هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً ؟
د.عصمت سيف الدولة
الفهرس
مقدمات
لماذا قامت ثورة 1952..........................
خطان في الحركة الوطنية........................
القيود.. و الحدود
البحث عن الطريق.....
تحرير الفلاحين …..
أسطورة المستبد العادل.................
حجر في الماء الراكد..............................
السلطة، كل السلطة، للشعب.....................
النقد... و النقد الذاتي...........................
دروس مرة لمن يريد أن يتعلم.....................
الشعب... الشعب... من هو الشعب............
ثورة التصحيح .................................
النجاح... و الإخفاق...........................
هناك اتصال عضوي بين الاشتراكية والديموقراطية حتى ليصدق القول بأن الاشتراكية هي ديمقراطية الاقتصاد كما أن الديموقراطية هي اشتراكية السياسة ..
جمال عبد الناصر
(1) مقدمات
الكتابة على جدار المعبد:
بعد 3199 سنة من وفاة الفرعون رمسيس الثاني أرسلت الدولة جثته الى باريس ليعالج الاخصائيون " بثورا " تكاد تشوه بشرته اليابسة . وأحيطت رحلته الى مدينة الجمال والتجميل باهتمام العالم كله. وهكذا نجح ذاك الفرعون في أن يجذب اليه اهتمام العالم ولو انه جثة. وفي أن يصبح جزءا من يوميات التاريخ المعاصر بعد وفاته بمئات القرون ، ولو كان حظه من تلك اليوميات ان يعرض على الناس فيثير دهشة المشاهدين .
ولا شك في ان كل هذا يسعد ويرضي روح رمسيس الثاني . فلقد كان رمسيس الثاني محبا لذاته الى حد العشق . كان مريضا بما نعرفه اليوم بمرض " النرجسية " . ومن آيات مرضه انه كان مفتونا بالخلود الى حد، استغرق جل نشاطه. كان يريد ان يكون خالدا. ولم يكن يدرك أن الخلود حكم تاريخي تملكه البشرية فيما يأتي من أجيال فأراد ان يخلد نفسه بأن يكتب هو التاريخ . ويكتبه على أكثر الاحجار مقاومة للزمن . وان يشيد من تلك الاحجار تماثيل ومعابد أقامها على طول وعرض أرض مصر. وهكذا استطاع فعلا ان يعيش في ذاكرة الاجيال المتعاقبة بشرا ثم مومياء ثم معابد وتماثيل وتاريخا مكتوبا الى ان يدرك عصر الذرة فيذهب الى معامل التجميل في باريس .
شئ واحد لم يفطن اليه رمسيس الثاني . ذلك هو ان الاجيال التي فتنته فكرة الخلود في ذاكرتها ستكتشف انه لم يكتب التاريخ بل زيفه . فقد اكتشف علماء التاريخ المصري القديم ان الفرعون رمسيس الثاني قد زيف التاريخ بقصد نسبة كل انتصار جليل الى ذاته . وزيفه بأسلوبين : اولهما بان سطر على جدران معابده تاريخ انتصارات لم يكن هو صاحبها ونسبها الى نفسه . وثانيهما بأن قوض أركان بعض ما شيده أسلافه من معابد، وانتقى منها أحجارها المسطورة بتاريخ النصر والحكمة وحشرها في بناء جدران معابده . وهكذا ترك لنا رمسيس الثاني مجموعة من التماثيل والمعابد تحمل تاريخا مغلوطا جمع مفرداته من خياله ومما سطر أسلافه من تاريخ .
ثم أضيفت على جدران المعابد كتابات جديدة . مئات الالوف من زوار المعابد، من كل الاجناس ، ومن كل الاعمار ، بهرتهم فكرة الخلود التي تثيرها آثار رمسيس الثاني ، و نمت فيهم بذور " النرجسية " الكامنة " بقدر " في كل انسان فأضافوا الى ما ترك رمسيس ، وبكل اللغات ، كتابات من عندهم نحتوها نحتا فجا شائها . تختلف تلك الكتابات مضمونا ولكنها- كلها- تحمل أسماءهم في أبرز مكان منها . أراد كل هؤلاء من أول الشيوخ الجادين الى الصبية العابثين ، ان يقفزوا الى مركبة التاريخ ولو في شكل أسماء منحوتة نحتاً فجا وشائها على اقدام تماثيل الفرعون النرجسي وجدران معابده .
شئ مثل هذا جرى ويجري فيما كتب ويكتب في الوطن العربي منذ بضع سنين حين طرح الرئيس أنور السادات مشكلة الديموقراطية في مصر فاهتبل البعض الفرصة ليكتبوا تاريخ عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر . مع فارق ملحوظ . ان الذين يتبارون في نقض ما شيده عبد الناصر، ويختارون من بين أنقاضه ما يضيفونه الى بناء معابدهم الخاصة أكثر عددا من كل فراعين مصر . أما الذين ينحتون أسماءهم نحتا فجا شائها على جدران معابد التاريخ الذي يكتب الآن فهم أكثر من ان يحصوا عددا.
الا نرى كيف ان كثيرا من الذين كتبوا او قالوا شيئا عن جمال عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر قد دخلوا الى ساحة الجدل مداخل ذاتية ، مدخل الوفاء او مدخل الجفاء او مدخل العداء، فهم يشاركون في حوار يدور حول مشكلة تهم الشعب كله ، وفي كتابة تاريخ أخصب مراحل تطور الامة العربية وأكثر ها تعقيدا ، بما يشبه " المذكرات الخاصة "، متأثرين بالمواقع التي كانوا يشغلونها، محصورين في حدود تجاربهم الخاصة، محدودي الرؤية بقدر ضيق الزوايا الفردية، مركزين كل مقدرتهم على نحت الكلمات في أسمائهم ذاتها..؟؟
بلى. انهم لا يسهمون في حل مشكلة مطروحة بل يسهمون في تزييف تاريخ يكتب .
والا،
فما هي المشكلة المطروحة وكيف طرحت؟؟
مشكلة تبحث عن حل :
طرحت مشكلة الديموقراطية في مصر العربية ، بعد أقل من عام على غياب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وما تزال مطروحة بقوة . ومما هو جدير بأكبر قدر من الانتباه ان الذي طرحها هو الرئيس أنور السادات نفسه . طرحها أولا، وتابع طرحها على مراحل متتابعة انتهت - حتى الآن - " الى قانون معروض على مجلس الشعب بشأن تنظيم الاحزاب ، وهو جدير بأكبر قدر من الاهتمام والانتباه لان طرح رئيس الدولة لمشكلة الديموقراطية في مصر يعني تماما ان هناك مشكلة ديموقراطية في مصرتبحث عن حل . ان سيادته، من موقع قيادته، وبحكم رؤيته الأكثر اتساعا، ومعرفته بما قد لا يعرفه غيره ، لا شك قد أدرك أكثر من أي شخص اخر ان هناك مشكلة حقيقية للديموقراطية في مصر، وانها قد بلغت من الحدة ما اقتضى ان يتصدى لطرحها والبحث عن حل لها رئيس الدولة نفسه . بعد هذا القدر المتيقن من موقف الرئيس قد يختلف الناس في طبيعة المشكلة والحلول المناسبة لها، وهم يختلفون فعلا، ولكن لا أحد يستطيع أن يجادل في وجود المشكلة.
ولقد طرحت المشكلة من خلال مواقف متتابعة...
في 15 مايو 1971 صفى الذين أطلق عليهم اسم "مراكز القوى " باسم الديموقراطية ، وحلت- بقرار من رئيس الجمهورية - كافة المؤسسات الدستورية والشعبية حتى تلك التي قامت بدور أساسي في تصفية مراكز القوى ( مجلس الشعب) وأعيد تشكيلها من جديد . ولكن التشكيل الجديد وقف ، بالنسبة الى الإتحاد الاشتراكي العربي ، عند مستوى اللجنة المركزية و لم تشكل أبدا اللجنة التنفيذية العليا . و باسم الديموقراطية صدر الدستور (الدائم) واستفـتى فيه الشعب في 11 سبتمبر 1971 ، بعد ان كان الشعب قد استفتى في عام 1968 في بيان " 30 مارس " الذي تضمن قرارا بتأجيل اصدار الدستور الدائم الى ما بعد ازالة آثار العدوان . وقد تضمن الدستور الجديد احكاما جديدة لم تكن من قبل . منها انه لم يعد من حق رئيس الجمهورية حل مجلس الشعب الا بعد اجراءات بالغة التعقيد . ومنها النص على ان المسؤولية المترتبة على الاعتداء على الحريات لا تسقط بمضي المدة . ومن ناحية اخرى فقد خول الدستور لرئيس الدولة سلطات لم تكن له من قبل أهمها ما نصت عليه المادة 74 ، المأخوذة عن الفقرة الاولى من الدستور الفرنسي الصادر في عهد الرئيس ديجول عام 1958 . بمقتضى هذه الم! ادة أصبح لرئيس دولة مصر العربية اذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية او سلامة الوطن او يعوق مؤسسات الدولة عن اداء دورها الدستوري ان يتخذ الاجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ويوجه بيانا للشعب ويجري الاستفتاء على ما اتخذه من اجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها. وقد بقيت هذه المادة بدون استعمال الى ان استعملها الرئيس أنور السادات يوم 3 فبراير 1977 باصدار القانون رقم 2 لسنة 1977 الذي رفع العقوبة على انشاء الأحزاب او الجمعيات السياسية او الجماعات ، او الدعوة لها او تحبيذها او تشجيعها الى الاشغال الشاقة المؤبدة .. مثل الخيانة او القتل العمد.
ولقد كان النشاط السياسي المنظم خارج اطار الاتحاد الاشتر اكي العربي محرما بنص في قانون الوحدة الوطنية رقم 34 لسنة 1972. جاء فيه " الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الوحيد المعبر عن تحالف قوى الشعب العاملة. وهو يكفل أوسع مدى للمناقشة الحرة داخل تشكيلاته والتنظيمات الجماهيرية المرتبطة به . ولا يجوز انشاء تنظيمات سياسية خارج الاتحاد الاشتراكي العربي ". وهكذا دخل التشريع المصري لاول مرة منذ عام 1953 نص صريح يحرم النشاط السياسي المنظم خارج الاتحاد الاشتراكي العربي . و مع قانون الوحدة الوطنية صدر قانون حماية حريات المواطنين رقم 37 لسنة 1972. وبه الغى قانون تدابير أمن الدولة الذي كان قد صدر عام 1964. والغيت الحراسات . ولكنه أعاد تأكيد حق رئيس الجمهورية في حالة الطوارئ - وهي قائمة في مصر منذ 1967- في " وضع قيود على حرية الاشخاص في الاجتماع والانتقال والاقامة والمرور في أماكن وأوقات معينة والقبض على المشتبه فيهم او الخطرين على الامن والنظام العام واعتقالهم والترخيص في تفتيش الاشخاص والاماكن دون التقيد بأحكام قانون الاجراءات الجنائية - والامر بمراقبة الرسائل أيا كان نوعها ومر! اقبة الصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات والرسوم وكافة وسائل التعبير والدعاية والاعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيل واغلاق أماكن طبعها على ان تكون الرقابة على الصحف والمطبوعات ووسائل الاعلام مقصورة على الامور التي تتصل بالسلامة العامة او اغراض الامن القومي - وتحديد مواعيد فتح المحال العام واغلاقها وكذلك الامر باغلاق هذه المحال كلها او بعضها- وتكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الاعمال والاستيلاء على أي منقول او عقار ويتبع في ذلك الاحكام المنصوص عليها في قانون التعبئة العامة فيما يتعلق بالتظلم وتقدير التعويض- وسحب التراخيص بالاسلحة او الذخائر او المواد القابلة للانفجار او المفرقعات على اختلاف أنواعها والامر بتسليمها وضبط واغلاق مخازن الاسلحة - واخلاء بعض المناطق او عزلها وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات وتحديدها " .
في مواجهة هذه السلطات الشاملة أعطى قانون حماية الحريات لمن يصدر أمر باعتقاله او القبض عليه حق التظلم أمام " محكمة امن الدولة " وأبقى لرئيس الجمهورية حق الاعتراض على قرارات الافراج التي تصدر منها.
وفي 15 مايو 1974 أصدر الرئيس أنور السادات " ورقة اكتوبر " وطرحت على الاستفتاء الشعبي فأقرها . ولقد جاء فيها على لسان السيد رثيس الجمهورية : " لقد أرتضى الشعب نظام تحالف قوى الشعب العامل اطارا لحياته السياسية. واننا في معركة البناء والتقدم لاحوج ما نكون لهذا التجمع . ومن ثم فاني ( أي السيد رئيس الجمهورية) أرفض الدعوة الى تفتيت الوحدة الوطنية بشكل مصطنع عن طريق تكوين الاحزاب ". وفي أوائل عام 1976 تشكلت لجنة برئاسة السيد المهندس سيد مرعي رئيس مجلس الشعب أطلق عليها اسم " لجنة مستقبل العمل السياسي " وجمعت واستمعت الى كافة الآراء التي دارت حول " ورقة تطوير الاتحاد الاشتر اكي العربي " التي وضعها رئيس الجمهورية نفسه . وكونت لجانا أربع لتجميع وتحليل كل ما قيل أمامها وما نشر في الصحف وانتهت الى ان الرأي العام في مصر العربية يرفض الاحزاب ويبقى على الاتحاد الاشتر اكي مع السماح - داخله- بالمنابر والاتجاهات الفكرية المتميزة . وعرض تقريرها على الهيئة البرلمانية للاتحاد الاشتر اكي العربي ( أي أعضاء مجلس الشعب) ولجنته المركزية مجتمعتين فأقرتاه . كان ذلك في 16 مارس 1976. لكن المنابر الثلاثة ل! م تلبث ان تحولت الى تنظيمات ثلاثة مستقلة القيادة والهيكل و العضوية .
ثم بعد سبعة أشهر فقط ، أي في 11 نوفمبر 1976، ألقى السيد رئيس الجمهورية بيانا في مجلس الشعب بمناسبة افتتاح دورة انعقاده الاول جاء فيه : " لقد اتخذت قرارا سيظل تاريخيا يرتبط بكم وبيوم افتتاح مجلسكم الموقر هو ان تتحول التنظيمات الثلاثة ، ابتداء من اليوم ، الى أحزاب ... ان هذا القرار ينطوي على تحول أعمق مما يبدو منه وعلى مسؤوليات أكثر مما ترى العين من النظرة الاولى ".
وبينما استجابت التنظيمات لقرار تحويلها الى أحزاب فتحولت ، عرضت على مجلس الشعب ثلاثة مشروعات بقوانين تستهدف تنظيم الاحزاب وما تزال معروضة لم تصدر بعد .
وتشير الصحف الصادرة أخير ا الى ان المعالم التي اتضحت من القانون المنتظر هي اقرار شرعية الاحزاب الثلاثة القائمة بدون شروط ، واشتراط عضوية عشرين نائبا في مجلس الشعب لاقامة أي حزب جديد... الى آخره .
ولم يكن هذا بدون افعال وبدون ردود افعال . ولم يذهب بدون ان يجذب الى مشكلة الديموقراطية في مصر انتباه الشعب ومساهمات القادرين على القول او الفعل . بل نستطيع ان نقول ان الرئيس أنور السادات قد استطاع بنجاح فائق ، من خلال طرحه مشكلة الديموقراطية في مصر ومتابعة طرحها ، ان يدخل الحوار حول الديموقراطية مشكلة والديموقراطية حلا ، حتى في أكواخ الفلاحين ، وان يجعلها قضية حية في أحاديث كل الاحياء في مصر العربية أيا كانت مواقفهم الاجتماعية او مواقفهم السياسية او حظهم من الثقافة والعلم .. هذا- طبعا- بالاضافة الى أجهزة الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة والندوات و المحاضرات والكتب والنشرات .. التي لم تكف - منذ عام 1971- عن طرح ومناقشة مشكلة الديموقراطية والابقاء عليها مشكلة حاضرة في الحياة اليومية للشعب ...
هكذا طرحت مشكلة الديموقراطية في مصر وما تزال مطروحة. وكان كل ذلك ، ولم يزل ، على أكبر قدر من الايجابية ، اذ ما دامت الديموقراطية في مصر مشكلة فمن الايجابى ان تطرح وان تبقى مطروحة الى أن تجد حلها المناسب .
ولكن،
أين تقع المشكلة ويقع الحل على خط الزمان ؟.. أفي الماضي أم في المستقبل؟
هذا سؤال في صميم صميم مشكلة الديموقراطية في مصر.
التقدم الى الخلف:
لا يمكن القول- علميا- بان مشكلة الديموقراطية في مصر قد نشأت اليوم او في هذا العام او بضعة أعوام قبله. تقطيع عمر التاريخ إلى سنوات منفصلة مستحيل القبول به علمياً لأن التاريخ حركة تراكم مستمرة. وعلى هذا نستطيع - اذا أردنا- ان نتتبع جذور مشكلة الديموقراطية حتى بدء تاريخ مصر الحديث . ولن يكون هذا الا سردا لما يعرفه المؤرخون من أزمات وصراعات دارت أحقابا طويلة بين الشعب العربي في مصر وبين المستبدين به من أبنائه ومن غير أبنائه.
ثم ان كثيرا من الاسباب لا تكشف عن نتائجها الا بعد زمن يتجاوز رؤية الذين بدأوها أو توقعاتهم . ولا شك في أن سعيد بن محمد علي، والي مصر، حين رأى ان يقطع أوصال أخصب جزء من أرض مصر ويوزعه " أبعديات " على من يريد لم يكن يعلم انه ينشئ النظام الذي أفرخ الاقطاعيين (كبار ملاك الأراضي الزراعية) منذ عهده حتى الآن ، وانه يسهم بذلك في تكوين مشكلة الديموقراطية في مصر . كما انه لا شك في ان طلعت حرب ، حين أراد ان يستفيد من الظروف الدولية التي صاحبت وتلت الحرب الاوروبية الاولى (1914- 1918) للعمل على استقلال مصر اقتصاديا، كما كان يعتقد، فأنشأ بنك مصر وشركاته لم يكن يعلم انه يرسي قواعد النظام الذي أفرخ الرأسماليين منذ عهده الى الآن ويمد بذلك في ابعاد مشكلة الديموقراطية في مصر. وهل كان يعلم او يتوقع ان سيأتي أحد تلاميذه- أحمد عبود- فيستطيع ان يقيم الوزارات ويسقطها ويدفع الثمن لمن بيده القيام والسقوط فيكون واحدا من الذين أفسدوا حكم مصر ورشحوها للثورة؟
يكفي أن نذكر تاريخ دستور 1923، وهو أول دستور في تاريخ مصر كما يقولون ( الواقع ان اول دستور صدر عام 1882 إبان تصاعد الحركة الشعبية التي انتهت بالثورة العرابية ولم يطبق الا 47 يوما) . لقد وضعت دستور 1923 لجنة من ثلاثين أسماها سعد زغلول زعيم الشعب وقتئذ " لجنة الاشقياء ". وأصدره الملك فؤاد عام 1923 وخرقه خرقا مشينا عام 1924. وعطله محمد محمود عام 1928. وألغاه اسماعيل صدقي عام 1930. وعاد عام 1935 ليعطل فعليا عام 1939 باعلان الاحكام العسكرية ووضع مصر- أرضا وشعبا- في خدمة الحلفاء في الحرب الاوروبية الثانية (1939- 1945).
وأهدرت أحكامه اهدارا مشينا عام 1942 حين حمل حزب الوفد الى الحكم بقوة السلاح . وأهدرت أحكامه اهدارا مشينا حين تآمرت ، أحزاب الاقلية مع الملك فتولوا الحكم في مرحلة ما بعد الحرب. وأهدرت أحكامه اهدارا مشينا حين دفع حزب الوفد ثمن استرداده موقعه الشرعي في الحكم صلحا مع الملك . وأهدرت أحكامه اهدارا مشينا حين أقيل حزب الاغلبية من الحكم بعد حريق القاهرة في يناير 1952 لتأتي تلك الوزارات مقطوعة الصلة بالشعب ويكون آخر قرار يصدر منها هو القرار الذي أصدره مرتضى المراغي وزير الداخلية يوم 12 أبريل 1952 بايقاف الانتخابات .
وسنعرف مما يأتي من حديث، بعد هذه المقدمات، ان عبد الناصر قد عاش ومات تصاحبه مشكلة الديموقراطية في مصر . وان ثورة 23 يوليو 1952، تحت قيادته ، قد كانت في جوهرها ثورة من أجل الديموقراطية. وانها قد حاولت بأساليب عديدة حل مشكلتها ، ولكنها- الى ان توفي قائد الثورة- لم تكن قد حلتها الحل الصحيح وان كانت قد اتجهت اليه . كما سنعرف ان قدرا من التطورات التي مرت بها مشكلة الديموقراطية منذ 1952 قد كان أقل مما توقعت قيادتها أو أكثر مما توقعت او كانت خارج نطاق توقعها.
كل هذا يقدم أسبابا مشروعة للحديث عن الماضي القريب او البعيد حين تطرح مشكلة الديموقراطية في مصر، لنتزود منه بالمعرفة الكافية بأسباب المشكلة المطروحة ومقدماتها حتى نستطيع ان نجد لها حلا صحيحا. ان هذا يعني ان تناول الماضي لا بد- ليكون مشروعا- من ان يكون مقدمة للتقدم الى المستقبل. هذا- على الاقل - بالنسبة الى من يريدون حقا ان يسهموا في تطوير مجتمعاتهم عن طريق الاسهام في حل مشكلات تطورها، تاركين كتابة التاريخ للمؤرخين ذوي الاذهان الباردة المحايدة ..
اما ان نبدأ بالمشكلة المطروحة لنتقدم الى الماضي- الى الخلف - فهي ردة عابثة . نريد ان نقول انه حين طرح الرئيس أنور السادات مشكلة الديموقراطية في مصر فهم الذين تعنيهم - قبل أي شئ وأي احد- مصلحة الشعب العربي في مصر ان سيادته قد فتح أبواب الاجتهاد في البحث عن أفضل صيغ المستقبل ، ولم يفتح أبواب المحاكم ليقيم كل قادر من نفسه " مدعيا عاما " لاتهام الماضي و ادانته . كأنهم يريدون- الآن- حل مشكلة الديموقراطية في مرحلة تاريخية انقضت بدلا من أن يحلوا مشكلة الديموقراطية كما طرحها الرئيس أنور السادات في المرحلة القائمة . ويجهلون او يتجاهلون انهم بهذا لا يقدمون الى الشعب العربي في مصر او الى رئيس مصر العربية مساهمة ايجابية لحل مشكلة الديموقراطية. بل يطيلون في عمر المشكلة المطروحة بقدر ما يبددون من جهد ويشدون من انتباه الناس الى مشكلة لم تعد مطروحة.
ونحن نقدم الآن لحديث يدور عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر . أي اننا سنتحدث عن الماضي القريب. ولكن أحدا لن يخطى- فيما نرجو- في ادراك اننا ننظر الى الماضي او نعيد النظر اليه ، من خلال متطلبات المستقبل . او ان أحدا لن يخطىء - فيما نرجو- في ادراك ان حديثنا عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر هو مقدمة تاريخية لحديث عن حل مشكلة الديموقراطية في مصر، سواء أكملنا الحديث او حال حائل دون اكماله...
فمن أين نبدأ؟؟
قال روسو وآخرون:
في عام 1762 قال جان جاك روسو في كتابه " العقد الاجتماعي " : " لو كان هناك شعب من الآلهة لحكم نفسه بأسلوب ديموقراطي اذ ان هذا النوع من الحكم الذي يبلغ حد الكمال لا يصلح للبشر ". وقال أيضا : " اذا أخذنا تعبير الديموقراطية بمعناه الدقيق فان الديموقراطية الحقيقية لم توجد أبدا ولن توجد ".
بالرغم من هذا التشاؤم، يأتي من فيلسوف الحرية ، فان الشعوب لم تكف عن محاولة الوصول الى هدف الديموقراطية المقدس . وهي تحقق في كل مكان ، وفي كل زمان ، خطوة مهما تكن قصيرة فانها تقربها من هدفها. قد تتعثر المسيرة او تتوقف او حتى ترتد في مكان محدود او في زمان معين ، ولكن الاتجاه العام لمسيرة الشعوب نحو الديموقراطية في تقدم مستمر . ولعل من علامات تقدمها ان أحدا لا يستطيع ان يجهر- الآن- وهو آمن بانه ضد الديموقراطية فنرى المستبدين يحرصون أكثر من غيرهم على الزعم بان استبدادهم هو الديموقراطية عينها . وليس أقل من هذا دلالة على تقدم الشعوب نحو الديموقراطية رهافة وحدة الشعور بالاستبداد . ان الشعوب تثور اليوم ، ان كانت قادرة على الثورة ، وتجهر معترضة ان كانت قادرة على الجهر او تصمت غاضبة اذا لم يتوفر لها الا أضعف الايمان ، ولكنها- في كل حالاتها- تنكر الاستبداد في صور كانت منذ قرنين حقوقا مقدسة، وكانت منذ قرن حقوقا طبيعية معقولة. هذه الرهافة والحدة في الشعور بالاستبداد هي التي حولت مشكلة الديموقراطية الى أزمة حادة اذ لا يمكن ان يشعر بثقل قيود العبودية الا الأحرار . وهي التي تفسر الانذار الد! ي أطلقه الفيلسوف الانجليزي هارولد لاسكي في تقديمه لكتابه " الحرية في الدولة الحديثة ". فهذا رجل عاش حياته في ظل نظام يقال انه نموذج التقدم الديموقراطي ، ومع ذلك فهو يقول : " كل من يعتبر الحرية أساس الحياة المتمدينة يمكنه ان يرى ان الاخطار التي تهددها هي جزء من أزمة عالمية لم يعد فيها الزمن الى جانبنا . فنحن نندفع بثبات نحو كارثة جديدة ليست أسبابها غامضة علينا ولا نحن جاهلين لطرق العلاج التي يمكننا ان نقابلها ونقاومها بها ولكن مأساتنا هي ان طبيعة تفكيرنا ما زالت مصوغة بأساليب تفكير القرن التاسع عشر ".
ان هذا لا يعني، في رأينا ، ان القيود في القرن العشرين قد أصبحت أكثر ضيقا منها في القرن التاسع عشر. ولكن يعني ان مضمون الحرية قد أصبح أكثر اتساعا، فضاقت به نظم الماضي ومع ذلك ، يبدو ان الفجوة التي تتسع مع الزمن بين مضمون الحرية من ناحية ونظم ممارستها من ناحية أخرى قد أدت الى شعور قريب من اليأس . فهذا مفكر فرنسي معاصر هو رينيه كابيتان يكتفي بعد قرنين من روسو (1972) بان تكون الديموقراطية مثلا أعلى يوجه و يقود جهد البشر وليست نظاما للحكم . ثم يندب جورج فيريير ، وهو مفكر فرنسي معاصر أيضا . يندب الديموقراطية فيقول ان مأساة الديموقراطية كامنة في انها لم تستطع ان تحقق الديموقراطية .
لسنا على هذا القدر من التشاؤم من مستقبل الديموقراطية لاننا نثق في مقدرة الانسان على الانتصار على مشكلاته . وهي ثقة يبررها التقدم الفكري والعلمي الذي أنجزه الانسان وينجزه بمعدلات متزايدة .
كل ما في الامر ان الديموقراطية ، وهي نظام حديث لم تعرفه البشرية الا منذ قرنين ، ما تزال غامضة الدلالة على المستوى النظري على وجه يسمح لاعدائها بادعائها . وماتزال غائمة المعالم على المستوى التطبيقي على وجه يسمح بان تنتحل اسمها أشد النظم استبدادا .
ان هذا يعني ، على وجه ، ان للديمقراطية مشكلات ما تزال تفتقد الحل وتستدعي كل قادر الى ان يسهم بما يستطيع في حل مشكلة تهم الناس جميعا . ويعني ، على وجه آخر، ان الكلمات الاخيرة في الديموقراطية لم تقل بعد وان باب الاجتهاد ما يزال مفتوحا .. وتكون أصعب نقاط البحث هي بدايته . اذ يكون علينا ان نختار من بين عديد المشكلات التي تثيرها الديموقراطية أكثرها حدة او أكثرها الحاحا.. بالنسبة للمجتمع الذي يعنيها : مجتمعنا .
التخلف الديمقراطي :
أهم مشكلات الديمقراطية على الاطلاق هو- في رأينا- التخلف الديموقراطي .. والتخلف الديموقراطي ليس صنو التخلف الاقتصادي دائما كما تزعم بعض المذاهب الفكرية وان كان يتأثر به حتما . ففي فرنسا المتقدمة صناعيا التي أنجبت أساتذة الديموقراطية فلسفة وأساتذة الديموقراطية نظاما، لا يكف أساتذة النظم السياسية، منذ ان دخل أسلوب الاستفتاء الشعبي في دستور 1958، عن التحذير من ان فقدان النضج السياسي الذي يميز بعض الشعوب ومنها- كما يقولون- الشعب الفرنسي يحيل الاستفتاء أداة خطرة في يد القادة. لان الشعب الفرنسي- كما يقولون أيضا- ما يزال، منذ جان دارك ، يبحث عمن يقوده لينقاد له .
اذا كان الامر على مثل هذا في دولة كفرنسا فان المشكلات التي يثير ها التخلف الديموقراطي في الشعوب النامية أشد وأنكى . فليس أسهل من صياغة الافكار ديموقراطيا الا صياغة النظام الديموقراطي نصوصا دستورية . الصعب حقا ان تعي الشعوب حقوقها وان تمارسها . والناس- أغلبية الناس- في المجتمعات النامية، ومنها مجتمعنا العربي، لا يعون حقوقهم وان وعوها لا يمارسوها لانهم يعيشون ازمة صدق وتصديق . الدساتير مصوغة على أعلى درجة ومستوى بلغته الدساتير في المجتمعات المتقدمة ديموقراطيا وهو ما يعني- ضمنا- ان الذين صاغوها مقطوعة الصلة بالواقع ، وان كانت أسمى منه، لم يصدقوا في انهم قد وضعوها لتنفذ فلم يجدوا بأسا في ان تقترب من الكمال في صيغتها على الاقل . والذين وضعت لهم الدساتير لا يصدقون ان لهم كل تلك الحقوق فلا يمارسونها ان بقيت ولا يفتقدونها ان الغيت ولا يدافعون عنها في أي حال . ولا يزالون- كعهد أجدادهم- يسلكون الى غايتهم مسالك الزلفى ويجتنبون الاستبداد بالسكوت . انه ميراث عهود طويلة من العبودية ربتهم على الخوف حتى أصبحوا بشرا خائفين ...
في هذه المجتمعات قد لا يفتقد احد الشكل الديموقراطي . حق التصويت العام . التصويت السري . المجالس المنتخبة.. الخ ، والحكومات لا تتردد في دعوة الشعب الى الانتخاب او الى الاستفتاء . ولكن كل هذا يتوقف على اللحظة التالية. حين يقف أخونا الانسان في لحظته المصيرية وهو يحاول جاهدا ان يبدي رأيه في مقار الاستفتاء او الانتخاب. انه هناك بعيد عن أي تدخل . لا أحد يملي عليه ارادته ولا أحد يكتب له رأيه لانه لا يعرف الكتابة مثلا . نفترض هذا افتراضا لنصل الى جوهر المشكلة . ان أخانا وراء الستار يبدي رأيه ليس وحيدا . انه يحمل فيه - ولا نقول معه- تراثه التاريخي . يحمل فقره الذي يشيع في نفسه الخوف من ان يكون في ستار السرية خرق تطل منه عين السلطة . يحمل تجربته وتجربة أجداده التي علمته وعلمتهم ان الامور في دولته لا تتوقف ، وما توقفت قط ، على ما يقوله الناخبون وراء الستار . باختصار انه في وحدته وراء الستار لا يجد معه الا خوفه مما هو حقيقي أحيانا وما هو وهمى في أغلب الاحيان . فيكون امام الخياريين رأيين : رأي الانسان الذي يريد ان يمارس حريته السياسية، ورأي الانسان الخائف الذي يخشى مزيدا من القيود . الار! جح انه سيختار الرأي الأخير. يخسفر الانتخاب او الاستفتاء عن رأي الاغلبية الخائفة، او عن ممثلين خائفين لن يلبثوا- بدورهم- ان يضيفوا الى خوفهم خوفآ من الهبوط إلى القاع بعد أن صعدوا إلى مقاعد البرلمانات وأصبحوا قريبين من السلطة... الى آخره.
وهكذا نجد ان مشكلة الديموقراطية في المجتمعات النامية، ومنها مجتمعنا العربى ، ليست مجرد مشكلة دساتير وقوانين وحقوق سياسية وضمانات لتلك الحقوق بل قبل هذا وفوقه مشكلة تخلف ديموقراطي . ان ادراكنا لهذه الحقيقة يضع في أيدينا اول مفاتيح الحديث المقبل . اننا لسنا في مبارا ة ديموقراطية مع الدول المتقدمة. أية مقارنة بين الافكار والنظم و الممارسات مقارنة غير واقعية . اننا نعيش مع تلك الدول في عصر واحد ولكن مجتمعاتنا متخلفة عنهم عصورا . هناك بذلت الشعوب على مدى قرون من دمائها، ثورات وحروبا، لتحصل على الديموقراطية وتفرضها على الحاكمين وهي تمارسها كأغلى وأثمن مكتسباتها التاريخية. أما هنا، فما أسهل ان نستعير او نقتبس تلك الدساتير بما فيها من حقوق مسطورة، ولكننا نفتقد- تاريخيا - المقدرة الشعبية على حراستها . لان شعوبنا لم تدفع بعد الاثمان الغالية التي دفعتها الشعوب المتقدمة مقابل انتزاع حرياتها.
اذن،
ان أي حديث جاد عن مشكلة الديموقراطية في مصر العربية او في أي قطر عربى آخر، لا بد له- ان أراد ان يكون علميا- من ان ينطلق من حقيقة ان الديموقراطية ليست مجرد نظام دستوري نطبقه بل حياة ديموقراطية نسعى الى تحقيقها. هنا ، لا يكون السؤال الاساسي هو: هل ثمة نظام ديموقراطي . بمقياس العصر ام لا، بل هل نحن نتقدم نحو نظام ديموقراطي بمقياس العصر ام لا ؟.. وتكون كل خطوة فكرية او قانونية او سياسية او اقتصادية او اجتماعية او تربوية تحررنا، او تساعد على تحررنا، من قيود التخلف الديوقراطي هي خطوة ديموقراطية نحو النظام الديموقراطي الذي سيبقى هدفا الى ان يستحقه الشعب. وهو يستحقه حين يستطيع ان يفرضه بارادته ويحرسه ضد ارادة المستبدين .
الوقوف مع الشعب :
كانت فقرتنا السابقة على قدر من التجريد. لقد كنا نتحدث فنقول " نحن " فمن نحن؟ . ونقول " مجتمعنا " كأن الناس في مجتمعنا سواء في التخلف الديموقراطي . وهو غير صحيح . وهو غير صحيح على وجه خاص بالنسبة الى مصر العربية. ان في مصر العربية بضعة ملايين من المتعلمين والمثقفين والواعين سياسيا المتفوقين ديموقراطيا الذين لا يقلون مقدرة على الممارسة الديموقراطية، بأسلوب العصر، عن أمثالهم في أي مجتمع متقدم ومع ذلك فانهم أقلية.
مشكلة الديموقراطية بالنسبة إلى هؤلاء - ان وجدت - هي كيف يستعملون مواهبهم وما يملكون من مقدرات في حكم شعب يعلمون تماما ان أغلبيته الساحقة متخلفة عنهم . ان لديهم أفكارا وفلسفات وآراء يريدون التعبير عنها، فالديموقراطية عندهم هي- اولا- حرية الكتابة والخطابة والصحافة والنشر. وهم قادرون على أن يكونوا حكاما او هكذا يعتقدون فالديموقراطية عندهم هي- ثانيا- الاحزاب والترشيح والانتخابات ومقاعد المجالس النيابية. وهم قادرون بما يملكون على ان يشقوا طريقهم بأنفسهم فالديموقراطية عندهم هي- ثالثا- عدم تدخل الدولة في شؤونهم وشؤون الناس .
ولكن بجوار هؤلاء هناك أغلبية الشعب من الفلاحين والعمال والحرفيين وصغار التجار والمهنيين والطلاب والعاطلين ظاهرين ومقنعين . انهم الأغلبية. ولسنا نعتقد ان أي ديموقراطي او مدع للديموقراطية يستطيع ان ينكر- بحق- انه اذا لم تكن الديموقراطية هي حكم الشعب كله فهي على اليقين حكم الاغلبية. ان هذه الاغلبية لا تملك أفكارا او فلسفات او آراء ، تريد التعبير عنها، ولا هي راغبة او قادرة على ان تحكم، ولا هي مستغنية عن تدخل الدولة وبالتالي فان مشكلة الديموقراطية منسوبة اليها ليست- بالدرجة الاولى- حرية الكتابة والخطابة والصحافة والنشر والانتخابات. الى آخره. مشكلة الديموقراطية بالنسبة لهذه الأغلبية تتلخص- بشكل عام- في كيف يكون جهاز الحكم في خدمة مصالحهم الحياتية. ومن بين مصالحهم الحياتية ان يكون الحكم في موضوع الخدمة منهم لا في موضع الوصاية عليهم.
وهذا ليس مقصورا على مصر العربية بل هو انتباه عالمي حديث لابعاد كانت خافية من مشكلة الديموقراطية.
قال جورج بوردو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس ، في كتابه " الديموقراطية " : " ما أهمية ان يكون الانسان حرا في تفكيره اذا كان تعبيره عن الفكر يعرضه للاضطهاد الاجتماعي وان يكون حرا في رفض شروط العمل اذا كان وضعه الاقتصادي يرغمه على قبولها . وان يكون حرا في التمتع بالحياة اذا كان البحث عن لقمة العيش يستغرق كل حياته . وان يكون حرا في ان ينمي شخصيته بالثقافة واكتشاف العالم المتاح للجميع اذا كانت تنقصه الامكانيات المادية الحيوية ".
هناك اذن أكثر من مفهوم لمشكلة الديموقراطية في مصر العربية كما هو الحال في العالم . و هي مفاهيم متكاملة على المستوى الفكري المجرد . ولكنها على المستوي الواقعي في مجتمع معين في زمان معين يكون بعضها أكثر حدة من بعضها الآخر، فتفرض على كل جاد في البحث عن حل لمشكلة الديموقراطية اولويات يحددها التكوين الاجتماعي و درجة التطور الديموقراطي وتصبح كل جدوى من الحديث متوقفة على المقياس الموضوعي لتلك الاولويات .
ونحن نعتقد ان المقياس الموضوعي الوحيد للترجيح في شأن الديموقراطية هو الوقوف مع الشعب " أغلبية الشعب " والنظر الى المشكلة على ضوء معاناته. والبحث عن حلها في ضوء احتياجاته بدون انكار او تنكر للجوانب الاخرى من مشكلة الديموقراطية كما تعانيها القلة الممتازة . ذلك لان الديموقراطية نظام لحكم الشعوب وليست نظاما لطموح القلة الى الحكم . وسيكون هذا المقياس الموضوعي هو ضابط ما سيأتي من حديث عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية في مصر.
بهذا تكون هذه المقدمات التي يبدو انها طالت أكثر مما يجب قد انتهت الى ما أردناه بها . ولقد أردنا ان نحدد المقياس الموضوعي لحديثنا عن المشكلة . لنوفر على القارئين - منذ البداية- عناء البحث عن اجابات على الاسئلة التي تثور حول كل كاتب . أين يقف؟.. من أية زاوية يرى؟.. ما هو منهجه في الرؤية؟.. اذ حتى لو كانت كل الوقائع التاريخية معروفة ومسلما بصحتها فان لكل واحد منهجه في فهم التاريخ وتفسيره .
(2) لماذا قامت ثورة 1952
في سبيل الديموقراطية :
في اجتماع حاشد في ميدان التحرير، يوم 26 نوفمبر 1953، أكد جمال عبد الناصر بقوة ، على ان الهدف الاول للثورة كان الديمقراطية قال :
" اني أعلنها صريحة. ان هذه الثورة كان هدفها الاول الديموقراطية لاننا نؤمن بارادة الشعب وقوته. ولكن لن تكون للشعب قوة ولن تكون له ارادة الا اذا أحس بالديموقراطية. اننا، أيها المواطنون ، لم نفكر لحظة واحدة في الديكتاتورية لاننا لم نؤمن بها أبدا فهي تسلب الشعب ارادته وقوته ولن نتمكن من ان نفعل شيئا الا بقوة الشعب وارادته.
" هذا ا يها المواطنون هو هدف الثورة الاول فانها ثورة ديموقراطية تعمل لكم ومن أجلكم ليشعر كل انسان انه مصري وانه مصر كلها .. اننا ما قمنا بهذه الثورة التي تدعو الى الحرية لنتحكم فيكم او لنستبد بكم . ولكننا لا نريد الديموقراطية الزائفة. نريد ديموقراطية تعمل لكم ومن أجلكم، ليشعر كل انسان انه مصري ومتساو والفرص متساوية أمامه في هذا الوطن . ولذلك فاني أقول لكم ان واجبكم أكبر مما تتصورون . فأنتم يا أبناء مصر- وليس مجلس الثورة - أنتم الذين سترسمون الطريق الذي سنسير فيه، ويقرر مصير الوطن أجيالا طويلة. ولذلك فاني أوجه حديثي الى كل فرد واقول له أنت مسؤول عن وطنك وبلادك . ولن نتواكل ولن نسمع وعودا كاذبة كما كنا نفعل في الماضي . فطالما وعدنا وغرر بنا. فاذا أردنا ان نبني وطننا عزيزا ونحقق الحرية التي نؤمن بها جميعا فيجب أن نتبصر ونعرف طريقنا فالماضي يختلط بالمستقبل والحاضر يرسم الطريق للمستقبل .
" يجب أن نتحرر من الخوف. يجب ان نتحرر من الفزع . يجب ان يحرر كل منا نفسه وان نتخلص من السياسة التي رسمت في الماضي ، فقد كانوا يخلقون من كل مواطن طاغية ".
هكذا قال عبد الناصر.
ثم نتذكر ان الرئيس أنور السادات قد ردد في أكثر من مناسبة قصة الخلاف الذي ثار في مجلس قيادة الثورة حول الموقف من نظام الحكم . موجز ما قاله ان مجلس قيادة الثورة قد و اجه منذ البداية اختبار الاختيار بين الديموقراطية والديكتاتورية نظاما لحكم مصر. وقال ان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وحده، هو الذي اختار الديموقراطية لحكم شعب مصر في حين ان باقي أعضاء مجلس الثورة- كلهم- ومن بينهم الرئيس أنور السادات نفسه- كما قال سيادته- قد اختاروا الديكتاتورية نظامآ يحكمون به شعب مصر. وأصروا فاستقال جمال عبد الناصر. فتراجعوا فتراجع عن استقالته...
خلاصة ما قاله عبد الناصر وما قاله السادات معاً ، ان ثورة 23 يوليو سنة 1952، كانت- في وعي عبد الناصر- ثورة من أجل الديموقراطية، وكان هو منسجمآ مع الثورة التي قادها فكان ديموقراطياً .
أية ديموقراطية؟
ولكن كل تلك الأقوال تبدو على قدر كبير من التعميم . فلا نفهم منها أين كان القصور في الديموقراطية الذي حرك الثورة وما هي الديموقر اطية التي قامت الثورة من أجلها .
لقد كان في مصر دستور ليبرالي هو دستور 1923 يكاد يكون منسوخاً من أرقى دساتير أوروبا في ذلك الوقت وهو الدستور البلجيكي . وفي ظله كانت الأحزاب الليبرالية مباحة : الحزب الوطني، حزب الوفد، حزب الأحرار الدستوريين ، حزب الاتحاد، حزب الشعب، حزب مصر الفتاة ، حزب السعديين، حزب الكتلة الوفدية، حزب الفلاح ، جبهة مصر بالإضافة إلى جماعة الأخوان المسلمين . ولقد مورست في ظله قواعد الديموقراطية الليبرالية : ترشيحات وانتخابات ومجالس نواب ومجالس شيوخ وصحافة لكل حزب ولكل من يقدر.
وإذا كنا قد قلنا أنه دستور ليبرالي فلا يمكن لأحد أن يتهم الليبرالية بالتقصير في سرد الحريات " الطبيعية " ورصها في الدساتير، لأن الليبرالية ضد التدخل في حياة الأفراد من حيث المبدأ . وحتى إذا كان دستور 1923 قد تضمن بعض الأحكام الاستبدادية حفآطاً على امتيازات الملكية فإن بقية أحكامه لم تكن تحول دون إلغاء تلك الأحكام الاستبدادية. منع الدستور تغيير النظام الملكي والنظام البرلماني فقط .
والواقع أن عبد الناصر كان يرى ، حين قامت الثورة ، ان الدستور ( دستور 1923) يضارع أرقى الدساتير و ان الحياة البرلمانية والانتخابات المتتالية كان من الممكن أن تتيح للشعب حياة ديموقراطية سليمة. وقد عبر عن رؤيته تلك بعد ثلاثة أشهر من قيام الثورة محدداً هدف الثورة الديموقراطية بإعادة الحياة الدستورية . قال يوم 15 نوفمبر 1952 في ذكرى الشهداء " اني لا أود أن أغادر هذا المكان قبل أن أقول لكم أن حركة الجيش ما قامت إلا لتحرير الوطن وإعادة الحياة الدستورية السليمة للبلاد ".
الحياة الدستورية السليمة؟!
وما هي الحياة الدستورية السليمة التي كان يقصدها؟
يجيب عبد الناصر على هذا السؤال الجوهري في تاريخه وتاريخ الديموقراطية في مصر. فيقول في مدينة شبين الكوم يوم 23 فبراير 1953: " كان الظلم الاجتماعي يتجسم في كابوس الاقطاع البغيض فقد ورثنا طبقة من الحكام والأشراف ترفعوا عن الشعب وراحوا يتمتعون بنفوذهم وأموالهم . وانقسمت البلاد إلى فئتين كل منهما تكره الأخرى وهما من طينة واحدة . معسكر العبيد وطائفة الأسياد ".
ويربط هذا الوضع الاجتماعي بالدستور ومشكلة الديموقراطية في مصر فيقول في ميدان الجمهورية بالقاهرة يوم 16 سبتمبر 1953: " لقد حكمتم زهاء ربع قرن في ظل دستور يضارع أرقى الدساتير وفي برلمانات متعددة جاءت وليدة انتخابات متتالية . حكمتم باسم الديموقراطية ولكنكم باسم الديموقراطية المزيفة لم تنالوا حقوقكم ولم تنالوا استقلالكم . ولم تنعموا يوماً واحداً بالحرية والكرامة التي لم يكفلهما الدستور في عهودهم إلا لهم من دون الشعب فخسرتم كل شيء وكسبوا كل شيء حتى ثرتم على هذه الأوضاع فحطمتموها . فمن منا يمكن أن يقبل أن تسلم الثورة أمر الشعب باسم الديموقراطية الزائفة، باسم الدستور الخلاب ، و باسم البرلمان المزيف إلى تلك الفئة المخادعة؟. هؤلاء الذين عاشوا لتحقيق شهواتهم ومطامعهم من دماء هذا الشعب جيلأ بعد جيل . هؤلاء القوم الذين ثرتم من أجل تصرفاتهم ومظالمهم واستغلالهم " .
لا شك أن عبد الناصر لم يكن يرى مشكلة الديموقراطية في النظام الدستوري . كما لا شك في أنه لم يكن يراها في النظام الاقتصادي وإن كانت رؤيته متضمنة انتباها متقدماً للعلاقة بين مشكلة الديموقراطية ومشكلة الإقطاع بالذات . أوضح جوانب رؤيته في ذلك الحين كانت متصلة بالحاكمين أنفسهم . نظام دستوري " يضارع أرقى الدساتير " ولكن طغمة من الحكام الفاسدين لا يرعون الدستور ولا يحترمون البشر، أفسدوا الحياة الديموقراطية .
نتوقف هنا لنسأل : هل كانت هذه الرؤية مبررة من الواقع ؟
عودة إلى الواقع :
كان النظام الذي يسود مصر قبل 1952 نظاماً ليبرالياً سياسياً واقتصادياً . في هذا النظام كانت للمصريين حقوق سياسية وفيرة (الجانب السياسي) ولكنهم كانوا مجردين من المقدرة الفعلية على استعمالها بفعل النظام شبه الإقطاعي شبه الرأسمالي الذى كات سائداً ( الجانب الاقتصادي) . ذلك لأن القا نون الأساسي للنظام كله ، سياسياً واقتصادياً ، كان المنافسة الحرة . وقانون المنافسة الحرة يبيح لكل شخص أن يكسب معركة الديموقراطية كما يشاء . ولكن لا يكسبها فعلأ إلا القادرون اقتصادياً . فكانت المقدرة الاقتصادية- بشكل عام- هي التي تلعب الدور الحاسم - بعد استنفاد كل الطقوس الشكلية- لتحديد من يحكم ولمن إرادة التشريع والتنفيذ .
في القمة لا يرشح نفسه للانتخابات إلا القادرون مالياً ، كان يشترط في أعضاء مجلس الشيوخ أن يكونوا على سبيل الحصر من بين : " الوزراء ، الممثلين الدبلوماسيين ، رؤساء مجلس النواب ، وكلاء الوزارات ، النواب العموميون ، رؤساء ومستشاري محكمة الاستئناف أو أية محكمة أخرى من درجتها أو اعلى منها ، نقباء المحامين ، موظفي الحكومة من درجة مدير عام فصاعداً سواء في ذلك الحاليون أو السابقون ، كبار العلماء والرؤساء الروحيون ، كبار الضباط المتقاعدين من رتبة لواء فصاعداً النواب الذين قضوا مدتين في النيابة ، الملاك الذين يؤدون ضريبة لا تقل عن مائة وخمسين جنيهاً في العام (حوالي 3000 جنيه بسعر العملة الحالي) من لا يقل دخلهم السنوي عن ألف وخمسمائة جنيه (حوالي 30000 بسعر العملة الحالي) من المشتغلين بالأعمال المالية والتجارية أو الصناعية أو بالمهن الحرة " (المادة 78 من دستور 1923) وكان من حق الملك أن يختار ثلث الأعضاء ويعينهم .
أما بالنسبة إلى النواب فكان يشترط للترشيح دفع أمانة مقدارها 150 جنيهاً (حوالي 3000 جنيه بسعر العملة الحالي). هكذا كان يشترط قانون الانتخاب في مادته الخامسة والخمسين . ولقد اشترط هذا المبلغ عمدآ وبعد نقاش طويل . إذ كان الاتجاه عند وضع قانون الانتخاب إلى إشتراط أن يكون النائب من بين كبار الملاك أو ذوي الدخول الكبيرة . ولما كان هذا الشرط قد استنفد حين اشتراطه لعضوية مجلس الشيوخ ، فقد احتالوا لإعادة النص عليه بصيغة أخرى هي اشتراط أن يدفع المرشح مبلغآ مالياً ، كأمانة، يكون من الجسامة بحيث لا يستطيع دفعه إلا كبار الملاك أو ذوو الدخول الكبيرة .
هذا في القمة،
أما في القاع حيث يقبع الشعب، أغلبية الشعب التي يحتكم إليها المتنافسون في الانتخابات فإن الشعب كان مرتبطآ منذ أجيال من أمعائه بالمسيطرين عليه اقتصادياً القادرين على وصل الأرزاق وقطعها كان الفلاحون اقنانآ أو في مرتبة الأقنان بالنسبة لملاك الأراضي . فحرية الإرادة ، أو حرية التعاقد - ذلك الطوطم المقدس ليبراليا - كانت تعني أن الفلاحة مزارعة أو إيجاراً ، كانت خاضعة خضوعاً تاماً في انعقادها وفي استمرارها وفي انهائها وسعرها لإرادة المالك وحده . وأسعار المحاصيل كانت خاضعة خضوعاً تاماً لمضاربات الرأسماليين في السوق . وفي المتاجر والمصانع كان عقد العمل خاضعاً خضوعاً تاماً في انعقاده واستمراره وانهائه وقيمة الأجر فيه والجزاءات التي تقتطع منه لمالك المتجر أو المصنع وحده . وكانت النخاسة المقنعة التي يسمونها " توريد الأنفار " سوقاً رائجة من فرط البطالة وفيها يبيع المصريون قوة عملهم بأبخس الأثمان لكي يعيشوا ، ويدفعون من الثمن البخس قدرا معلوماً لمن يجد لهم العمل أو يضمن لهم الاستمرار فيه.
كان مطلوباً من كل هؤلاء الأقنان الاجراء العاطلين المرضى الجاهلين أن يستعملوها حقوقاً سياسية مقتبسة من دستور بلجيكا وأن ينافسوا غيرهم في سباق الديموقراطية . ولم يكن ذلك ممكناً . كان أجدى عليهم ، وأكثر واقعية ، أن يبيعوا حرياتهم السياسية لمن يشتريها أو أن يتنازلوا عنها مقابل الاستمرار في الحياة . ولقد كانوا- كما لاشك يذكر كل الذين عاصروا تلك المرحلة- يبيعونها أو يتنازلون عنها صفقة واحدة لكل عائلة من كل قرية ، وسيطها رئيس العائلة أو عمدة القرية ليكسب هو أيضاً . ولم يكن في أي من هذا شيء غريب . فقديماً قال روسو " ان الغني الفاحش والفقر المدقع متلازمان وعندما يجتمعان في مجتمع ما ، تباع فيه الحرية وتشترى ، يبيعها الفقراء ويشتريها الأغنياء " . ولم يكن روسو يلوم أحداً ولكنه كان ينقد نظاماً .
و لقد كان شعب مصر- أغلبية شعب مصر- قبل ثورة 1952 عاجزاً اقتصادياً عن الممارسة الفعلية لإرادته. كان حراً سياسياً بحكم الدستور مقهوراً اقتصادياً بحكم تبعيته الاقتصادية لملاك الأراضي والرأسماليين . ولا ذنب في هذا للسادة أو للعبيد انما هو ذنب النظام . فحيث يوجد سادة لا بد متن وجود العبيد . ولا عيب في الحرية السياسية ولكن العيب في العبودية الاقتصادية فحيث لا يكون الإنسان حراً اقتصادياً لا يستطيع أن يمارس حريته السياسية، فتبقى جملاً منمقة في الدساتير .
وهكذا كانت في دستور 1923.
و ما بين القاع والقمة كان اصدار الصحف مباحا ولكن لم يكن يصدر الصحف الا القادرون ماليا . وكانت حرية الكتابة مباحة ولكن لم يكن ينشر الا ما يرضى عنه ملاك الصحف أو من يمولونها عن طريق الاعانات والاعلانات . وكان تأسيس الاحزاب الليبرالية مباحا ولكن لم تكن تلك الاحزاب مؤثرة الا بقدر ما تملك من مال ليكون لها الدور والصحف ووسائل الانتقال والاتصال والاجتماع وفوق هذا وقبله أن يكون اعضاؤها من القادرين ماليا على اجتياز الانتخابات الى مجلس النواب أو الشيوخ .. ( لم تستطع جماعة الاخوان المسلمين بالرغم من قاعدتها الشعبية العريضة أن تحصل على مقعد في البرلمان في أية انتخابات ) . لقد كان مجتمع الـ ½ في المائة .
هل ½% حقاً ؟
حديث الأرقام:
ان حديث الارقام ثقيل ، ولكنه بليغ في دلالته . طبعا بشرط الا تكون أرقاما منتقاة سلفا للتدليل . فمن الذي يحدثنا حديث الارقام ؟ .. لن يكون عبد الناصر ، ولن يكون أحدا ممن شاركوا عبد الناصر مسئولياته طوال حياته . سنختار عالما اقتصاديا رأسماليا كان له من عبد الناصر وثورة 23 يوليو موقف سلبي . غادر مصر ولم يعد اليها الا بعد وفاة الرئيس الراحل . ولكنه من حيث هو عالم اقتصاد يجيد لغة الارقام . ومن حيث هو رأسمالي لا ينتقي لغة الدفاع عن عبد الناصر .
قال الاستاذ علي الجريتلي في دراسة نشرها أخيرا عن " التاريخ الاقتصادي للثورة " :
" قبل الثورة كان عدد قليل من الملاك يستأثرون بنحو ثلث الارض الزراعية ، وكانت هناك مظاهر للاحتكار في الصناعة منها الاحتكار المعزز من الحكومة التي تمتعت به شركات السكر والدخان والطيران والملاحة . وفضلا عن ذلك كان عدد قليل من الشركات الكبرى في صناعات الغزل والنسيج والاسمنت والمشروبات الروحية يملك التأثير في الاسعار ويؤلف انتاجها نسبة عالية من المعروض المحلي وراء سياج عال من الحماية الجمركية . ونظرا لقلة عدد ارباب الاعمال كانت تعقد بينهم اتفاقات لتحديد الاسعار والانتاج وتقسيم السوق ، ومن ذلك اتفاقية أسعار الخدمات المصرفية. وكانت هناك اتفاقات مماثلة بين شركات الحلج في الوجهين البحري والقبلي وبين شركات الكبس الكبرى .. وكانت تسيطر على القطن عشر بيوت بلغ نصيبها 80% و 90 % . من مجموع الصادرات ( كان القطن يمثل 90 % من صادرات مصر) وفي مراحل التصنيع الاولى كانت الشركات تتمتع باحتكار فعلي نظرا لقلة عددها وتعضيد الحكومة لها . وكانت الشركات الصناعية و المالية ترتبط مع الاحتكارات العالمية بوشائج وثيقة وتشترك معها في انشاء مشروعات مشتركة. ومن أمثلة ذلك اشتراك شركات التأمين العالمية (بورنج و! اسيكارزبوني) في انشاء شركة مصر للتأمين واتفاق شركات برادفورد وكالبكبووكوهوون مع بنك مصر لانشاء شركات غزل القطن وصباغته وتصنيع الحرير الصناعي بقصد تخطي (التهرب من) التعريفة الجمركية.
نستطيع بسهولة أن نحول هذه الفقرة الى أرقام مذهلة ليرى الجيل الجديد الذي لم يعاصر تلك المرحلة السوداء كيف كانت القوة الاقتصادية لمجموعة محدودة من الناس تسيطر على مقدرات شعب مصر او كيف كانت تحكم مصر. ولكننا نريد ان نبقى في حدود حديثنا عن عبد الناصر ومشكلة الديموقراطية.
يكفي أن نلفت الانتباه الى قول الدكتور علي الجريتلي :
" عدد قليل من الملاك يستأثرون بنحو ثلث الأرض الزراعية " وهذا رمز لها :
61 مالكا يملك كل منهم أكثر من 2000 فدان ومجموع ملكيتهم 277258 فدانا
28 مالكا يملك كل منهم أكثر من 1500 فدان ومجموع ملكيتهم 97454 فدانا
99 مالكا يملك كل منهم أكثر من 1000 فدان ومجموع ملكيتهم 112216 فدانا
92 مالكا يملك كل منهم أكثر من 800 فدان ومجموع ملكيتهم 86472 فدانا
ومعنى ذلك ان 280 مالكا كانوا يملكون 583400 فدان ، أي ان واحدا من مائة الف من الشعب يملك 12% من الأرض .
هذا مثال من الاقطاع الثقيل ... الذي كان في ذهن جمال عبد الناصر وهو يتحدث عن مشكلة الديموقراطية في مصر . انه ذات الواقع الذي حدد هدفين أساسيين من أهداف الثورة الستة : القضاء على الاقطاع والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم .
الهدف الاول كان يعني تحرير الفلاحين من التبعية للملاك . والهدف الثاني كان يعني ان يكون الحكم في خدمة الشعب وليس تحت سيطرة رأس المال . وكلاهما كان هدفا ديموقراطيا لحل مشكلة الديموقراطية في مصر كما يحددها- موضوعيا- الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي الذي كان سائدا قبل ثورة 1952.
لماذا الضباط الاحرار؟
ان في حديثنا ثغرة لا ينبغي ان نقفز عنها او ان نتجاهلها . قد يبدو واضحا من الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي الذي كان سائدا قبل ثورة 1952 ان مصر كانت مرشحة موضوعيا لثورة يسترد بها الشعب حريته ومقدرته على فرض ارادته في حدود دستور 1923 أودستور يضعه بنفسه. ولكن هذا الواقع لايبرر وحده - ثورة 23 يوليو 1952 بكل خصائصها .
ولقد اتضحت اولى خصائصها مما قلنا من قبل . فبينما يؤكد الواقع الموضوعي للحياة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية ان مشكلة الديموقراطية في مصر- قبل الثورة- كانت مشكلة " نظام " غير ديموقراطي كان قائد الثورة يراه " فسادا " أحدثه أشخاص فاسدون يستغلون نظاما دستوريا يضارع أرقى النظم . ألم يكن ذلك قصورا في الرؤية يكشف عن قصور في النظرية ؟
بلى .
ثم ان من خصائصها ان الشعب ، أغلبية الشعب ، لم تخطط لها ولم تسهم في تفجيرها لا عن طريق انتفاضة عفوية تكملها قوة منظمة ، ولا عن طريق حزب من الاحزاب الي كانت تقود الشعب في معارك الحفاظ على الدستور والديموقراطية . ألم يكن ذلك سلبا لشعبية الثورة لا يغني عنه تأييد الشعب لها بعد ان قامت ونجحت وأصبحت في السلطة ؟
بلى.
ثم ان من خصائصها ان الذين خططوا لها وأعدوا قوتها ونفذوها جماعة من ضباط القوات المسلحة لم يكن لتنظيمهم " السري " امتداد جماهيري ولم يكونوا هم معروفين شعبيا ولا كانت مزاياهم وأهدافهم معروفة. ألم يكن ذلك سلبا لديموقراطية الثورة ذاتها ؟
بلى.
كيف اذن يبدأ الحديث بربط الثورة بمشكلة الديموقراطية الى حد القول بانها كانت ثورة من أجل الديموقراطية اتكالا على ما قال قائدها او اتكالا على ان الواقع الاجتماعي و الاقتصادي والسياسي في مصر، قبل 1952 ، كان يرشحها لثورة من اجل الديموقراطية ، اذا كانت ثورة 23 يوليو 1952 بكل خصائصها المسلمة لا تحمل تأكيدا بانها هي الثورة التي كانت تستدعيها ظروف مصر قبل 1952 .
واذا أضفنا بعضا من سوء الظن يمكن أن نضيف سؤالا أذكر انه تردد في بعض الاوقات على ألسنة هواة الجدل النظري . يقول السؤال : لماذا لا تكون ثورة 23 يوليو 1952 انقلابا قام من أجل اجهاض وضع ثوري ليحول دون قيام ثورة شعبية ديموقراطية في مصر ؟
أسئلة على أكبر قدر من الجدية .
كل ما يعيبها هو الجهل المطبق ، أو التجاهل المتعمد، للواقع الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي في مصر . ذلك الواقع الذي كان من حظنا ان عاصرناه كبارا وعشناه نشاطا وطنيا سريا وعلنيا، سلميا وعنيفا، في مواقع شعبية ، وهياكل حزبية ، من أجل ذات الاهداف التي سبقنا اليها تنظيم الضباط الاحرار. وما كان يمكن ان تكون الثورة فكرا وقوة وبشرا الا كما كانت ، أعني ان الواقع الموضوعي في مصر ما كان يمكن ان يفرز قوة ثورية قادرة على الثورة الا تنظيم الضباط الاحرار، بكل خصائص الثورة التي لم ننكرها من قبل .
لماذا ؟..
بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 ، تدخل أساتذة النظم السياسية في الجامعات ليبرروا قيام الثورة بقوة من الضباط . قال أحدهم . " لأن الشعب أعزل من القوة المادية التي يمكن عن طريقها وحدها وضع الامور في نصابها " . ( الدكتور عبد الفتاح ساير داير) وقال آخر . " لأن الجبهة المدنية لا تستطيع القيام بمثل هذه الثورة لافتقادها الى الاسلحة والعتاد " ( الدكتور مصطفى أبو زيد فهمي) .. وقال استاذنا وأستاذهم المرحوم الدكتور سيد صبري : " لأن الضغط على صاحب التاج يحدث في البلاد العريقة في الديموقراطية بواسطة الشعب او ممثليه بينما تم الضغط في مصر عن طريق الجيش " ( مقال في جريدة الاهرام يوم 27 يوليو 1952).
وكل هذا صحيح الى حد محدود.
حد الصحة فيه انه يشير الى عجز الشعب عن القيام بالثورة ولكنه لم يقل لماذا كان الشعب عاجزا ومن المسئول عن هذا العجز ؟ .. ان يكن افتقاد السلاح فان الشعب قد ثار عام 1882 ووضع لنفسه أرقى دساتير العالم وقتئذ تحت قيادة عرابى ، وثار عام 1919 وواجه جيوش الاحتلال والشرطة التي كانت هي الاخرى تحت قيادة الانجليز وهو بدون عتاد او انه لم يفتقد العتاد فقد صنعه في نيران الثورة . وان يكن الاحتلال فإن الثورة قامت في ظل الاحتلال لتنهيه . وان يكن الملك فان الذين قاموا بالثورة ضباط أقسموا يمين الولاء لجلالته . وان تكن الاحزاب فلقد قامت الثورة ونجحت بدون حزب والغت الاحزاب.
كل هذه قد تكون عوامل مساعدة او معوقة للثورة الشعبية. ولكن عجز الشعب عن الثورة كان راجعا الى ذلك النظام الذي حرم الشعب من امكانيات الثورة فلم يبق إلا العسكريون ليثوروا . هو ذلك النظام الذي حرم الشعب من تكوين أحزابه الثورية فلم يجد العسكريون حزبا ثوريا يستندون اليه في ثورتهم. هو ذلك النظام الذي فشل في أن يمكن الشعب من خلال التربية الديموقراطية والممارسة الفعلية للديموقراطية من ان يمتلك المقدرة على ردع الذين لم يستجيبوا لارادته.
ان مجرد ان يصل شعب مصر في ظل دستور 1923، و بعد ثلائين عاما من الممارسة ، الى درجة من العجز تسمح لاعدائه باهدار دستوره واقصاء حزب أغلبيته ثم تحول دون ان يفرض هو ارادته دستوريا او بثورة شعبية فلا يقوم بالثورة التي توافرت أسبابها الموضوعية الا نفر من القوات المسلحة هو الدليل الحاسم على ان مشكلة الديموقراطية في مصر، قبل عام 1952، كانت قد وصلت الى حد المأساة الشعبية.
نريد ان نقول ان طبيعة مشكلة الديموقراطية في مصر قبل عام 1952 هي التي عينت طريقة حلها: ثورة عسكرية.. ومن رحم النظام الذي كانت تحكم به مصر قبل 1952، وبكل خصائصه، ولدت ثورة 23 يوليو 1952 بكل خصائصها وما كان يمكن ان يكون المولود غريبا عن والدته... الا- طبعا- في اذهان المثاليين .
نضرب مثلا...
وفاة الدستور:
في يوم 19 نوفمبر 1924 قتلت احدى المنظمات الوطنية السرية السير لي ستاك قائد الجيش المصري وحاكم السودان . فاستغل الانجليز الفرصة وقدموا الى حكومة سعد زغلول مطالب لا تمت أغلبها الى الحادث بصلة ( الاعتذار- عقاب الجناة- منع اللمظاهرات - دفع غرامة مليون جنيه - ارجاع الجيش المصري من السودان - اطلاق يد الانجليز في تحديد مساحة الأرض التي تزرع قطنا في السودان).
رفضت حكومة سعد زغلول وأعلن استقالته أمام البرلمان يوم 24 نوفمبر 1924 واكتفى البرلمان بالاحتجاج . فأصدر الملك أمرا الى أحمد زيور بتأليف الوزارة التي يسميها المؤرخون " وزارة تسليم ما يمكن تسليمه ". فسلمت بمطالب الانجليز وصدر مرسوم يوم 25 نوفمبر 1924 بتأجيل انعقاد البرلمان شهرا . وفي 9 ديسمبر 1924 عين إسماعيل صدقي وزيراً للداخلية كمؤشر لاتجاه النية الى حل مجلس النواب واجراء انتخابات جديدة " يطبخها ". وفعلا في يوم 24 ديسمبر 1924 أي قبل نهاية الشهر المضروب لتأجيل البرلمان بيوم واحد ، استصدرت الحكومة مرسوما بحل مجلس النواب وتحديد يوم 6 مارس 1925 لانعقاد المجلس الجديد، كانما تريد ان تحتكم الى الشعب . ولكنها سوفت في الانتخابات الى ان أنشأ الملك حزب الاتحاد يوم 25 يناير 1925، والى ان غير اسماعيل صدقي الدوائر الانتخابية بما يتفق مع رغبات مرشحي الحكومة، وأخيرا حدد للانتخابات يوم 12 مارس 1925.
فما الذي حدث؟
أطاع شعب الفلاحين، صاحب ثورة 1919، بكل ما أراده الانجليز والملك والحكومة. وما ان افتتح البرلمان يوم الاثنين 23 مارس 1925 حتى انتخب سعد زغلول رئيسا له. كان ذلك في الجلسة الصباحية. وفي الجلسة المسائية كان قد صدر مرسوم جديد بحل مجلس النواب، وتقرر وقف الانتخابات.. واعتبر الشعب ان هذا الحل غير شرعي فتربص حتى اقترب يوم 21 نوفمبر 1925، اليوم المحدد دستوريا لانعقاد البرلمان ، وقامت حركة شعبية عارمة تجمع النواب والشيوخ من بيوتهم وتحملهم على الاجتماع في احد الفنادق تحت حراسة الشعب الذي بقي محتشدا أمام الفندق (الكونتننتال- ميدان الاوبرا) يحرس نوابه.. وأدى كل هذا الى اذعان الحكومة للحركة الشعبية فحددت موعدا للانتخابات يوم 22 مايو 1926..
الى هنا لا يستطيع احد ان يقول ان شعب مصر كان عاجزا عن فرض ارادته ، او انه كان عاجزا عن استئناف نشاطه الثوري الذي بدأه عام 1919، او انه كان في حاجة الى ضباط من القوات المسلحة ليثوروا بدلا منه..
ولكن لنتأمل ما فعل السادة في مجتمع الـ ½ في المائة؟..
في يوم 3 ابريل 1926 عقدت الاحزاب اجتماعا عقدوا فيه اتفاقا أذاعوه في اليوم نفسه. كان الاتفاق يتضمن امتهانا لأي معنى من معاني الديموقراطية . ويمثل مؤامرة موجهة أساسا ضد الشعب نفسه. ذلك لأن الاحزاب قد اتفقت على ان تقتسم فيما بينها الدوائر الانتخابية فاختص حزب الوفد بمائة وستين دائرة ( وقع بالنيابة عنه سعد زغلول) واختص حزب الاحرار الدستوريين بخمس وأربعين دائرة (وقع بالنيابة عنه محمد محمود) واختص الحزب الوطني بتسع دوائر ( وقع بالنيابة عنه محمد حافظ رمضان) وهكذا عينت الاحزاب " نواب الشعب " وحرمت الشعب في بدء تجربته الديموقراطية من أن يختار نوابه... وقتل الحلف الاقطاعي الرأسمالي دستور 1923 بعد ثلاثة سنوات فقط من أصداره .
ومنذ عام 1926، تكررت اللعبة عشرات المرات، وانحصرت أطرافها في شريحة قليلة تتصارع على كراسي الحكم في القاهرة ، ولم يكن الشعب- في أي يوم من الأيام- طرفا أصيلا في هذه اللعبة. كان يدعى الى الانتخابات فينعقد سوق بيع الاصوات وشرائها . وينقض السوق فيعود الشعب الى عزلته الواعية. الواعية بانه، منذ أن تآمرت عليه الاحزاب التي قاتل ضد الملك من أجل تمكينها من الحكم عام 1925، لم يعد طرفا في الصراعات الحزبية و لا شريكا في لعبة كراسي الحكم .
وقبيل 1952، كانت السيطرة الاقتصادية والسياسية قد تحولت الى سيطرة اجتماعية ونفسية وأخلاقية أيضا. كانت تلك السيطرة قد أصبحت مقبولة اجتماعيا ونفسيا وأخلاقيا وتحولت الى " قيم وأخلاق وسلوك القرية " التي أضفت على تلك السيطرة نوعا من القدسية وحصنتها ضد الرفض والتمرد بآداب القناعة الذليلة التي تعبر عنها الامثال الشعبية : " الفلاح لا فلح " .. " العين لاتعلى على الحاجب " .. " الاصابع مش متساوية " .. " من يتزوج أمي أقول له ياعمي " .. " القناعة كنز لا يفنى " .. الخ .
وحين يصل القهر المتصل بأحد الشعوب الى حد عدم الاحساس بالقهر ، يكون من المثالية أن نتوقع منه أن يثور ضد قاهريه .. وسنعرف فيما بعد أن أكثر جوانب مشكلات الديموقراطية في مصر تعقيدا كانت - قبل ثورة 1952 - عدم وعي أغلبية الشعب بأن ثمة مشكلة ديموقراطية . سنعرف هذا ونعرف كيف واجهت ثورة 23 يوليو 1952 وقائدها عبد الناصر هذا الجاني المعقد من المشكلة .
قال .. فهل فعل ؟
يكفينا الآن أن قد عرفنا " شيئاً " عن مشكلة الديموقراطية في مصر قبل عام 1952، وان الثورة قد قامت من أجل حلها ، و ان عبد الناصر، قائد الثورة ، كان واعيا ان على الثورة ان تحل المشكلة التي قامت من أجل حلها ، وانه هو- شخصيا- كان مع الديموقراطية ضد الديكتاتورية وانه كان يمتلك - حين قام بالثورة- قوة قاصرة نظريا وشعبيا وديموقراطيا .. أضاف اليها- بانتصار الثورة- قوة جهاز الدولة التي ثار ضدها والمتميز أساسا بانه كان غير ديموقراطي ..
بعد عشرين شهرا من قيام الثورة ، أي في يوم 13 أبريل1954، قال جمال عبد الناصر ضمن خطاب ألقاه في قرية " الفاروقية " :
" ماذا يعنون بالحرية التي ينشدونها والبرلمان الذي يريدونه؟ . انهم يعنون بذلك الاستغلال في أبعد حدوده والاحتماء في الاستعمار من أجل مصالحهم في القرى وفي الأرض وفي البنوك وفي كل شيء بالرغم من ان الفلاحين يمثلون الاغلبية العظمى اذ يبلغ عددهم 18 مليون نسمة يعيشون وقد حرموهم الشعور بالحرية والعزة والحرية الاجتماعية ولقمة العيش . حرموهم وحرموا اخوانهم في الريف. ومن بدرت منه بادرة الدفاع عن حق مشروع كان له جزاء خاص !.. فماذا كات يحدث لهم أيها الاخوان وماذا كان يذوقون على أيدي سادة مصر المنحلين في العهود الغابرة ؟
" أنا أعرف جيدا وأنتم تعرفون كذلك ان أصحاب الاقطاع الذين يتحكمون فيكم كانوا يخرجون الرجل بعائلته وأولاده شريدا لا يجد لقمة العيش . هل هذه هي الحرية التي ينادون بها ؟ .
" لقد قامت الثورة لتحرير الشعب من الاستعباد و الاحتكار وقد حققنا الحرية للمواطنين جميعا "
هكذا قال عبد الناصر، فهل كانت الثورة قد حققت الحرية للمواطنين جميعا بعد عشرين شهراً من قيامها؟؟ ..
(3) خطان في الحركة الوطنية
بريد الامبراطورية:
عام 1919
" زفتي " مدينة صغيرة في وسط الدلتا . يتكون شعبها من الفلاحين . ويحكمها مأمور المركز تسانده قوة محدودة من رجال الشرطة وبعض الموظفين الاداريين و من بينهم مسئول مكتب البريد . وكما قد نصادف بعض الزهور البرية في الارض القاحلة ، كان يمكن ان نصادف زهورا مصرية من أبناء الفلاحين كان من حظهم ان يعبروا بجامعة القاهرة ويتخرجوا فيها . كان من بينهم يوسف أحمد الجندي. محام لم يبلغ الثلاثين .. في زفتي .
ثم انفجرت ثورة 1919 الوطنية. ودخل الشعب كله في المدن والقرى معاركها الشرسة ضد قوات الاحتلال . ولما لم تكن ثمة قيادة مركزية للنشاط الثوري فقد أفرزت كل مدينة وكل قرية قياداتها ونظمت قواها ووضعت خططها وخاضت معاركها و قدمت ضحاياها... تحت الشعار الموحد " الاستقلال التام او الموت الزؤام " … شعار ثورة 1919.
ولقد استطاعت القوات الانجليزية ان تسيطر على الموقف بسرعة نسبية في الريف مستفيدة بعزلة القرى وغياب القيادة المركزية . وأخمدت بقسوة ووحشية ثورة الفلاحين . قتلت الآلاف وحرقت مئات القرى . وسلبت المحاصيل والماشية . وهتكت الاعراض .. كانت مذابح جماعية تعرض لها الفلاحون على اثر معارك غير متكافئة استعملت فيها قوة الاحتلال كل ما تملك من جيوش وعتاد حى الطائرات .
ولما كانت زفتي تقع عند مفترق طرق برية و نهرية وحديدية فقد بادر الانجليز الى مهاجمتها بقوة كثيفة. وصمدت زفتي . فلما حوصرت أعلنت استقلالها باسم " امبراطورية زفتي " . هو اسم ينبىء تركيبه المرح عن أرفع مستويات التحدي للواقع . وتكونت حكومتها المستقلة تحت رئاسة يوسف الجندي من أعضاء ظاهرين وأعضاء مستترين . يهمنا الاعضاء المستترون . انهم ممثلو السلطة المركزية الانجليزية ذاتها. المأمور الذي كان يتبع قيادته الانجليزية . ومعاون المالية الذي كان يتبع وكيل الوزارة الانجليزي . ومسئول مكتب البريد الذي كان يتبع مديرها الانجليزي .
وكانت القوات المسلحة في زفتي تتكون من الفلاحين أنفسهم . تساندهم - للحق والتاريخ - قوة " كوماندوز " من الذين كانوا هاربين من القانون . تحولوا في أتون الثورة من مجرمين الى ثوار . المهم أن زفتي قد استطاعت أن تصمد للحصار وان تقاتل ضد محاولات " فتحها " مدة تجاوزت صمود الثورة في القاهرة ذاتها ...
وفي كل دولة، حتى ولو كانت " امبراطورية زفتي " الثائرة يوجد الخونة والعملاء . وقد كان فيها نفر قليل يكتبون " رسائل الخيانة الى الحكومة ويفشون أسرار الثورة . غير ان في كل دولة ثائرة ومنها " زفتي " رقابة على الرسائل . فكان موظف البريد " يراقب " الرسائل التي تسلم اليه ويحجز منها ما يضر " بأمن الثورة " . وهكذا تجمعت لديه أسماء الخائنين وهم لا يعلمون .. فلما ان أطبقت القوات الانجليزية على زفتي ، وغادرتها القيادة خفية الى مقر الثورة في القاهرة ، لم يبق الا الفلاحون والمأمور وموظفو الحكومة . وأقسم الفلاحون - كل الفلاحين رجالا ونساء - أغلظ الايمان انهم لا يعرفون ما حدث ولا كيف حدث ولا من أحدثه .. فلم تجد سلطة الاحتلال الا ان تطلب من المأمور ومعاونيه ان يقدموا اليها - فورا- المسئولين عن ثورة زفتي والا كانوا هم مسئولين . اذ لا يعقل ان تقوم ثورة في مدينة هم حكامها وممثلو السلطة فيها ثم لا يعرفون منظميها وقادتها . الا اذا كانوا متواطئين!! وقدم المأمور قائمة المسئولين عن الثورة فلاقوا جزاءهم فورا
نفس قائمة الخونة الذين كان موظف البريد قد رصد اسماءهم .
وليست زفتي الا مثلا ..
حتى لانخطيء:
كان ذلك هو شعبنا العربي في مصر وكانت تلك هي روحه ومقدرته الثورية على التحدي والتنظيم والقتال والصمود بدون أن يفقد ذرة من " مرحه " الشهير . ولكن ذلك قد كان عام 1919 إبان الثورة الوطنية. فهل كانت هذه الروح الثورية قد انطفأت ، فانتهت الحركة الوطنية بعد الثورة ببضع سنين .
يبدو فعلاً من حديثنا أن الحركة الوطنية في مصر قد انتهت بعد ثورة 1919. ثم انبثقت مرة أخرى كمعجزة من فراغ عام 1952. كأن جمال عبد الناصر بطل أسطوري خرافي جاء إلى مصر من خارجها ليشعل الثورة في جثة شعب ميت .
لا. أبداً. أن هذا خطأ جسيم في فهم التاريخ عامة وتاريخ مصر خاصة ، وتاريخ عبد الناصر و مشكلة الديموقراطية بالذات . ثم أنه خطأ في فهم ما قلنا من قبل . لقد أردنا فقط أن نقول في حديث عن مشكلة الديموقراطية ، ان شعبنا العربي في مصر الذي كان يموج ثورة 1919 واستطاع في عام 1924 أن يصل بقيادته الى الحكم ثم استطاع عام 1926 أن يفرضها مرة أخرى ضد إرادة الاحتلال والملك والحكومة معاً ، قد تآمرت ضده الأحزاب التي كونها قادة ثورة 1919 أنفسهم فعزلوه عن شئون السياسة بعد أن تحولوا من ثوار إلى ساسة ، وأخضعوه للسلطة بعد أن أصبحوا شركاء للمحتلين والملك في السلطة ، وما زالوا به يقهرونه باسم الوطنية بعد أن كانوا يحرضونه على الثورة باسم الوطنية ، ويستولون من دونه على خيرات الوطن بعد أن قادوه إلى التضحية في سبيل الوطن .. حى اقنعوه فاقتنع، أو حتى يئس فأقتنع ، أو حتى تعلم فاقتنع ، أن مشكلة الديموقراطية كما كانت مطروحة في ذلك الوقت ليست مشكلته. فلم يرفع اصبعا واحداً لحلها .
الى من تنتمي إذن ، ثورة 1952، ومن أين جاء جمال عبد الناصر ؟
إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي أن نلقي نظرة سريعة وعامة على الحركة الوطنية في مصر وهو أمر مؤسف . أعني انه من المؤسف ألا نستطيع - في سياق هذا الحديث - الا الاكتفاء بنظرة سريعة وعامة... ذلك لأننا نستطيع أن نقطع بأن أغلب من كتبوا عن ثورة 23 يوليو 1952 أو قالوا عنها شيئاً ، لم يحددوا موقعها من الحركة الوطنية في مصر تحديداً صحيحاً . ربما لأن أحداً لم يهتم بتحديد ذلك الموقع .
ننتهز نحن فرصة هذا الحديث لنلقي نظرة سريعة وعامة لعلها تكون كافية لمعرفة الانتماء السياسي لثورة 1952 وقائدها جمال عبد الناصر .. وستفيدنا هذه النظرة إلى حد بعيد في فهم الصراع المرير الذي خاضته الثورة و قاثدها ، فور قيامها ، ضد فصائل أخرى من قوى الحركة الوطنية حول " مشكلة الديموقراطية " والأثر السلبي الذي تركه ذلك الصراع على امكانيات حلها .
في البدء كانت الوحدة:
باختصار شديد...
من المفارقات التاريخية الملفتة أن الحركة الوطنية في مصر قد بدأت من خلال الكفاح من أجل الديموقراطية وليس من أجل التحرر الوطني . ذلك لأنها بدأت قبل الاحتلال الانجليزي بثلاثة أعوام تقريباً . واتخذت شكل تنظيم سري أسماه أعضاؤه " الحزب الوطني " وجعلوا مركزه في مدينة حلوان خارج القاهرة .. كان من مؤسسيه الضباط أحمد عرابي و عبد العال حلمي وعلي فهمي أبطال الثورة العسكرية ضد الخديوي فيما بعد .. وقد بدأ نشاطه داخلياً يوم 4 نوفمبر 1879 إذ أصدر بياناً سياسياً طبع منه عشرين ألف نسخة ووزعها . وامتد نشاطه خارج مصر فاوفد أديب إسحاق إلى باريس حيث أصدر أولى الصحف الوطنية باسم " القاهرة " . تطبع في باريس وتوزع في مصر …
في أول يناير 1882 نشرت جريدة التايمز الإنجليزية برنامج الحزب . وجاء فيه :
" يخضع الحزب للجناب الخديوي الحالي . وهو يصمم على تأييد سلطته ما دامت أحكامه جارية وفقا للعدل والقوانين حسب ما وعد به المصريين في شهر سبتمبر سنة 1881. وقد قرن رجاله هذا الخضوع بالعزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل ، وبالإلحاح على الحضرة الخديوية بتنفيذ ما وعدت به من الحكم النيابي واطلاق عنان الحرية للمصريين ، ويعدونه بمساعدته قلباً و قالباً ، كما أنهم يحذرونه من الاصغاء إلى الذين يحسنون إليه الاستبداد والاجحاف بحقوق الأمة أونكث المواعيد التي وعد بإنجازها " .
يشير البر نامج إلى وعد أصدره الخديوي في سبتمبر 1881.
فما هي حكايته ؟
في عصر يوم الجمعة 9 سبتمبر 1881 حاصرت القوات المسلحة، بقيادة أحمد عرابى ، قصر عابدين لتعرض على الخديوي " طلبات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد وضمان مستقبلها " يقول المؤرخون .
" كان أول من حضر إلى الميدان آلاي الفرسان بقيادة أحمد بك عبد الغفار ، ثم جاء عرابى ممتطياً جواده، شاهراً سيفه يقود آلأي العباسية ويصحبه آلاي المدفعية يقوده اسماعيل بك صبري ولما وصل عرابي تفقد على بك فهمي فلم يجده ، وأخبره بعض الضباط أنه وزع آلاي الحرس داخل السراي .. فبعث إليه من فوره بالملازم محمد أفندي علي ليستدعيه، فحضر علي بك فهمي ، فسأله عرابي عن سبب جعله العسكر على أبواب السراي ومنافذها و لم يكن هذا اتفاقهم من قبل ، فطمأنه علي بك فهمي وقال له : ان السياسة خداع ، أي أنه لم يفعل هذا إلا لمخادعة الخديوي ، وأنه باق على عهده ، فطلب إليه عرابي أن يسحب الآلاي من السراي ويأخذ مكانه في الميدان ففعل .. وجاء بعد ذلك الآلاي الثاني من قصر النيل يقوده بعض ضباطه وهم أحمد أفندي صادق اليوزباشي ، وأحمد أفندي عبد السلام ورسول أفندي اليوزباشي ، وذلك لامتناع قائد الأمير الاي محمد بك شوقي ، والبكباشية عن الاشتراك في الحركة، ثم جاء الآلاى الثالث قادماً من القلعة بقيادة البكباشي فودة أفندي حسن ، والآلاي السوداني قادماً من طرة بقيادة عبد العال بك حلمى ثم أورطة المستحفظين (الشرطة العسكرية) يقوده! ا القائمقام إبراهيم بك فوزي وبذلك اكتمل الجيش في ميدان عابدين ".
" فلما جاء الخديوي " في هذه المواجهة فإنه صاح بالضباط الذين جاؤا خلف عرابي :
" أن أغمدوا سيوفكم وعودوا إلى بلوكاتكم (ثكناتكم) فلم يفعلوا، وظلوا وقوفاً في أماكنهم، وكانوا كحرس خاص لعرابي، فلم يغادروه حتى انتهى الحوار بينهما:
الخديوي : ما هي اسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟
عرابي : جئنا يا مولاي لنعرض عليك طلبات الجيش و الأمة وكلها طلبات عادلة .
الخديوي : وما هي هذه الطلبات؟
عرابي : هي عزل رياض باشا، وتشكيل مجلس النواب وإبلاغ عدد الجيش إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية.
الخديوي : كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها وأنا خديوي البلد وأعمل زي ما أنا عاوز.
عرابى : و نحن لسنا عبيداً ولا نورث بعد اليوم .
وانتهى الحوار.. وخضع الخديوي للثورة .. إلى حين .
بالمناسبة، ينسب المؤرخون الثورة التي قادها أحمد عرابي إلى قائدها فيسمونها " الثورة العرابية " مجارين في ذلك المؤرخين الأوروبيين .. و لكنها - في أيامها- كانت تسمي " ثورة العرب " أو ثورة " أولاد العرب " ضد سيطرة العناصر الشعوبية من أتراك وشركس .. ولقد كان أحمد عرابى حريصاً على تأكيد انتمائه للعرب وأنه من نسل قبيلة عربية وفدت من العراق .. فلعل هذه الملحوظة العابرة أن تفيد المشغولين بالسؤال والتساؤل عن عروبة مصر.
وبعد،
فلست أعتذر عن استرجاع صورة تاريخية بكل تفاصيلها وبأسماء قادتها . لا لأنها تذكرنا بصورة قريبة الشبه لقواتنا المسلحة وهي تحاصر قصر عابدين صباح يوم 23 يوليو 1952، ولا لأنني أكاد أسمع صوت عرابي ابن الفلاحين وهو يقول : " لسنا عبيداً ولن نورث بعد اليوم " في صوت عبد الناصر ابن الفلاحين وهو يقول : " ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد " ، ولكن لأنني أشعر بنشوة سعادة عارمة، يؤججها الوفاء ، حين استعيد أسماء أبطال مصر الذين لم يعد أحد يذكر حتى أسمائهم ...
لقد كانوا حريصين على أن يثبتوا في ذاكرتنا أسماء الذين انهزموا واستسلموا ، أما الأبطال الذين قاتلوا واستشهدوا فلا يذكرهم أحد .. ومن الذي يذكر الآن أحد أبطال ثورة " أولاد العرب " اليوزباشي (النقيب) حسن أفندي رضوان الذي قاد ثلاثة الآف مصري ضد أحد عشر ألفاً من المشاة و 2000 من الفرسان وستين مدفعاً يقودهم الجنرال ولسلي في معركة التل الكبير، فلما أبيدت القوة المصرية وأسر قائدها الشاب جريحاً تقدم إليه الجنرال الإنجليزي وقدم إليه سيفه تقديراً لبسالة ضابط وطني لم يسلم ولم يستسلم ولم ينسحب إلى أن أبيدت قواته وسقط جريحاً ..
على أي حال ،
فإن الحركة الوطنية التي بدأت موحدة من أجل الديموقراطية لم تلبث أن أضافت إلى أهدافها مقاومة الإحتلال الإنجليزي الذي بدأ في الساعة السابعة من صباح يوم الثلاثاء 11 يوليو 1882. وما أن بدأ القتال حتى انحاز الخديوي وبطانته إلى المحتلين ولجأ إلى الإسكندرية ليكون في حماية أسطولهم. والتحم الجيش بالشعب في معارك متتابعة اشترك فيها شعبنا العربى في مصر رجالاً ونساء وأطفالاً بكل ما يملكون من قوة وعتاد وأموال .. ثم انهزمت الثورة واحتل الإنجليز مصر... فتغيرت طبيعة وقوى ومهمات وخطط الحركة الوطنية..
بين الثورة والإصلاح :
ابتداء من الاحتلال، وبعد استبعاد الخونة والعملاء وصنائع المحتلين، انقسمت الحركة الوطنية فى مصر الى اتجاهين . سار كل منهما على خط متميز. ولم يكن يفرق بينهما الرغبة في الاستقلال ، بل أسلوب تحقيق الاستقلال . أحدهما الخط الثورى الذي يرفض الاحتلال وينكر شرعيته ولا يتعامل معه ، ولا يتولى الحكم في ظله ، ولا يفاوضه ، ويلتمس إلى مقاومته كل سبيل ، علني أو سري ، محلي أو دولي، سلمي أو عنيف.. والخط الثاني يقبل الاحتلال كأمر واقع ، ويتعامل معه ويلتمس إلى إنهائه التدرج الإصلاحي في التعليم والتربية والتقدم الإقتصادي ، ثم التفاوض مع المحتلين أنفسهم بقصد إقناعهم أن شعب مصر قد بلغ من التمدين- على الطريقة الأوروبية- ما يجعله مستحقاً للاستقلال مؤهلاً لحماية نفسه.
الخط الأول : كان مشغولاً ، بالدرجة الأولى، بالتعبئة الشعبية لمقاومة المحتلين .
الخط الثاني : كان مشغولاً ، بالدرجة الأولى ، بالتربية الشعبية في ظل الاحتلال .
ولقد تجسد كل من الخطين ، بعد الاحتلال ، في قوى منظمة (أحزاب) .
أما عن الخط الأول، الثوري، فقد عرفنا أنه بدأ قبل الاحتلال في شكل منظمة سرية تحت إسم " الحزب الوطني " فلما ان انهزمت الثورة اختفى الحزب الوطني كمنظمة . وبعد الاحتلال بعشر سنوات ، وعلى وجه التحديد، في عام 1893 دعا لطيف سليم ، أحد ضباط الثورة العرابية بعضاً من رفاقه القدامى وبعضاً من شباب الجيل الجديد، حينئذ، إلى منزله في حلوان ، حيث تشكل الحزب الوطني لأول مرة عام 1879 وأعيد تشكيل المنظمة السرية وباسم " الحزب الوطني " أيضاً . وكان ألمع المؤسسين هو الزعيم الوطني مصطفى كامل فاختير زعيماً للحزب وكان سنه 20 عاماً وكان شعار الحزب " لا مفاوضة إلا بعد الجلاء " .
ولقد استطاع الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل أن يوقظ الشعب ويعبئه ضد الاحتلال وأن يصدر ثلاث صحف يومية ، بالعربية ( اللواء عام 1900 وبالإنجليزية ( ذي اجيبشيان ستاندرد عام 1907) وبالفرنسية ( ليندرا اجيبشيان عام 1907) ، قبل أن يصبح حزباً علنياً ذلك لأنه لم يؤسس علنياً إلا عام 1907، وكان ذلك لمواجهة الخط الوطني الإصلاحي .
كانت في مصر شركة تجارية مساهمة تصدر صحيفة بإسم الجريدة تأسست في أغسطس 1906 من " الأثرياء وذوي المراكز العليا في البلاد " كما قال مؤسسوها . وفي 20 سبتمبر 1907 قررت الجمعية العمومية للشركة تحويل الشركة إلى حزب بإسم " حزب الأمة " . جاء في برنامجه :
(1) تأييداً لسلطة الخديوية فيما تضمنتها الفرامانات من استقلال مصر الإداري .
(2) الاعتماد على الوعود والتصريحات التي أعلنتها بريطانيا العظمى عند احتلال القطر المصري ومطالبتها بتحقيقها والوفاء بها .
(3) المطالبة بمجلس نيابي مصري يكون تام السلطة فيما يتعلق بالمصريين والمصالح المصرية.
من هذا البرنامج يتضح ما عرف في تاريخ الحركة الوطنية في مصر " بخط حزب الأمة " أو " مدرسة حزب الأمة ".. تقديم مطلب الدستور والحكم النيابي ( الديموقراطية) على مطلب الإستقلال . حينئذ تخوف الزعيم مصطفى كامل من أن يؤدي إستمرار غياب الكيان التنظيمي العلني " للحزب الوطني " إلى أن ينجح حزب الأمة والأحزاب الجديدة ذات الكيانات التنظيمية ( كان الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد قد أعلن نيته في تأليف حزب الإصلاح الذي ينتمي إلى مدرسة حزب الأمة أيضاً ).. في استقطاب أنصار الحزب الوطني فأجتمع 1019 واعتذر 846 ، وانعقدت الجمعية التأسيسية يوم 27 ديسمبر 1907 وأعلن برنامجه :
(1) إستقلال مصر مع سودانها وملحقاتها استقلالاً تاماً غير مشوب بأية حماية أو وصاية أو سيادة أجنبية أو أي قيد يقيد هذا الاستقلال .
(2) إيجاد حكومة دستورية في البلاد حيث تكون السيادة للأمة وتكون الهيئة الحاكمة مسئولة أمام مجلس نيابى تام السلطة... الخ .
وهكذا تميز الخطان ، الثوري والإصلاحي، في تنظيمين لم يلبثا أن أصبحا مدرستين أو تيارين قاد الأول مصطفى كامل ثم من بعده محمد فريد ثم من بعده انتمى الى مدرسته من المعاصرين لثورة 23 يوليو 1952 ، الحزب الوطني ، الحزب الوطني الجديد ، الحزب الاشتراكي ، وإلى حد كبير جماعة الاخوان المسلمين التي كانت تشارك في الاحتفال بذكرى مؤسسي المدرسة الوطنية وتتخذ منهم نماذج تقتدى في تربيتها السياسية لكوادرها .
والخط الثاني انتمت إليه أعداد كثيفة من الأحزاب، حزب الإصلاح على المباديء الدستورية (عام 1907)، حزب النبلاء (1908) الحزب المصري (1908) حزب الأحرار ( 1907 ) الحزب الدستوري ( 1910 ) حزب الوفد (23 نوفبر 1918) ، حزب الأحرار الدستوريين (1922) الهيئة السعدية (1938) الكتلة الوفدية (1942) .
وبالرغم من تعدد الأحزاب والفصائل المنتمية إلى كل خط من خطوط الحركة الوطنية، ظل الفارق بينهما واضحاً، حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952، حول أسلوب التحرر من الاستعمار وما يتبعه من تقرير الأولوية بين هدف الاستقلال .. و هدف الديموقراطية..
ولقد ضرب المحتلون " الخط الوطني " ضربة قاسية على إثر قيام الحرب الأوروبية الأولى 1914، وفرض الحماية على مصر، فنفيت بعض قياداته وهرب بعضهم إلى أوروبا وسجن الباقون إلى أن انتهت الحرب.. وكان زعم الحزب الوطني هارباً من حكم صادر ضده بالحبس .. ومقيماً في أوروبا فأوصى رجال الحزب الباقين في مصر بالانضمام إلى الوفد فانضموا وكان من بينهم " مصطفى النحاس " الذي سيصبح فيما بعد رئيسآ للوفد وخليفة لسعد، ويثبت في مواقف عدة انه خريج مدرسة الحزب الوطني ... ولما أصبح زعماء حزب الأمة حكاماً ، وتوفي زعيم المدرسة الوطنية محمد فريد في ألمانيا شريداً فقيراً ، لم يهتموا حتى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق