حديث عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه .
1= هذا حديث عظيم
ولذا فإن العلماء يُصدّرون به مصنفاتهم كما فعل الإمام البخاري .
وقيل في تعليل ذلك : لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف .
قال عبد الرحمن بن مهدي : لو صنفتُ كتابا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب . وقال : من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ .
قال ابن رجب : وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها ، فرُويَ عن الشافعي أنه قال : هذا الحديث ثلث العلم ، ويدخل في سبعين بابا من الفقه . وعن الإمام أحمد رضي الله عنه قال : أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث :
حديث عمر " إنما الأعمال بالنيات " ، وحديث عائشة " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ، وحديث النعمان بن بشير " الحلال بيّن والحرام بيّن " .
2= تعريف النية : النيّة في اللغة هي القصد والإرادة .
3=فائدة النيّة :
تمييز العبادات بعضها عن بعض
وتمييز العبادات عن العادات
فالأول مثل تمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر ، وتمييز صلاة النافلة عن صلاة الفريضة .
وكتمييز صوم رمضان عن صوم النافلة .
والثاني مثل تمييز غُسل الجنابة عن غُسل التطهّر والتّبرّد .
وقد قيل :
بصلاح النيّات تُصبح العادات عبادات
وبفساد النيّات تُصبح العبادات عادات
فالعادات من أكل وشُرب ونوم ونحو ذلك إذا صلحت فيها النيّة أصبحت عبادات ، إذ الوسائل لها أحكام المقاصد .
والعبادات إذا فسدت فيها النيّات أو غاب عن صاحبها استحضارها ولم يرد عليه الاحتساب كانت أعماله عادات أو كالعادات . لا قيمة لها ولا روح .
4=وضابط حصول النيّة وترتّب الأجر عليها ما قاله ابن المُلقِّن حيث قال : والضابط لحصول النيّة أنه متى قصد بالعمل امتثال أمر الشرع ، وبتركه الانتهاء بنهي الشرع ، كانت حاصلة مُثاباً عليها ، وإلا فلا ، وإن لم يقصد ذلك كان عملاً بهيمياً ، ولذا قال بعض السلف : الأعمال البهيمية ما عُملت بغير نيّة . انتهى .
5 =وضابط حصول الأجر من عدمِه أن تكون الحسنة أو السيئة همّـاً عند العبد ، كما في حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى قال : إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك ؛ فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة . متفق عليه .
6 =وإذا صلحت النيّة فربما بلغ العبد منازل الأبرار ، وتَسَنّم المراتب العُلى بحسن نيّته .
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
إنما الدنيا لأربعة نفر :
عبد رزقه الله عز وجل مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله عز وجل فيه حقه . قال : فهذا بأفضل المنازل .
قال : وعبد رزقه الله عز وجل علما ولم يرزقه مالا قال فهو يقول : لو كان لي مال عملت بعمل فلان قال فاجرهما سواء .
قال : وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه عز وجل ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقه فهذا بأخبث المنازل .
قال : وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول : لو كان لي مال لعملت بعمل فلان . قال : هي نيته فوزرهما فيه سواء . رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما ، وقال الترمذي حديث حسن صحيح .
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال : إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معـكم . قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة ؟ قال : وهم بالمدينة حبسهم العذر . رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه ، ورواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه .
7= فائدة
لا علاقة لورود هذا الحديث بحديث مهاجر أم قيس .
وحديث أم قيس قال عنه الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح .
وقال الذهبي - بعد أن ذكر رواية الطبراني - : إسناده صحيح .
وقال ابن حجر - بعد أن ذكر رواية الطبراني - : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سِيق بسبب ذلك ، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك .
وهناك عدة مباحث في النيّة ، كدخول الرياء في العمل وتفصيل ذلك ، وكتشريك النيّة ، وتغييرها ، وكنيّة ترك ما حـرّم الله ، ونحو ذلك ، ولكني أراني أطلت .
=========================
8 = تفصيل مسألة دخول الرياء على النيّة ينقسم العمل الذي يُخالطه أو يُصاحبه الرياء بالنسبة لقبول العمل من عدمه إلى أقسام :
أن يُصاحبه الرياء من أصل العمل فيحبط العمل بالكليّة .
أن يطرأ عليه الرياء خلال العمل دافعه فإنه لا يضرّه ، وإن لم يُدافع الرياء فَلَهُ حالات :
إن كان العمل مما يتجزأ ، كالصدقة ونحوها ، فما دَخَلَه الرياء فهو حابط ، وما لم يدخل الرياء لم يحبط .
وإن كان مما لا يتجـزأ كالصلاة ونحوها فإنها تحبط ، لعـدم مُدافعته للرياء .
والنيّة أصل في صلاح الأعمال
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إنما الأعمال كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه ، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه . رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع .
والمُراد بذلك النيّة .
========
9 = الرياء في العمل يكون وبالاً وعذاباً وحسرةً على صاحبه يوم القيامة ، يوم يُشهّر بصاحبه على رؤوس الأشهاد ، وعندها تزداد حسرته وندامته .
فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : من سمع سمع الله به ، ومن راءى راءى الله به . رواه مسلم عن ابن عباس ، وروى البخاري مثله عن جندب بن عبد الله .
قال العز بن عبد السلام : الرياء أن يعمل لغير الله ، والسمعـة أن يخفي عمله لله ، ثم يحدث به الناس .
قال الفضيل بن عياض : كانوا يقولون ترك العمل للناس رياء ، والعمل لهم شرك . عافانا الله وإياك .
10 = إخلاص العمل لله سبب لسلامة القلب قال صلى الله عليه وسلم : ثلاث لا يَـغِـلّ عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم . رواه أحمد وأهل السنن .
قال ابن عبد البر : معناه لا يكون القلب عليهن ومعهن غليلا أبـداً ، يعني لا يقوى فيه مرض ولا نفـاق إذا أخلص العمل لله ، ولزم الجماعـة ، وناصح أولي الأمر .
وقال ابن رجب : هذه الثلاث الخصال تنفي الغل عن قلب المسلم . انتهى كلامه - رحمه الله - .
فعدمُ الإخلاص يُورث القلبَ الأضغان والأحقاد .
هذه نتف من الفوائد المتعلقة بهذا الحديث النبوي العظيم .
وللحديث بقية عبارة عن أسئلة وردتني .
===== ==
ثم وردني هذا السؤال من إحدى الأخوات
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ...
الشيخ الفاضل ..
جزيت خيرا على طرحك لهذا الدرس المميز .. و نسأل الله العلي العظيم ان ينفعنا و إياكم به
و يجعله في ميزان حسناتكم يوم نلقاه ...
شيخي الفاضل .. لقد وفيت في شرحك و بخاصة عن الرياء و كنت على وشك سؤالك عنه
فمن المعروف انه الرياء هو الشرك الأصغر
و هو أخفى من دبيب النمل ...
و أحيانا يكون الأصل في العمل وجه الله و القرب منه
فما تشعر إلا و قد خالط نفسك شئ ... تحاول جاهدا ان تدفعه ...
فأحيانا تجد ان الشيطان يقول لك لا تخاشع لأن الناس يرونك و أحيانا تخاشع لن الله يراك
فتحتار .. و تخاف في عملك
ما الذي تفعله حينها ...
و إذا كان الرياء خفيا لا يستشعر .. كما علمت انه اخفى من النملة على صخرة سوداء في ليلة دهماء
فكيف ادفعه عن نفسي ؟؟؟
وهل هناك من دعاء أدعو به .. لأتقي هذا الشر
و جزاك الله عني خيرا
------------
الجواب :
وشكر الله لك هذه الإفادة والإضافة
أما إذا جاء الشيطان ليُدخل الرياء على المسلم ، فعلى المسلم مدافعة الرياء ولا يضرّه .
فإذا جاء الشيطان أو ورد الوارد لتحسين العمل فعلى المسلم أن يتذكّر : أن الناس لا يملكون له نفعا ولا ضرا ، وبالتالي فليس هناك دافع للعمل لأجلهم .
وقد نقل ابن القيم - رحمه الله – عن عبد القادر الكيلاني - رحمه الله - أنه قال : كُـن مع الحق بلا خلق ، ومع الخلق بلا نفس .
ثم قال ابن القيم معلِّقاً : فتأمل ما أجلّ هاتين الكلمتين مع اختصارهما ، وما أجمعهما لقواعد السلوك ، ولكل خلق جميل .
فإذا قام المسلم يُصلّي – مثلاً – جاءه الشيطان ليُحبط عمله ، فيقول : له فُلان ينظر إليك وإلى عملك فأحسن العمل
فلا يلتفت إلى هذا ويبقى على ما كان عليه ولا يترك العمل لأجل ذلك ، كما تقدم في كلمة الفضيل بن عياض . [ والكلام يطول في تفصيل ذلك ]
من أجل ذلك كان السلف يحرصون على إخفاء العمل ، وأن يجهد الإنسان أن يُخفي العمل ما استطاع .
من أجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام : فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع . رواه البيهقي ، وقال المنذري : إسناده جيّد ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب .
وقال عليه الصلاة والسلام : فصلوا أيهـا الناس في بيوتكم ، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة . متفق عليه من حديث زيد بن ثابت
ورواه أبو داود بلفظ : صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة .
فصلاة الرجل النافلة حيث لا يراه أحد أفضل من صلاته في مسجده صلى الله عليه وسلم .
وأما ما يُذهب الرياء
فأسوق إليك هذا الحديث بطوله وقد تضمّن قصة
روى البخاري في الأدب المفرد عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أبا بكر ، للشِّرك فيكم أخفى من دبيب النمل .
فقال أبو بكر : وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلها آخر ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، للشِّرك أخفى من دبيب النمل ، ألا أدلك على شيء إذا قـُـلتـه ذهب عنك قليله وكثيره ؟
قال : قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم .
وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد .
==========
وهذا سؤال آخر من أخت أخرى فاضلة :
جزاك الله خير فضيلة الشيخ السحيم...
بس عندي بعض الاستفسارات...
- سمعت مرة من أحد الشيوخ ، إن لا يجب النطق بالنية، يكتفي الفعل... مثلاً: نية الصوم، القيام للسحور... فهل الأفعال تكفي عن النية اللفظية؟؟ إذا كان لا.. فهل هناك صيغة محددة أو محببة للنية؟؟
و جزاك الله خير أخوي.. و جعله في ميزان حساناتك..
------------
الجواب :
بارك الله فيك أختي الفاضلة
هذه مسألة مهمة فاتني التنبيه عليها
فأقول :
لا يجوز التـّـلفّـظ بالنية ، إذ التـّـلفّـظ من محدثات الأمور
قال ابن عمر لما سَِمع رجلا عند إحرامه يقول : اللهم إني أريد الحج والعمرة . فقال له : أتُعلّم الناس ؟ أو ليس الله يعلم ما في نفسك ؟
فلا يتلفّظ بالنية حتى عند إرادة الحج والعمرة
فلا يقول عند إرادة عقد الإحرام : اللهم إني أريد الحج والعمرة .
وإنما يُلبّي بالحج والعمرة معاً أو بأحدهما
فيقول كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لبيك عمرة وحجة
أو : لبيك عمرة
وهذا ليس من التلفظ بالنية إنما هو بمنزلة التكبير عند دخول الصلاة .
وكذلك إذا أراد الصلاة فلا يقول – كما يقول بعض الجهلة : - اللهم إني أريد أصلي صلاة الظهر أربع ركعات .
فإن هذا لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم .
وكذا الأمر بالنسبة لسائر العبادات ؛ لأن النيّة محلّها القلب .
فيكفي فيها عقد العزم على الفعل .
كما أن نيّة تبييت الصيام من الليل لصوم الفريضة تكفي من أول شهر رمضان إلا أن يقطع النية بسفر أو فطر لمرض وعذر .
ويكفي في النية العزم على الفعل
فإنه إذا عزم على صيام يوم غد ثم صامه أجزأته النية التي عقدها بقلبه .
ويُقال نفس الكلام في نية الصلاة ، ولكن لا بد من تعيين النيّة لتلك الصلاة
هل هو يُريد صلاة الظهر أو العصر مثلاً
وكذلك الوضوء ، فإذا توضأ المسلم ، وهو ينوي رفع الحدث ارتفع حدثه
ولو اغتسل ونوى بالغسل اندراج الوضوء تحته أجزأه
وهكذا .
فالنيّة محلّها القلب ولا يجوز التلفظ بها ، بل التلفظ بها بدعة محدَثة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
والله أعلم
=========
وهذا سؤال ثالث من أخت فاضلة ثالثة :
أول كلمة اقولها في هذه الزاوية ..
أستاذي الحبيب ..جزاك الله خير الدنيا والاخرة ..وكتب لك بها الرضى والعافية والأجر في الدنيا والأخرة
وسدد خطاك ..وحفظك وزادك من فضله في الدنيا والأخرة
عندي سؤال بعد أذنك
ألا تحتاج بعض الأعمال إلى إظهارها وعملها علنا أمام الخلق طمعا في اقتداء الناس بهذا العمل..كحفظ القرآن الكريم على سبيل المثال ..اتمنى أن اعرف الإجابة ..
-------------
الجواب :
بورك فيك واحسن الله إليك
بل أنا أشكر استجابتك وحضورك
وحيّاك الله أختاً لنا مشاركة ومُفيدة في الوقت نفسه
أخيّه :
الأصل في الأعمال الإخفاء ( أن تُخفى )
لقوله سبحانه : ( إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ )
وفي حديث السبعة الذين يُظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظلّه قال صلى الله عليه وسلم فيهم : ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه . متفق عليه .
وبوّب عليه الإمام البخاري : باب صدقة السر .
وعقد قبله باباً : باب صدقة العلانية ، ثم ساق قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )
وقد تقدّم أن إخفاء العمل الصالح أبلغ في الإخلاص
وحال السلف يدل على ذلك ، وسأذكر بعض الأمثلة بعد ذلك إن شاء الله
غير أنه إذا طمِع المسلم أو المسلمة في الاقتداء به بذلك العمل فله أن يُظهره شريطة أن يُجاهد نفسه ، لأن الشيطان سيُدخل عليه الرياء .
ومن هنا فقد أظهر الصحابة رضي الله عنهم بعض أعمالهم لما احتاجوا إلى ذلك
فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير رضي الله عنه أنه قال : كنا ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر ، فتمعّـر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج ، فأمر بلالاً فأذّن وأقام فصلى ، ثم خطب فقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ) إلى آخر الآية : ( إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) والآية التي في الحشر ( اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ) تصدّق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال : ولو بشق تمرة . قال : فجاء رجل من الأنصار بِصُرّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت . قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة . الحديث .
فهذا الأنصاري قد جاء بِصُرّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت
وكان هذا على مرأى ومسمع من الناس .
فإذا اقتضت المصلحة إظهار العمل الصالح فإنه يُظهره لتلك المصلحة فحسب .
والله أعلم .
================
أخيراً :
كنتُ قد وعدت أن أسوق شيئا من أحوال السلف في إخفاء العمل وحرصهم على ذلك واجتهادهم فيه ، وهذا أوان الشروع في المقصود :
لما رأى ابن عمر رجلاً يُصلي ويُتابع قال له : ما هذا ؟ قال : إني لم أصل البارحة ، فقال ابن عمر : أتريد أن تخبرني الآن ! إنما هما ركعتان .
ولما قال سعيد بن جبير لأصحابه : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ قال حصين بن عبد الرحمن : قلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت . فَذَكَرَ الحديث . رواه مسلم .
فقوله – رحمه الله – : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت ، لينفي عن نفسه حبّ السمعة والشهرة ، وليعلم جليسه أنه لم يكن في صلاة .
وما ذلك إلا لحرصهم على الإخلاص .
وقد كان عمل الربيع بن خثيم كله سِـرّاً ؛ إن كان ليجئ الرجـل وقد نَشَـرَ المصحف ، فيغطيه بثوبه .
قال الأعمش : كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقـرأ في المصحف ، فاستأذن عليه رجل فغطّى المصحف ، وقال : لا يراني هذا أني أقرأ فيه كل ساعة .
قال عبدة بن سليمان : كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو ، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البِراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ، ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البِراز ، فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ، فازدحم عليه الناس وكنت فيمن ازدحم عليه فإذا هو مُلَثّمٌ وجهه بكمـه ، فأخذت بطرف كمه فمددته ، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال : و أنت يا أبا عمرو ! ممن يشنع علينا .
قال محمد بن القاسم : صحبت محمد بن أسلم أكثر من عشرين سنة لم أره يصلي حيث أراه ركعتين من التطوع إلا يوم الجمعة ، وسمعته كذا وكذا مرة يحلف لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفاً من الرياء ، وكان يدخل بيتا له ويُغلق بابه ، ولم أدرِ ما يصنع حتى سمعت ابناً لـه صغيرا يحكي بكاءه ، فنهته أمُّه ، فقلت لها : ما هذا ؟ قالت : إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ ويبكي فيسمعه الصبي فيحكيه ، وكان إذا
أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل فلا يرى عليه أثر البكاء .
وكان أيوب السختياني في مجلس فجاءته عَبْرَة ، فجعل يتمخّط ويقول : ما أشدّ الزكام .
هذا نزر يسير من حرصهم على إخفاء أعمالهم حتى لا يدخلها الرياء ، ولا يجد الشيطان مدخلا إلى نفوسهم .
فرحم الله سلف هذه الأمة ما أعظم فقههم وما أدق فهمهم .
==================
وسألت أخت كريمة فاضلة ، فقالت :
حديثين شيخنا الفاضل ... هل يمكن أن نعلم مدى صحتهما بارك الله فيك :
( نية المؤمن أبلغ من عمله ونية الفاجر شر من عمله )
وفي رواية ( إن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته مالايعطيه على عمله ) لأن النية لارياء فيها والعمل يخالطه الرياء ....
وبارك الله فيكم
-----------
الجواب :
بورك فيك أختي الفاضلة ، وشكر الله سعيك وحيّاك معنا
وزادك الله فقهاً وحرصا على طواعية الله ورسوله
أما الحديث الأول فهو بلفظ : نية المؤمن خير من عمله ، وعمل المنافق خير من نيته ، وكل يعمل على نيته ، فإذا عمل المؤمن عملا ، ثار في قلبه نور .
فهو حديث ضعيف المعنى والمبنى
وقد ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع برقم 5977
وقد تكون نيّة المؤمن خيرٌ من عمله كما تقدم في حديث : " إنما الدنيا لأربعة نفر "
وكما في قوله عليه الصلاة والسلام : إن الله تعالى قد أوقع أجره على قدر نيته .
وفيه قصة ، وذلك أن عبد الله بن ثابت كان قد تجهز للغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات قالت ابنته : والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيداً ، فإنك كنت قد قضيت جهازك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل قد أوقع أجره على قدر نيته . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
وقد يكون العمل أبلغ ، خاصة إذا كان بعيداً عن أعين الناس ، أو كان نفعه مُتعدّياً .
وأما الرواية الثانية التي أشرتِ إليها:
" إن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته مالا يعطيه على عمله "
فهي بقية الحديث الأول ، وأشار إلى ضعفها العجلوني في كشف الخفاء
ولم أرها في شيء من كتب السنة إلا في مسند الفردوس بلفظ :
نية المؤمن خير من عمله وإن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله وذلك إن النية لا رياء فيها والعمل يخالطه الرياء .
ولا يصح .
والله أعلم .
فائــدة :
لقي رجل يحيى بن أكثم وهو يومئذ على قضاء القضاة فقال له : أصلح الله القاضي كم آكل ؟
قال : فوق الجوع ، ودون الشبع .
قال : فكم أضحك ؟
قال : حتى يُسفر وجهك ، ولا يعلوا صوتك .
قال : فكم أبكي ؟
قال : لا تمل البكاء من خشية الله .
قال : فكم أخفي من عملي ؟
قال : ما استطعت .
قال : فكم أظهر منه ؟
قال : ما يقتدي بك الحريص على الخير ، ويُؤمن عليك قول الناس .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق