استغلال القصاص وتصدي العلماء
كما أن الفرق المنحرفة قد استغلت وضع القصّاص وانتشارهم، وجهل معظمهم وقلة علمهم بالسُّنَّة, وانحراف طائفة منهم تبتغي العيش والكسب, فنشروا بينهم أكاذيبهم وحكاياتهم وقصصهم الموضوعة, فتلقفها هؤلاء القصاص دون وعيٍ وإدراك، ونشروها بين العامة.
الوسائل المستخدمة لتحريف الوقائع التاريخية
أما الوسائل التي استخدمت لغرض تحريف الوقائع التاريخية، وتشويه سير رجال الصدر الأول من الصحابة والتابعين فهي كثيرة، ونذكر منها:
(1) الاختلاق والكذب.
(2) الإتيان بخبر أو حادثة صحيحة فيزيدون فيها وينقصون منها؛ حتى تتشوه وتخرج عن أصلها.
(3) وضع الخبر في غير سياقه حتى ينحرف عن معناه ومقصده, والتأويل والتفسير الباطل للأحداث.
(4) إبراز المثالب والأخطاء، وإخفاء الحقائق المستقيمة.
(5) صناعة الأشعار وانتحالها لتأييد حوادث تاريخية مدعاة؛ لأن الشعر العربي ينظر له كوثيقة تاريخية ومستند يساعد في توثيق الخبر وتأييده.
(6) وضع الكتب والرسائل المكذوبة، ونحلها لعلماء وشخصيات مشهورة, كما وضعت الرافضة كتاب "الإمامة والسياسة" الذي نسبته إلى أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ؛ لشهرته عند أهل السنة وثقتهم به.
المستشرقون وتلقف الأكاذيب
وقد تلقف هذه الأكاذيب والتحريفات في القرن الماضي علماءُ الغرب وكتّابه من المستشرقين والمنصِّرين -إبان غزوهم واستعمارهم للبلدان الإسلامية- فوجدوا فيها ضالتهم, وأخذوا يعملون على إبرازها والتركيز عليها مع ما زادوه من عندهم -بدافع من عصبيتهم وكرههم للمسلمين- من الكذب؛ مثل اختراع حوادث لا أصل لها, أو التفسير المغرض للحوادث التاريخية بقصد التشويه, أو التفسير الخاطئ تبعًا للتصور والاعتقاد الذي يدينون به.
والحقيقة أن غالبهم لم يتجرد إلا من عقيدته, أما التجرد بمعنى الإخلاص للحق وسلوك المنهج العلمي السليم في إثبات الوقائع التاريخية,؛ كالمقارنة بين الروايات, ومعرفة قيمة المصادر التي يرجعون إليها, ومدى أمانة الناقلين, وضبطهم لما نقلوا, وقياس الأخبار، واعتبارهم بأحوال العمران البشري وطبائعه[2], فلا أثر له عند القوم, فلم يتقنوا من المنهج العلمي إلا الأمور الشكلية مثل الحواشي وترتيب المراجع وما شابهها, وربما كان هذا هو مفهوم المنهج العلمي عندهم[3],..
وسائل المستشرقين وأذنابهم لتحريف التاريخ
فإنه قبل تفسير الحادثة لا بُدَّ من ثبوت وقوعها، وليس وجودها في كتاب من الكتب كافيًا لثبوتها[5]؛ لأن مرحلة الثبوت مرحلة سابقة على البحث في تفسير الواقعة التاريخية. كما ينبغي أن يكون التفسير متمشيًا مع منطوق الخبر التاريخي, وموضوع البحث, ومع الطابع العام للمجتمع, أو العصر والبيئة التي حدثت فيها الواقعة، كما يشترط ألاّ يكون هذا التفسير متعارضًا مع واقعة أو جملة وقائع أخرى ثابتة. كما أنه لا ينبغي أن ينظر في التفسير إلى عامل واحد -كما هو ديدن كثير من المدارس التاريخية المعاصرة- وإنما ينظر فيه إلى جملة العوامل المؤثرة في الحديث، وخاصة العوامل العقدية والفكرية.
تضخيم دور الفرق الضالة
ثم إن التفسير التاريخي للحوادث بعد هذا كله لا يعدو كونه اجتهادًا بشريًّا يحتمل الصواب والخطأ, ولقد أبرز البعض تاريخ الفرق الضالَّة، وعمد إلى تضخيم أدوارها، وتصويرها بصورة المصلح المظلوم, وبأن المؤرخين المسلمين قد تحاملوا عليها؛ فالقرامطة والإسماعيلية والرافضة الإمامية والفاطمية والزنج وإخوان الصفا والخوارج كلهم -في نظرهم واعتبارهم- دُعاة إصلاح وعدالة وحرية ومساواة, وثورتهم كانت ثورات لإصلاح الظلم والجور.
فهذا الشَّغْب والإرجاف على التاريخ الإسلامي، ومزاحمة سير رجاله ودُعاته بسيرِ قادة الفرق الضالة - أمرٌ لا يُستغرب من قومٍ لا يدينون بالإسلام, فهم من واقع عقيدتهم يكيدون له بكل جهد مستطاع, ليلاً ونهارًا, وسرًّا وجهارًا، ولا يتوقع من مطموسي الإيمان وملل الكفر إلا مناصرة إخوانهم في الضلال.
ولكن الأمر الذي قد يُحدِث استغرابًا عند البعض أن يحمل رايةَ التشويه والتحريف بعد سقوط "دولة الاستشراق" كتّابٌ يحملون أسماء إسلامية ومن أبناء المسلمين, ويقومون بنشر مثل هذه السموم على بني جلدتهم؛ ليصرفوا بها الأغرار عن الصراط المستقيم. ولقد عمد هؤلاء إلى التشبُّث بالروايات المشبوهة والضعيفة والساقطة، يلتقطونها من كتب الأدب وقصص السمر والحكايات الشعبية والكتب المنحولة والضعيفة, فهذه الكتب هي مستنداتهم في الغالب، مع ما يجدونه من الروايات المكذوبة في الطبري والمسعودي, مع أنهم يعلمون أنها لا تُعتبر مراجع علمية يُعتمد عليها.
أهداف تشويه التاريخ الإسلامي
لقد وقع الاعتداء على التاريخ الإسلامي -خاصة تاريخ الصدر الأول- بالتشويه عن طريق اختيار مواقف مختارة والتركيز عليها؛ كالمعارك والحروب مع تصويرها على غير حقيقتها حتى تزول عنها صفة الجهاد في سبيل الله, أو التركيز على الأحداث والفتن الداخلية بقصد إظهار خلافات الصحابة وعرضها وكأنها نموذج للصراعات والمكائد السياسية في وقتنا الحاضر, وبالتجهيل وهو إهمال كل ما هو مدعاة للاقتداء والأسوة الحسنة, وبالتشكيك وهو توجيه السهام إلى التاريخ ورجاله وإلى المؤرخين المسلمين أنفسهم والتشكيك في معلوماتهم وصدقهم, وبالتجزئة وهي محاولة تجزئة التاريخ الإسلامي إلى أوصال وأشتات وكأنها لا رابط بينها كالتوزيع الإقليمي والعرقي ونحوه.
فكل هذه الوسائل والحملات تسعى إلى تدمير تاريخنا الإسلامي، ومحو معالمه النيِّرة، وإبعاده عن مجال القدوة الحسنة والتربية الصحيحة.
لذا ينبغي على المؤرِّخ المسلم معرفة هذه الوسائل والتنبُّه لها, ومعرفة الذين تابعوا المستشرقين في آرائهم ومناهجهم، وعدم التلقي منهم إلا بحذرٍ شديد, فإذا كان علماؤنا -رحمهم الله- قد نقدوا كثيرًا من الرواة وضعّفوا روايتهم بسبب أخذهم عن أهل الكتاب وروايتهم الإسرائيليات, فإنه ينبغي لنا التوقف في قبول أقوال وتفسيرات من يتلقى من المستشرقين، بل إسقاطها وعدم اعتبارها إلا بدليل وبرهان واضح[6].
================================
[1] حسن إبراهيم: تاريخ عمرو بن العاص ص206، 207.
[2] إحسان إلهي ظهير: الشيعة والسنة ص32.
[3] محمد صامل: منهج كتابة التاريخ الإسلامي ص502.
[4] المصدر السابق، الصفحة نفسها.
[5] المصادر الأولى لتاريخنا, مجلة الأزهر سنة 1374هـ/ 1954م.
[6] محمد صامل: منهج كتابة التاريخ الإسلامي ص504.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق