السبت، 12 مارس 2011

الأزهر: المنارة الإسلامية السامقة والرباط القوي بين الشعوب الإسلامية

الأزهر: المنارة الإسلامية السامقة والرباط القوي بين الشعوب الإسلامية

بقلم: د. أحمد ولد حبيب الله
 
• أستاذ الأدب والحضارة في جامعة انواكشوط؛
• خريج جامعة القاهرة ومؤسس الجمعية الموريتانية لخريجي الجامعات والمعاهد المصرية؛
• الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين
(ألقيت هذه الورقة في محاضرة بالمركز الثقافي المصري بانواكشوط يوم 21/04/2010)
المقدمة:

تؤلف الجماعة الإسلامية أمة واحدة تربطها عقيدة واحدة وقيم روحية سامية، وشعور قوي بوحدة الهدف والمصير، ومن حسن الحظ أن الأزهر الشريف جسد "هذا المعنى الكبير بطلابه الوافدين من المشرق والمغرب، ودعاته المنتشرين في شتى الأنحاء، وعلمائه الأجلاء الذين قصدوه من كل حدب وصوب( )"، فأضافوا الكثير من العلم والحكمة، وعمقوا الإدراك بجوهر الحياة والالتزام بالتعاليم الإسلامية الصحيحة، ورسخوا الولاء التام للإسلام، والاهتداء بالمنهج العلمي والتقصي رغم اختلافهم في الأوطان والألوان واللسان،

وذلك أن كتابات جمال الدين الأفغاني ومحمد الخضر حسين (التونسي) ومحمد نور الحسن (السوداني)، وعيسى منون (المصري) ومحمد محمود بن التلاميذ (الموريتاني) قد امتزجت بكتابات رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده ومصطفى عبد الرازق وعبد الحميد سليم ومحمد شاكر ومحمد بخيت ومحمد مصطفى المراغي وأحمد حسن الزيات ومحمد حسنين مخلوف ومحمود شلتوت وعبد الوهاب خلاف وعبد الحليم محمود.. ( )" ومحمد سيد طنطاوي وغيرهم من العلماء كثير من أبناء العالم الإسلامي، ومنذ إنشائه ظل الأزهر الشريف على مدى سبعين سنة وألف سنة، كعبة يقصدها: "العلماء والفقهاء وطلاب العلم، وجلس فيه قاضي القضاة، والمحتسب، وبذلك اجتمعت في مكان واحد: قدسية المسجد، وكرامة الجامعة وسمو دار العدل، وأصبح الجامع الكبير محرابا للعبادة، ومنارة للعلم والمعرفة، يسعى إليه المسلمون، طلبا للعدل، والحق والفتوى.


وكان الأزهر على مر القرون القلعة الشامخة التي حفظت للقرآن لغته، وللحديث مكانته، وللدين تعاليمه وللشريعة أحكامها، وللفقه أصوله وضوابطه، وللأمة الإسلامية تراثها الحضاري الفريد، وأصالتها الفكرية، الراسخة في مواجهة محاولات الغزو الثقافي من الخارج، وضد عوامل الاضمحلال والتخلف التي تعرضت لها.. ( )" الأمة. والحق أنه "بقدر ما كان الأزهر عالميا بشأنه وطبيعته، فقد كان مصريا بهويته، وكينونته؛ لأن مصر التي اهتدت بنور الإسلام (عام 20هـ)، واحتضنت تعاليمه، ومبادئه كانت لها سماتها الحضارية المتميزة، وتقاليدها ذات الجذور العميقة التي كان من المتعين أن تصبح رافدا أساسيا في تيار الحضارة الإسلامية، وبوتقة تنصهر فيها الآراء، وتتفاعل. ومن هنا؛ فقد كان طبيعيا أن يغير الإمام الشافعي ـ عالم قريش الذي ملأ طباق الأرض علما ـ كثيرا من مفاهيمه، بعد أن عاش على أرض مصر وارتوى من نبع حضارتها، وفيض عطائها.. وأول ما قدمته مصر إلى الأزهر روح التسامح والتكافل والبعد عن التعصب ونبذ الصراعات المذهبية.. ( )".

"إن الأزهر ـ الذي هو أرفع مؤسسة علمية وتربوية في العالم الإسلامي (سيبقى) رائدا للتقدم والازدهار في كل عصر وعنوانا لقدرة الشعوب الإسلامية، في كل مكان على السبق الحضاري والانجاز العلمي، لأن الأمم لا تصنع المجد وتكتب التاريخ إلا بالعلم والفكر، والعلماء الصالحون هم القادرون وحدهم على رسم صورة المستقبل وكسر حاجز الزمن.. ( )" وقد ظل الأزهر ومازال يتطور ويزدهر مواكبا الزمن، حتى صار صرحا علميا شامخا ومعلما حضاريا راسخا، فانتقل من جامع ذي أروقة للتعليم بين الأعمدة إلى معاهد وكليات، ففي الربع الأخير من القرن العشرين الميلادي، انتقلت معاهد الأزهر من ستة عشر معهدا إلى ألف معهد وكليات جامعة الأزهر من ثلاث إلى أكثر من أربعين كلية( ) في كافة التخصصات الشرعية والأدبية والطبية والزراعية، والهندسية وغيرها، وبذلك جمع الأزهر بين الأصالة، والمعاصرة فكان منارة هادية، ورباطا قويا بين أبناء الأمة.

وسوف نقارب الموضوع في نقاط صغيرة:

1 ـ من المسجد إلى المكتب والمحضرة إلى القرويين إلى الأزهريين

إن للمسجد مكانة سامقة في الإسلام منذ العهد الأول لظهوره، فهو منطلق الدعوة والجهاد والتعليم وتدبير شأن الدين، والدنيا، ولذلك صار المسجد "أجمل ما تقع عليه عين الإنسان في عالم الإسلام، فسواء كنت في قرية صغيرة خافية في بطن الريف أو مستكنة خلف كثبان الرمال في الصحراء أو راقدة في لحف جبل أو كنت في عاصمة كبيرة مترامية الأرجاء، متدفقة الحركة، عامرة بالعمائر السامقة، فإن المساجد بمآذنها المنسرحة الذاهبة في الجو، مشيرة إلى السماء، وبقبابها الأنيقة تضيف إلى المنظر عنصرا من الجلال والجمال الروحي لا يتأتى له بدونها؛ فهي تزيل الوحشة عن تواضع مباني القرية وصغرها، وتنفي الجمود عن غرور مباني العواصم، وتضفي على مقطع الأفق في القرية والمدينة توازنا يريح النفس ولمسة من جمال روحي هادئ رقيق، ويتجلى لك ذلك في أضفى صورة ساعة المغيب عندما يختفى حاجب الشمس وراء الأفق، مخلفا في السماء وهجا أحمر برتقاليا يشوبه شيء من بنفسج، وبينما تتحول صورة المباني إلى كتل سوداء متراصة؛ كأنها أشباح تبدو لك المساجد بمآذنها وقبابها ظلالا جميلة تضفي على الشفق الدامي من ورائها جمالا يحس به قلبك أكثر من ما تراه عيناك.

وفي لحظة، قبل أن يهبط رداء الليل يخيل إليك أن كل ما تراءى عند مقطع الأفق قد تلاشى ولم يبق إلا المساجد، ولأمر ما تحس أنها يقظى بينما كل ما حولها قد رقد بين أحضان الليل،رمزا للأمل في رحمة الله، للهالكين من أهل الأرض.. ( )"

إن المساجد لها شأن باهر الشعاع، رائع الإشعاع الثقافي والروحي؛ لأنها مدرسة وجامعة وجامع للصلاة والاعتكاف ومجالس الشرح والتوضيح والتخطيط والإدارة والجهاد، فعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان أول ما فعله هو بناء مسجد قباه ثم بنى مسجده( ) في الموضع الذي بركت فيه ناقته، ليبدأ بناء أول دولة إسلامية انطلقت من مسجد مبني من اللبن ومسقوف بالجريد وعلى هديه عليه الصلاة والسلام سار المسلمون، فعندما يحلون في أي مكان يشيدون المساجد قبل أي مبني آخر.

وعند ما أراد الفاطميون الانتقال من المغرب إلى القاهرة أسسوا جامع القاهرة أو الجامع الأزهر ليكون موضعا للصلاة والدعوة للدولة الفاطمية على غرار جامع القرويين، أقدم جامعة إسلامية شيدت قبل الأزهر بخمس عشرة ومائة سنة على يد علماء تخرجوا في جامع القيروان في تونس، وقد بنيت جامعة القرويين في فاس عام 245هـ، 859م بتمويل من فاطمة بنت أبي عبد الله محمد بن عبد الله الفهري القيرواني، وحفرت في فنائه بئر للسقاية.

وقد اشترطت هذه الجامعة شروطا ينبغي أن تتوفر في الطالب الذي يريد الدراسة فيها ومنها: حفظ القرآن وتجويده ومعرفة مبادئ العلوم الشرعية واللغوية، والسيرة النبوية العطرة( ) وهذه الشروط تشبه الشروط التي اشترطتها جامعة الأزهر بعد ذلك. ومن المعروف أنه كان في أرض الكنانة قبل وصول الدولة الفاطمية إليها "ثلاثة مساجد جامعة هي: جامع عمر بن العاص الذي أسس سنة 21هـ (بعد فتح مصر بسنة) وسمي في عهد ازدهاره "تاج الجامع" ثم بنى الوالي العباسي الفضل بن صالح سنة 160هـ (سنة بناء شنقيط الأولى) المسجد الجامع الثاني ثم بنى أحمد بن طولون المسجد الثالث الجامع سنة 263هـ، وهو الذي نسب إليه.. ( )" و"كانت هذه المساجد الجامعة الثلاثة" منارات إسلامية في مصر قبل بناء المنارة الإسلامية السامقة الأزهر بحوالي مائتي عام فمتى أسس الأزهر؟

أ‌. الأزهر: التأسيس والتسمية:

يكاد المؤرخون يتفقون على أنه "لما أسس جوهر الصقلي مدينة القاهرة في اليوم السابع عشر من شهر شعبان سنة 358هـ، بعد أن استولى على مدينة مصر (الفسطاط) رأى أن لا يفاجئ المسلمين الذين يدينون بمذهب أهل السنة في مساجدهم بشعائر المذهب الفاطمي، خشية إثارة حفيظة المصريين عليه، ومن ثم عوَّل على بناء مسجد يكون رمزا للسيادة الفاطميين على مصر، فشرع في بناء الجامع الأزهر في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 359هـ، 970م وكمل بناؤه في التاسع من رمضان سنة 361هـ، 972م، وأقيمت فيه صلاة الجمعة لأول مرة في اليوم السابع من رمضان من هذه السنة( ) وقد "سمي الجامع الأزهر في بادئ الأمر بجامع القاهرة نسبة إلى العاصمة الجديدة التي أنشأها جوهر... وأما التسمية، بالجامع الأزهر، فيظهر أنها أطلقت عليه في عصر العزيز بالله الفاطمي، بعد إنشاء القصور الفاطمية وقيل: إنما سمي بذلك لما سيكون له من الشأن العظيم والمكانة الكبرى بازدهار العلوم فيه. على أنه ليس ببعيد أن يكون الفاطميون الذين ينسبون إلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سموه: الأزهر؛ إشادة بذكر جدتهم فاطمة الزهراء.. ( )"

ب‌. الأزهر الجامع والجامعة القديمة

كما قلنا آنفا "لم ينشا الجامع الأزهر في بداية الأمر؛ ليكون جامعة أو معهدا للدراسة، بل أنشئ، ليكون مسجدا للخلافة الفاطمية، ومركزا لنشر دعوتها" في القاهرة وقد "ظهرت فكرة الدراسة بالجامع الأزهر في أواخر عهد المعز لدين الله الفاطمي في صفر من سنة 365هـ (أكتوبر 975م) حيث جلس قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان المغربي في الجامع الأزهر، وأخذ يشرح كتاب "الاقتصار" الذي وضعه أبوه، ويمليه على الناس، ويشمل الكتاب مسائل فقهية أستمدها من أئمة أهل البيت( )" ومن ثم "كان نظام الحلقة الدراسية هو أساس الدراسة في الأزهر، فيجلس الأستاذ، ليقرأ درسه في حلقة بين تلاميذه.. ( )" وهكذا ظل الأزهر يؤدي رسالته بوصفه جامعا يؤمه الناس للصلاة وجامعة لدراسة شتى العلوم الإسلامية وأطمأن المصريون إلى الدروس التي تلقى في رحابه وحول أعمدته، وذلك لما اتسمت به نظم الدراسة فيه من طابع الحرية (كالمحضرة الموريتانية)، فالأساتذة يعقدون حلقاتهم حول أعمدة المسجد حيث يجلس الأستاذ أمام العمود؛ مستقبلة القبلة، والطلبة من حوله على هيئة حلقات، فإذا كثر عدد المحاورين جلس الأستاذ على كرسي من خشب أو جريد وجلس الطلاب أمامه بلا تحلق، ثم يقرأ الدرس عليهم، فإذا ختمه قام الطلاب بتقبيل يديه إجلالا وتقديرا.. ( )". وكنظام المحضرة الموريتانية "ليس على الأستاذ (في الأزهر) أن يلحظ حال الطالب من اجتهاد أو تكاسل أو حضور أو غياب، فالطالب موكول لنفسه (غالبا). وليس هناك امتحان شهري أو سنوي، ومن كان له اجهاد شخصي صرف جهده إلى حفظ المتون، وضمن بذلك النحاج؛ لأن من "حفظ المتون حاز الفنون" وقد ظل التعليم في الأزهري حتى عهد محمد علي باشا على ذلك النحو، وعندما جاءت رحلة نابليون على مصر "أدرك علماء الأزهر بعد الشقة بينهم والغرب المسيحي.. ( )"، فقام بعضهم بالدعوة إلى تطوير الدراسة الأزهرية بإدخال العلوم العصرية، إليها كما يقول الجبرتي وحسن العطار الذب اتصل بالثقافة الفرنسية وتحمس لها، وعندما تولى العطار نفسه مشيخة الأزهر عام 1246هـ إلى أن توفي عام 1250هـ عمل على تدريس الجغرافيا والعلوم والفلسفة ثم أنشئ مجلس إدارة الأزهر الذي صار الإمام محمد عبده عضوا فيه، فقام بوضع نظام الدراسة والامتحان( ) وأسند دراسة اللغة إلى الشيخ محمد محمود ولد التلاميذ الشنقيطي. ثم جاء قانون تطوير الأزهر عام 1381هـ، (بناء أول جامع موريتاني بعد قيام الدولة الحديثة) 1961م في عهد جمال عبد الناصر الذي نص على "أن شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر ويختار من هيئة مجمع البحوث الإسلامية( ) ويعين بقرار جمهوري، وبموجب ذلك القانون صارت هيئات الأزهر هي: المشيخة ومجمع البحوث الإسلامية وجامعة الأزهر.

2 ـ الأزهر الجامعة العصرية

أ ـ من الأروقة بين الأعمدة إلى المدينة الجامعية

لقد كان نظام الدراسة في الأزهر الجامع يتم في الأروقة جمع رواق بين عمودين من الجامع، ويخصص الرواق لطائفة من طلابه تقيم فيه إقامة مجانية وهو جناح أو عدة حجرات مخصصة للمصريين والمغتربين من أبناء الأمة الإسلامية مثل رواق الشام وشمال أفريقيا ورواق المغاربة. ولكل رواق شيخ من الطلبة المقيمين فيه.. ( )". وقد استبدلت هذه الأروقة بمدينة البعوث التي توجد فيها كافة الخدمات، الإسلامية فقد أنشأت الحكومة المصرية ـ وهي الحريصة على راحة الوافدين إلى الأزهر طلبا للعلم ـ مدينة البعوث الإسلامية، تجمع شملهم وترعى شؤونهم وتوفر لهم أسباب الحياة الكريمة، والرعاية الشاملة: صحيا وغذائيا واسكانا إلى جانب الرعاية العلمية والاجتماعية، وتقع هذه المدينة بالعباسية القبلية على امتداد الطريق الموصل من الأزهر إلى الدراسة على أرض مساحتها حوالي ثلاثين فدانا، أقيمت المباني على عشرين منها، وترك الباقي حدائق ومتنزهات وشوارع داخلية. وتشمل المدينة على 41 مبنى سكنيا، يتكون كل مبنى منها من ثلاث طوابق سكنية، وكل طابق يتكون من جناحين، يتسع كل جناح منها لإقامة عشرين طالبا، ولكل جناح مرافقه العامة.. ( )".

ب ـ الجامعة العصرية

أدى تطوير الأزهر إلى تحويله إلى أكبر جامعة تحوي على ألف معهد وأكثر من أربعين كلية في مختلف التخصصات كالشريعة والقانون والآداب والتجارة والطب وطب الأسنان والترجمة واللغات الموجودة في أغلب الدول الإسلامية كالفارسية والأردية والسواحلية.. ( )".

3 ـ المكتبة الأزهرية الكبرى

تعد المكتبة الأزهرية ثاني مكتبة أكاديمية في مصر، وهي أشهر المكتبات في العالم الإسلامي، وتوجد فيها نفائس المخطوطات النادرة والمطبوعات. وكان الشيخ الإمام محمد عبده دعا إلى إنشاء هذه المكتبة، لتجمع مختلف المكتبات الموجودة في المساجد والأروقة ودعا العلماء والزعماء إلى تغذية هذه المكتبة( ).

4 ـ الأزهر، مهد المقاومة والجهاد والثورة

لقد برز من علماء الأزهر الأجلاء ومشائخه الفضلاء مجاهدون( ) وثائرون كثيرون عبر التاريخ الإسلامي جاهدوا بالسيف والقلم دفاعا عن الإسلام وأهله، فهذا العز بن عبد السلام يكتب: "إذا طرق العدو البلاد وجب على الناس قتاله، وجاز للسلطان أن يأخذ من أموال التجار وأعيان البلد ما يستعين به على تجهيز العسكر، لدفع العدو بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء.. أما أخذ أموال التجار والرعية، مع وجود مال في بيت المال .. فلا يجوز، لأنه من باب أخذ مال الرعية بغير حق.. ( )". وقد شارك الأزهر في وقف الاحتلال البريطاني والفرنسي، فقد تكونت في الأزهر لجنة سماها بونابارت "مجلس الثوار" كما شارك في ثورة 1919م حيث خرجت منه الألوف في مظاهرة هادرة( ). وكما دافع الأزهر عن البلاد والعباد ضد العدوان الثلاثي عام 1956م، ومن الأزهر خاطب الزعيم جمال عبد الناصر العالم الإسلامي؛ داعيا الأمة إلى التضامن ضد العدوان الثلاثي الغربي، فكان علماء الأزهر وطلابه على رأس الثورة والجهاد في مصر( ).

5 ـ مشيخة الأزهر: عالمية إسلامية

إن منصب الإمام الأكبر شيخ الأزهر هو أعظم منصب إسلامي في مصر، ولا يقتصر على علماء مصر بل تولاه علماء من السودان والمغرب العربي. ولفظ شيخ الإسلام كان يطلق على سعيد بن المسيب وهو أول من لقب به ثم أطلق على الحسن البصري وعبد الله بن المبارك. وكان شيخ الأزهر قبل ثورة يوليو يختار بالاتفاق بين شيوخه ثم يخلع عليه السلطان الحلة إعلانا بتعينه في منصب شيخ الأزهر( )".

يقول علي مبارك باشا: "ولما كان الأزهر كثير الطلبة والمدرسين، كان من اللازم إقامة من يسوس أمورهم، ويفصل في قضاياهم، ويضبط مرتباتهم، ويقيم شعائرهم، وهو في الحقيقة، شيخ القطر بتمامه.

كانت المشيخة (الأزهرية) أول الأمر للسادة المالكية، ثم السادة الشافعية ثم للسادة الحنفية ثم انتقلت من المذاهب الفقهية، فلم تعد مشيخة الأزهر مقصورة على مذهب واحد، وبدأت هذه المشيخة رسميا باسنادها للشيخ محمد عبد الله الخراشي (ت: 1101هـ، 1690م) ( ).

وقد تولاها بعد ذلك حوالي 45 شيخا آخرهم الدكتور محمد سيد طنطاوي (ت: 10/03/2010 (الذي خلفه الدكتور محمد الطيب النجار ولد عام 1916م وحصل على الدكتوراه عام 1946 وتولى منصب وكيل الأزهر عام 1978 ثم رئاسة جامعة الأزهر حتى عام 1983 وهو حاصل على وسام الجمهورية من الدرجة الأولى).

وقد تولى اثنان من أذكى تلامذة على الأجهوري مشيخة الأزهر وهما محمد النشرتي (ت: 1120هـ، 1708م) وعبد الباقي (ت: 1132هـ، 1719م) وهما من الأربعة الذين قففوا مختصر خليل إلى 333 قفا على عدد أيام الدراسة المحضرية أو الأزهرية والباقيان هما: الشبرخيتي والخرشي، وكما قلنا سابقا فإن مشيخة الأزهر عالمية إسلامية ولذا فقد تولاها شيوخ ليسوا من مصر نجارا، فإذا ما صحت الرواية الشفهية الشائعة بين أفراد قبيلة العروسيين في المغرب وموريتانيا فقد تولاها ثلاثة من هذه القبيلة وهم الشيخ الإمام أحمد بن موسى بن داود العروسي الشافعي (1133 ـ 1028هـ، 1721 ـ 1793م) وتولاها ابنه الشيخ الإمام محمد أحمد العروسي عام 1233هـ، 1871م وقد توفي 1245هـ، 1829م (عام وفاة محمد النابغة القلاوي صاحب بواطليحية وهو عام ولادة ابت التلاميد التركزي 1245 ـ 1322هـ) وتولاها ابنه الشيخ الإمام مصطفى بن محمد بن محمد أحمد العروسي (1213 ـ 1293هـ، 1798 ـ 1876م) عام 1281هـ، 1864م( ) قبل وفاة الشيخ محمد المامي بن البخاري صاحب كتاب البادية بسنة واحدة.
وتولى مشيخة الأزهر من تونس الشيخ الإمام محمد الخضر حسين ومن المغرب حسن العطار ومن السودان الشيخ محمد نور الحسن( ).

وكما كان الأزهر مؤسسة إسلامية لكافة الشعوب الإسلامية يتولون مشيخته، فقد تولوا أيضا هيئة التعليم فيه، فمن الموريتانيين الشيخ محمد محمود ولد التلاميذ والشيخ محمد حبيب الله بن ما يأبى ومن المغرب ابن خلدون وغيرهم كثير، وما ذلك إلا؛ "لأن الأزهر كما فتح أبوابه لطلبة العالم الإسلامي، فتح أبوابه لاستقبال العلماء من هذا العالم الذين تصدروا حلقات الدرس في الأروقة والجامعة، فكل علماء الإسلام في رحاب الأزهر وفي حصنه وجنباته سواء أئمة يدعون إلى الحق وبه يهتدون، ولعلومه يُدَّرِسون، وهو بذلك "يوطد (الأزهر) الأخوة الإسلامية، ويحكم الوشائج بين أبناء الأمة( )" ويكون الرباط القوي والجسر العالي بين الشعوب الإسلامية في كل شبر من المعمورة بواسطة الوافدين والموفدين والمبعوثين والمعارين والمتعاقدين من علمائه.

6 ـ خريجو الأزهر: علماء ورؤساء في كافة الأنحاء

إذا كنا لا نتوفر على إحصاء حديث لعدد خريجي الأزهر جامعا وجامعة، فإننا لا نشك في أن عدد خريجيه من المصريين وكافة أبناء العالم الإسلامي كثيرون جدا، واحتلوا مناصب التعليم والتربية والقضاء والفتوى والإمامة، ورئاسة بعض الدول مثل بورناي وما لديف وماليزيا وأندنوسيا( ).

7 ـ الأزهر في الذاكرة الموريتانية

كان الأزهر الشريف ومازال محل إعجاب وتقدير من كافة الشعب الموريتاني الذي كان يتمنى إرسال أبنائه للدراسة فيه، وكان العالم الموريتاني إذا مر بالقاهرة حاجا لا بد أن يزور الأزهر للدراسة أو الأخذ الإجازة من علمائه تبركا، حتى ولو كان هذا الموريتاني عالما، فقد كان يسعى لأخذ الإجازة أو العالمية الأزهرية، لأنه يعتبر الأزهر كعبة العلم.
ولا نقول ذلك رجما بالغيب وإنما وجدنا دليلا مكتوبا هو الطلب الذي كتبه محمد عبد الرحمن القاضي الشنقيطي عام 1336هـ، 1917م يطلب فيه من الأمير علي بك إسماعيل السماح له بإجراء امتحان العالمية، رغم أنه كان قاضيا، ويحمل شهادة محضرية يعتبرها تعادل العالمية الأزهرية، وسوف نورد ذلك الطلب على طوله، لطرافته، ولما يبدو فيه من "التعالي الصحراوي البدوي" رغم نبرة الاستعطاف الواضحة.

يقول هذا الموريتاني: "الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أما بعد:

فإليك، يا نصير المؤمنين في هذا الوقت العصيب، يتقدم رجل غريب جاء من أقصى بلاد المغرب سنة 1336هـ بعد أن تلقى جميع العلوم الإسلامية في بلاده: شنقيط الكائنة بين مراكش وبلاد السنكال على ساحل البحر المحيط، وتوصل في كل من هذين الصقعين إلى نهاية درجات العلوم فيهما، وتولى خطة القضاء بين المسلمين في كل منهما، جاء هذا الغريب إلى كعبة العلم بمصر، ليزداد علما ونورا، وليرجع إلى قومه مستفيدا ولينشر بينهم معارف مصر التي أصبحت قطب العالم الإسلامي في هذه الأيام.

رجل يبغي العلم للعلم، قطع المراحل وطوى المناهل وتجشم المشاق في اختراق البيداء على متون الإبل، وليس له من غاية سوى طلب العلم لمجرد العلم، فلما وصل ـ الحمد لله ـ إلى هذا البلد الأمين هنأ نفسه بالفوز بالأماني، وإذا بعقبة كؤود قد وقفت في طريقه وجعلته ينشد مع القائل: وكنت كالمتمني أن يري...

مولاي:

قيل لي عند ورودي على حياض الأزهر المعمور إن الدخول في الامتحان لا يكون إلا بعد الانتساب والرجوع إلى السلك الطلبة، فمع أني بلغت درجة العالمية في بلادي وجزتها ودرست، وتوليت القضاء في شنقيط ومراكش، فقد رضيت بالرجوع إلى سلك التلميذ لأني لا أبغي سوى العلم، لوجه الله تعالى، ولأنني أعتقد مثل علماء السلف الصالح أن الإنسان كلما ازداد علما زادت معرفته بمقدار جهله، ولأن قواعد الإسلام تأمر بطلب العلم من المهد إلى اللحد، ولأن الذي جرى عليه أساطين هذه الأمة الإسلامية هو أن الإنسان مهما بلغ من العلم، فهو لا يزال طالبا. وعلى هذه القاعدة الأخيرة جرى علماء الغرب الإسلامي قديما وحديثا في تسمية أنفسهم باسم (الطالب)، فلذلك رجعت طالبا بالأزهر، وانتسبت إليه منذ مدة قليلة، وحضرت مع الطلبة حتى جاء ميعاد الامتحان في هذه الأيام. فقدمت طلبي إلى المشيخة الجليلة لنيل الإذن بالدخول في الامتحانات الأزهرية؛ لكي أعود إلى بلادي وقومي ظافرا، فائزا بشرف الأخذ بالدرجة القصوى من كعبة العلوم الإسلامية.

والظاهر ـ يا مولاي ـ أن القانون الذي وضعته حكومة مصر الرشيدة في هذا العهد الأخير، يحول دون الطارئين على مصر من علماء الأقطار الإسلامية بخلاف جميع القوانين السابقة عليه، فإنه لا يسمح إلا بامتحان يسمونه "امتحان الأغراب" ونيل شهادة خاصة بهم.

مولاي:

يممت شطر مقامك العالي، والتجأت إلى حماك المنيع، لتجيزني من كيد الدهر، وجمود القانون، ولتنظر في أمري بحكمتك التي طالما حكمت الغياهب وفرجت الكروب، فأنت خير عليم أن الشهادة العالمية متى لم تكن مؤيدة بالبراءة كانت ساقطة القيمة في نظر العارفين؛ لأنه بالتساهل، وأنا لا أريد إلا الامتحان بأقصى شدته في جميع العلوم الأزهرية، لأرجع لبلدي ظافرا حقيقيا بما ترتاح إليه أرواح المسلمين هنالك.

أما إذا حزت الشهادة الخاصة "بالأغراب" فقط، فهي وأيم الحق أقل ألف مرة من الدرجة التي وصلت إليها في بلادي على ساحل المحيط في أقصى بلاد الغرب الإسلامي، فإنني أؤثر الامتناع عنها، وأربأ بنفسي وبعلمي من التدلي إلى هذا الحد.

ولولا ما حيل (حال) بيني وبين الرجوع إلى أهلي من تقطع الأسباب وانعدام المواصلات بسبب الحرب الضروس لطويت دفاتري، وطواميري، واشتملت بعباءتي، وامتطيت ناقتي وعدت أدراجي إلى بلدي راجعا بخفي حنين وقانعا من الغنيمة بالإياب.

أما والعودة الآن مستحيلة، وليس لي من سبيل سوى البقاء بمصر رغم أنفي، فقد طرقت باب الوزير الكبير، ليحل مشكلتي وينيلني بغيتي التي حال دونها جمود القانون والذي ألتمسه هو الرخصة بتقدمي إلى امتحان العالمية الأزهرية في هذا العام، لأتحصل على شهادة كاملة أعني مصحوبة بالبراءة بطريقة الاستثناء.

الاستثناء حصل قبل الآن مرتين، فلا مانع يمنع من حصوله مرة ثالثة، فباب الرحمة لا يمكن فتحه في وجهي إلا إذا أصدرت إشارة من سيدي الوزير، وهو قادر عليها وأهل لها، وأنا خليق بها، حصل الاستثناء مرتين لأغراب مثلي، فالمرة الأولى: رخص المجلس الأعلى في 15 إبريل سنة 1916م لطالب من رواق الأتراك ولطالب من رواق الجاوة، والمرة الثانية لطالب طرابلسي في 20 مايو سنة 1916م وكان هذا وذلك لشهادة الأهلية، فهلا يرى ـ سيدي الوزير ـ أن الاستثناء الذي جاز للمجلس الأعلى إجراؤه فيما يتعلق بشهادة الأهلية، لا يجوز إجراؤه ـ ولو مرة ثانية ـ لاسيما شهادة العالمية التي هي أعلى وأحق بالرعاية وأولى.

إن الاستثناء الذي سبق حصوله مرتين لتلطيف جمود القانون يصح إجراؤه، ولو مرة ثانية بفضل توسط الوزير الكبير الذي له العالم الإسلامي في هذه الأوقات الحرجة، الأيادي الجسام والخيرات التي لا يكافئه عليها سوى الله تعالى:

ألقيت زمامي بين يدي الوزير
وليس مطلبي عليه بالأمر العسير


والله يوفقه ويؤيده ويمد في حياته الطيبة، آمين يا رب العالمين. ووافق تاريخه أربعا خلون من شعبان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف وكاتبه: محمد عبد الرحمن القاضي الشنقيطي.. ( )"

وكان الموريتانيون يذهبون على الأقدام إلى الأزهر وفي عهد الاحتلال فقد كان الحاج محمود باه يبعث طلاب مدارس الفلاح إلى الأزهر، فلما علم الفرنسيون أشاعوا أن هذا العالم يهرب الطلاب إلى القاهرة ويبيعهم عبيدا هناك، فاستدعوه وخيروه بين إغلاق مدارسه وبين إرجاع الطلاب الذين بعثهم إليه، فأختار الأخيرـ ولكنه سجل سبعة عشر طلبا على أنهم ذاهبون إلى الحج حتى لا تمنع الإدارة الفرنسية في دكار ذهابهم إلى الأزهر.

لقد تخرج في الأزهر كثير من الموريتانيين تولوا مناصب سامية كالوزارة مثل حمدي صنب جوب الذي تولى أربع وزارات هي العدل والصحة والنقل والتجارة.

ومن أمثلة حضور الأزهر في الذاكرة الموريتانية إضافة الأسماء إليه مثل الأزهري حقيقة أو تفاؤلا وتبركا وتسمية المدارس والحواضر والوراقات والمطاعم والبقالات.

8 ـ الخاتمة

إن الأزهر الشريف هو أعرق مؤسسة علمية إسلامية جامعة ما زالت قائمة (بعد القرويين)، وهو منارة عالية للعلم والمعرفة أقامها المصريون بالإيمان العميق( )، ولذلك كان الأزهر وما زال معهدا للعلم والمقاومة والثورة في سبيل الإسلام والوطن والقيم النبيلة والمبادئ السامية، فهو سجل أم الدنيا وهو شاهد عبقرية الشعب وعظمة الزمان.. في عاصمة الإيمان والإحسان، كنانة الله في أرضه ( )".

لقد كان الأزهر وما زال المنارة الإسلامية السامقة والهادية التي تتجه إليها أنظار المسلمين، وكان وما زال مصدر إشعاع علمي وديني رفيع ورباط منيع بين مختلف الشعوب الإسلامية ومرجعا مرضيا في العالم كله.

إن الكثير من تراث الإسلام حفظه جهابذة صادقون من علماء الأزهر وقدموه للمسلمين نقيا زكيا في كتب عظيمة اتخذها ويتخذها المسلمون مراجع في دراساتهم وينتفعون بها في دينهم ودنياهم( )" منذ سبعين سنة وعشرة قرون من الزمن.

9 ـ مصادر الدراسة ومراجعها:

• الأزهر في عيده الألفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1403هـ، 1983م؛
• حسين مؤنس (دكتور): المساجد، القاهرة د.ت؛
• عبد العزيز محمد الشناوي: صور من دور الزهر في مقاومة الاحتلال الفرنسي لمصر في أواخر القرن الثامن عشر، الندوة الدولية للألفية، القاهرة مارس 1969، مطبعة دار الكتب، 1971م؛
• محمد رجب البيومي (دكتور): المسجد في الإسلام عبادة وثقافة، هدية مجلة الأزهر شهر شوال 1430هـ، الجزء الثاني؛
• الهادي المبروك الدالي: مملكة مالي الإسلامية وعلاقاتها مع أهم المراكز بالشمال الإفريقي، من القرن 13 ـ 15 صفحات من تاريخ العلاقات العربية الإفريقية، تقديم الدكتور محمد زروق ط2/1999، الشركة العامة للوراقة والطباعة، مطابع الوحدة بالزاوية، ليبيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


بث مباشر للمسجد الحرام بمكة المكرمة