د. محمد عمارة
أما على الجبهة المصرية.. التي قالت عنها "استراتيجية إسرائيل في الثمانينات" ـ من القرن العشرين ـ :
"إنه إذا تفتتت مصر تفتت الباقون"!.. فلقد بدأ يتخلق في صفوف النصارى الأرثوذكس ـ عقب الحرب العالمية الثانية ـ ومع نجاح "الإحياء اليهودي" الذي اتخذ شكل الكيان الصهيوني الذي أقيم سنة 1948م على أرض فلسطين ـ.. بدأ يتخلق تيار "طائفي ـ عنصري ـ انعزالي" يسعى إلى تغيير هوية مصر، وخلعها من المحيط العربي الإسلامي، واستبدال اللغة القبطية باللغة العربية، وتسويد المسيحية فيها بدلاً من الإسلام.. أي بدأ البعث والإحياء لمشروع المعلم يعقوب حنا من جديد!..
نعم.. بدأ تخلق هذه النزعة الطائفية.. والسعي إلى تحقيق هذا الحلم ـ الذي يبدو مجنونًا! ـ .. وتناثرت وتراكمت وتكاملت ـ في الطائفة الأرثوذكسية ـ تحديدًا ـ الأفكار والوقائع التي تقود في هذا الاتجاه.. اتجاه تفتيت مصر، وتغيير هويتها القومية والحضارية.. والارتداد بها إلى الوراء أربعة عشر قرنًا!..
ـ فيكتب القمص "سرجيوس" (1883ـ 1964م) في مجلة "المنارة" ـ بتاريخ 6/12/1947م ـ يقول:
"إن أرض الإسلام هي الحجاز فقط، وليست البلاد التي يعيش فيها المسلمون"!
ـ ويعترف "نظير جيد" ـ في مقال له بمجلة "مدارس الأحد" ـ بتاريخ يناير سنة 1952م ـ بتزعمه لجماعة ذات نزعة طائفية سنة 1948م ـ العام التالي لتخرجه من الجامعة! ـ .. حتى لقد ذهب إليهم ـ أي إلى جماعة نظير جيد ـ نجيب اسكندر باشا ـ وزير الصحة في حكومة النقراشي باشا (1305 ـ 1368هـ ـ 1888 ـ 1948م) قائلاً لهم ـ كجماعة ـ :
"لحساب من تعملون؟!.. أنتم تهددون وحدة العنصرين"!..
كما يعلن نظير جيد ـ في هذا المقال ـ :
"إن المسلمين قد أتوا وسكنوا معنا في مصر"! ـ أي أن المسلمين المصريين جالية محتلة لمصر منذ أربعة عشر قرنًا!(1)
ـ وفي أول شهر توت ـ رأس السنة الفرعونية ـ وعيد الشهداء عند الأرثوذكس سنة 1669ق ـ 11 سبتمبر سنة 1952م ـ تتبلور هذه النزعة الطائفية العنصرية الانعزالية في (جماعة الأمة القبطية) التي استقطبت خلال عام واحد 92.000 من شباب الأرثوذكس.. والتي أعلنت عن "مشروع قومي"، وليس مجرد مطالب لأقلية دينية، أعلنت:
1ـ أن الأقباط يشكلون أمة (2).. ويطلبون حذف النص الدستوري الذي يقول إن الإسلام دين الدولة!.. وإن اللغة العربية هي لغتها!.. وذلك ليكون الدستور مصريًا.. وليس عربيًا ولا إسلاميًا.. وإعلان "أن مصر كلها أرضنا التي سلبت منا بواسطة العرب المسلمين منذ 14 قرنًا.. وأننا سلالة الفراعنة.. وديانتها هي المسيحية.. وسيكون دستورنا هو الإنجيل.. وتكون لغتنا الرسمية هي اللغة القبطية..
وكان لهذه الجماعة علمها وزيها الخاصين بها.. وكان المعلم يمثل صليبًا منصوبًا في الإنجيل.. كما كان لها نشيد خاص تنشده في جميع الاحتفالات والاجتماعات.. كما افتتحت في المحافظات مدارس لتعليم اللغة القبطية بالمجان!!(3)
ولقد حاولت هذه الجماعة ـ الطائفية.. العنصرية ـ ضم قيادة الكنيسة إلى هذا المخطط.. فلما رفض البابا يوساب الثاني (1946 ـ 1956م) ذلك، اختطفوه.. وذهبوا به إلى دير صحراوي.. وأجبروه على التنازل عن البابوية!..
فلما اعتقلت حكومة ثورة يوليو بعض قيادات هذه الجماعة ـ وفي مقدمتهم المحامي إبراهيم هلال ـ وحلت التنظيم في 24 إبريل سنة 1954م ـ وأحالتهم إلى المحاكمة.. دخلت قيادات أخرى من هذا الاتجاه الطائفي الانعزالي ـ في مقدمتهم نطير جيد ـ إلى الدير في 18 يوليو سنة 1954م.. سالكة طريق الرهبنة، لتصل إلى قمة الكنيسة في 14 نوفمبر سنة 1971م.. ولتحقق ـ "بالانتخاب" ـ سيطرة هذه النزعة الطائفية العنصرية على الكنيسة.. بعد أن فشل تحقيق هذه السيطرة ـ سنة 1954م ـ "بالانقلاب"!!..
ـ ولقد بدأ ـ منذ ذلك التاريخ ـ مسلسل "الفتنة الطائفية"، الذي قادته الكنيسة.. الأمر الذي يطرح السؤال ـ الذي لم يلتفت إليه الكثيرون ـ وهو:
لماذا لم تكن بمصر المعاصرة فتنة طائفية قبل هذا التاريخ ـ نوفمبر سنة 1971م ـ؟!:
وعلى أرض الواقع ـ واقع الفتنة الطائفية ـ توالت الحوادث والأحداث:
ـ فتم الخروج بالكنيسة ـ لأول مرة ـ عن رسالتها الروحية ونهجها التاريخي.. وتحويلها إلى حزب سياسي.. ودولة داخل الدولة ـ وأحيانًا فوق الدولة ـ .. وسحب المسيحيين من مؤسسات المجتمع والدولة إلى "دولة الكنيسة ومجتمعها"..
ـ وبدأ تفجير وقائع الفتنة الطائفية ـ بداية بأحداث الخانكة في نوفمبر سنة 1972م ـ منتهزة فرصة انشغال الدولة بالإعداد لحرب أكتوبر سنة 1973م.. مع استمرار وقائع هذه الفتنة الطائفية، في ظل الحماية الأمريكية، والتدخل الأمريكي في شئون مصر الداخلية، بدعوى حماية المسيحيين من الاضطهاد!.. ولقد استمرت وقائع هذه الفتنة، رغم تغير قيادة الدولة.. وتعاقب الحكومات.. وتغير المواقف من الجماعات والأحزاب!..
1ـ ففي 17 و18 يوليو سنة 1972م عقدت قيادة الكنيسة مؤتمرًا بالإسكندرية، اتخذت فيه قرارات طائفية ـ لا علاقة لها بالرسالة الروحية للكنيسة ـ وأبرقت بهذه القرارات إلى مؤسسات الدولة "بلهجة صدامية"، مهددة "بالاستشهاد" إذا لم تستجب الدولة لهذه المطالب!..
2ـ وفي نفس التاريخ ـ 18/7/1972م ـ وعلى هامش المؤتمر ـ تم الإعلان للخاصة ـ في محاضرة بالإسكندرية ـ بالكنيسة المرقسية الكبرى ـ حضرها خاصة الخاصة من رجال الدين وبعض الأثرياء ـ تم الإعلان عن معالم المشروع الطائفي العنصري الانعزالي، الذي يطمع في تغيير الهوية.. والواقع.. والخريطة.. والحضارة.. والتاريخ.. ـ بالنسبة لمصر ـ !..
تلك المحاضرة التي قال فيها كبيرهم:
"إن الخطة موضوعة لكل جانب من جوانب العمل على حدة في إطار الهدف الموحد..
لقد عادت أسبانيا إلى أصحابها المسيحيين بعد أن ظلت بأيدي المستعمرين المسلمين قرابة ثمانية قرون..
وفي التاريخ المعاصر عادت أكثر من بلد إلى أهلها بعد أن طردوا منها منذ قرون طويلة؟!..
والمطلوب: مقاطعة المسلمين اقتصاديا، والامتناع عن التعامل المادي معهم امتناعا مطلقًا إلا في الحالات التي يتعذر فيها ذلك..
والعمل على زحزحة أكبر عدد من المسلمين عن دينهم، وتشكيك الجموع الغفيرة منهم في كتابهم وصدق محمد.. مع التزام الهدوء واللباقة والذكاء في ذلك، منعًا لإثارة حفيظة المسلمين أو يقظتهم.. مع مجاملتهم في أعيادهم حيثما يكون الاختلاط..
واستثمار النكسة والمحنة الحالية لصالحنا، فلن نستطيع إحراز أية مكاسب أو أي تقدم نحو هدفنا إذا انتهت المشكلة مع إسرائيل سواء بالسلم أو الحرب!..
والعمل على:
أـ تحريم تحديد النسل أو تنظيمه بين شعب الكنيسة.
ب ـ وتشجيع تحديد النسل وتنظيمه بين المسلمين (65%من الأطباء والقائمين على الخدمات من شعب الكنيسة)..
جـ ـ ووضع الحوافز للأسر المسيحية الفقيرة لزيادة الإنجاب.
د ـ والتنبيه على العاملين بالخدمات الصحية كي يضاعفوا الخدمات الصحية لشعبنا، لتقليل نسبة الوفيات، وعمل العكس مع المسلمين..
هـ ـ وتشجيع الزواج المبكر وتخفيض تكاليفه، بتخفيف رسوم فتح الكنائس ورسوم الإكليل بكنائس الأحياء الشعبية.
و ـ وتحريم إسكان المسلمين في عمارات المسيحيين.. وطرد المخالفين من رحمة الرب ورعاية الكنيسة.
وذلك لجعل شعب الكنيسة نصف الشعب المصري في مدة 12 أو 15 سنة من الآن، ليتساوى عدد شعب الكنيسة مع عدد المسلمين لأول مرة منذ الاستعمار العربي والغزو الإسلامي لبلادنا"(4)
3ـ وتم احتفال الكنيسة بذكرى القمص سرجيوس ـ الذي كتب في صحيفة "المنارة" بتاريخ ـ 6/12/1947 ـ داعيًا إلى اعتبار الحجاز فقط هي دار الإسلام.(5)
4ـ وفي 18 نوفمبر سنة 1972م ـ إبان أحداث الخانكة ـ وفي قمة حرج الدولة وهي تجاهد للقيام بحرب أكتوبر ـ ومع اقتراب عام على تولي البابا شنودة البابوية ـ حرض البابا رجال الكهنوت على التظاهر والصدام العنيف مع الدولة ـ وهما أمران غير مسبوقان في تاريخ الكنيسة حتى في ظل الاضطهاد الروماني!! ـ .. وقال لرجال الكهنوت:
ـ "أنتم كم؟"
ـ فقالوا: مائة وستون.
ـ فقال لهم : عايزكم ترجعوا ستة عشر كاهنًا. والباقي يفترشون الأرض افتراشًا، ويستشهدون"(6)
وكان هذا إعلانًا عن سياسة الصدام الكنسي مع الدولة المصرية لأول مرة في تاريخ الكنيسة وتاريخ مصر الإسلامية!..
5ـ وفي 17/1/1977م عقدت قيادة الكنيسة مؤتمرات دعت إليه "ممثلي الشعب القبطي" ـ حسب تعبيرها ـ . وضم هذا المؤتمر يجمع الآباء كهنة الكنائس، والمجلس الملي، ورؤساء وأعضاء الجمعيات والهيئات القبطية، والأراخنة أعضاء مجالس الكنائس وكان هذا المؤتمر تتويجًا لمؤتمرات تحضيرية عقدت في 5و6و7 سنة 1976م وفي 17/12/1976م.. واتخذ هذا المؤتمر القرارات التي تعلن عن "المشروع السياسي للكنيسة"، من: بناء الكنائس .. إلى معارضة توجه الدولة نحو الشريعة الإسلامية ـ (رغم أنه تطبيق لنص دستوري متفق عليه) ـ إلى التمثيل السياسي والنيابي والإداري والوظيفي للأقباط في مجلس الوزراء، ومجلس الشعب، والمحليات، والمحافظين، ومختلف مؤسسات الدولة والقطاع العام.. وحتى طلب القضاء على التوجه الإسلامي في الجامعات!.. ـ كما تحدث المؤتمر باسم "أقدم وأعرق سلالات مصر"!!(7).. ثم الاعتراض ـ أواخر سنة 1979م ـ على تقنين الشريعة الإسلامية، والتهديد بإسالة "الدماء للركب من الإسكندرية إلى أسوان"!
6ـ وإبان اشتعال الحرب الأهلية في لبنان (1975 ـ 1990م) ذهب شبان أرثوذكس ـ تحت سمع الكنيسة وبصرها .. وفي ظل صمت الرضى! ـ إلى لبنان، وحاربوا في صفوف المارونية السياسية، المتحالفة مع إسرائيل ضد عروبة لبنان ووحدته وانتمائه القومي والحضاري!.. حاربوا مع "الكتائب اللبنانية".. وهكذا أصبح للكنيسة المصرية مسلحون ومقاتلون، لأول مرة في التاريخ!!..(8)
ـــــــــــــــــــــــ
* هوامش:
1ـ انظر نص هذا المقال في كتاب: د. سليم نجيب (الأقباط عبر التاريخ) ـ تقديم: مجدي خليل ـ طبعة القاهرة ـ دار الخيال سنة 2001م
2ـ لقد لاحظت استخدام "بونابرت" مصطلح "الأمة القبطية" في مراسلاته مع خونة النصارى الذين تعاونوا معه.. وكذلك استخدامهم لهذا المصطلح ـ انظر: عادل جندي "المخططات الخطيرة" ـ صحيفة "وطني" في 2/7/2006م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق