|
قراءة في قصة فرعون حسن الكنزلي فرعون الطاغية حقيقة معروفة في التاريخ البشري والأديان السماوية ، تجبر في الأرض وأصابه جنون العظمة وهوسها حتى ادعى الربوبية {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ـ النازعات24 ـ الربوبية التي تعني تدبير شؤون الكون والتكفل برزق العباد وتوفير أسباب الرزق وإزالة موانعها ، فلا فقر في زمانه ولا بطالة ، كيف لا وهو يملك مصر وشعبها وثرواتها وكل مقدراتها {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ـ الزخرف51 ـ قال ذلك مستخفا بهم ويبدو أنهم كانوا مجموعة ممن رباهم على الجهل ، أو ممن يتملقون له مقابل تحقيق مصالح ضيقة أو تمرير مشاريع صغيره فسايروه في ذلك وأطاعوه ، يظنون أن ذلك يعفيهم من المسؤولية ، فكانت النتيجة أنهم صاروا في حكم الله فاسقون {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} ـ الزخرف54 ـ ، وهم ليسوا فاسقين حكما ؛ بل عملا حينما جعلوه يمرر مشروعه الأناني الكبير قياسا إلى مشاريعهم الحقيرة والتي لتحقيقها باعوا وطنهم وشعبهم وقضاياه... ولما رآهم كذلك ازداد استخفافه بهم وتمادى في كذبه فادعى الألوهية ، ليس هذا وحسب بل ادعى أن ليس غيره يتصف بها {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي..} ـ القصص38 ـ ؛ الألوهية التي تعني تعبيد الخلق للخالق بطاعة أمره واجتناب نهيه (تشريع) ، وقد صدق نفسه فشرع لهم فعلا وسن القوانين ؛ لا التي تحقق مصالح العباد والبلاد ، وإنما التي تجعله عاليا مسرفا جبار في الأرض ، وزعم بذلك أنه يهديهم إلى ما هو أصلح لهم وأرشد {.. قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} ـ غافر29 ـ. ولقد كانت له بطانة سيئة من الوزراء ـ كهامان ـ ، ومن المستأثرين بثروات البلاد والعباد ـ كقارون ـ وكانت له بطانة ـ أيضا ـ من علماء زمانه المغلوب على أمرهم ـ كسحرة فرعون ـ وكان له جنود تطيع أمره باعتباره ربها الذي لا يجوز ـ في شريعته المستبدة ـ أن يعصى... وهكذا علا في الأرض. ولضمان جبروته جعل الناس فرقا (فرق تسد) وبذلك شتت جهدهم وفرق كلمتهم واستضعفهم وفعل بهم الأفاعيل {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ـ القصص4 ـ. لكن هذا الجبروت والاستبداد في الأرض والصمت عليه لم يدم ؛ فقد سلط الله لفرعون وزبانيته رجلا ضعيفا طريدا ، وسلط الله لهذا الضعيف جنوده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ـ المدثر31 ـ ؛ فاليم خبأه وقلب زوجة فرعون أحبه ، وعقل فرعون استهونه ، وفي بيت فرعون نشأ... ، وهيأ الله أساب منته على المستضعفين ليجعل قادتهم منهم ويمكن لهم في بلدهم ويجعل الدائرة على فرعون وأعوانه وأركانه {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)} ـ القصص ـ. أُرْسِلَ موسى ـ عليه السلام ـ إلى فرعون وبطانته بمشروعه الحضاري التحرري ؛ التحرر من عبودية فرعون واستبداد وظلمه وظلماته إلى عبودية رب العالمين ، ونور الله وعدله وسعة رحمته في قضائه وشرعه... ؛ لكن فرعون وأركان فساده رفضوا هذا المشروع التحرري ، وردوا على قائد المشروع بحملة إعلامية تكذب المشروع وتشكك فيه ، وبدأوا بحملة قمعية ضد المؤمنين بالقضية التي يناضل موسى ـ عليه السلام ـ من أجلها واتبعوا كل أساليب القمع بذريعة الخوف على مصلحة البلاد وتحت مسمى محاربة تبديل الدين (شريعة فرعون المستبدة) ومكافحة الفساد الذي رٌمِىَ به موسى ـ عليه السلام ـ كذبا وزورا {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(24) فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ(25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ(26)} ـ غافر ـ. ويبدو أن فرعون طلب مناظرة موسى فجمع سحرته ـ علماء زمانه ـ لتنفيذ هذه المهمة أمام جمع كبير من الناس ولخبرتهم ولاتضاح الحقائق ولاحترامهم الحق ، سلموا لموسى وأعلنوا عن انطوائهم تحت لوائه وقالوا : لا لفرعون ولم يلقوا بالا لوعيده وفضلوا الموت أحرارا على الحياة عبيدا له {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى(71) قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)} ـ طه ـ. لقد قتلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وكأنهم هم المفسدون. لقد كانت هبة شعبية بقيادة موسى من أجل أن يحيا شعب مصر بعد الموت تحت وطأة فرعون ومن أجل أن يذوقوا طعم الحرية التي هي حق إلهي منحه عباده لا يجوز لأحد أن يسلبه ، ويبدو أن من قوم فرعون من عرف الحق وأدى واجبه وأبرأ ذمته ونصح {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28)} ـ غافر ـ. لكن فرعون عاند وتكبر ولم يرعوي ؛ وكان كبره وغروره جند من جنود الله المسلطة عليه فساقه الله به إلى حتفه وحتف جنده معه وهو لا يدري {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ـ القصص40 ـ ليس (ظالما) فقط ؛ بل (ظالمين) هو وجنوده الذي أطاعوه في الباطل ؛ ساقه الله ببغيه وعدوه إلى غياهب البحر الأحمر آخر جنود الله المسلطة عليه ، وأخيرا أدرك مدى ضعفه وخطأه وعرف عدالة قضية شعبه المستضعف ، فأعلن فهمه لها واعترافه بها لكن في وقت متأخر جدا! ؛ فلم يقبل اعتذاره {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91)} ـ يونس ـ. لقد حصل فرعون على فرصة كافية ليتوب بمحض اختياره ؛ لكنه تأخر عن وقت الاختيار إلى وقت الإجبار فلم تقبل منه ، وكذلك كل مستبد مفسد في الأرض لا يعفى قبل قدرة الحق عليه بل يؤخذ بذنبه إلا إذا كان ذلك من قبل {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(34)} ـ المائدة. لقد كانت قصة سقوط فرعون الظالم الطاغية المستبد واعتلاء قضايا المظلومين حقيقة ثابتة في التاريخ وفي الكتب السماوية وصارت رمزا لسقوط الطغيان واعتلاء الحق وما زالت تتكرر وستتكرر ، فالتاريخ يعيد نفسه ، ولله في الوجود وفي حياة البشر قوانين ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مهما تغير المكان والزمان والأشخاص الفاعلة والحيثيات الدائرة فيهما {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} ـ الأحزاب62ـ ، (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) فيهم أو في غيرهم من بعدهم ، فهل نأخذ العبر؟! {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ـ القمر17ـ. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق