ثم عاود ربنا (تبارك اسمه) القسم مرة أخري بالسماء ذات الحبك علي أن الناس مختلفون في أمر يوم الدين بين مكذب ومصدق، وأن المكذبين الذين شغلتهم الحياة الدنيا عن التفكير في مصيرهم بعد الموت يصرفون عن حقيقة هذا اليوم الرهيب، ثم تعرض الآيات لمصير كل من المكذبين والمصدقين بالآخرة، كما تعرض لعدد من صفات كل من الفريقين.
ثم تعاود السورة في سياقها الاستدلال بعدد من الآيات الكونية الأخرى في الأرض وفي الأنفس وفي الآفاق علي أن وحي الله (تعالى) إلي عباده في القرآن الكريم حق مطلق يجب علي الناس تصديقه كما يصدقون ما ينطقون هم أنفسهم به...!!!
ومن هذه الآيات الكونية التي استشهد بها الحق (تبارك وتعالي) علي صدق وحيه في آخر رسالاته وكتبه قوله (وهو أصدق القائلين): {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} (الذريات:20).
فما هي آيات الله في الأرض الدالة علي طلاقة قدرته، وعظيم حكمته، وإحاطة سلطانه وعلمه؟ ما هذه الآيات التي استشهد بها (سبحانه وتعالى) ـ وهو الغني عن كل شهادة ـ علي صدق وحيه الذي أنزله علي خاتم أنبيائه ورسله؟
هذا الوحي الذي تعهد (سبحانه) بحفظه فحفظ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد بنفس اللغة التي أوحي بها (اللغة العربية)، سورة سورة، وآية آية، وكلمة كلمة، وحرفا حرفا، دون أدني زيادة أو نقصان، وهذا وحده من أعظم الشهادات علي صدق القرآن الكريم وإعجازه، وعلي أنه كلام الله الخالق، وعلي صدق الصادق الأمين الذي تلقاه عن ربه، وعلي صدق نبوته ورسالته (صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه وعلي من تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين).
الدلالة اللغوية لألفاظ الآية الكريمة:
(الأرض) في اللغة العربية اسم جنس للكوكب الذي نحيا عليه، تمييزا له عن بقية الكون، والذي يجمع تحت اسم السماوات أو السماء، ولفظة (الأرض) مؤنثة، والأصل أن يقال لها (أرضة) والجمع (أرضات) و(أرضون) بفتح الراء أو بتسكينها، وقد تجمع علي (أروض) و(آراض)، ولفظة (الأراضي) تستخدم علي غير قياس.
ويعبر (بالأرض) عن أسفل الشيء، كما يعبر بالسماء عن أعلاه، فكل ما سفل فهو (أرض)، وكل ما علا فهو سماء، ويقال: (أرض أريضة) أي حسنة النبت، زكية بينة الزكاء أو (الأراضة)، كما يقال:(تأرض) النبت بمعني تمكن علي الأرض فكثر، و(تأرض) الجدي إذا تناول نبت(الأرض)، ويقال أيضا:(الأرض النفضة) و(الأرض الرعدة) أي التي تنتفض وترتعد أثناء حدوث الهزات الأرضية والثورانات البركانية.
الأرض في القرآن الكريم :
جاء ذكر الأرض في أربعمائة وواحد وستين (461) موضعا من كتاب الله، منها ما يشير إلي الأرض ككل في مقابلة السماء، ومنها ما يشير إلي اليابسة التي نحيا عليها كلها، أو إلي جزء منها، (واليابسة هي جزء من الغلاف الصخري للأرض وهي كتل القارات السبع المعروفة والجزر المحيطية العديدة)، ومنها ما يشير إلي التربة التي تغطي صخور الغلاف الصخري للأرض.
وفي هذه الآيات إشارات إلي العديد من الحقائق العلمية عن الأرض والتي يمكن تبويبها بإيجاز علي النحو التالي:
(1) آيات تأمر الإنسان بالسير في الأرض، والنظر في كيفية بدء الخلق، وهي أساس المنهجية العلمية في دراسة علوم الأرض.
(2) آيات تشير إلي شكل وحركات وأصل الأرض، منها ما يصف كروية الأرض، ومنها ما يشير إلي دورانها، ومنها ما يؤكد علي عظم مواقع النجوم منها، أو علي حقيقة اتساع الكون و(الأرض جزء منه)، أو علي بدء الكون بجرم واحد (مرحلة الرتق)، ثم انفجار ذلك الجرم الأولي (مرحلة الفتق)، أو علي بدء خلق كل من الأرض والسماء من دخان، أو علي انتشار المادة بين السماء والأرض (المادة بين الكواكب وبين النجوم وبين المجرات)، أو علي تطابق كل من السماوات والأرض (أي تطابق الكون).
(3) آية قرآنية واحدة تؤكد أن كل الحديد في كوكبنا الأرض قد أنزل إليها من السماء إنزالا حقيقيا.
(4) آية قرآنية تؤكد حقيقة أن الأرض ذات صدع، وهي من الصفات الأساسية لكوكبنا.
(5) آيات قرآنية تتحدث عن عدد من الظواهر البحرية المهمة من مثل ظلمات البحار والمحيطات (ودور الأمواج الداخلية والسطحية في تكوينها)، وتسجير بعض هذه القيعان بحرارة عالية، وتمايز المياه فيها إلي كتل متجاورة لا تختلط اختلاطا كاملا، نظرا لوجود حواجز أفقية ورأسية غير مرئية تفصل بينها، ويتأكد هذا الفصل بين الكتل المائية بصورة أوضح في حالة التقاء كل من المياه العذبة والمالحة عند مصاب الأنهار، مع وجوده بين مياه البحر الواحد أو بين مياه البحار المتصلة ببعضها البعض.
(6) آيات قرآنية تتحدث عن الجبال، منها ما يصفها بأنها أوتاد، وبذلك يصف كلا من الشكل الخارجي (الذي علي ضخامته يمثل الجزء الأصغر من الجبل) والامتداد الداخلي (الذي يشكل غالبية جسم الجبل)، كما يصف وظيفته الأساسية في تثبيت الغلاف الصخري للأرض، وفي اتزان دورانها حول محورها، وتتأكد هذه الوظيفة في اثنتين وعشرين آية أخري.
وردت بها كذلك إشارات إلي عدد من الوظائف والصفات الإضافية للجبال من مثل دورانها مع الأرض، أو تكوينها من صخور متباينة في الألوان والأشكال والهيئة. أو دورها في إنزال المطر، وتغذية الأنهار، وشق الأودية والفجاج أو في جريان السيول.
(7) آيات قرآنية تشير إلي نشأة كل من الغلافين المائي والهوائي للأرض، وذلك بإخراج مكوناتهما من باطن الأرض، أو تصف الطبيعة الرجعية لغلافها الغازي، أو تؤكد حقيقة ظلام الفضاء الكوني الخارجي، أو علي تناقص الضغط الجوي مع الارتفاع عن سطح الأرض، أو علي تبادل الليل والنهار، وعلي رقة طبقة النهار حول نصف الأرض المواجه للشمس، أو علي أن ليل الأرض كان في بدء خلقها مضاء كنهارها، ثم محي ضوءه.
(8) آيات تشير إلي رقة الغلاف الصخري للأرض، وإلي تسوية سطحه وتمهيده وشق الفجاج والسبل فيه، وإلي تناقص الأرض من أطرافها.
(9) آيات تؤكد إسكان ماء المطر في الأرض مما يشير إلي دورة المياه حول الأرض وفي داخل صخورها، أو تؤكد علاقة الحياة بالماء، أو تلمح إلي إمكانية تصنيف الكائنات الحية.
(10) آيات تؤكد أن عملية الخلق قد تمت علي مراحل متعاقبة عبر فترات زمنية طويلة.
(11) آيات قرآنية تصف نهاية كل من الأرض والسماوات وما فيهما (أي الكون كله) بعملية معاكسة لعملية الخلق الأول كما تصف إعادة خلقهما من جديد، أرضا غير الأرض الحالية وسماوات غير السماوات القائمة.
هذه الحقائق العلمية لم تكن معروفة للإنسان قبل هذا القرن، بل إن الكثير منها لم يتوصل الإنسان إليه إلا في العقود القليلة المتأخرة منه عبر جهود مضنية، وتحليل دقيق لكم هائل من الملاحظات والتجارب العلمية في مختلف جنبات الجزء المدرك من الكون.
وأن السبق القرآني في الإشارة إلي مثل هذه الحقائق بأسلوب يبلغ منتهي الدقة العلمية واللغوية في التعبير، والإحاطة والشمول في الدلالة ليؤكد جانبا مهما من جوانب الإعجاز في كتاب الله، وهو جانب الإعجاز العلمي، ومع تسليمنا بأن القرآن الكريم معجز في كل أمر من أموره، إلا أن الإعجاز العلمي يبقي من أنجح أساليب الدعوة إلي الله في عصر العلم والتقنية الذي نعيشه.
ومن هنا تتضح أهمية القرآن الكريم في هداية البشرية في زمن هي أحوج ما تكون إلي الهداية الربانية. كما تتضح أهمية دراسات الإعجاز العلمي في كتاب الله مهما تعددت تلك المجالات العلمية.
وذلك لأن ثبات صدق الإشارات القرآنية في القضايا الكونية من مثل إشاراته إلي عدد من حقائق علوم الأرض، وهي من الأمور المادية الملموسة التي يمكن للعلماء التجريبيين إثباتها لأدعي إلي التسليم بحقائق القرآن الأخرى خاصة ما يرد منها في مجال القضايا الغيبية والسلوكية (من مثل قضايا العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات) والتي تمثل ركائز الدين.
ولا سبيل للإنسان في الوصول إلي قواعد سليمة لها وإلي ضوابط صحيحة فيها إلا عن طريق بيان رباني خالص لا يداخله أدني قدر من التصور البشري.
من آيات الله في خلق الأرض وجعلها صالحة للعمران
الأرض هي أحد أفراد المجموعة الشمسية التي تتكون من تسعة كواكب، أساسية، يدور كل منها حول نفسه، ويجري في مدار محدد له حول الشمس، وهناك مدار للكويكبات بين كل من كوكبي المريخ والمشتري يعتقد أنها بقايا لكوكب عاشر قد انفجر، وهناك احتمال بوجود كوكب حادي عشر لم يتم كشفه أو رصده بعد، ولكن تم التوقع بوجوده بواسطة الحسابات الفلكية.
وكواكب المجموعة الشمسية المعروفة لنا هي من الداخل إلي الخارج علي النحو التالي:عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، الكويكبات، المشتري، زحل، يورانوس، نبتيون، بلوتو، بروسوبينا (أوبريينا).
وهناك بعد ذلك نطق المذنبات التي تدور حول الشمس في مدارات مغلقة أو مفتوحة علي مسافات بعيدة جدا وتعتبر جزءا من المجموعة الشمسية.
ويقدر متوسط المسافة بين الشمس وأقرب كواكبها (عطارد) بحوالي 58 مليون كيلو متر (بين 46 مليون، 69 مليون كيلو متر)، ويقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بحوالي 150 مليون كيلو متر، ويبعد بلوتو عن الشمس بمسافة تقدر في المتوسط بحوالي 6000 مليون كيلو متر، ويقدر متوسط بعد الكوكب المقترح بروسوبينا بحوالي ضعف هذه المسافة (12 بليون كيلو متر)، ويبعد نطاق المذنبات عن الشمس عشرات أضعاف المسافة الأخيرة.
وعلي ذلك فالأرض هي ثالثة الكواكب بعدا عن الشمس، وهي تجري حول الشمس في فلك بيضاني (اهليلجي) قليل الاستطالة بسرعة تقدر بحوالي 30 كيلو متر في الثانية (29، 6 كيلو مترا في الثانية) لتتم دورتها هذه في سنة شمسية مقدارها365، 25 يوم تقريبا.
وتدور حول نفسها بسرعة مقدارها حوالي30 كيلو مترا في الدقيقة (27، 8 كيلو متر في الدقيقة) عند خط الاستواء فتتم دورتها هذه في يوم مقداره 24 ساعة تقريبا، يتقاسمه ليل ونهار، بتفاوت يزيد وينقص حسب الفصول، التي تنتج بسبب ميل محور دوران الأرض علي دائرة البروج بزاوية مقدارها ست وستون درجة ونصف تقريبا، ويعزي للسبب نفسه تتابع الدورات الزراعية، وهبوب الرياح، وهطول الأمطار، وفيضان الأنهار بإذن الله.
والأرض كوكب فريد في كل صفة من صفاته، مما أهله بجدارة أن يكون مهدا للحياة الأرضية بكل مواصفاتها، ولعل هذا التأهيل هو أحد مقاصد الآية القرآنية الكريمة التي يقول فيها الحق (تبارك وتعالي) وفي الأرض آيات للموقنين ولعل من أوضح هذه الآيات البينات ما يلي:
أولا: بعد الأرض عن الشمس :
يقدر متوسط المسافة بين الأرض والشمس بحوالي مائة وخمسين مليونا من الكيلو مترات، وقد استخدمت هذه المسافة كوحدة فلكية للقياس في فسحة الكون، ولما كانت كمية الطاقة التي تصل من الشمس إلي كل كوكب في مجموعتها تتناسب تناسبا عكسيا مع بعد الكوكب عن الشمس.
وكذلك تتناسب سرعة جريه في مداره حولها، بينما يتناسب طول سنة الكوكب تناسبا طرديا مع بعده عنها (وسنة الكوكب هي المدة التي يستغرقها في إتمام دورة كاملة حول الشمس)، اتضحت لنا الحكمة البالغة من تحديد بعد الأرض عن الشمس.
فقد قدرت الطاقة التي تشعها الشمس من كل سنتيمتر مربع علي سطحها بحوالي عشرة أحصنه ميكانيكية، ولا يصل الأرض سوي جزء واحد من بليوني جزء من هذه الطاقة الهائلة، وهو القدر المناسب لنوعية الحياة الأرضية، ولتنشيط القوي الخارجية التي تعمل علي تسوية سطح الأرض، وتكوين التربة، وتحريك دورة المياه حول الأرض، وغير ذلك من الأنشطة الأرضية.
ولطاقة الشمس الإشعاعية صور عديدة أهمها:
الضوء الأبيض، والحرارة (الأشعة تحت الحمراء)، والأشعة السينية، والأشعة فوق البنفسجية، ونسب هذه المكونات للطاقة الشمسية ثابتة فيما بينها، وإن اختلفت كمية الإشعاع الساقط علي أجزاء الأرض المختلفة باختلاف كل من الزمان والمكان.
وحزمة الضوء الأبيض تتكون من الأطياف السبعة (الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والنيلي، والبنفسجي) وتقدر نسبتها في الأشعة الشمسية التي تصل إلي الأرض بحوالي 38%.
ولها أهمية بالغة في حياة كل من النبات والحيوان والإنسان، وتبلغ أقصي مدي عند منتصف النهار عموما، وعند منتصف نهار الصيف خصوصا، لأن قوة إنارة أشعة الشمس لسطح الأرض تبلغ في الصيف ضعفي ما تبلغه في الشتاء.
أما الأشعة تحت الحمراء فتقدر نسبتها في أشعة الشمس التي تصل إلي الأرض بحوالي 53%، ولها دورها المهم في تدفئة الأرض وما عليها من صور الحياة، وفي كافة العمليات الكيميائية التي تتم علي سطح الأرض وفي غلافها الجوي، الذي يرد عنا قدرا هائلا من حرارة الشمس.
فكثافة الإشعاع الشمسي والتي تقدر بحوالي 2 سعر حراري علي كل سنتيمتر مربع من جو الأرض في المتوسط يتشتت جزء منها بواسطة جزيئات الهواء، وقطرات الماء، وهباءات الغبار السابحة في جو الأرض، ويمتص جزء آخر بواسطة كل من غاز الأوزون وبخار الماء، ومتوسط درجة الحرارة علي سطح الأرض يقدر بحوالي عشرين درجة مئوية وإن تراوحت بين حوالي 74 درجة مئوية تحت الصفر في المناطق القطبية المتجمدة و55 درجة مئوية في الظل في أشد المناطق والأيام قيظا.
أما الأشعة فوق البنفسجية فتقدر نسبتها بحوالي %9 من مجموع أشعة الشمس التي تصل إلي الأرض وذلك لأن غالبيتها تمتص أو ترد بفعل كل من النطاق المتأين ونطاق الأوزون الذي جعلهما ربنا (تبارك وتعالى) من نطق الحماية للحياة علي الأرض.
ويقدر ما يصل إلي الأرض من طاقة الشمس بحوالي ثلاثة عشر مليون حصانا ميكانيكيا علي كل كيلو متر مربع من سطح الأرض في كل ثانية وتقدر قيمته ببلايين الدولارات مما لا قبل للبشرية كلها بتحمله أو وفاء شكر الله عليه...!!!
ولو كانت الأرض أقرب قليلا إلي الشمس لكانت كمية الطاقة التي تصلها كافية لإحراق كافة صور الحياة علي سطحها، ولتبخير مياهها، ولخلخلة غلافها الغازي.
فكوكب عطارد الذي يقع علي مسافة تقدر بحوالي 0.39 من بعد الأرض عن الشمس تتراوح درجة حرارة سطحه بين 220 درجة مئوية في وجهه المضيء و27 درجة مئوية في وجهه المظلم، وكوكب الزهرة الذي يقع علي مسافة تقدر بحوالي0.72 من بعد الأرض عن الشمس تصل درجة الحرارة علي سطحه إلي 457 درجة مئوية (730 درجة مطلقة).
وعلي النقيض من ذلك فإن الكواكب الخارجة عن الأرض (المريخ، المشتري، زحل، يورانوس، نبتيون، بلوتو) لا يصلها قدر كاف من حرارة الشمس فتعيش في برودة قاتلة لا تقوي الحياة الأرضية علي تحملها.
ولذلك فإنه من الواضح أن بعد الأرض عن الشمس قد قدره ربنا (تبارك وتعالي) بدقة بالغة تسمح للأرض بتلقي قدر من طاقة الشمس يتناسب تماما مع حاجات جميع الكائنات الحية علي سطحها، وفي كل من مياهها، وهوائها بغير زيادة أو نقصان إلا في الحدود الموائمة لطبيعة الحياة الأرضية في مختلف فصول السنة.
فلو كانت الأرض علي مسافة من الشمس تقدر بنصف بعدها الحالي لزادت كمية الطاقة التي تتلقاها أرضنا منها إلي أربعة أمثال كميتها الحالية ولأدي ذلك إلي تبخير الماء وخلخلة الهواء واحتراق جميع صور الحياة علي سطحها..!!!
ولو كانت الأرض علي ضعف بعدها الحالي من الشمس لنقصت كمية الطاقة التي تتلقاها إلي ربع كميتها الحالية، وبالتالي لتجمدت جميع صور الحياة واندثرت بالكامل.
وباختلاف بعد الأرض عن الشمس قربا أو بعدا يختلف طول السنة، وطول كل فصل من الفصول نقصا أو زيادة مما يؤدي إلي اختلال ميزان الحياة علي سطحها، فسبحان من حدد للأرض بعدها عن الشمس وحفظها في مدارها المحدد وحفظ الحياة علي سطحها من كل سوء...!!!
ثانيا: أبعاد الأرض:
يقدر حجم الأرض بحوالي مليون كيلو متر مكعب، ويقدر متوسط كثافتها بحوالي 5.52 جرام للسنتيمتر المكعب، وعلي ذلك فإن كتلتها تقدر بحوالي الستة آلاف مليون مليون مليون طن، ومن الواضح أن هذه الأبعاد قد حددها ربنا (تبارك وتعالى) بدقة وحكمة بالغتين.
فلو كانت الأرض أصغر قليلا لما كان في مقدورها الاحتفاظ بأغلفتها الغازية، والمائية، وبالتالي لاستحالت الحياة الأرضية، ولبلغت درجة الحرارة علي سطحها مبلغا يحول دون وجود أي شكل من أشكال الحياة الأرضية، وذلك لأن الغلاف الغازي للأرض به من نطق الحماية ما لا يمكن للحياة أن توجد في غيبتها.
فهو يرد عنا جزءا كبيرا من حرارة الشمس وأشعتها المهلكة، كما يرد عنا قدرا هائلا من الأشعة الكونية القاتلة، وتحترق فيه بالاحتكاك بمادته أجرام الشهب وأغلب مادة النيازك، وهي تهطل علي الأرض كحبات المطر في كل يوم.
ولو كانت أبعاد الأرض أكبر قليلا من أبعادها الحالية لزادت قدرتها علي جذب الأشياء زيادة ملحوظة مما يعوق الحركة، ويحول دون النمو الكامل لأي كائن حي علي سطحها إن وجد، وذلك لأن الزيادة في جاذبية الأرض تمكنها من جذب المزيد من صور المادة والطاقة في غلافها الغازي فيزداد ضغطه على سطح الأرض.
كما تزداد كثافته فتعوق وصول القدر الكافي من أشعة الشمس إلى الأرض، كما قد تؤدي إلى احتفاظ الأرض بتلك الطاقة فتزداد باستمرار وترتفع حرارتها ارتفاعا يحول دون وجود أي صورة من صور الحياة الأرضية علي سطحها.
ويتعلق طول كل من نهار وليل الأرض وطول سنتها، بكل من بعد الأرض عن الشمس، وبأبعادها ككوكب يدور حول محوره، ويجري في مدار ثابت حولها.
فلو كانت سرعة دوران الأرض حول محورها أمام الشمس أعلي من سرعتها الحالية لقصر طول اليوم الأرضي (بنهاره وليله) قصرا مخلا، ولو كانت أبطأ من سرعتها الحالية لطال يوم الأرض طولا مخلا، وفي كلتا الحالتين يختل نظام الحياة الأرضية اختلالا قد يؤدي إلي إفناء الحياة علي سطح الأرض بالكامل.
إن لم يكن قد أدي إلي إفناء الأرض ككوكب إفناء تاما، وذلك لأن قصر اليوم الأرضي أو استطالته (بنهاره وليله) يخل إخلالا كبيرا بتوزيع طاقة الشمس علي المساحة المحددة من الأرض.
وبالتالي يخل بجميع العمليات الحياتية من مثل النوم واليقظة، والتنفس والنتح، وغيرها، كما يخل بجميع الأنشطة المناخية من مثل الدفء والبرودة، والجفاف والرطوبة، وحركة الرياح والأعاصير والأمواج، وعمليات التعرية المختلفة، ودورة المياه حول الأرض وغيرها من أنشطة.
كذلك فلو لم تكن الأرض مائلة بمحورها علي مستوي مدار الشمس ما تبادلت الفصول، وإذا لم تتبادل الفصول اختل نظام الحياة علي الأرض.
وبالإضافة إلي ذلك فإن تحديد مدار الأرض حول الشمس بشكله البيضاني (الإهليلجي)، وتحديد وضع الأرض فيه قربا وبعدا علي مسافات منضبطة من الشمس يلعب دورا مهما في ضبط كمية الطاقة الشمسية الواصلة إلي كل جزء من أجزاء الأرض وهو من أهم العوامل لجعلها صالحة لنمط الحياة المزدهرة علي سطحها، وهذا كله ناتج عن الاتزان الدقيق بين كل من القوة الطاردة (النابذة) المركزية التي دفعت بالأرض إلي خارج نطاق الشمس، وشدة جاذبية الشمس لها.
ولو اختل هذا الاتزان بأقل قدر ممكن فإنه يعرض الأرض إما للابتلاع بواسطة الشمس حيث درجة حرارة قلبها تزيد عن خمسة عشر مليونا من الدرجات المطلقة، أو تعرضها للانفلات من عقال جاذبية الشمس فتضيع في فسحة الكون المترامية فتتجمد بمن عليها وما عليها، أو تحرق بواسطة الأشعة الكونية، أو تصطدم بجرم آخر، أو تبتلع بواسطة نجم من النجوم.
والكون من حولنا مليء بالمخاطر التي لا يعلم مداها إلا الله (تعالى)، والتي لا يحفظنا منها إلا رحمته (سبحانه وتعاليى) ويتمثل جانب من جوانب رحمة الله بنا في عدد من السنين المحددة التي تحكم الأرض كما تحكم جميع أجرام السماء في حركة دقيقة دائبة لا تتوقف ولا تتخلف حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ثالثا: بنية الأرض:
أثبتت دراسات الأرض أنها تنبني من عدة نطق محددة حول كرة مصمتة من الحديد والنيكل تعرف باسم لب الأرض الصلب(الداخلي) ولهذا اللب الصلب كما لكل نطاق من نطق الأرض دوره في جعل هذا الكوكب صالحا للعمران بالحياة الأرضية في جميع صورها.
وتقسم النطق الداخلية للأرض علي أساس من تركيبها الكيميائي أو علي أساس من صفاتها الميكانيكية باختلافات بسيطة بين العلماء، وتترتب بنية الأرض من الداخل إلي الخارج علي النحو التالي:
(1) لب الأرض الصلب (الداخلي)
وهو عبارة عن نواة صلبة من الحديد (%90) وبعض النيكل (%9) مع قليل من العناصر الخفيفة من مثل الفوسفور، الكربون، السيليكون (%1)، وهو نفس تركيب النيازك الحديدية تقريبا.
ويبلغ قطر هذه النواة حوالي 2402 كيلو متر، ويمتد نصف قطرها من مركزها علي عمق 6371 كيلو مترا إلي عمق 5170 كيلو مترا تحت سطح الأرض.
ولما كانت كثافة الأرض في مجموعها تقدر بحوالي 5.52 جرام للسنتيمتر المكعب، بينما تختلف كثافة قشرة الأرض بين 2.7 جرام للسنتيمتر المكعب، وحوالي 3 جرامات للسنتيمتر المكعب، فإن الاستنتاج المنطقي يؤدي إلي أن كثافة لب الأرض لابد وأن تتراوح بين 10 و 13.5 جرام للسنتيمتر المكعب.
(2) نطاق لب الأرض السائل (الخارجي)
وهو نطاق سائل يحيط باللب الصلب، وله نفس تركيبه الكيميائي تقريبا وإن كانت مادته منصهرة، ويبلغ سمكه 2275 كيلو مترا (من عمق 5170 كيلو مترا إلي عمق 2885 كيلو مترا تحت سطح الأرض).
ويفصل هذا النطاق عن اللب الصلب منطقة انتقالية يبلغ سمكها 450 كيلو مترا تمثل بدايات عملية الانصهار وعلي ذلك فهي شبه منصهرة (وتمتد من عمق 5170 كيلو مترا إلي عمق 4720 كيلو مترا تحت سطح الأرض) ويكون كل من لب الأرض الصلب ولبها السائل حوالي 31% من كتلتها.
(3)، (4)، (5) نطق وشاح الأرض
يحيط وشاح الأرض بلبها السائل، ويبلغ سمكه حوالي 2765 كيلو مترا (من عمق 2885 كيلو مترا إلي عمق 120 كيلو مترا تحت سطح الأرض).
ويفصله إلي ثلاثة نطق مميزة مستويان من مستويات انقطاع الموجات الاهتزازية الناتجة عن الزلازل، يقع أحدهما علي عمق 670 كيلو مترا، ويقع الآخر علي عمق 400 كيلو متر من سطح الأرض، وبذلك ينقسم وشاح الأرض إلي وشاح سفلي (يمتد من عمق 2885 كيلو متر إلي عمق 670 كيلو متر تحت سطح الأرض). و
وشاح متوسط (يمتد من عمق 670 كيلو مترا إلي عمق 400 كيلو مترا تحت سطح الأرض)، ووشاح علوي (يمتد من عمق 400 كيلو مترا إلي عمق يتراوح بين 65 كيلو مترا تحت المحيطات، وعمق 120 كيلو مترا تحت سطح القارات).
وقمة الوشاح العلوي (من عمق 65 ـ120 كيلو مترا إلي عمق 200 كيلو متر تحت سطح الأرض) يعرف باسم نطاق الضعف الأرضي لوجوده في حالة لزجة، شبه منصهرة (أي منصهرة انصهارا جزئيا في حدود نسبة 1%).
(6)، (7) الغلاف الصخري للأرض
ويتراوح سمكه بين 65 كيلو مترا تحت قيعان البحار والمحيطات، 120 كيلو مترا تحت القارات، ويقسمه خط انقطاع الموجات الاهتزازية المسمي باسم الموهو إلي قشرة الأرض وإلي ما تحت قشرة الأرض وتمتد قشرة الأرض إلي عمق يتراوح بين5 و8 كيلو مترات تحت قيعان البحار والمحيطات، وبين 60 و80 كيلو مترا تحت القارات، ويمتد ما تحت القشرة الي عمق 120 كيلو مترا تحت سطح الأرض.
وللأرض مجال جاذبية يزداد مع العمق حتى يصل إلي قمته عند الحد الفاصل بين وشاح الأرض ولبها (علي عمق 2885 كيلو مترا تحت سطح الأرض) ثم يبدأ في التناقص (بسبب الجذب الذي يحدثه عمود الصخور فوق هذا العمق) حتى يصل إلي الصفر في مركز الأرض.
ولولا جاذبية الأرض لهرب منها غلافها الغازي، ولو حدث ذلك ما أمكنها أن تكون صالحة لاستقبال الحياة، وذلك لأن هناك حدا أدني لسرعة الهروب من جاذبية الأرض يقدر بحوالي 11.2 كيلو متر في الثانية، بمعني أن الجسم لكي يستطيع الإفلات من جاذبية الأرض فعليه أن يتحرك في عكس اتجاه الجاذبية بسرعة لا تقل عن هذه السرعة.
ولما كانت حركة جسيمات المادة في الغلاف الغازي للأرض أقل من تلك السرعة بكثير فقد أمكن للأرض (بتدبير من الله تعالى) أن تحتفظ بغلافها الغازي، ولو فقدته ولو جزئيا لاستحالت الحياة علي الأرض، ولأمطرت بوابل من الأشعات الكونية والشمسية، ولرجمت بملايين من النيازك التي كانت كفيلة بتدميرها...!!!
كذلك فإن للأرض مجالا مغناطيسيا ثنائي القطبية، يعتقد أن له صلة وثيقة بلب الأرض الصلب وحركة إطاره السائل من حوله، ويتولد المجال المغناطيسي للأرض كما يتولد لأي جسم آخر من حركة المكونات فيها وفيه، وذلك لأن الجسيمات الأولية للمادة (وهي في غالبيتها مشحونة بالكهرباء) تتحرك سواء كانت طليقة أو مرتبطة في داخل ذرات المادة.
وهي حينما تتحرك تولد مجالا مغناطيسيا، والمجال المغناطيسي لأية نقطة في فسحة الكون يمثل بمحصلة اتجاه تمتد من القطب المغناطيسي الجنوبي للمادة إلي قطبها الشمالي في حركة معاكسة لاتجاه عقرب الساعة ومماثلة لحركة الطواف حول الكعبة المشرفة.
والمجال المغناطيسي للأرض كون لها (بإرادة الله تعالى) غلافا مغناطيسيا يعرف باسم النطاق المغناطيسي للأرض وهو يلعب دورا مهما في حماية الأرض من الأشعة الكونية بتحكمه في حركة الجسيمات المشحونة القادمة إلينا من فسحة الكون فيجعلها تدور من أحد قطبي الأرض المغناطيسيين إلي الآخر دون الدخول إلي المستويات المنخفضة من غلافها الغازي.
ويمتد المجال المغناطيسي للأرض إلي مسافة تقدر بخمسين ألف كيلو متر فوق سطحها، وكونت الجسيمات المشحونة القادمة من السماء والتي أسرها المجال المغناطيسي للأرض زوجين من أحزمة الإشعاع هلالي الشكل علي ارتفاع الفي كيلو متر وخمسين ألف كيلو متر علي التوالي يحيط كل زوج منهما بالأرض من احدي جهاتها.
ويحيط الزوج الآخر من الجهة الأخرى وهذه الحلقات من أحزمة الإشعاع تحاصر الأرض مع مستوي مركزي منطبق علي المستوي الاستوائي المغناطيسي لها، وتحميها من وابل الأشعة الكونية المتساقط باتجاهها في كل لحظة.
ولولا هذه الحماية الربانية لهلكنا وهلكت جميع صور الحياة من حولنا، والجرعة الإشعاعية في أحزمة الإشعاع تلك عالية الشدة لا تطيقها أية صورة من صور الحياة الأرضية، وتبلغ الشدة الإشعاعية مداها في نطاق المنطقة الاستوائية للحزام الإشعاعي للأرض.
وللأرض كذلك نشاط ديناميكي يتمثل في حركة ألواح الغلاف الصخري لها، الممزق بشبكة هائلة من الصدوع، وتتحرك تيارات الحمل العنيفة المندفعة من نطاق الضعف الأرضي لتحرك تلك الألواح إما متباعدة عن بعضها البعض فتكون قيعان البحار والمحيطات وتساعد علي عملية اتساعها وتجديد مادتها باستمرار.
وإما مصطدمة مع بعضها البعض فتكون السلاسل الجبلية، وتصاحب العمليتان بتكون السلاسل الجبلية وبالعديد من الهزات الأرضية، و الثورات البركانية التي تثري سطح الأرض بالخيرات المعدنية والصخرية المختلفة.
والجبال لعبت ولا تزال تلعب دورا رئيسيا في تثبيت الغلاف الصخري للأرض، ولولا هذا التثبيت ما تكونت التربة، ولا دارت دورة المياه، ولا خزنت المياه تحت السطحية، ولا نبتت نبتة، ولا أمكن لكائن حي أن يستقر علي سطح الأرض.
كذلك لعبت الجبال ولا تزال تلعب دورا مهما في تثبيت الأرض ككوكب يدور حول نفسه، وتقلل من درجة ترنحه كما تقلل قطع الرصاص التي توضع في إطارات السيارات من معدل ترنحها. ولولا نطاق الضعف الأرضي ما أمكن لهذه العمليات الداخلية للأرض أن تتم، وهي من ضرورات جعلها صالحة للعمران.
هذه بعض آيات الله في الأرض وهي أكثر من أن تحصي في مقال واحد، أشارت إليها هذه الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا (تبارك وتعالي): {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ}.
فسبحان من خلق الأرض بهذا القدر من الأحكام والإتقان، وترك فيها من الآيات ما يشهد لخالقها بطلاقة القدرة، وإحكام الصنعة، وشمول العلم كما يشهد له (تعالى) بجلال الربوبية وعظمة الألوهية، والتفرد بالوحدانية.
وسبحان الذي أنزل هذه الآية الكريمة المعجزة من قبل ألف وأربعمائة سنة ولم يكن لأحد من الخلق إلمام بتلك الآيات الأرضية والتي لم تتكشف أسرارها للإنسان إلا منذ عقود قليلة من الزمان، وفي ذلك من الشهادات القاطعة بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وأن نبينا محمدا (صلي الله عليه وآله وسلم) هو خاتم أنبياء الله ورسله، وأنه (صلوات الله وسلامه عليه) كان موصولا بالوحي، ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض.
وصدق الله العظيم إذ يصفه بقوله الحق: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}... (النجم: 3 ـ10).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق