الثلاثاء، 17 مايو 2011

المسلم بين الربانيّة والإنسانيّة

اكد الكاتب عبد العزيز كحيل  فى مقال له بموقع مجلة "المختار  الاسلامى "

ان المسلم يستمدّ من نفخة الروح الأولى نسبه السماويّ الّذي يورثه العبودية لله وما تقتضيه من إخلاص وخشية وخوف ورجاء وتوكّل، فيكون صاحب قلب سليم ونفس زكيّة وذهن صاف، ويتقلّب بين المشاعر الرقيقة الجيّاشة والأفكار الحيّة القويّة النابعة من تفاعله المتواصل مع القرآن والسنّة واتّصاله المتجدّد بالملأ الأعلى، ويستمدّ من قبضة الطين بُعده الإنساني الممتدّ طولا وعرضا وعمقا مع الكون ومن فيه وما فيه، فهمًا وتآلفًا وتعارفًا، لأنّه بُعد يؤصّل لعلاقات ودّ وتعاون وتناغم مع محيطه بكلّ مكوّناته بناء على وشائج العقيدة والدم والأرض والبنوّة لآدم والعبودية لخالق واحد اقتضت حكمته أن يجعل من الاختلاف سنّة تحكم الحياة ولأحياء لتكتمل صورة التنوّع الإيجابي والتعاون المتعدّد الأشكال الضروري لاستواء شروط العيش المشترك بين الجميع في أرض الله وفق سنن الله.
واضاف :"إذا تحرّك هذا المسلم بمعادلة الربانية والإنسانية كان هو الإنسان النموذج والقدوة للبشرية المشرَئبّة العنق تطلّعًا للدليل الثقة الحجّة في طريق الحياة الحائرة بين الفلسفات والتصوّرات المتشعّبة الدروب، وتلك هي وظيفته بمقتضى ميثاق الإيمان والبيعة لله ورسوله" .
وقال
" هذا الإنسان يجب على الأمّة أن تنشئه تنشئة جديدة وتبعثه بعد غياب عن الشهود الحضاري طال أمده".

تنشئة الإنسان الشاهد

في ظلّ أجواء التخلّف الذي نترنّح تحت أغلاله وآصاره يقتصر همّ المسلم في الغالب على البقاء على قيد الحياة، يواجه كل يوم تحدّيات لقمة العيش وشربة الماء وحبّة الدواء ونحوها، في حين كان ينبغي أن يتجاوز معركة البقاء الجثماني إلى خوض معركة أداء الرسالة وإقامة الحضارة والوقوف موقف الشهود على الأمم والشعوب، والحلّ يتعدّى توفير مقوّمات الحياة إلى إعادة صياغة الإنسان إسلامياً حتى يسترجع الشخصية المسلوبة والإنسانية الضائعة وينجو من عوامل الخوف والقلق والسحق ليضع نفسه من جديد على طريق البناء والإصلاح.

وحتّى تكون الصياغة المنشودة صحيحة متوازنة يجب أن تشترك فيها عوامل التربية والتكوين في منهجية محبوكة تتفادى الرؤى الجزئية التي قد تشبع رغبات عاطفية جلية أو دفينة لكنّها أعجز من تنشئة إنسان الرسالة والتغيير والحضارة في ظل العولمة الطاغية وجبهات التحدي المتعدّدة على مستوى النفس والمجتمع والمادة والوعي، فليس من المعقول إطلاقا تبنّي المنهج الاعتزالي وحده، ولا السلفي ولا الصوفي ولا التبليغي ولا الجهادي، فهذا من شأنه تكرار أخطاء الماضي من جهة، وتغييب محاسن وإيجابيات التصوّر الشمولي من جهة أخرى، وهو التصوّر الذي يتناول في تناغم وانسجام وعلى بصيرة التجارب الإيمانية الناجحة على المستوى الذهني الفكري، والقلبي العاطفي، والسلوكي العملي لإيجاد الإنسان الربّاني صاحب العلم والأخلاق والاستقامة والعطاء، فيستطيع بناء المجتمع المتحضّر الراقي، ويصنع أمجاده بتوجيه من القرآن الكريم والسنة المطهّرة.

وقبل ذلك تتيح هذه الصياغة للعاملين للإسلام أن يقدّموا ذلك المنهج التغييري التفصيلي المتكامل الذي مازال الناس مسلمين وغير مسلمين يطالبون به عسى أن يستهويهم الحلّ الإسلامي بما فيه من عقيدة واضحة سهلة ومنهج للحياة تستريح له الفطرة.

إنّ الإنسان المتشبّع بالرؤية الإسلامية المتكاملة ينبّهه إيمانه إلى تلمّس السنن الإلهية في الكون والمجتمعات، ويندبه لإعمالها في الواقع بحيث يستطيع تحويل البعد الإيماني إلى إنجاز حضاري، وهذا من أفضل وسائل الدعوة بين المسلمين وغيرهم، وليس من رأى كمَن سمع، وهو وحده القادر على ذلك لأنّه يربط بين الإيمان والتقوى وبين اكتشاف سنن التسخير وزيادة الرزق، فدينه يمدّه إلى جانب المعرفة المتنوّعة الراسخة بالبصيرة (التي سمّاها القرآن الكريم فرقانا) وهي نور ربّاني يجلبه الإيمان الصادق والمجاهدة وطول الوقوف على باب الله – تعالى- بالعبادة والتضرّع والإخبات، كما أنّ شمولية التصوّر تيسّر للمسلم الفرد والمجتمع تجسيد الارتباط بين الانتصار في ميدان المبادئ والانتصار على الشهوات، وبين الانتصار في المعارك الحربية، فليس هذا المسلم عقلانيا فقط ولا متصوّفا فحسب ولا مقاتلا بحتا، إنما هو كلّ هذا، فهو يحسن التفكير والتدبير، ويتفنّن في تزكية النفس وعبادة الله - تعالى -، وينصر دينه وأمّته في ساحة الوغى.

إنّ الإنسان المراد إعادة صياغته سواء كان رجلاً أو امرأة سيخرج من إطار التديّن الفردي والطقوسي إلى رحاب الشهود الحضاري مشتغلاً بمحاربة الظلم السياسي والاجتماعي، منتصراً للفقراء والمستضعفين، مدافعاً عن حقوق الإنسان والحريات بجميع مستوياتها، رافضاً للترف والرذيلة مبشّراً بالحياة الطيّبة، مساهما في إرساء قواعدها وتنمية عناصرها تربوياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفنياً، على هدي الوحي المنزّل والتجارب الإنسانية عبر العصور، مستعيناً بإيجابيات الغرب في النظام والإتقان والبحث العلمي والعمل المؤسسي ورفع شأن ذوي الكفاءات، يستعمل هذه الأدوات لتبليغ رسالة الإسلام بالقدوة وبالإنجازات المعنوية والنفسية والجمالية لإشباع حاجة الغربيين الذين يشتكون من الخواء الروحي والفراغ الإيماني بسبب تحييد الدين عندهم وهو دين محرّف على كل حال- وسطوة المادّة.

إنّ الإنسان المنشود يتعلّم من إسلامه ألاّ يستسلم للقدر كالجبريّين، وإنّما يواجه هذا القدر بقدر أحبّ إلى الله منه، وهذا نتيجة لتطليق الأمية العقلية التي سادت ساحتنا قروناً، بذلك يستطيع السير بهدي الإسلام؛ ليخرج الناس من ظلمات الجهل والاستبداد والرذيلة والفوضى والتخلّف إلى نور المعرفة والشورى والنظام، أي ينتقل من القلق النصوصي إلى القلق الحضاري، ومن التبرّك بالقرآن إلى التحرّك به، ومن النظر السطحي للسنّة النبوية إلى تجسيد معانيها الكريمة في العلاقات الأسرية والاجتماعية كما في الحياة الروحية تماما، فهو يعرف مراتب الأحكام، ولا يخلط بين الأصول والفروع، و يُحسن التمييز بين الكليات والجزئيات، ويتحلّى بالحكمة فيضع كل شيء في مكانه المناسب، ولا يعطي لأيّ شيء ولا أحد إلاّ " التسعيرة " التي أعطتها له الشريعة من غير إفراط ولا تفريط، ومن أهمّ ميزاته الجمع التوافقي المتوازن بين التميّز الإيماني والبعد الإنساني، فذلك يحميه في آن واحد من التقوقع المتزمّت ومن التميّع المتربّص بمَن يتعاطى مع المحيط الكبير بما فيه من أفكار وفلسفات ونظريات وسلوكيات شتّى، وموضع التوازن والوسطية هو الأصعب دائما لكنّه الأنسب لصاحب رسالة الحضارة والشهادة.

ولا يخفى أنّ هذه الصياغة الجديدة لن تقوم لها قائمة إلاّ بقراءة أصولية مقصدية متّزنة ومتفتّحة للقرآن والسنة ولتراثنا الفكري، وباستعمال الآليات الأكثر فاعلية في فهم الواقع المتشعّب نفسيا وماديا واجتماعيا وحسن الإسقاط والتنزيل لتجاوز العقبات الحقيقية والافتراضية والموهومة في عملية إصلاح البشر والمؤسسات والعلاقات بروح الإسلام وأحكامه وضوابطه وأخلاقه.

من جهة ثانية يمكن القول إن المسلم الذي نرجو بروزه ليأخذ مكانه في دورة الحياة الصالحة الفعّالة إنسان سوي قبل أيّ شيء آخر.

المسلم إنسانٌ سويّ

خلص الدعاة الراسخون والعلماء العاملون من قراءاتهم المتبحّرة وتجاربهم الميدانية الممتدّة في الزمان والمكان والعمق إلى أنّ انتصار الإسلام مرتبط شرطيا بوجود "الإنسان السوي" صاحب المشاعر الصادقة الفياضة والتفكير الصحيح الهادي، أي صاحب الفطرة السليمة التي أشار إليها القرآن الكريم:

- ( فطرة الله التي فطر الناس عليها) سورة الروم 30

- ( يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك) - سورة الانفطار 6 - 7

- (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) - سورة التين 4

فإذا كانت المشاعر كاذبة أو باردة وكان التفكير سطحياً أو ميّتاً تحوّل الدين إلى مجرّد طقوس؛ ليزداد الأمر سوءا إذا اغترّ الإنسان بذكائه في حين هو يعاني الخواء الروحي؛ لأنه سيحوّل الدين حينذاك إلى مصيدة للمغانم، سواء ألّف الكتب أو ألقى الخطب أو امتهن الشعوذة، وما أخطر حال من ينطوي على أمراض نفسية ثم يتظاهر بالغيرة على الإسلام فينسى تزكية نفسه وأداء حقوق الله - عز وجل - ويشتغل بأخطاء العاثرين وينقم على العاملين في الدعوة إلى الله - تعالى-، وهذا حالُ فتيان أخذوا شيئًا من العلم الشرعي من الكُتُب والصحف، ولَم يتتلمذوا على العلماء الراسخين والدعاة العاملين فظنّوا أنفسهم على قدْرٍ كبيرٍ من التقوى والتزكية وخرجوا على مجتمعاتهم بالتكفير وسفك الدماء، حتى إن بعضهم لم يسلم منهم المسجد الحرام نفسه رغم قدسيته في أحداث 1979 الدامية المؤلمة، كما كان هذا حال أحبار بني إسرائيل عندما ألحّوا على المسيح - عليه السلام- كما ورد في الآثار- أن يرجم الزانية، ولم تكن تحرّكهم الغيرة على شرع الله - تعالى -بل قسوة القلوب وغلظة الطباع، لذلك أفحمهم بقوله "من كان منكم بلا ذنب فليرجمها"، وصدق - عليه السلام - فاضطراب صلتهم بالله - عز وجل - هو الذي أدّى بهم إلى تحجّر العاطفة وحبّ البطش والشماتة في المذنبين، وما ينبغي للدعاة أن يكونوا هكذا وهم أصحاب العيون المؤمنة، وإذا كانت العين الحاسدة تضرّ الإنسان فإن العين المؤمنة تنفع لأنها عينٌ حانية مُشفقة تؤثّر في اتجاه الحق والخير والنور والجمال... وتلك هي الفطرة السليمة وذلك هو الإنسان السوي... رأس ماله حُرقة وغضب على الباطل واستعلاء على الفجور، يستدرك بقلبه الكبير على العجز في أعماله الصغيرة، أو هكذا يرى نفسه بفضل تواضعه.

إنّ الداعية يمتلك أرفع أنواع الوعي وهو وعي الذات، به يتّهم نفسه بدل أن ينزّهها وينادي عليها بالبراءة لمعرفته أن آلة لوم الآخر تحيي آلة تنزيه الذات وتقديسها، بهذا ينتصر هو فينتصر الدين الذي يدعو إليه، كيف لا وهو يقرأ في كتاب ربّه حديثا متكررا عن "ظلم النفس" ووجوب بدء عملية التغيير بها: ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم) - سورة الرعد 11.






بهذا السمت الربّاني يتفادى الداعية في نفسه وفي غيره التديّن الصوري الذي كثيرا ما يكون وراءه قصور عقلي وغرور أعمى، ويشتغل بالخشوع والإخبات إلى الله - عز وجل- والسجود الحقيقي الذي يشير من خلال سجود أعضاء الجسد إلى انقياد القلب لهداية الله - تعالى -وأمره ونهيه: ( واسجد واقترب) - سورة العلق 19، كما يشتغل بالإيمان المثمر الذي يؤتي أكله كل حين بإذن ربه، الإيمان الذي مكّن يوسف - عليه السلام - من تحويل الزنزانة إلى ساحة للدعوة، ومكّن العلماء والدعاة من إدخال التتار في الإسلام بعد أن انهزم السياسيون وخذلوا دينهم وأمّتهم وانكسروا أمام أقوام همج لا دين لهم ولا خلق تمحّضوا للتخريب والإفساد في الأرض، ومكّن التجّار من فتح قلوب الناس للإسلام في إفريقيا وآسيا فانساب فيها دين الله - تعالى -بغير سيف ولا حرب ولا مواجهة.

إنّ الأمّة مكلّفة بتبليغ كلمة الحقّ للبشرية كلّها، وقد أتاح لها التقدّم العلمي وسائل تيسّر لها مهمّة التبليغ بالكلمة والصورة والكتاب والصحيفة وغيرها، إلا أنّ البداية الصحيحة لنجاح الدعوة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وتعبيدهم لله - تعالى -تكمن في بناء الداعية ذاته بناء حقيقيا لا صوريا، فهو يبنى عقليا بالثقافة الشرعية والإنسانية اللازمة لمهمّته، وخلقيا بالفضيلة وروحيا بالعبادة واجتماعيا بالعمل الجواري الذي ينمّي شبكة العلاقات العامة، وسياسيا بالتوعية العميقة المتينة، بذلك يكون داعية سويّا تعدّه الأمة للدنيا والآخرة معا، فهو صالح في نفسه مُصلح لغيره، وإنّما أبدأنا وأعدنا في وصف "الإنسان السوي" لأنّ فساد الطبيعة والعقلية هو المشكلة حقا، وهو أكبر من فساد أخلاق المجتمع لأنّه يقضي على إنسانية الإنسان فينقلب إلى آلة تدمير ولو لبس لباس الدين، فانحراف الفطرة هو الخطر الأكبر، اقرأ قول الله - تعالى -: ( أخرجوا آل لوط من قريتكم إنّهم أناس يتطهّرون) - سورة النمل 56 - لتدرك تلك الخطورة، فقد أصبح التطهّر أي الالتزام بالوضع الطبيعي- تهمة تجلب السخرية، ذلك هو انحراف الفطرة الذي يصبح معه الجمال قبحاً والقبح جمالاً، فضلاً عن كل القيم الأخرى، ولنا تجسيد معاصر لهذا الانحراف يتمثّل في الحضارة الغربية التي حُرمت التوجيه الرباني فأبدعت في الأشياء وأفسدت الإنسان، وعندنا تجسيد آخر مؤسف يتمثّل في دعاة يُؤثرون الغلظة في كلّ شيء ويديرون ظهورهم لكلّ أمر فيه حسن ويسر واعتدال، متقرّبين بذلك إلى الله - تعالى -، فأنّى يُصغي إليهم الناس وأنّى تُبارك السماء سعيهم؟

وتبقى القدوة الأعلى والأرفع هي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تفكيره ومشاعره وسلوكه وهديه جميعا، فهو النموذج الأمثل للدعاة، ينبغي التماس مواطن القدوة في أقواله وأفعاله وحياته كلّها بنظر ثاقب وبَصر واع وفهم عميق يُحسن الإحاطة بملابسات الزمان والمكان والحال.

وليس المسلم المنشود نكرة من النكرات ولا هو إمّعة متّبعة لكلّ ناعق، إنّما هو إنسان متميّز بمقتضى دينه وأخلاقه ورسالته في الحياة.

مسلم متميّز

للمسلم نمطُ حياةٍ خاصٌّ به، يُصدر عن انتماء عقدي وحضاري متميِّز، تتجلَّى فيه ملامح أخلاقية وسلوكية وجمالية قد لا يفهمها المنتمون لديانات وحضارات أخرى، وقد يعيِّرونه بها، لكنَّه يبقى متمسِّكًا بها باعتبارها جزءًا من شخصيَّته، وإنَّما يبدأ الاستلاب الحضاري والانهزام الروحي حين يفقد المسلم تميُّزه ويستهِين بعبادات وسلوكيات، ويتنازَل عنها ليتبنَّى أنماطًا وافدةً يظنُّ أن تبنِّيها يُخرِجه من وضعٍ أدنى ويرفعه إلى مصافِّ الرُّقِيِّ والتمدُّن، بهذه العقليَّة الاستسلاميَّة المبثوثة في النفوس استطاع الغرب أن يغزو المسلمين في بيوتهم وحياتهم الخاصة والعامَّة بعد أن هزَموه في المنازلات العسكريَّة.

أجل، غَزانَا الغرب بنمط الحياة وطريقة العيش، فضلاً عن أسلوب التَّفكير وخصائص الإنتاج والاستهلاك؛ ففَقَدنا ذاتيَّتنا، وأصبحنا - من حيث لا ندري - أسرى لمراكز توجيهه في هذه المجالات، تتحكَّم في أفكارنا ومشاعرنا وسلوكنا وأذواقنا واتّجاهاتنا كلِّها، وقد بدأت العمليَّة بالنخبة المتغرِّبة ثمّ سَرَتْ إلى كلِّ الطبقات والأعمار، لنصير في النهاية مسخًا من الخلق ومجتمعاتٍ مشوَّهةً لا شرقيَّة ولا غربيَّة، تظنُّ أن من التحضُّر ازدراء اللغة العربية والتخاطُب بالفرنسية والإنجليزية، (حتى إن بعض الزعماء العرب يخاطِبون شعوبهم بلغة الدولة التي كانت تستعمرهم وتحارب لسانهم العربي!)، والتَّباهي بالعادات النصرانية واللادينية؛ كمعارض الأزياء، ومسابقات (ملكات الجمال)، وتعظيم الآثار الحجرية - وليس مجرَّد الحفاظ عليها - والاحتفال بأعياد الميلاد، واختلاط النساء بالرجال بلا ضوابط، واتِّخاذ يوم الأحد راحة أسبوعية بدل الجمعة...

إن من الإصلاح الاجتماعي القضاءَ على الرُّوح الأجنبية في البيوت، وإماتة التقاليد غير الإسلامية في كلِّ مظاهر الحياة، وإحياء العادات الإسلامية؛ مثل:

• التحيَّة: فهي دين لا مجرَّد عادة: ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء: 86]، وتحيَّة الإسلام هي السلام، فيجب إحلالها محلَّ الصِّيَغ الشائعة بلغات أجنبية التي غزَتْ ألسنة الكبار والصغار.

• اللغة: العربية الفصحى ليست مجرَّد وسيلة اتِّصال لفظي، وإنما هي شعيرة من شعائر الإسلام، نعتزُّ بها كما تعتزُّ كلُّ الشعوب بلغاتها، ولك أن تعجب من اللغة الهجينة التي تُستَعمل في الإعلام والمسلسلات ونحوها، والتي من شأنها أن تقتل لغة القرآن، لولا أنها محفوظة بحفظه.

• التاريخ: من المفروض أن نعتمد التقويم الهجري؛ لصلته المباشرة والشعورية بنا، فقد غلب عليه التقويم الميلادي - أي: المنسوب للنصرانية - حتى كاد يلغيه نهائيًّا، رغم أن شعائر الإسلام الكبرى وأركانه الأساسية - كالصيام والزكاة والحج - تقوم على الحساب القمري.

• مواعيد العمل: من المفروض أن الدوام في بلادنا يأخذ في الحسبان مواقيت الصلاة؛ حتى يُتَاح للجميع أداؤها في المساجد.

ومثل هذا يُقال عن الزيِّ والأثاث والهندسة المعمارية ومواعيد الطعام والراحة... حيث يجب على المسلم أن يتحرَّى فيها السنَّة، فذلك أَلْيَقُ لشخصيَّته، ولا يعني هذا أن ننعزل عن العالم، أو نقطع صلتنا بمحيطنا الكبير، أو نكفر بالأبعاد الإنسانية، أو نتنكَّر للقواسم المشترَكة بين البشر، إنما نريد الاحتفاظ بما يُملِيه علينا نسَقُنا الديني والأخلاقي من تميُّز إيجابي لا يحتوي على أيَّة إشارات عدوانية، بل هو في حدِّ ذاته قدوة لغيرنا، هذا التميُّز حماية للشخصية من التبعيَّة غير الواعية، والانبهار المُفرِط بما عليه المتغلِّب من الحضارة؛ حتى لا نتّبع غيرنا دون وعي شبرًا بشبر وذراعًا بذراع فننتهي كما انتهوا إلى مستنقعات آسِنَة ودرَكات هابِطة كالزواج المثليِّ، و"تجريم" الحياء والاحتشام، وازدراء الأخلاق والأسرة، والطهر والفضيلة، وإزاحة الدين من الحياة، وقد انتهى الغرب إلى ما هو عليه بالانسلاخ التدريجي من شخصيَّته، وهو ما نخشاه على أنفسنا.

إننا بتميُّزنا لا نعادي أيَّ موروث أخلاقي أو ثقافي أو حضاري نافِع وبَنَّاء، ولا نُسقِط أيَّ وسيلة نظيفة أو أسلوب مبتكر ذي جدوى، بل نحتَضِن كلَّ ذلك ونُسهِم في تنميته ونشره، على ألاَّ يحمل في طيَّاته معولاً خفيًّا يهدم شيئًا من شخصيَّتنا؛ ذلك أن الغرب المتغلِّب يحمّل وسائله المصدَّرة إلينا - حتى من المنتجات المادية والتقنيات المختلفة - رسائل مشفَّّرة وأمراضًا مبطّنة تعمل على إماتَة خلايا نسيجنا الفكري والعاطفي لننصهر في الصبغة الغربية اللادينية، لأنّ أكثر ما يُثير خصومَنا هو الصبغة الربانية التي تصطبغ بها حياتنا، فنحن - كما يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى-: "أبناء الحضارة المؤمنة، التي يُذكَر فيها اسمُ الله - تعالى- في كلِّ شيء وبكلِّ مجال: الأكل والذبح، نلجأ إليه عند الحزن والسرور، والترويح عن النفس، والعلاقات الجنسية... جميع الكتب تُفتَتح بالحمد والصلاة، حتى كتب العلوم الدنيوية وكتب الحب والغرام كـ"طوق الحمامة ".

هذا هو تميُّز المسلم: تميُّز بالربانية والتزام الأخلاق في جميع أنشطة الإنسان والمجتمع، والسعي إلى التفوُّق المادي مع السموِّ الروحي، وربط الدنيا بالآخِرة، ليست الرفاهية المادية مثلَه الأعلى، ولا ينحصر الجمال عنده في مفاتن المرأة ولا في النحت، لأنه يملك البديل الوافي، نعم، هو الآن بديل على شكل مادّة خامّ تحتاج إلى أصحاب خبرة مهَرَة يصنعون منه أنواع الجواهر الثمينة التي تهوي إليها الأفئدة فيتضاءَل أمر الجاهلية عندنا، لكنّه على كلِّ حال بديل موجود، أي إنه في حاجة إلى تفعيل، لا إلى إيجاد وابتكار.

ليس المسلم كالعائل المستكبِر، إنما هو داعيةُ تميّزٍ حضاري مستمسِك بالأصالة والمعاصرة وفق معاييره الذاتية، التي لا تترادَف حتمًا مع معايير الغرب، الذي يعمل على فرضها باعتبارها مقاييس علمية ومواصفات عالمية.

تميُّز المسلم كلُّه ثقة بالنفس بلا غرور ولا نرجسية، وإبداع نافع وعمل للدنيا والآخرة، وتعامل ندّي مع كل الناس في المصالح المشتركة، ورفض للعدوان المادي والمعنوي، وحصانة ضد الذوبان والتحلُّل.

ذلك هو المسلم الذي يُخرجه كتاب الله وسنّة رسوله، جامعًا بين الربانية والإنسانية، صالحًا مصلحًا، نافعًا في الدنيا مفلحًا في الآخرة، مجاهدًا لنفسه شاهدًا على غيره، لكن إذا أصيبت معادلة الربانية والإنسانية بخلل ما انعكس ذلك سلبًا على المسلم ومشروعه كلّه، فلا مكان لرهبانيّة باسم الربّانية، ولا مكان لعلمانية باسم الإنسانية؛ لأنّ المعادلة الشرعية المُحكَمة تتيح التماس الايجابيّات والمحاسن على كلّ المستويات في انسجام متوازن يحصّن من التبعيض والتشتّت سواء في التصوّر أو التكوين أو السلوك بالنسبة للفرد والمجتمع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة