- عنوان الكتاب: أدب الإختلاف في الإسلام
- المؤلف: طه جابر العلواني
-الفصل الأول : في بيان حقيقة الإختلاف وما يتصل به.
-الفصل الثاني : تاريخ الإختلاف وتطوره.
-الفصل الثالث : إختلاف مناهج الأئمة في الإستنباط.
-الفصل الرابع : أسباب الإختلاف وتطورها.
-الفصل الخامس : في معالم الإختلاف بين الأئمة وآدابه.
-الفصل السادس : الخلاف بين القرون الخيرة وآدابه.
المذاهب الفقهية التي ظهرت بعد عصر الصحابة وكبار التابعين يعدها بعضهم ثلاثة عشر مذهباً، وينسب جميع أصحابها إلى مذهب "أهل السنّة " الذي كان وبقي مذهب جماهير المسلمين وعامتهم، ولكن لم ينل حظ التدوين سرى فقه ثمانية أو تسعة من هؤلاء الأئمة، وقد تباين ما دوِّن من فقههم فحظي بعضهم بتدين كل فقهه، على حين اقتصر على بعضه بالنسبة للآخرين، ومما دوِّن لهؤلاء وهؤلاء عرفت أصول مذاهبهم ومناهجهم الفقهية وهؤلاء هم:
أولاً: الإمام أبو سعيد الحسن بن يسار البصري توفي سنة (110هـ ).
ثانياً: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي توفي سنة (150هـ ).
ثالثاً: الإمام الأوزاعي أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد توفي سنة (157هـ ).
رابعاً: الإمام سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري توفي سنة (160هـ ).
خامسا: الإمام الليث بن سعد توفي سنة (175هـ ).
سادساً: الإمام مالك بن أنس الأصبحي توفي سنة (179هـ ).
سابعاً: الإمام سفيان بن عينة توفي سنة (198هـ ).
ثامناً: الإمام محمد بن إدريس الشافعي توفي سنة (204هـ ).
تاسعاً: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل توفي سنة (241هـ ).
وهناك الإمام داود بن على الأصبهاني البغدادي المشهور بالظاهري نسبة إلى الأخذ بظاهر ألفاظ الكتاب والسنة توفي سنة (270هـ ).
وغير هؤلاء كثير أمثال: إسحاق بن راهويه المتوفى سنة (238هـ )، وأبي ثور
إبراهيم بن خالد الكلبي المتفى سنة(240هـ ). وهناك آخرون لم تنتشر مذاهبهم،
ولم يكثر أتباعهم، أو اعتبروا مقلّدين لأصحاب المذاهب المشهورة.
أما الذين تأصلت مذاهبهم وبقيت إلى يومنا هذا، ولا يزال لها الكثير من المقلدين في ديار الإسلام كلها، ولا يزال فقههم وأصوله مدار التفقه والفتوى - عند الجمهور- أولئك هم الأئمة الربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
مناهج الأئمـة المشهورين:
يعتبر الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، فقهاء حديث وأثر، فهم الذين تلقوا فقه أهل المدينة، وحملوا علومهم، أما الإمام أبو حنيفة فهو وارث فقه "أهل الرأي " ومقدّم مدرستهم في عصره.
إن الاختلاف الذي كان بين مدرسة "سعيد بن المسيب" التي قامت على فقه الصحابة وآثارهم، وسار على نهجها المالكية والشافعية والحنابلة وبين مدرسة "إبراهيم النخعي " التي تعتمد الرأي إن غاب الأثر، هذا الاختلاف كان طبيعياً أن ينتقل إلى كل من أخذ بمنهج إحدى المدرستين، ولا ينكر أحد أن الخلاف قد خفت حدته كثيراً في هذا الطور، ذلك أنه بعد انتقال الخلافة إلى بني العباس، نقل العباسيون بعض كبار علماء الحجاز إلى العراق ليشر السنة هناك، منهم: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد (85) وهشام بن عروة(86) ومحمد بن إسحاق(87) وغيرهم، كما أن بعض العراقيين رحلوا إلى المدينة وتلقوا عن علمائها، كأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم(88) ومحمد بن الحسن اللذين (89) أخذا عن مالك(90) كما انتقل كثير من آراء العراقيين وأفكارهم إلى الحجاز كانتقال أفكار الحجازيين إلى العراق، ومع ذلك فقد نجد الأئمة الثلاثة مالكاً والشافعي وأحمد يشكلون منهجاً متقارباً فيما بينهم وإن اختلفوا في بعض مناهج الاستنباط وطرائقه، على حين تميز الإمام أبو حنيفة عنهم في منهجه.
1- منهج الإمـام أبى حنيفـة:
بقي الإمام أبو حنيفة رمزاً لمنهج مختلف عن مناهج الأئمة الثلاثة ويشكل ظاهر، فقواعد مذهبه كما بينها هو تتلخص بقوله: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم. فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن المسيب (وعدّد رجالاً)، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا ".
هذه هي الأصول الكبرى لمذهب أبي حنيفة، وهناك أصول فرعية أو ثانوية مفرعة على هذه الأصول أو راجعة إليها، وهي التي يبدو فيها الخلاف ويظهر، كقولهم: "قطعية دلالة اللفظ العام كالخاص "(91) و"مذهب الصحابي على خلاف العموم مخصص له "(92)، و"كثرة الرواة لا تفيد الرجحان " و"عدم اعتبار مفهوم الشرط والصفة "(93) و"عدم قبول خبلا الواحد فيما تعم به البلوى "(94) و"مقتضى الأمر الوجوب قطعاً ما لم يرد صارف " و"إذا خالف الراوي القفيه روايته بأن عمل على خلافها: فالعمل بما رأى لا بما روى " و "تقديم القياس الجلي على خبر الواحد المعارض له " و"الأخذ بالاستحسان(95) وترك القياس عندما تظهر إلى ذلك حاجة " ولذلك نقلوا عن الإمام أبي حنيفة قوله: "علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه ".
2- منهج الإمـام مالـك:
أما الإمام مالك رحمه الله فذو منهج مختلف، فهو يقول: "أفكلّما جاءنا رجل تركنا ما يزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله "(96) وقد مربنا أن مذهبه هو مذهب الحجازيين أصحاب مدرسة الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله ، وتتلخص قواعد مذهب مالك بما يلي:
· الأخذ بنص الكتاب العزيز.
· ثم بظاهره وهو العموم.
· ثم بدليله وهو مفهوم المخالفة.
· ثم بمفهومه (ويريد مفهوم الموافقة ).
· ثم تنبيهه، وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى: ((فّإنَّهُ رِجْس أَوْ فِسْقاً )).
وهذه أصول خمسة ومن السنة مثلها فتكون عشرة.
· ثم الإجمـاع.
· ثم القياس.
· ثم عمل أهل المدينة.
· ثم الاستحسان.
· ثم الحكم بسد الذرائع.
· ثم المصالح المرسلة(97).
· ثم قول الصحابي (إن صح سنده وكان من الأعلام ).
· ثم مراعاة الخلاف (إذا قوي دليل المخالف ).
· ثم الاستصحاب.
· ثم شرع من قبلنا.
4- منهج الإمـام الشافعي:
وأما قواعد وأصول مذهب الإمام الشافعي، رحمه الله، فهي ما أجمله في رسالته الأصولية "الرسالة " التي تعتبر أول كتاب أصولي جامع أُلِّف في الإسلام.
قال رحمه الله: "الأصل قرآن وسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد به فهو المنتهى، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به. وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إستاداً أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع لتن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال للأصل لِمَ وكيف؟ وإنما يقال للفرع لِمَ؟ فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة "(98).
فالإمام الشافعي - إذن - يرى أن القرآن والسنة سواء في التشريع، فلا يشترط في الحديث شرطاً غير الصحة والاتصال لأنه أصل، والأصل لا يقال له: لِمَ وكيف؟ فلا يشترط شهرة الحديث(99) إذا ورد فيما تعم به البلوى - كما اشترط ذلك الإمام أبو حنيفة - ولم يشترط عدم مخالفة الحديث لعمل أهل المدينة - كما اشترط ذلك مالك - ولكنه لم يقبل من المراسيل(100) إلا مراسيل سعيد بن المسيب، لأن لها طرقاً متصلة عنده، وقد خالف في هذا مالكاً والثوري ومعاصريه - من أهل الحديث - الذين كانوا يحتجون بها(101) وأنكر الاحتجاج بـ"الاستحسان " مخالفاً في ذلك المالكيَّة والحنفيَّة معاً، وكتب في رد الاستحسان كتابه "إبطال الاستحسان " وقال قولته المشهورة: "من استحسن فقد شرع " كمارد "المصالح الرسلة " وأنكر حجيتها، وأنكِر الاحتجاج بقياس لا يقوم على علّة منضبطة ظاهرة، وأنكر الاحتجاج بعمل أهل المدينة، كما أنكر على الحنفية تركهم العمل بكثير من السنن لعدم توفر ما وضعوه فيها من الشروط كالشهرة ونحوها، كما أنه لم يقتصر - كمالك - على الأخذ بأحاديث الحجازيين.
هذه هي أهم وأبرز أصول مذهب الإمام الشافعي إجمالاً، وفيها من المخالفة لأصول الحنفية والمالكيّة ما لا يخفى.
4- منهج الإمـام أحمد بن حنبـل:
وأما الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فقواعد مذهبه شديدة القرب من قواعد مذهب الإمام الشافعي -التي تقدم ذكرها - فهو يأخذ:
أولاً: بالنصوص من القرآن والسنة، فإذا وجدها لم يلتفت إلى سواها، ولا يقدم على الحديث الصحيح المرفوع شيئاً من "عمل أهل المدينة أو الرأي أو القياس، أو قول الصحابي، أو الإجماع القائم على عدم العلم بالمخالف ".
ثانياً: فإن لم يجد في المسألة نصاً انتقل إلى فتوى الصحابة، فإذا وجد قولاً لصحابي لا يعلم له مخالفاً من الصحابة لم يقده إلى غيره، ولم يقدم عليه عملاً ولا رأياً ولا قياساً.
ثالثاً: فإذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتضح له الأقرب إلى الكتاب أو السنة حكى الخلاف ولم يحزم بقول منها.
رابعاً: يأخذ بالحديث المرسل والضعيف إذا لم يجد أثراً يدفعه أو قول صحابي أو إجماعاً يخالفه، ويقدمه على القياس.
خامساً: القياس عنده دليل ضرورة يُلْجأ إليها حين لا يجد واحداً من الأدلة المتقدمة.
سادسا: يأخذ بسد الذرائع (102).
5 - منهـج الإمام الظاهري:
ولعل من المناسب التعرض إلى قواعد المذهب الظاهري وأصوله باختصار، ذلك لأن هذا المذهب من المذاهب الإسلامية ذات الأثر والتي لا يزال لهابين أهل السنة أتباع، وقد وقع أشد أنواع الخلاف بين الظاهرية وبين الحنفية ثم المالكية، ثم الحنابلة، ثم الشافعية، وقد كان داود يعترف للشافعي بكثير من الفضل.
وأبرز أصول المذهب الظاهري: التمسك بظواهر آيات القرآن الكريمة والسنة وتقديمها على مراعاة المعاني والحكم والمصالح التي يظن لأجلها أنها شرعت. ولا يعمل بالقياس(103) عندهم ما لم تكن العلة منصوصة في المحل الأول (المقيس عليه) ومقطوعاً بوجودها في المحل الثاني (المقيس ) بحيث ينزل الحكم منزلة (تحقيق المناط )(104).
كما يحرم العمل بالاستحسان، ويستدل بالإجماع الواقع في عصر الصحابة فقط؛ ولا يعمل بالمرسل والمنقطع خلافاً للمالكية والحنفية والحنابلة، ولا يعمل بشرع من قبلنا، ولا يحل لأحد العمل بالرأي لقوله تعالى: ((مَا فَرَّطْناَ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ… )) (الأنعام :38) وتعدية الحكم المنصوص عليه إلى غيره تعد لحدود الله تعالى، ولا يحل لأحد القول بالمفهوم المخالف.
والتقليد حرام على العامي كما هو حرام على العالم وعلى كل مكلف جهده الذي يقدر عليه من الاجتهاد (105) .
ولنــا كلمــة:
والحقيقة أن كثيراً الأصول التي نسبت إلى الأئمة المتبوعين هي أصول مخرّجة على أقوالهم، لا تصح بها الروايات عنهم، فالتشبث بها، والدفاع عنها، وتكلف إيراد الاعتراضات والإجابات عنها، والرد على ما يخالفها، والانشغال بكل ذلك عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذلك كله من أبرز دواعي الاختلاف السيئ الذي لم يهدف إليه الأئمة أنفسهم رحمهم الله، وقد أبعد هذا المتأخرين من المسلمين عن معالي الأمور، وشغلهم بسفاسفها حتى تدنت الأمة إلى ذلك الدرك الهابط الذي تتمرغ فيه اليوم.
إذا سلمنا أن الاختلاف في القضايا الفكرية - التي منها القضايا الفقهية - أمر طبيعي، لما فطر عليه الناس من تباين في عقولهم وأفهامهم ومداركهم، وجب أن نقر بأن الاختلاف في عهد النبوة والخلافة الراشدة بين عديد من الصحابة كان أمراً واقعاً تشهد له جملة من الأحداث، وليس في نقيه ما يخدم هذا الدين، كما أننا لا نرى في بيانه مساساً بمثالية هذه الدعوة، وصدق نية أولئك الرجال الذين كانوا يختلفون، بل يمكن أن نقول: إن في ذكر هذه الاختلافات بياناً لواقعية هذا الدين، فهو يتعامل مع الناس على أنهم بشر، تتنازعهم عوامل مختلفة مما فطر الله تعالى خلقه عليه، ولكن الذي تطمئن إليه النفس المؤمنة أن ذلك الاختلاف لم ينشأ عن ضعف في العقيدة، أو شك في صدق ما يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان تحري الحق والرغبة في إصابة قصد الشارع من الأحكام بغية جميع المختلفين.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مصدر تلك الأحكام لم يكن عمر الخلاف يمتد لأطول من الطريق المؤدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رأينا من خلال الأحداث التي مرت أن أسباب الاختلاف في مجموعها، لم تكن تخرج عن تباين في فهم النص لأسباب لغوية أو اجتهادية، وذلك في تفسير ما بين أيديهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن هذه الأسباب لتخفي وراءها أية نوايا تحاول إنماء بذرة الخلاف التي كان المنافقون يحرصون على تعهدها.
لذلك سرعان ما كانت هذه الاختلافات تضمحل بلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الاحتكام إلى نص أدركه بعضهم وغاب عن الآخرين، لأن غاية ذي الفطرة السليمة نشدان الحق حيثما وجد.
من الطبيعي أن تنتقل بعض الأسباب الموضوعية للاختلاف من عصر لآخر حيث يصعب وضع حواجز تحصر خلفها أسباب الاختلاف في كل عصر، ولكن هناك أموراً كانت تستجد على الساحة الإسلامية، نتجت عنها أسباب وعوامل تذكي روح الاختلاف.
فمنذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه تعرضت الأمصار الإسلامية لهزات عنيفة أفرزت بعض الأحداث التي أدخلت إلى دائرة الاختلاف أموراً كانت خارجها، ربما أدت إلى انطواء أهل كل بلد أو مصر على ما وصلهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الوضع والدس، كما أشرنا من قبل.
وظهرت مدرستا الكوفة والبصرة كبيئة خصبة لتفاعل الأفكار السياسية وتعددت الفرق المختلفة، كالخوارج والشيعة والمرجئة(106)، وظهرت المعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل الأهواء والبدع.
وتعددت المناهج العقلية والفكرية بتعدد تلك الفرق، وأصبح لكل فرقة منطلقات وقواعد تنطلق منها في تعاملها مع نصوص الشارع، وفي تفسيرها للمصادر الشرعية، وفي مواقفها من القضايا المختلفة التي استجدت، وبدأت الحاجة تظهر إلى وضع الضوابط والقيود، وتحديد المناهج وطرق استنباط أحكام الوقائع من الوحي الإلهي، وتحديد ما يجوز الاختلاف فيه وما لا يجوز.
ولعل من فضل الله تعالى أن جعل الجانب الفقهي في دائرة ما يجوز فيه الاختلاف، وذلك لأن "الفقه " عبارة عن معرفة الفقيه حكم الواقعة من دليل من الأدلة التفصيلية الجزئية التي نصبها الشارع للدلالة على أحكامه من آيات الكتاب، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد يصيب الفقيه حكم الشارع، أو يوافقه، وقد لا يوافق ذلك، ولكنه في الحالتين غير مطالب بأكثر من أن يبذل أقصى طاقته العقلية والذهنية للوصول إلى حكم، فإن لم يكن ما وصل إليه حكم الشارع فهو أقرب ما يكون إليه في حقيقته وغاياته وآثاره، ولذلك كان الاختلاف أمراً مشروعاً وذلك لتوفر أمرين فيه:
الأول: أن لكل من المختلفين دليلاً يصح الاحتجاج به، فما لم يكن له دليل يحتج به سقط، ولم يعتبر أصلاً.
الثاني: ألاّ يؤدي الأخذ بالمذهب المخالف إلى محال أو باطل، فإن كان ذلك بطل منذ البداية، ولم يسع لأحد القول به بحال، وبهذين الأمرين يغير "الاختلاف " "الخلاف ".
فالاختلاف ما توافر فيه الشرطان المذكوران، وهو مظهر من مظاهر النظر
العقلي والاجتهاد، وأسبابه منهجية موضوعية في الغالب.
أما الخلاف فهو الذي يفقد الشرطين أو أحدهما، وهو مظهر من مظاهر
التشنج والهوى والعناد، وليس له من سبب يمت إلى الموضوعية.
أسباب الاختلافات الفقهية في عصر الفقهاء:
حرص الفقهاء الذين أجمعت الأمة على الأخذ بمذاهبهم، على التزام الشرطين
السابقين، وقد اختلف الناس في تحديد أسباب الاختلافات الفقهية في هذا العصر
اختلافاً بيِّناً : فمن مكثر في ذكر هذه الأسباب إلى مقتصد فيها، ومع ذلك فإن من الممكن إعادة هذه الأسباب إلى الأمور التالية:
1- أسبـاب تعود إلى اللغـة:
وذلك كأن يرد في كلام الشارع لفظ مشترك، وهو ما وضع لمعان متعددة ومختلفة، كلفظة "عين " التي تستعمل في الباصرة والجارية، وفي الذهب الخالص، وفي الرقيب، وغيرها من المعاني.
فإذا وردت في كلام الشارع مجردة عن القرينة، تساوت المعاني التي وضعت لها - في احتمال كون كل منها مراداً - فيختلف المجتهدون في حمل ذلك اللفظ على أي من معانيه التي وضع لها، أو عليها كلها.
فقد اختلف الفقهاء في مراد الشارع من لفظ "القرء " في قوله تعالى: ((وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ )) (البقرة : 228). فلفظ "القرء " مشترك بين الطهر والحيض، فاختلف الفقهاء في عدة المطلقة أتكون بالحيض أم بالأطهار؟ فذهب الحجازيون - منهم - إلى أن عدة المطلقة ثلاثة أطهار، وذهب العراقيون إلى أنها ثلاث حيض (107).
وأحياناً يكون للفظ استعمالان: حقيقي، ومجازي، فيختلفون في أيهما استعمل اللفظ في ذلك النص من نصوص الشارع.
وقد اختلف العلماء بادئ ذي بدء في جواز وقوع المجاز في لفظ الشارع، بأثبته الأكثرون، ونفاه الأقلون، كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وشيخ الإسلام ابن تيمية.
والذين نفوه استدلوا بأن المجاز هو إطلاق اللفظ على غير ما وضع له - في الأصل - كإطلاق لفظ "الأسد " وإرادة الرجل الشجاع، ونصوص الشارع جاءت لبيان الأحكام الشرعية وإطلاق اللفظ وإرادة غير ما وضع له مناف للبيان المقصود، ولسنا بصدد مناقشة هذا الموضوع، فإن جماهير العلماء قد ذهبوا إلى ورود المجاز في لفظ الشارع، واعتبر ابن قدامة وغيره من الأصوليين إنكار وقوعه في نصوص الشارع نوعاً من المكابرة (108).
وعلى هذا فقد يختلف العلماء في فهم المراد من كلام الشارع، إذا ورد بتركيب متردد بين الحقيقة والمجاز، أو ورد لفظ مفرد يحتمل الأمرين فيحمله بعضهم على المعنى الحقيقي، ويحمله آخرون على المعنى المجازي وذلك كلفظ :الميزان" فحقيقته تلك الأداة التي يزن الناس بها الأشياء.
ويطلق على "العدل" مجازاً. قال تعالى:
((وَالسَّماءَ رَفَعَهَا ووَضَعَ الْمِيزَانَ، ألاّ تَطْغَوْا في الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَان َ)) (الرحمن:7-9). فالميزان في الأولى والثانية استعمل في "العدل" كما في قوله تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنَا بِالْبَيِّناَتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْط ِ)) (الحديد:25)، وفي الثالثة أريد به المعنى الحسي، وهو الأداة التي توزن بها الأشياء(109). كما يقال للعروض "ميزان الشعر" وللنحو "ميزان الكلام " (110). ومثله لفظ "السلسلة " وغيرها. وأحياناً يكون المجاز في التركيب كما في قوله تعالى: ((يا تَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشا ً)) (الأعراف: 26) فمن المعلوم أن اللباس لا ينزل من السماء وهو لباس، ولا الريش كذلك، ولكن الله تعالى أنزل المطر وأنبت النبات وخلق الحيوان وكساه الصوف والشعر والوبر، وأنبت القطن والكتان ليتخذ منه اللباس، فأسند إلى المسبب وهو اللباس بدلاً من السبب وهو الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي. ومن المعروف أن صيغة "افعل " للأمر و"لا تفعل " للنهي، ومطلق الأمر يفيد الوجوب، ومطلق النهي يفيد التحريم، ذلك هو الاستعمال الحقيقي لكل من الصيغتين، ولكن قد ترد كل منهما لمعان غير المعنى الذي وضعت له أولاً.
فقد يرد الأمر للندب مثل قوله تعالى: ((فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً )) (النور :33).
والإرشاد نحو قوله تعالى:((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ… )) أو قوله :
((إذا تَدَايِنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُسمًّى فَاكْتُبُوه ُ)) (البقرة : 282) والتهديد نحو قوله تعالى:
((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ )) (فصلت :40) وغير ذلك (111).
وكذلك النهي قد يرد لغير التحريم، كالكراهة والتحقير في نحو قوله تعالى:
((لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ )) (الحجر :88).
والإرشاد كما في قوله تعالى:
((لا تسْأَلوُا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )) (المائدة:101) وغيرها (112).
كما أن الأمر قد يرد بصيغة الخبر، وكذلك النهي قد يرد أيضاَ بصيغة الخبر والنفي، وكل ذلك له آثار في اختلاف الفقهاء، وفي طرائقهم، وفي استنباط الأحكام الشرعية من النصوص؛ وأحياناً تختلف مذاهب العلماء في فهم النص لاختلاف أحوال كلمة واردة فيه، وإن لم يختلف معناها، كاختلافهم في قوله تعالى: ((ولا يُضاَرَّ كَاتِبُ وَلاَ شَهِيد ُ)) (البقرة:282 ) حيث ذهب بعضهم إلى أن المراد بها صدور الضرر من الكاتب والشهيد وذلك بأن يكتب الكاتب ما لم يُمْلَ عليه، ويشهد الشاهد بخلاف الواقع، ودليل هؤلاء قراءة ابن عباس رضي الله عنهما: ((ولا يُضاَرَّ كَاتِبُ وَلاَ شَهِيدُ )).
وذهب آخرون إلى أن المراد وقوع الضرر عليهما، كأن يمنعا من أشغالهما، ويكلَّفا الكتابة والشهادة في وقت لا يلائمهما، ودليل من ذهب إلى هذا قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: ((ولا يُضاَرَّ كَاتِبُ وَلاَ شَهِيد ُ)) فلما كانت اللفظة مدغمة في لغة تميم، احتمل بناء الفعل المعلوم، وبناؤه للمجهول، فحدث هذا الاختلاف، وإن كان فك الإدغام لغة أهل الحجاز(113).
والمتتبع لهذا النوع من أسباب الاختلاف، يجد أمثلة كثيرة عليه في الكلمات المفردة، وفي التراكيب المختلفة وأنواعها، وما يعرض لها من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، وإجمال وبيان، وغير ذلك… ولعل فيما ذكرنا ما ينبه إلى ما أغفلنا مما يمكن الاطلاع عليه في مظانه (114).
2- اسباب تعود إلى رواية السنن:
وهذا النوع من الأسباب متعدد الجوانب، مختلف الآثار، وإليه ترجع معظم الاختلافات الفقهية التي وقعت لعلماء السلف.
فأحياناً لا يصل الحديث إلى مجتهد ما، فيفتي بمقتضى ظاهر آية أو حديث آخر، أو بقياس على مسألة سبق فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء، أو بمقتضى استصحاب للحال السابقة(115)، أو بمقتضى أن الأصل البراءة وعدم التكليف(116)، أو بموجب أي وجه معتبر من وجوه الاجتهاد.
وقد يصل - في الواقعة موضع البحث - إلى مجتهد آخر حديث، فيفتي بمقتضاه فتختلف فتياهما.
وأحياناً يصل الحديث إلى المجتهد، ولكنه يرى فيه علة تمنع من العمل بمقتضاه، كاعتقاده عدم صحة إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجود مجهول أو متهم، أو سيئ الحفظ في سلسلة إسناده، أو لانقطاعه أو إرساله، أو لكونه يشترط في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً لا يشترطها غيره، فيعمل أحدهما بالحديث، لأن له طريقاً صحيحاً متصلاً عده، ولا يعمل الآخر بمقتضاه لعلَّة من العلل المذكورة، فتختلف الأقوال.
وقد تختلف أقوال العلماء لاختلاف آرائهم في معاني الحديث ودلالته، وذلك كاختلاف أقوالهم في مسائل: "المزابنة " (117) و"المخابرة "(118) و "المحاقلة " (119) و "الملامسة "(120)و"المنابذة "(121) و "الغرر "(122) لاختلافهم في تفسيرها.
وقد يصل الحديث لبعضهم من طريق بلفظ، ويصل لمجتهد آخر بلفظ مغير وذلك كأن يُسقط أحدهما من الحديث لفظاً لا يتم المعنى إلا به، أو يتغير معنى الحديث بسقوطه.
وقد يصل الحديث إلى أحد المجتهدين مقترناً بسبب وروده، فيحسن فهم المراد منه، ويصل إلى آخر من غير سبب وروده، فيختلف فهمه له.
وقد يسمع راو بعض الحديث، ويسمع الآخر الحديث كاملاً. وقد ينقل الحديث من كتاب بلفظ مصحّف أو متغير، ويبني عليه، وينقله آخر بلفظ لم يدخله شيء من ذلك فتختلف الأقوال بناء على ذلك، وقد يصح الحديث عند المجتهد ولكنه يعتقد أنه معارض بما هو أصح منه أو أقوى، فيرجح الأقوى، أو لا يتضح له أقوى الدليلين، فيتوقف عن الأخذ بكل منهما، حتى يظهر له مرجح.
وقد يعثر مجتهد على ناسخ للحديث، أو مخصص لعامه، أو مقيد لمطلقه ولا يطلع مجتهد آخر على شيء من ذلك، فتختلف مذاهبهما (123).
3- أسبـاب تعـود إلى القواعـد الأصولية وضوابط الاستنباط:
علم أصول الفقه هو: "معرفة أدلة الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد ".
فهذا العلم عبارة عن: مجموع القواعد والضوابط التي وضعها المجتهدون لضبط عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من الأدلة التفصيلية؛ فيحدد المجتهدون في مناهجهم الأصولية الأدلة التي تستقى منها الأحكام، ويستدلون لحجية كل منها، ويبيِّنون جميع العوارض الذاتية لتلك الأدلة لتتضح طرائق استفادة الأحكام منها، ويحددون طرق استفادة الحكم الشرعي من كل دليل من تلك الأدلة، والخطوات التي يسلكونها منذ البداية حتى الوصول إلى الحكم الشرعي.
وهذه القواعد والضوابط اختلفت مذاهب المجتهدين فيها: فنجم عن الاختلاف فيها اختلاف في المذاهب الفقهية التي يذهب كل منهم إليها، فبعض الأئمة يذهب إلى أن فتوى الصحابي إذا اشتهرت ولم يكن لها مخالف - من الصحابة أنفسهم - حجة، لأن الثقة بعدالة الصحابة تشعر بأن الصحابي ما أفتى بما أفتى به إلاّ بناءً على دليل، أو فهم في دليل، أو سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشتهر ولم يصل إلينا.
وبعضهم لا يرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يراه، فتختلف مذاهب الفقهاء بناء على ذلك.
وبعض المجتهدين يأخذ بـ"المصالح المرسلة " أي: تلك الأمور التي لم يوجد في الشرع ما يدل على اعتبارها بذاتها، كما لم يوجد فيه ما يدل على إلغائها بذاتها، فهي مرسلة مطلقة عن الإلغاء والاعتبار، فإذا أدرك المجتهد في تلك الأمور ما يحقق مصلحة، قال بمقتضى تلك المصلحة باعتبار أن الشارع ما شرع الأحكام إلاّ لتحقيق مصالح العباد.
وهناك أمور أخرى - من هذا النوع - اختلف المجتهدون فيها، وتعرف في كتب أصول الفقه بـ"الأدلة المختلف فيها " كـ"سد الذرائع " و"الاستحسان " و "الاستصحاب " و " الأخذ بالأحوط " و "الأخذ بالأثقل " و "العرف " و "العادة " وغيرها.
كما أن هناك اختلافاً في بعض الأمور المتعلقة بدلالات النصوص، وطرق تلك الدلالات، وما يحتج به منها، وعن كل ذلك نشأت اختلافات فقهية في كثير من الفروع.
تلك هي أهم وأبرز الأسباب التي ترجع إليها الاختلافات الفقهية نبهنا إليها بإيجاز، ومن أراد الاستقصاء ومعرفة كل تلك الأسباب، أو جلها مع أمثلتها، فليرجع إلى الكتب التي أُلِّفت لمعالجة هذا الأمر قديماً وحديثاً(124).
لقد كان في الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ومن بعدهم من يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرأها، ومنهم من يجهر بها، ومنهم من يسر، وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت فيها، ومنهم من يتوضأ من الرعاف والقيء، والحجامة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يرى في مس المرأة نقضاً للوضوء، ومنهم من لا يرى ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل أو ما مسته النار مساً مباشراً، ومنهم من لا يرى في ذلك بأساً.
إن هذا كله لم يمنع من أن يصلي بعضهم خلف بعض، كما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأئمة آخرون يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم ولو لم يلتزموا بقراءة البسملة لا سراً ولا جهراً، وصلى الرشيد إماماً وقد احتجم فصار الإمام أبو يوسف خلقه ولم يعد الصلاة مع أن الحجامة عنده تنقض الوضوء.
وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل يصلى خلفه؟ فقال : "كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب "(125). وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت - والقنوت عنده سنة مؤكدة - فقيل له في ذلك، فقال: "أخالفه وأنا في حضرته " وقال أيضاً: "ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق "(126).
وكان مالك رحمه الله أثبت الأئمة في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوثقهم إسناداً، وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة رضوان الله عليهم أجمعين، وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، وقد حدّث وأفتى رضي الله عنه ، وألّف كتابه "الموطأ" الذي توخى فيه إيراد القوي من حديث أهل الحجاز، كما نقل ما ثبت لديه من أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وبوّبه على أبواب الفقه فأحسن ترتيبه وأجاد، وقد اعتبر "الموطأ " ثمرة جهد الإمام مالك لمدة أربعين عاماً، وهو أول كتاب في الحديث والفقه طهر في الإسلام ، وقد وافقه على ما فيه سبعون عالماً من معاصريه من علماء الحجاز، ومع ذلك فحين أراد المنصور كتابة عدة نسخ منه، وتوزيعها على الأمصار، وحمْل الناس على الفقه الذي فيه حسماً للخلاف كان الإمام مالك أول من رفض ذلك، فقد روي عنه أنه قال: "يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأتوا به من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم… فقال الخليفة: وفقك الله يا أبا عبد الله " (127).
فأي رجل هذا الإمام الجليل الذي يأبى أن يحمل الناس على الكتاب الذي أودع فيه أحسن ما سمع من السنة، وأقوى ما حفظ وأدرك من العلم الذي لا اختلاف فيه عند أهل المدينة وذلك الحشد من علماء عصره.
رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك:
ولعل من أفضل وأحسن أمثلة أدب الاختلاف تلك الرسالة العلمية الرائعة التي بعث بها فقيه مصر وإمامها وعالمها الليث بن سعد إلى الإمام مالك، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع حول كثير مما كان الإمام مالك يذهب إليه ويخالفه فيه الليث بن سعد، ونظراً لطول الرسالة نقتطف منها ما يشير إلى ذلك الأدب الرفيع الذي اختلف في ظله سلف هذه الأمة، وكرام علمائها، يقول الليث بن سعد:
"… سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو أما بعد: عافانا الله وإيّاك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه … ثم يقول: وإنه بلغك أني أفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وأني يحق عليَّ الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت إليها الهجرة، وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك - إن شاء الله تعالى - ووقع مني بالموقع الذي نحب، وما أجد أحداً ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له ".
ثم يمضي الإمام الليث بن سعد في رسالته مورداً أوجه الاختلاف بينه وبين الإمام مالك رحمهما الله تعالى حول حجية عمل أهل المدينة مبيناً أن كثيراً من السابقين الأولين الذين تخرجوا في مدرسة النبوة حملوا إلى مشارق الأرض ومغاربها، وهم يجاهدون، ما تعلموه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبيّن أن التابعين قد اختلفوا في أشياء وكذلك من أتى بعدهم من أمثال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن حيث يذكر بعض مآخذه عليه، ثم يقول: "ومع ذلك - حمد الله - عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمة الله وغفر له وزاه بأحسن ما عمله " ثم يذكر من أمثلة الاختلاف بينه وبين الإمام مالك قضايا عديدة مثل: الجمع ليلة المطر - والقضاء بشاهد ويمين - ومؤخر الصداق لا يقبض إلاّ عند الفراق - وتقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء… وقضايا خلافية أخرى، ثم قال في نهاية الرسالة "… وقد تركت أشياء كثيرة من أشابه هذا، وأنا أحب توفيق الله إيّاك، وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إليّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك، وحاجة إن كانت لك، أو لأحد يوصل بك فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن معافون والحمد لله، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليكم ورحمة الله " (128).
إن هناك كثيراً من المناظرات العلمية الدقيقة المليئة بأدب الاختلاف حفلت بها تب التراجم والتاريخ والمناظرات ونحوها، ولا يكاد المرء يفتقد "أدب الاختلاف " بين أهل العلم إلاّ بعد شيوع التقليد وما رافقه من تعصب وتعثر في سلوك أهل العلم، نظراتهم إلى العلم نفسه، ولا سيما بعد أن خلت الساحة من أمثال العلماء الذين يقول فيهم الإمام الغزالي: "وكان قد بق من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا " فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، وحل محل هذا الرعيل المبارك طلاب الدنيا بالدين، وحل الذي هو أدنى مكان الذي خير، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: "فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشر أبوا بطلب العلم توصلاً إلى نيل العز، ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبّوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم إلاّ من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله "(129).
لقد صوّر الإمام الغزالي رحمه الله واقع العلماء بعد أن غدت الدنيا مطلبهم، وصار الدين الطريق الوحيد الموصل إلى أبواب الولاة، كما أصبحت الرغبة في كسب ودّهم هي التي تدفع فئات ممن تزيوا بزي العلماء إلى طلب العلم.
إن الإمام مالكاً عليه رحمة الله يقول: "لا يؤخذ هذا العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سواهم: لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو إلى بدعته، ولا من كذّاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحمل ويحدث به " (130). وقال أيضاَ: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين (وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو اؤ تمن على بيت مال كان أميناً، إلاَّ أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم على بابه " (131) .
ورجال تلك صفاتهم لم يكن ليقع بينهم كبير اختلاف، وإن وقع فمن أجل الحق، ولن يدس الهوى أنفه في خلاف لا يدعو إليه غير الحق… وحتى نؤصل الآداب التي سار على نهجها كرام علمائنا، فنجعل منهم لنا القدوة الصالحة، وتكون خلالهم الكريمة تلك مثلاً نحتذي به، نقدم نماذج من أدب الاختلاف بين كبار الأئمة من السلف الصالح رضوا الله عليهم.
أبو حنيفـة ومالـك:
مرّ معنا في استعراضنا لمذهب الأئمة الاختلاف الكبير بين أبي حنيفة ومالك رحمهما الله، وتباين الأسس التي يعتمدها كل منهما فيما يخص مذهبه؛ ولكن هذا لم يمنع، رغم فارق السن التي بينهما، أن يجلّ الواحد منهما صاحبه، وأن يكون معه على جانب كبير من الأدب مع اختلاف مناحيهما في الفقه… أخرج القاضي عياض في "المدارك " قال: قال الليث بن سعد: لقيت مالكاً في المدينة، فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك. قال: عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري. قال الليث: ثم لقيت أبا حنيفة، وقلت له: ما أحسن قول هذا الرجل فيك (يشير إلى مالك ) فقال أبو حنيفة: ما رأيت أسرع منه بجواب صادق، ونقد تام..(132).
محمد بن الحسـن ومالـك:
يعتبر محمد بن الحسن من أبرز أصحاب أبي حنيفة، وهو مدوِّن مذهبه، رحل إلى مالك ولازمه ثلاث سنين، وسمع منه الموطأ، ويتذاكر الإمامان محمد بن الحسن والشافعي يوماً، فيقول محمد: صاحبنا (يريد أبا حنيفة ) أعلم من صاحبكم (أي مالك ) وما كان لصاحبنا أن يسكت وما كان لصاحبكم أن يتكلم - كأنه يستثير الإمام الشافعي بذلك - فيقول الإمام الشافعي:
نشدتك الله من كان أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك أو أبو حنيفة؟ فيقول محمد: مالك، ولكن صاحبنا أقيس. يقول الشافعي: قلت نعم، ومالك أعلم بكتاب الله من أبي حنيفة، فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام، فيسكت الإمام محمد بن الحسن (133).
الشـافعي ومحمد بن الحسـن:
يقول الإمام الشافعي: ذاكرت محمد بن الحسن يوماً، فدار بيني وبينه كلام واختلاف، حتى جعلت أنظر إلى أوداجه تدر، وتتقطع أزراره.. (134).
ويقول محمد بن الحسن: إن كان أحد يخالفنا فيثبت خلافه علينا فالشافعي، فقيل له: فلم؟ قال: لبيانه وتثبته في السؤال والجواب والاستماع… (135).
تلك هي بعض نماذج أدب الاختلاف، من آداب علماء الأمة، نستنبط منها: أن خلف الأمة في قرون الخير كان يسير حذو السلف، والكل ستقي من أدب النبوة، ولم يكن أدب السلف الصالح يقتصر على تجنب التجريح والتشنيع، بل كان من الآداب الشائعة في ذلك الجيل من العلماء التثبت في أخذ العلم واجتناب الخوض فيما لا علم لهم به، والحرص على تجنب الفتيا خوفاً من الوقوع في الخطأ. قال صاحب القوت: وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت في هذا المسجد (مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلاّ ودّ أن أخاه كفاه ذلك. وفي لفظ آخر: كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر حتى ترجع إلى الذي سأل عنها أول مرة… (136).
وقد ارتفع هؤلاء الرجال فوق مشاعر الإحساس بالغضاضة، فقد يتوقف أحدهم أمام مسألة، وذكر أن قومه أرسلوه يسأله عنها من مسيرة ستة أشهر، قال مالك: فأخبر الذي أرسلك أني لا علم لي بها. قال الرجل: ومن يعلمها؟ قال مالك: من علّمه الله، قالت الملائكة:
((لا عِلْمَ إلاّ ماَ عَلَّمْتَنَا )) (البقرة: 32).
وروي عن مالك أيضاً أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: "لا أدري ".
وعن خالد بن خداش قال: قدمت على مالك من العراق بأربعين مسألة فسألته عنها فما أجابني منها إلاّ في خمس مسائل.
وكان لبن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم قول (لا أدري ) أصيبت مقاتله.
وروي عن مالك، عن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول (لا أدري ) حتى يكون ذلك في أيديهم أصلاً يفزعون إليه، فإذا سئل أحد عما لا يدري قال: لا أدري.
وقال أبو عمر بن عبد البر (توفي سنة 463 ): صح عن أبي الدرداء أنه قال: لا أدري نصف العلم.
مـالك وابن عيينـة:
كان ابن عيينة (137) قرين مالك ونداً له، يقول الإمام الشافعي: "ومالك وابن عيينة القرينان، ولولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز (138)" ومع ذلك فقد روي: أن ابن عيينة ذكر مرة حديثاً فقيل له: إن مالكاً يخالفك في هذا الحديث، فقال القائل، أتقرنني بمالك؟ ما أنا ومالك إلاّ كما قال جرير:
ولبن اللبون إذا ما لزّ في قرن
لم يستطع صولة البزل القناعيس
ويروى لسفيان بن عيينة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة ) فيقال لسفيان: من هو؟ فيقول: إنه مالك بن أنس. ويقول: "كان لا يبلغ من الحديث إلاّ صحيحاً، ولا يحمل الحديث إلاّ عن ثقاة الناس، وما أرى المدينة إلاّ ستخرب بعد موت مالك بن أنس " (139).
مالـك والشـافعي:
يقول الإمام الشافعي: مالك بن أنس معلمي، وعنه أخذت العلم، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد آمن علي من مالك بن أنس… (140) وكان يقول: إذا جاءك الحديث من مالك فشد به يديك، كان مالك بن أنس إذا شك في الحديث طرحه كله (141).
أحمـد بن حنبل ومالـك:
عن أبي زرعة الدمشقي قال: سمعت أحمد بن حنبل يُسأل عن سفيان ومالك إذا اختلفا في الرواية، فقال: مالك أكبر في قلتي. قال: قلت فمالك والأوزاعي إذا اختلفا؟ فقال: مالك أحب إليّ، وإن كان الأوزاعي من الأئمة، قيل له: وإبراهيم (أي النخعي ) فكأنه كان يرى أن إبراهيم لا ينبغي أن يقرن بمالك لأنه ليس من أهل الحديث، فقال: هذا ضعه مع أهل زمانه. وسئل عن رجل يريد أن يحفظ حديث رجل واحد - بعينه- قيل له: حديث من ترى له؟ قال: يحفظ حديث مالك(141).
آراء بعض العلماء في أبي حنيفة:
كان شعبة بن الحجاج أميراً للمؤمنين في الحديث(142)، وأبو حنيفة من أهل الرأي بالمكانة التي عرفنا، ورغم تباين منهجيهما فقد كان شعبة كثير التقدير لأبن حنيفة، تجمع بينهما مودة ومراسلة، وكان يوثِّق أبا حنيفة، ويطلب إليه أن يحدِّث، ولما بلغه نبأ موته قال: لقد ذهب معه فقه الكوفة تفضل الله عليه وعلينا برحمته (143).
وسأل رجل يحيى بن سعيد القطان عن أبي حنيفة فقال: ما يتزين عند الله بغير ما يعلمه الله عز وجل ، فإنا - والله - إذا استحسنا من قوله الشيء أخذنا به.
وهكذا لم يكن الاختلاف وتباين الآراء يمنع أحداً من الأخذ بما يراه حسناً عند صاحبه، وذكر فضله في هذا ونسبة قوله إليه.
وعن عبد الله بن المبارك روايات كثيرة في الثناء على أبي حنيفة: فقد كان يذكر عنه كل خير، ويزكيه، ويأخذ من قوله، ويثني عليه، ولا يسمح لأحد أن ينال منه في مسجده، وحاول بعض جلسائه يوماً أن يغمز أبا حنيفة فقال له: اسكت، والله لو رأيت أبا حنيفة لرأيت عقلاً ونبلاً.
ونقل عن الشافعي أنه قال: سئل مالك يوماً عن عثمان البتيِّ، فقال: كان رجلاً مقارباً، وسئل عن ابن أبي شبرمة فقال: كان رجلاً مقارباً، قيل: فأبو حنيفة: قال: لو جاء إلى أساطينكم هذه (يعني سواري المسجد ) فقايسكم على أنها خشب، لظننتم أنها خشب (144) إشارة إلى براعته في القياس،أما الإمام الشافعي فما أكثر ما روي عنه قوله: … الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة (145).
ولم تكن مجالس هؤلاء الرجال ليذكر فيها إلاّ الخير، ومن حاول تجاوز الآداب التي تجب مراعاتها مع أئمة هذه الأئمة هذه الأمة رد إلى الصواب، وحيل بينه وبين مس أحد بما يكره، فقد سئل الفضل بن موسى السيناني(146): ما تقول في هؤلاء الذين يقعون في أبي حنيفة؟ قال: إن أبا حنيفة جاءهم بما يعقلونه وبما لا يعقلونه من العلم، ولم يترك لهم شيئاً فحسدوه (147).
هذه بعض الأقوال التي نقلت عي أئمة في الحديث كانوا مخالفين للإمام أبي حنيفة في معظم ما ذهب إليه، ولكن مخالفتهم له لم تمنعهم من الإشادة به، والثناء عليه، وذكره بما هو أهل له من الخير، ذلك لثقتهم بأن الخلاف بينهم وبينه لم يك وليد الهوى، ولا الرغبة في الاستعلاء، بل كان نشدان الحق ضالة الجميع رحمهم الله، ولولا هذه الأخلاق الكريمة والآداب الفاضلة لاندثر فقه الكثير من علماء سلفنا الصالح، وما كانوا يذبون عن أحد إلاّ لعلمهم أن في ذلك صوناً لفقه هذه الأمة التي لا تستقيم حياتها إلاّ لعلمهم أن في ذلك صوناً لفقه هذه الأمة التي لا تستقيم حياتها إلاّ في ظله.
آراء بعض العلمـاء في الشافعي:
كان ابن عيينة - وهو من هو في مكانته - إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا التفت إلى الشافعي وقال: سلوا هذا . وكثيراً ما كان يقول إذا رآه: هذا أفضل فتيان زمانه. وحين بلغه نبأ وفاة الشافعي قال: إن مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه.
وكان يحيى بن سعيد القطان يقول: أنا أدعو الله للشافعي حتى في صلاتي. وكان عبد الله بن عبد الحكم وولده على مذهب الإمام مالك، ولكن هذا لم يمنع عبد الله بن الحكم من أن يوصي ولده محمداً بلزوم الإمام الشافعي حيث قال له: الزم هذا الشيخ (يعني الشافعي ) فما رأيت أحداً أبصر بأصول العلم - أو قال: أصول الفقه - منه. ويبدو أن الولد قد أخذ بنصيحة أبيه حيث يقول: لولا الشافعي ما عرفت كيف أرد على أحد، وبه عرفت ما عرفت، وهو الذي علمني القياس رحمه الله فقد كان صاحب سنة وأثر، وفضل وخير، مع لسان فصيح، وعقل صحيح رصين (148).
بين الإمام أحمـد والشـافعي:
عن عبد الله بن الإمام أحمد قال، قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ فقال: يا بني: كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض؟ . وعن صالح بن الإمام أحمد قال: لقيني يحيى بن معين فقال: أما يستحيي أبوك مما يفعل؟ فقلت: وما يفعل؟ قال: رأيته مع الشافعي والشافعي راكب، وهو راجل آخذ بزمام دابته. فقلت لأبي ذلك، فقال: إن لقيته فقل: يقول لك أبي: إذا أردت أن تتفقه فتعال فخذ بركابه من الجانب الآخر (149).
وعن أبي حميد بن أحمد البصري قال: كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة، فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله لا يصح فيه حديث. فقال: إن لم يصح فيه حديث ففيه يقول الشافعي وحجته أثبت شيء فيه. (ثم قال: أي أحمد ) قلت للشافعي: ما تقول في مسألة كذا وكذا فأجاب فيها، فقلت: من أين قلت؟ هل فيه حديث أو كتاب؟ قال: بلى فنزع في ذلك حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث نص (150).
وكان أحمد رحمه الله يقول: إذا سئلت في مسألة لا أعرف فيها خبراً فلت فيها: يقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش (151).
وعن داود بن علي الأصبهاني قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال: تعل حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله… فأراني الشافعي .
كان ذلك رأي أحمد بن حنبل في الشافعي، ولا غرو في أن يكون التلميذ معجباً بأستاذه معترفاً له بالفضل، ولكن الشافعي نفسه لم يمنع تتلمذ أحمد عليه من أن يعترف له بالفضل والعلم بالسنة فيقول له: أما تتلمذ أحمد عليه من أن يعترف له بالفضل والعلم بالسنة فيقول له: أما أنتم فأعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحاً فأعلموني إن يكن كوفياً أو بصرياً أو شامياً، أذهب إليه إذا كان صحيحا ً(152).
وكان الشافعي حين يحدث عن أحمد لا يسميه (تعظيماً له ) بل يقول: "حدثنا الثقة من أصحابنا أو أنبأنا الثقة أو أخبرنا الثقة " (153).
وبعد ك فتلك لمحات خاطفة (154) توضح لنا بعض ما كان عليه أسلافنا من أدب جم، وخلق عال لا ينال منه الاختلاف، ولا يؤثر فيه تباين الاجتهادات، وتلك آداب الرجال الذين تخرجوا في المدرسة المحمدية، فما عاد للهوى عليهم من سلطان؛ وكتب التراجم والطبقات والمناقب والتاريخ حافلة بما لا يحصى من المواقف النبيلة، والمناظرات الطريفة بين كبا الأئمة والتي كان الأدب سداها، والخلق الإسلامي الرفيع لحمتها، وحري بنا ونحن نعيش الشتات في كل أمورنا أن نعود إلى فيء تلك الدوحة المباركة، ونلتقي على الآداب الكريمة التي خلفها لنا سلفنا الصالح إن كنّا جادين في السعي لاستئناف الحياة الإسلامية الفاضلة.
ونحن لا ننكر أن هناك مواقف لم تلتزم فيها هذه الآداب، أو خلت من تلك السمات الخيرة التي ذكرناها، ولكنها كانت مواقف من أولئك المقلدين أو المتأخرين الذين أشربوا روح التعصب، ومردوا على التقليد، ولم يدركوا حقيقة الروح العلمية العالية الكامنة وراء أسباب اختلاف الفقهاء، ولم يلهموا تلك الآداب الرفيعة التي كانت وليدة النية الصادقة في تحري الحق، وإصابة الهدف الذي رمى إليه الشارع الحكيم، ويبدو أنهم كانوا من أولئك الذين قال فيهم الإمام الغزالي:
فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم .
والمطلوب سيد نفسه لا ينزع إلا عن الحق، والطالب باع نفسه فلا يشدو إلاّ بما يطيب لشاريه، فحولوا الاختلاف الذي كان نعمة أثرت الفقه الإسلامي وأثبتت واقعية هذا الدين ورعايته لمصالح الناس إلى عذاب أليم، وصار عاملاً من أخطر عوامل الفرقة والتناحر بين المسلمين.. بل تحول إلى نقمة بددت الكثير من طاقات الأمة فيما لا جدوى منه، وشغلتها بما لا ينبغي أن تنشغل به.
والاختلاف الذي تعرضنا لبعض جوانبه في الصفحات السابقة وألمحنا إلى ما كان في رجاله من آداب رفيعة هو الاختلاف الذي وضع فيه الكاتبون كتبهم في "أسباب اختلاف الفقهاء " قديماً وحديثاً، أما الخلاف الذي تلا تلك القرون الخيرة فهو خلاف من نوع آخر، كما أن له أسباباً أخرى مختلفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق