمن على حياة المسلمين وتفكيرهم، وانفتحت عقول المسلمين وقلوبهم لكل ألوان الفكر المغاير للإسلام، ووقف المسلمون عاجزين عن معالجة قضاياهم في مجالات السياسة والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي وغيرها، ناقلين نقلاً مشوهاً كل ما يرونه لدى الآخرين، وفتكت الصراعات المختلفة بين المتعلمين من أبناء الأمة في سائر مقوماتها، هذه الصراعات التي كانت تحسم في الكثير الغالب لصالح الفريق المتأثر بالغرب، المفتون بثقافته، وبدلاً من أن توحد الطليعة المؤمنة صفوفها وتعمل على مواجهة هذه التحديات شغلت - للأسف - بصراعات وقضايا خلافية، وذلك لاختلاط الجزئيات بالكليات والمقاصد بالمبادئ في أذهان الكثيرين من أبنائها.
إننا بحاجة ماسة إلى الفكر الإسلامي السليم القائم على فهم روح الإسلام وغاياته وقواعده الكلية، ومراتب أحكامه من خلال مصدريه العظيمين: الكتاب الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما نحتاج إلى دراسة سبل السلف الصالح في تعامله مع هذه المصادر خلال القرون الخيِّرة وأساليب فهمهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لنتمكن من إعادة طرح التصورات والحلول الإسلامية لما تعاني منه الأمة بشكل يجهلها على يقين تام ا، الإسلام هو السبيل الأوحد لإنقاذها وفيه الحل الأمثل لجميع مشكلاتها، هذا اليقين الذي يحمل الأمة على الالتفاف حول أسس الفكر الإسلامي بوعي وإدراك يحول بينها وبين الشياطين أن تجتالها، فإذا ثابت الأمة إلى رشدها، ووضعت يدها على الجرح، وعرفت موطن الداء لا بد لها بعد ذلك أن تتبين الخطوات التي يجب أن تملكها للوصول إلى الدواء وتحقيق الهدف، وما ذلك عنها ببعيد.
(*) الفقهاء السبعة: يراد بالفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسليمان بن يسار، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهم الذين نظم الشاعر أسماءهم بقوله:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر ورايتهم ليست عن العلم خارجة
فقال: هم عبد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة
وكلهم من التابعين: انظر إعلام الموقعين (1/23).
وريثما يتم تحقيق الهدفين لا بد من وعي الطليعة المؤمنة الجملة من الأمور حتى تأمن على نفسها العثار منها:
1 - أهمية إدراك الشباب المسلم أنه وإن كان الباري جلت قدرته قد يسر القرآن للذكر وهيأ لنا سبل الاطلاع الواسع على السنة من خلال كتبها الكثيرة المتوفرة فإن الأخذ عن تلك المصادر بمبادرات فردية فيه الكثير من المحاذير، فلا بد من الاستعداد السابق ثم التزود لذلك بأدواته التي فصلها أهل الاختصاص من معرفة ضوابط الاستنباط وقواعده، وإتقان العربية وأساليب التعبير فيها، ومعرفة علوم الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والعام المراد به الخصوص، والمطلق والمقيد من النصوص وغير ذلك من عوارضها، فإن أي قول يصدر عن المسلم من غير إحاطة ومعرفة بتلك الوسائل إنما هو قول في الدين بالتشهي والخرص والتخمين، من غير ولا هدى ولا علم، ومن فعل ذلك فقد ركب مركباً صعباً وأودى بنفسه والعياذ بالله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرى، بغير علم فليتبوأ مقعده من النار "(166) وهذا النوع من المعرفة لا يمكن تحصيله من خلال قراءة كتاب أو كتابين، بل لا بد من دراسة منهجية متقية، تضع في يد الدارس مفاتيح تلك العلوم التي تهيء له سبيل الولوج إلى ساحة الفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية، وحتى تؤتي تلك الدراسة أكلها لا بد أن تعتمد على البحث المتقصي الذي يقوده الأستاذ المتقي والموجِّه المجيد، والناقد البصير، في ظل من تقوى الله وابتغاء الأجر منه.
2 - لا بد من التنبيه إلى أن هذه الشريعة أنزلت لتسعد الناس في الدارين: الدنيا والآخرة، ولتحقق لهم مصالحهم بما ينسجم وقدراتهم العقلية التي أنعم الله بها على عباده، فكرمهم سبحانه على صائر مخلوقاته، ولم تتضمن الشريعة السمحاء أمراً لا يطيق الناس إتيانه أبداً ولذلك قال الله تعالى: ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّين مِنْ حَرَجٍ )) (الحج:78) وقد يسر سبحانه على عباده حتى يعملوا بهذا الدين في ظل المحبة لا القسر والإكراه، ويقول جلّت قدرته في ذلك: ((يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر َ)) (البقرة: 185) و((يُرِيدُ اللهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ )) (النساء: 28).
وكل الأحكام الشرعية حوت مصلحة العباد وحرصت على تحقيق النفع لهم، ولا شيء فيها يعود الله تعالى نفعه، ذلك لأنه تعالى هو الغني الحميد، ولذلك فإنه لا بد من فهم جزئيات الشريعة في ضوء تلك الكليات ونحوها، ومن لم يحط بكليات الشريعة، ويفهم مقاصدها، ويدرك قواعدها فإنه لن يستطيع أن يرد الفروع إلى الأصول والجزئيات إلى الكليات، يقول الإمام ابن برهان(167) : "… إن الشرائع سياسات يدبر بها الله عباده، والناس مختلفون في ذلك بحسب اختلاف الأزمنة، فلكل زمان نوع من التدبير، وحظ من اللطف والمصلحة تختص به، كما أن لكل أمة نوعاً من التدبير يصلحهم وإن كان ذلك مفسدة في حق غيرهم "(168).
وقد اتفقت كلمة علماء الأمة على الأمة على أن أحكام الشريعة - كلها - معللة بمصالح العباد، ولأجلها شرعت، سواء منها ما هدانا الله لمعرفته بالنص عليه أو بالإيماء إليه؛ وما لم نهتد إليه فلحكمة يعلمها الله جلّ شأنه، ولذلك فإن كثيراً من الأحكام الاجتهادية تتغير بتغير الأزمنة، وقد تختلف باختلاف الأشخاص وطاقاتهم وقدراتهم وظروفهم.
كذلك ينبغي أن ندرك أن نصوص الكتاب والسنة، منها ما هو قطعي في ثبوته، وهو القرآن العظيم والمتواتر من السنة.. وأن من السنة ما هو ظني في ثبوته، مثل: أخبار الآحاد. ودلالة النص قد تكون ظنية، وقد تكون قطعية كذلك، ومعرفة كل ذلك له أثره في الاستنباط والاجتهاد والفهم من النص، فليس لأحد أن ينكر على الآخرين ما قد يفهمونه من النص من فهم مخالف لفهمه، ما دام اللفظ يحتمله، والدليل يتسع له، ونصوص الشرع الأخرى لا تناقضه أو تعارضه، ومعظم الأحكام المتعلقة بالفروع والمتناولة للنواحي العملية هي من النوع الذي يثبت بالطرق الظنية رحمة من الله تعالى بعباده، ليتسع للناس مجال الاجتهاد فيها، وما دام الشارع الحكيم قد فتح باب اليسر للعباد، وجعل مصلحة الناس معتبرة فلا يليق بأحد أن ينسب مخالفاً له في أمر من هذه الأمور إلى كفر أو فسق أو بدعة، بل عليه، يلتمس لمخالفه من الأعذار ما يجعل حبل الود موصولاً بينهما، فيحظى بحبه وتقديره ويرعى أخوته ووداده.
3 - إن من أهم الواجبات أن يدرك الجميع أن أخوة الإسلام ووحدة صفوف المسلمين المخلصين والحفاظ عليها ونبذ كل ما يسيء إليها أو يضعف من عراها من أنهم الفرائض وأخطرها، وعبادة من أهم العبادات، وقربة من أفضل القربات لأننا بتلك الأخوة نقوى على التصدي لكل العقبات التي تعيق استئناف الحياة الإسلامية على الصورة التي ترضي الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرنا من الفرقة بأن أهدر دم المفرق للجماعة، ولذلك فإن التفريط بالأخوة الإسلامية أو المساس بها لمجرد اختلاف في الرأي أمر لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو أن يسقط في شراكه، ولا سيما في هذه الظروف التي تداعت فيها علينا الأمم، تريد أن تطفئ جذوة الإيمان التي بدأت تتقد في القلوب، وتبيد البذرة الطيبة التي بدأت تشق التربة رغم الأيدي العابثة التي تنهال عليها وتحاول اجتثاثها.
إن الأخوة في الله ووحدة القلوب بين المسلمين تحتل المراتب الأولى للواجبات، بل هي في مقدمتها لأنها شقيقة التوحيد وقرينته، كما أن هناك مراتب للمنهيات يقع النيل من الأخوة في مقدمتها كذلك. ولذلك فإن علماء السلف كثيراً ما يفعلون المفضول ويتركون الأفضل منه مراعاة للائتلاف وخروجاً من الخلاف، وقد يتركون المندوب، في نظرهم، ويفعلون الجائز تحقيقاً لذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المسلمون متفقون جواز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة، يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ بالبسملة، ومنهم من لا يقرأ بها، ومع هذا فقد كان بعضهم يصلي خلق بعض، مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سراً ولا جهراً وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم، وأفتاه مالك بعدم وجوب الوضوء فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد… وكان أحمد يرى الوضوء من الحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ أصلي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟(169) ولا يجولن بفكر أحد أن حرصنا على الأخوة الإسلامية ووحدة صف المسلمين يعني التساهل في قضايا العقيدة الأساسية التي لا تحتمل التأويل ضمن حدود القواعد الثابتة في العقيدة، ذلك لأن الحرص على مجابهة أعداء الأمة لن يدفعنا إلى أن نضع أيدينا بأيدي الذين ليس لهم نصيب من الإسلام إلاّ الأسماء بحجة الحرص على الأخوة، فالقضايا الخلافية التي لا يجوز أن تفرقنا هي تلك التي اعترف بها كرام العلماء من أئمة السلف، وتعاملوا معها من خلال آداب فاضلة، وكان لديهم من الأدلة ما يجيز أكثر من وجه ".
4 - كما أن الأمور المعروفة أن الباري سبحانه قد شرع للناس تأدية العبادات في كثير من الأمور على درجات تتنوع بين الأفضل والاختيار والجواز، وإن كانت الدرجات السابقة كلها تلتقي في زاوية القبول عند الله تعالى، لكنها تتفاوت في المراتب، فكثير من الفرائض والواجبات لها صور متعددة تدخل ضمن هذه الدرجات الثلاث، فيمكن أن تؤدى العبادة على أفضل صورها الشرعية فتقبل مع ثواب الفضل، كمن يصلي أول الوقت مع الجماعة ويؤدي سائر السنن المطلوبة للصلاة، وهناك الاختيار وهو تأدية العمل نفسه دون مرتبة الأفضل كمن يصلي في الوقت ولكن ليس في أوله، بل في وقت الاختيار منه، ثم المرتبة الثالثة: مرتبة الجواز وهي المرتبة التي إن قبل العبد لنفسه بأقل منها سلك في عداد المقصرين، وفي الثر (حسنات الأبرار سيئات المقربين ) فمن انتظر من جميع الناس على اختلاف ظروفهم وأوضاعهم تحقيق الصورة المثلى للإسلام، فقد أراد أمراً ليس من السهل إدراكه، ولولا تفاوت مراتب العبادات والطاعات لما تباينت درجات المؤمنين في الجنة، فطاقات الناس مختلفة وقدراتهم متباينة وكل ميسر لما خلق له.
أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره(170) أن أناساً لقوا عبد الله بن عمر بمصر فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يُعمل بها ولا يُعمل بها فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك، فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر رضي الله عنه ، فقال: متى قدمت؟ قال: كذا وكذا، قال: أبإذن قدمت؟ قال الحسن (راوي الحديث ): (فلا أدري كيف ردّ عليه ) فقال: يا أمير المؤمنين إن أناساً لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء من كتاب الله تبارك وتعالى، أمر أن يُعمل بها ولا يعملون بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك. فقال: اجمعهم لي، قال: فجمعتهم له… فأخذ أدناهم رجلاً فقال: أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم. فهل أحصيته (أي عملت به كله ) في نفسك؟ قال: اللهم لا (ولو قال نعم لخصمه ) قال: فهل أحصيته في بصرك؟ هل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ قال: ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال: ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن تكون لنا سيئات. قال: وتلا قوله تعالى: ((إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً )) (النساء::31) ثم قال: هل علم أهل المدينة؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا : لا. قال: لو علموا لوعظت بكم. أي: لنكَّل بهم ليجعلهم غبرة وموعظة لغيرهم.
وفي هذا درس بليغ يوضح فيه سيدنا عمر رضي الله عنه أن الصورة المثلى التي رسمها القرآن العظيم للمسلم هي صورة أنموذجية ينبغي أن يحاول المسلم تحقيقها، ولكن حين يقصر عنها فعليه أن يدرك أن رحمة الله واسعة، وأنه حين تجتنب الكبائر فإن المسلم على خير كثير إي شاء الله، ولكن عليه أن يطمح دوماً إلى الصورة المثلى ولا يعجب بالأدنى فيقف عند حدوده.
5 - والعل مما يساعد على التقليل من أسباب الاختلاف في الوقت الحاضر، ويبعث على التحلي بآدابه: معرفة أسباب اختلاف الفقهاء من السلف رضوان الله عليهم، وفهم تلك الأسباب ومدى موضوعيتها، ليكون ذلك من بواعث التمسك بـ"أدب الاختلاف ".
فإنهم حين اختلفوا، إنما اختلفوا لأسباب موضوعية، وكانوا جميعاً مجتهدين، وكان كل واحد منهم في طلب الحق كناشد ضالة لا فرق لديه بين أن تظهر تلك الضالة على يديه أو على يدي سواه.
6 - ولعل من الأمور المفيدة في حمل المسلمين على التمسك بآداب الاختلاف معرفة المخاطر الهائلة، والتحديات الخطيرة، والخطط الماكرة التي يعدها أعداء الإسلام للقضاء على الطليعة المؤمنة التي تحمل لواء هذه الدعوة، وليس في حساب الأعداء أبداً أن تفلت من يدها، إن استطاعت، فئة دون أخرى، فالمهم هو القضاء على العامل للإسلام على اختلاف مذاهبهم وتباين وجهات نظرهم، وهذا يجعل إثارة أي اختلاف بين المسلمين، أو تنمية أسبابه، أو تجاوز آدابه خيانة عظمى لأهداف الأمة، وجريمة كبرى في حقها لا يمكن تبريرها أو الاعتذار عنها بحال.
7 - وقبل هذا وبعده لا مناص من التزام تقوى الله في السر والعن وابتغاء رضاه في حالتي الوفاق والخلاف، مع الحرص على فقه دين الله والتجرد عن الهوى والبعد عن نزغات الشيطان، ومعرفة سبل إبليس والحذر من شراكه، وحسب الأمة ما لقيت وعانت، سبل إبليس والحذر من شراكه، وحسب الأمة ما لقيت وعانت، وقد آن الأوان لتثوب إلى رشدها، وتستنير بكتاب ربها، وتعض على سنة نبيها صلى الله عليه وسلم بالنواجذ، ولعل الله يكتب إنقاذ الأمة على أيدي هذا الجيل من أبنائه البررة، إذا صدقت النية مع الله، واتخذت من السبل ما هو كفيل بقيادة الركب نحو شاطئ الأمان، بعد أن طال ليل التيه والضلال، ولا يبخلن الصالحون من الأمة بالدعاء للعصبة المؤمنة بالسداد والتوفيق، نسأله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بماعلمنا ويزيدنا علماً، ويجمع على الحق كلمتنا، ويلهمنا الرشد والسداد في أمورنا كلها، ويقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وألاّ يجعلنا كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثاً، إنه أهل ذلك سبحانه، والقادر عليه.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ولقراءة الجزء الأول من الكتاب اضغط هنا
ولقراءة الجزء الثاني من الكتاب اضغط هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق