الشريعة والدماء المعصومة
وثمة وقفات ضرورية قبل الحديث عن الدماء في الشريعة الإسلامية, تتعلق بالمنهج الذي يتبعه الغرب في الحكم على الشريعة والذي يؤدي لتوارد مثل هذه الشبهات وأمثالها، وبرأينا أن تصور الغرب الخاطئ في هذا الشأن يكمن في عدة زوايا منها:
والآن نستنطق الشريعة الإسلامية؛ لنعلم موقفها من الدماء على وجه اليقين على الوجه التالي:
عجبًا ترى أن الشريعة، ومنذ الوهلة الأولى، تأخذ على العرب الأوائل, تساهلهم في الدماء في تقريع ملفت يأخذ بالأبصار, فيقول الحق، تبارك وتعالي: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:9], يقول ابن كثير: والموءودة هي التي كان أهل الجاهلية يدسُّونها في التراب؛ كراهية البنات، فيوم القيامة تسأل الموءودة على أي ذنب قتلت؟ ليكون ذلك تهديدًا لقاتلها، فإذا سُئل المظلوم فما ظن الظالم إذًا؟!
هكذا جاءت الشريعة في لحظاتها الأولى, تقف بالمرصاد متوعدةً أولئك الذين استهانوا بدماء صغار, لن تتفتح أعينهم بعدُ على مدارك الحياة.
ثم راحت شريعتنا تذكر بما كان من أمر بني إسرائيل, وما شرع الله - عز وجل - لهم من أن قتل نفس واحدة لهو قتل للناس جميعًا, وأن من أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناس جميعًا, قال تعالي: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32], يقول أبو بكر الجزائري في تفسيره: إنه من أجل قبح جريمة القتل، وما يترتب عليها من مفاسد ومضار أوجبنا على بني إسرائيل؛ لكثرة ما شاع بينهم من القتل وسفك الدماء, وشددنا عليهم في العقوبة إذ من قتل منهم نفسًا بغير نفس, أي ظلمًا وعدوانًا أو قتلها بغير فساد قامت به في الأرض, فكأنما قتل الناس جميعًا, بمعنى يُعذب عذاب قتل الناس جميعًا يوم القيامة, ومن أحياها بأن استوجبت القتل فعفا عنها وتركها لله، إبقاءً عليها، فكأنما أحيا الناس جميعًا، يعني يُعطى أجر من أحيا الناس جميعًا, كل هذا شرعه الله تعالى لهم؛ تنفيرًا لهم من القتل الذي أصرُّوا عليه، وترغيبًا لهم في العفو الذي جافوه وبعدوا عنه فلم يعرفوه".
وفي أمر لا يحتمل التأويل ينهى سبحانه عن اقتراف هذه الذنب العظيم, قال تعالي:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] يقول البغوي في معالم التنزيل: "حرَّم الله تعالى، قتل المؤمن والمعاهد إلا بالحق, إلا بما يبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم".
ومن منطلق حرصها على الدماء البشرية من أن تهدر، عمدت شريعتنا بعد ذلك, إلى تشريع القصاص، الذي تحقن به الدماء على عكس ما يروج الغرب، الذي غاب عنه فهم حقيقة الردع الذي غرسته هذا الآيات الكريمات في نفوس البشرية حينها، فعظمت حينئذ قيمة الدماء وغلا سعرها؛ لأن مقابلها نفس من تجرأ وهدم بنيان الرب, وهو ملعون بفعله هذا حتى قبل أن ينال جزائه المحتوم.
يقول عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}, ومن تأمل قليلاً في الآية ظفر بالمطلوب, فما شرع القصاص إلا من أجل الحياة، وما شرع القصاص إلا حفظًا لهذا البنيان الذي سوَّاه رب البرية، فأحسن خلقه, وتقويمه, يقول السعدي: "بيَّن تعالى، حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي: تنحقن بذلك الدماء، وتنقمع به الأشقياء؛ لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل، لا يكاد يصدر منه القتل، وإذا رُئي القاتل مقتولاً انذعر بذلك غيره وانزجر، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل، لم يحصل انكفاف الشر، الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية، فيها من النكاية والانزجار، ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، ونكَّر "الحياة "لإفادة التعظيم والتكثير".
وتعظيمًا لهذه الدماء من أن تراق, بغير جريرة, وحتى تقع في النفس الرهبة من اقتراف الذنب والإثم العظيم, جعل الإسلام عقوبة القاتل العمد الخلود في النار, مع تنويع العقاب الذي شمل الغضب واللعنة والعذاب العظيم, ولم يأتِ سبحانه، بذكرٍ للتوبة كما هو الحال عند ذكر المعاصي، التي توعد الحق فاعلها، وفتح له باب التوبة والمغفرة, يقول عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]
ومع ما سبق من النصوص القرآنية الكريمة, نطالع في قبسات الهدي النبوي، ذلك التوجيه النبوي بالاحتراز من الدماء المعصومة؛ لأن المؤمن ما زال في فسحة من أمره، ما لم يصب دمًا حرامًا, والفسحة كما يقول ابن العربي: هي سعة الأعمال الصالحة, حتى إذا جاء القتل ضاقت؛ لأنها لا تفي بوزره, والفسحة في الذنب، قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول.
ولا يتعلق الأمر كذلك بأنفس الآخرين وفقط, بل توعَّدت حتى ذلك الذي يذهب يزهق روحه؛ احترامًا منها لحق الحياة, الذي هو لله وحده, وليس للعبد فيه اختيار.
ففي البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسَّى سمًّا فقتل نفسه، فسمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق