الاثنين، 22 أغسطس 2011
تفسير سورة البقرة المجلد الثالث من الآيه 240 إلى الاية 265
تفسير سورة البقرة من الاية 240 إلى الاية 265
لفضيلة الشيخ : محمد بن صالح العثيمين
القــــرآن
)وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:240)
التفسير:
{ 240 } قوله تعالى: { وصية } فيها قراءتان: النصب، والرفع؛ وقوله تعالى: { الذين } مبتدأ؛ و{ وصية } بالرفع مبتدأ خبره محذوف؛ والتقدير: عليهم وصية؛ والجملة: خبر { الذين }؛ أما على قراءة النصب فإن خبر { الذين } جملة فعلية محذوفة؛ والتقدير: يوصُون وصيةً؛ أو نوصيهم وصية - على خلاف في ذلك: هل هي وصية من الله؛ أو منهم؛ فإن كانت من الله عزّ وجلّ فالتقدير: نوصيهم وصية؛ وإن كانت منهم فالتقدير: يوصُون وصية؛ والجملة المحذوفة خبر { الذين }؛ والرابط الضمير في الجملة المحذوفة سواء قلنا: «عليهم وصية»؛ أو قلنا: «نوصيهم وصية»، أو «يوصُون وصية».
قوله تعالى: { متاعاً إلى الحول }؛ { متاعاً } مصدر لفعل محذوف؛ والتقدير: يمتعونهن متاعاً إلى الحول؛ و{ غير إخراج } إما صفة لمصدر محذوف؛ أي متاعاً غير إخراج؛ أي متعة غير مخرجات فيها؛ أو أنها حال من الفاعل في الفعل المحذوف.
قوله تعالى: { فلا جناح عليكم }؛ هذه «لا» النافية للجنس، واسمها، وخبرها؛ وقوله تعالى: { من معروف } متعلق بـ{ فعلْن }؛ وباقي الآية إعرابها ظاهر، وواضح.
قوله تعالى: { والذين يتوفون منكم } أي يُقبَضون؛ والمراد: الموت؛ و{ منكم } الخطاب لعموم الأمة؛ وليس خاصاً بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأن القرآن نزل للجميع إلى يوم القيامة؛ فالخطاب الموجود فيه عام لكل الأمة؛ إلا إذا دل دليل على الخصوصية، كما في قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًّا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] .
قوله تعالى: { ويذرون } أي يتركون؛ وهي معطوفة على قوله تعالى: { يتوفون }؛ و{ أزواجاً } أي زوجات لهم.
قوله تعالى: { وصية لأزواجهم } أي عهداً لأزواجهم؛ ولا تكون الوصية إلا في الأمر الذي له شأن، وبه اهتمام؛ { إلى الحول } أي إلى تمام الحول من موت الزوج؛ و{ غير إخراج } أي من الورثة الذين يرثون المال بعد الزوج؛ ومنه البيت الذي تسكن فيه الزوجة.
قوله تعالى: { فإن خرجن } أي خرج الزوجات من البيت قبل الحول؛ { فلا جناح عليكم } أي لا إثم عليكم { فيما فعلن في أنفسهن من معروف } أي مما يعرفه الشرع، والعرف، ولا ينكره.
قوله تعالى: { والله عزيز حكيم } أي ذو عزة، وحُكم، وحِكمة.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن الزوجة تبقى زوجيتها حتى بعد الموت؛ لقوله تعالى: { ويذرون أزواجاً }؛ ولا يقول قائل: إن المراد باعتبار ما كان؛ لأن هذا خلاف الأصل.
فإن قال قائل: فإذا كان الأمر كذلك فإنها لا تحل لأحد بعده؟
قلنا: هي مقيدة بمدة العدة؛ ويدل على ذلك أن المرأة إذا مات زوجها جاز أن تغسله؛ ولو كانت أحكام الزوجية منقطعة ما جاز لها أن تغسِّل زوجها.
2 - ومنها: أنه يشرع للزوج أن يوصي لزوجته أن تبقى في بيته، وينفق عليها من تركته لمدة حول كامل؛ هذا ما تفيده الآية؛ فهل هذا الحكم منسوخ، أو محكم؟ على قولين للعلماء؛ أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [البقرة: 234] ؛ ويؤيده ما في صحيح البخاري حينما سئل عثمان رضي الله عنه: لماذا أبقيت هذه الآية وهي منسوخة؛ ولماذا وضعتها بعد الآية الناسخة - وكان الأولى أن تكون المنسوخة قبل الآية الناسخة لمراعاة الترتيب؟ فأجاب عثمان رضي الله عنه بأنه لا يغير شيئاً من مكانه(85)؛ وذلك لأن الترتيب بين الآيات توقيفي؛ فهذه الآية توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تتلى في القرآن، وفي مكانها؛ ولا يمكن أن تغير؛ وعلى هذا فتكون هذه الآية منسوخة بالآية السابقة بالنسبة للعدة؛ وأما بالنسبة لما يوصي به الزوج من المال فهو منسوخ بآية المواريث - وهي قوله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم} [النساء: 12] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث»(86).
والقول الثاني: أن الآية محكمة؛ فتحمل على معنًى لا يعارض الآية الأخرى؛ فيقال: إن الآية الأخرى يخاطَب بها الزوجة: تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشراً؛ والآية الثانية يخاطَب بها الزوج ليوصي لزوجته بما ذُكر.
3 - ومن فوائد الآية: أن الله عزّ وجلّ ذو رحمة واسعة حتى أوصى الزوج بأن يوصي لزوجته مع أن الزوج قد جعل الله فيه رحمة لزوجته حين قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم: 21] ؛ ورحمة الله عزّ وجلّ لهذه الزوجة أعظم من رحمة الزوج لها.
4 - ومنها: أن المرأة يحل لها إذا أوصى زوجها أن تبقى في البيت أن تخرج، ولا تنفذ وصيته؛ لقوله تعالى: { فإن خرجن فلا جناح عليكم }؛ لأن هذا شيء يتعلق بها، وليس لزوجها مصلحة فيه.
ويتفرع عليه لو أوصى الزوج الزوجة ألا تتزوج من بعده لا يلزمها؛ لأنه إذا كان لا يلزمها أن تبقى في البيت مدة الحول فلأن لا يلزمها أن تبقى غير متزوجة من باب أولى.
وكذلك يؤخذ منه قياساً كل من أوصى شخصاً بأمر يتعلق بالشخص الموصى له فإن الحق له في تنفيذ الوصية، وعدم تنفيذها.
5 - ومن فوائد الآية: أن المسؤولين عن النساء هم الرجال؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليكم }.
6 - ومنها: أن على الرجال الإثم فيما إذا خرجت المرأة عن المعروف شرعاً؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف }.
ويتفرع على هذا أن كل مسؤول عن شخص إذا تمكن من منعه عن المنكر فإنه يمنعه؛ ولا يعارض هذا قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] ؛ لأن الإنسان ما دام مسؤولاً فإنه إذا فرط في مسؤوليته كان وازراً، ووزره على نفسه.
7 - ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج عن المعروف في جميع أحوالها؛ و «المعروف» هو ما أقره الشرع والعرف جميعاً؛ فلو خرجت في لباسها، أو مشيتها، أو صوتها، عن المعروف شرعاً فهي آثمة؛ وعلينا أن نردعها عن الخروج على هذا الوجه.
8 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «العزيز» ، و «الحكيم» ؛ وإثبات ما تضمناه من صفة سواء كان ذلك عن طريق اللزوم، أو المطابقة، أو التضمن؛ وهي العزة، والحكمة، والحُكم؛ وقد سبق تفسير ذلك.
9 - ومنها: إثبات العزة، والحكمة على سبيل الإطلاق، لأن الله سبحانه وتعالى أطلق: قال: { عزيز حكيم }؛ فيكون عزيزاً في كل حال؛ وحكيماً حاكماً في كل حال.
القـــــرآن
)وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:241)
التفسير:
{241 } قوله تعالى: { وللمطلقات متاع بالمعروف }؛ الجملة مكونة من مبتدأ، وخبر؛ فالخبر مقدم: {للمطلقات}؛ والمبتدأ مؤخر؛ وهو قوله تعالى: { متاع بالمعروف }؛ ومن ثم جاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه يجوز الابتداء بالنكرة إذا تأخر المبتدأ.
وقوله تعالى: { وللمطلقات } من ألفاظ العموم؛ لأن «أل» فيها اسم موصول؛ فيشمل كل المطلقات بدون استثناء؛ وهن من فارقهن أزواجهن؛ وسمي طلاقاً؛ لأن الزوجة قبله في قيد النكاح؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان»(87) أي أسيرات؛ وقال تعالى عن امرأة العزيز: {وألفيا سيدها لدى الباب} [يوسف: 25] ؛ و {سيدها} : زوجها.
قوله تعالى: { متاع } أي ما تتمتع به من لباس، وغيره؛ وقوله تعالى: { بالمعروف } متعلق بـ{ متاع }؛ يعني: هذا المتاع مقيد بالمعروف - أي ما يعرفه الناس -؛ وهذا قد يكون مفسَّراً بقوله تعالى: {وعلى الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف} [البقرة: 236] ، أي المتاع على الموسر بقدر إيساره؛ وعلى المعسر بقدر إعساره.
قوله تعالى: { حقًّا } مصدر منصوب على المصدرية عامله محذوف؛ والتقدير: نحقه حقاً؛ و «الحق» هنا بمعنى الحتم الثابت؛ و{ على المتقين } أي ذوي التقوى؛ و «التقوى» هي القيام بطاعة الله على علم وبصيرة؛ وما أحسن ما قاله بعضهم: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله؛ ولا يعني قوله تعالى: { على المتقين } أنه لا يجب على غير المتقين؛ ولكن تقييده بالمتقين من باب الإغراء، والحث على لزومه؛ ويفيد أن التزامه من تقوى الله عزّ وجلّ؛ وأن من لم يلتزمه فقد نقصت تقواه.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب المتعة لكل مطلقة؛ لعموم قوله تعالى: { وللمطلقات }؛ ويستثنى من ذلك:
أ - من طلقت قبل الدخول وقد فرض لها المهر؛ لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237] .
ب - من طلقت بعد الدخول فلها المهر: إن كان مسمًّى فهو ما سمي؛ وإن لم يكن مسمًّى فمهر المثل؛ واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من طلقت بعد الدخول فلها المتعة على زوجها مطلقاً؛ لعموم الآية.
2 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي تأكيد الحقوق التي قد يتهاون الناس بها؛ لقوله تعالى: { حقًّا على المتقين }.
3 - ومنها: أنه ينبغي ذكر الأوصاف التي تحمل الإنسان على الامتثال فعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور؛ لقوله تعالى: { حقًّا على المتقين }؛ لأن عدم القيام به مخالف للتقوى؛ والقيام به من التقوى.
4 - ومنها: اعتبار العرف؛ لقوله تعالى: {متاعاً بالمعروف} [البقرة: 236] ؛ وهذا ما لم يكن العرف مخالفاً للشرع؛ فإن كان مخالفاً له وجب رده إلى الشرع.
5 - ومنها: أن التقوى تحمل على طاعة الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
القـــــرآن
)كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة:242)
التفسير:
{ 242 } قوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته }، أي مثلَ ذلك البيان السابق يبين الله لكم آياته؛ فالكاف في محل المفعول المطلق؛ ومعنى «البيان» التوضيح؛ أي أن الله يوضحه حتى لا يبقى فيه خفاء؛ و{ لكم} يحتمل أن تكون اللام لتعدية الفعل: { يبين }؛ ويحتمل أن تكون اللام للتعليل؛ أي يبين الآيات لأجلكم حتى تتبين لكم، وتتضح؛ و{ آياته } جمع آية؛ وهي العلامة المعينة لمدلولها؛ وتشمل الآيات الكونية والشرعية؛ فإن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا من آياته الكونية والشرعية ما لا يبقى معه أدنى شبهة في أن هذه الآيات علامات واضحة على وجود الله عزّ وجلّ، وعلى ما له من حكمة، ورحمة، وقدرة.
قوله تعالى: { لعلكم تعقلون }؛ «لعل» هنا للتعليل؛ أي لتكونوا من ذوي العقول الرشيدة.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: منة الله على عباده بتبيين الآيات؛ لقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}.
2 - ومنها: أن مسائل النكاح والطلاق، قد يخفى على الإنسان حكمتها؛ لأن الله جعل بيان ذلك إليه، فقال تعالى: { كذلك يبين الله لكم }.
3 - ومنها: الرد على المفوضة - أهل التجهيل؛ وعلى أهل التحريف - الذين يسمون أنفسهم بأهل التأويل؛ لقوله تعالى: { يبين الله لكم آياته }؛ لأن أهل التفويض يقولون: إن الله لم يبين ما أراد في آيات الصفات، وأحاديثها؛ وأنها بمنزلة الحروف الهجائية التي لا يفهم معناها؛ وأهل التحريف يقولون: إن الله لم يبين المعنى المراد في آيات الصفات، وأحاديثها؛ وإنما وكل ذلك إلى عقولنا؛ وإنما البيان بما ندركه نحن بعقولنا؛ فنقول: لو كان الأمر كما ذكرتم لكان الله سبحانه وتعالى يبيّنه؛ فلما لم يبين ما قلتم علم أنه ليس بمراد.
4 - ومن فوائد الآية: الثناء على العقل، حيث جعله الله غاية لأمر محمود - وهو تبيين الآيات؛ والمراد عقل الرشد السالم من الشبهات، والشهوات - أي الإرادات السيئة.
5 - ومنها: إثبات العلة لأفعال الله؛ لقوله تعالى: { لعلكم تعقلون }.
6 - ومنها: أنه لا يمكن أن يوجد في الشرع حكم غير مبين؛ لقوله تعالى: { يبين الله لكم آياته }؛ والآيات هنا جمع مضاف؛ فيعم.
فإن قال قائل: إننا نجد بعض النصوص تخفى علينا؟
فالجواب: أن ذلك إما لقصور في فهمنا؛ وإما لتقصير في تدبرنا؛ وإما لنقص في علومنا؛ أما أن النص نفسه لم يبين فهذا شيء مستحيل.
القـــــرآن
)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (البقرة:243)
التفسير:
{ 243 } قوله تعالى: { ألم }: الاستفهام الداخل هنا على النفي يراد به التقرير، والتعجيب أيضاً: { تر } أي تنظر؛ والخطاب هنا إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أو لكل من يتأتى خطابه؛ والأخير أحسن؛ لأنه أعم؛ و «الرؤية» هنا رؤية الفكر؛ لا رؤية البصر.
قوله تعالى: { إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت }؛ لم يبين الله عزّ وجلّ من هؤلاء الذين خرجوا؛ فقيل: إنهم من بني إسرائيل؛ وقيل: إنهم من غيرهم؛ والمهم القصة، والقضية التي وقعت؛ و{ من ديارهم } أي من بيوتهم، وأحيائهم التي يأوون إليها؛ { وهم ألوف }: الجملة في موضع نصب على الحال من الواو في { خرجوا }؛ وكلمة: { ألوف } جمع ألف؛ وهو من صيغ جموع الكثرة؛ فقيل: إنهم ثمانية آلاف؛ وقيل: ثمانون ألفاً؛ وإذا نظرت إلى صيغة اللفظ - { وهم ألوف } - تجد أنها تدل على أنهم أكثر من ثمانية آلاف؛ وأنهم عالم كثير؛ و{ حذر الموت } مفعول لأجله؛ والعامل قوله تعالى: { خرجوا } يعني خرجوا خوفاً من الموت؛ وهل هذا الموت طبيعي؛ لأنه نزل في أرضهم وباء؛ أو الموت بالقتال في سبيل الله؟ في ذلك قولان لأهل العلم: فمنهم من يقول - وهم أكثر المفسرين -: إن المراد: خرجوا من ديارهم خوفاً من الموت لوباء وقع في البلاد؛ فخرجوا فراراً من قدر الله؛ فأراد الله عزّ وجلّ أن يريهم أنه لا مفر منه إلا إليه؛ وقيل: إن المراد: خرجوا حذر الموت بالقتل؛ لأنهم دهمهم العدو؛ ولكنهم جبنوا، وخرجوا خوفاً من أن يقتلهم العدو؛ فالذين قالوا بالأول قالوا: لأنا إذا أخذنا الآية بظاهرها - { حذر الموت } - تبين أنه نزل في أرضهم وباء، فخرجوا من ديارهم خوفاً من الوباء؛ والذين قالوا بالثاني قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى قال بعدها: {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة: 244] ؛ فكأن الله عرض قصة هؤلاء الذين جبنوا، وهربوا توطئة لأمرنا بالقتال في سبيل الله، وأن نصبر.
قوله تعالى: { فقال لهم الله موتوا } أي قال لهم قولاً كونياً، كقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] .
قوله تعالى: { ثم أحياهم }؛ «ثم» تدل على التراخي، وأن الله سبحانه وتعالى أحياهم بعد مدة؛ وقيل: إنه أحياهم لسبب؛ وهو أن نبياً من الأنبياء مرّ بهم وهم ألوف مؤلفة جثث هامدة؛ فدعا الله أن يحييهم؛ فأحياهم الله؛ وقال بعض المفسرين: إن الله أحياهم بدون دعوة نبي؛ وهذا هو ظاهر اللفظ؛ وأما الأول فلا دلالة عليه؛ وعليه فنقول: إن الله أحياهم ليُري العباد آياته.
قوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس }: اللام هنا للتوكيد؛ و «ذو» بمعنى صاحب؛ و «الفضل» بمعنى العطاء، والتفضل.
قوله تعالى: { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } أي لا يقومون بشكر الله عزّ وجلّ حين يتفضل عليهم؛ و «الشكر» طاعة المتفضل.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه لا فرار من قدر الله؛ لقوله تعالى: { حذر الموت فقال لهم الله موتوا }؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الطاعون: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه»(88).
2 - ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ بإماتة الحيّ، وإحياء الميت؛ لقوله تعالى: { موتوا }؛ فماتوا بدليل قوله تعالى: { ثم أحياهم }.
3 - ومنها: أن فيها دلالة على البعث؛ وجهه: أن الله أحياهم بعد أن أماتهم.
4 - ومنها: أن بيان الله عزّ وجلّ آياته للناس، وإنقاذهم من الهلاك من فضله؛ لقوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس }.
5 - ومنها: أن لله نعمة على الكافر؛ لعموم قوله تعالى: { على الناس }؛ ولكن نعمة الله على الكافر ليست كنعمته على المؤمن؛ لأن نعمته على المؤمن نعمة متصلة بالدنيا والآخرة؛ وأما على الكافر فنعمة في الدنيا فقط.
6 - ومنها: أن الشاكر من الناس قليل؛ لقوله تعالى: { ولكن أكثر الناس لا يشكرون }.
7 - ومنها: أن العقل يدل على وجوب شكر المنعم؛ لقوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون }؛ وهذا على سبيل الذم؛ فيكون من لا يشكر مذموماً عقلاً، وشرعاً.
8 - ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى بحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { موتوا }؛ فيكون فيه رد على من قال: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه.
9 - ومنها: أن معنى قوله تعالى: {إذا أراد شيئاً أن يقول له كن} [يس: 82] أن الله عزّ وجلّ يتكلم بما أراد؛ لا أن يقول: {كن} فقط؛ بل يتكلم بما أراد: كن كذا؛ كن كذا؛ لأن الكلام بكلمة {كن} مجمل؛ ولما قال الله للقلم: «اكتب قال: رب ماذا أكتب؟»(89)؛ فيصير معنى {كن} أي الأمر المستفاد من هذه الصيغة؛ ولكنه يكون أمراً خاصاً؛ فلو كان الله سبحانه وتعالى يريد أن ينزل مطراً؛ لا يقول: {كن} فقط؛ بل يكون بالصيغة التي أراد الله عزّ وجلّ.
10 - ومن فوائد الآية: جواز حذف ما كان معلوماً، وأنه لا ينافي البلاغة؛ وهو ما يسمى عند البلاغيين بإيجاز الحذف؛ لقوله تعالى: { موتوا ثم أحياهم }؛ والتقدير: «فماتوا ثم أحياهم»؛ وهذا كثير في القرآن، وكلام العرب.
11 - ومنها: أنه سبحانه وتعالى يمدح نفسه بما أنعم به على عباده؛ لقوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس }؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أحب إليه المدح من الله»(90)؛ فهو سبحانه وتعالى يحب أن يُمدح، ويُحمد؛ لأن ذلك صدق، وحق؛ فإنه سبحانه وتعالى أحق من يُثنى عليه، وأحق من يُحمَد؛ وهو سبحانه وتعالى يحب الحق.
12 - ومنها: أن من طبيعة البشر الفرار من الموت؛ لقوله تعالى: { خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت }.
ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي للإنسان أن يستعد للذي يحذر منه وهو لا يدري متى يفجؤه.
القـــرآن
)وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:244)
التفسير:
{244 } قوله تعالى: { وقاتلوا } فعل أمر حذف مفعوله للعلم به؛ والتقدير: قاتلوا في سبيل الله الكفار الذين يقاتلونكم، كما في قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190] .
قوله تعالى: { في سبيل الله } أي في الطريقة الموصلة إليه - وهي شريعته -؛ وهذا يشمل النية، والعمل؛ أما النية فأن يكون الإنسان قاصداً بقتاله أن تكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه؛ أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»(91)؛ وأما العمل فأن يكون جهاده على وفق الشرع.
قوله تعالى: { واعلموا أن الله سميع عليم } أي سميع لأقوالكم؛ عليم بأحوالكم؛ وختم الله هذه الآية بالأمر بعلمنا بأن الله سميع عليم تحذيراً من المخالفة، وترغيباً في الموافقة؛ فنقوم بما أوجب علينا، ونجتنب ما حرم علينا.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الأمر بقتال الكافرين؛ وهو إما فرض عين، أو فرض كفاية، أو مستحب على حسب ما قرره العلماء؛ وقد سبق الكلام عليه عند قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} [البقرة: 190] .
2 - ومنها: الأمر بالقتال على وجه الإخلاص لله تعالى بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ لقوله تعالى: { وقاتلوا في سبيل الله }.
3 - ومنها: أنه يحرم على الإنسان أن يقاتل حمية، أو أن يقاتل شجاعة، أو أن يقاتل رياءً؛ لأن إيجاب الإخلاص في القتال يقتضي تحريم القتال لغير ذلك؛ اللهم إلا أن يكون دفاعاً عن النفس فهو مباح؛ بل قد يجب.
فإن قيل: لو قاتل دفاعاً عن وطنه لأنه بلد إسلامي؛ فيقاتل دفاعاً عنه لهذا الغرض؛ فهل يكون قتالاً في سبيل الله؟
فالجواب: نعم؛ لأن نيته أن لا يفرق بين وطنه وغيره إذا كان ذلك لحماية الإسلام.
4 - ومن فوائد الآية: وجوب التمشي في الجهاد على ما تقتضيه الشريعة من طاعة الأمير، والصبر عند اللقاء، ومعاملة الأسرى، وغير ذلك.
5 - ومنها: التحذير من مخالفة الشريعة؛ لقوله تعالى: { واعلموا أن الله سميع عليم }؛ فإن مقتضى ذلك أن نحذر من مخالفته؛ لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.
6 - ومنها: الترغيب في موافقة الشرع؛ فإن ذلك لا يضيع عند الله؛ لأنه سميع لأقوالنا عليم بأحوالنا.
7 - ومنها: إثبات هذين الاسمين لله تعالى؛ وهما «السميع» ، و «العليم» ؛ وما تضمناه من صفة، وحُكم؛ وقد سبق تفصيل «السمع» الذي وصف الله عزّ وجلّ به نفسه.
القـــــــرآن
)مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:245)
التفسير:
{ 245 } قوله تعالى: { فيضاعفه } فيها أربع قراءات؛ الأولى: «يضاعفُه» بمدّ الضاد مع رفع الفاء؛ والثانية؛ بمدّ الضاد مع فتح الفاء؛ والثالثة: «يضَعِّفُه» حذف المد مع تشديد العين، وضم الفاء؛ والرابعة: حذف المد مع تشديد العين، وفتح الفاء؛ ولهذا جاء الرسم صالحاً للقراءات الأربع؛ لأن القرآن أول ما كُتب ليس فيه حركات؛ أما على قراءة فتح الفاء فوجهه أن الفاء السابقة للفعل للسببية؛ والفعل منصوب بـ«أنْ» بعد الفاء السببية؛ لأنه جواب الاستفهام؛ وأما على قراءة الرفع فالفاء السابقة للفعل للاستئناف؛ والفعل مرفوع لتجرده من الناصب والجازم.
قوله تعالى: { من ذا } اسم استفهام؛ أو { من } اسم استفهام، و{ ذا } ملغاة؛ و{ الذي } خبر المبتدأ؛ والمبتدأ { من }؛ وهذا الاستفهام بمعنى التشويق، والحث؛ يعني: أين الذي يقرض الله، فليتقدم.
قوله تعالى: { يقرض الله }؛ «القرض» في اللغة: القطع؛ ومنه: المقراض - وهو المقص قاطع الثياب؛ ومعنى «أقرضت فلاناً» اقتطعت له جزءاً من مالي فأعطيته إياه؛ { يقرض الله } أي يعبده؛ وسميت العبادة قرضاً للمجازاة عليها؛ ويحتمل: أن الله أراد بالإقراض إنفاق المال في سبيله؛ لأنه تعالى لما قال: {قاتلوا في سبيل الله} [البقرة: 244] - والقتال يكون بالنفس، والمال - قال الله سبحانه وتعالى: { من ذا الذي يقرض الله }؛ وهذا جهاد بالمال.
قوله تعالى: { فيضاعفه له أضعافاً كثيرة }؛ { أضعافاً } مصدر مبين للنوع؛ لأن مطلق الضعف يكون بواحدة؛ لكن إذا قال تعالى: { أضعافاً } صار أكثر من واحد؛ فيكون مصدراً مبيناً للنوع؛ وقد بيّن الله سبحانه وتعالى هذه الأضعاف بقوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 261] .
قوله تعالى: { والله يقبض ويبسط }؛ فيها قراءتان: بالسين؛ وبالصاد؛ و «القبض» هو التضييق؛ وهو ضد البسط؛ و «البسط» هو التوسيع؛ فهو الذي بيده القبض، والبسط؛ ويعم كل شيء؛ فيقبض في الرزق ويبسط؛ وفي العلم؛ وفي العمر؛ وفي كل ما يتعلق في الحياة الدنيا، وفي الحياة الآخرة.
قوله تعالى: { وإليه ترجعون }: تقديم المعمول: «إليه» له فائدتان؛ فائدة لفظية؛ وفائدة معنوية؛ أما الفائدة اللفظية: فهي توافق رؤوس الآيات؛ وأما الفائدة المعنوية: فهي الحصر - فالمرجع كله إلى الله عزّ وجلّ -؛ لا إلى غيره، كما أن المبدأ كله من الله سبحانه وتعالى.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على الإنفاق في سبيل الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { من ذا الذي }؛ والاستفهام هنا للحث، والتشويق.
2 - ومنها: أن الجزاء على العمل مضمون كضمان القرض لمقرضه.
3 - ومنها: ملاحظة الإخلاص بأن يكون الإنسان منفقاً ماله لله عزّ وجلّ على سبيل الإخلاص، وطيب النفس، والمال الحلال، ولا يتبع إنفاقه منًّا، ولا أذًى؛ لقوله تعالى: { قرضاً حسناً }؛ فالقرض الحسن هو ما وافق الشرع بأن يكون:
أولاً: خالصاً لله؛ فإن كان رياءً وسمعة، فليس قرضاً حسناً؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»(92).
ثانياً: من مال حلال؛ فإن كان من مال حرام فليس بقرض حسن؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
ثالثاً: نفسه طيبة به؛ لا متكرهاً، ولا معتقداً أنه غُرْم وضريبة، كما يظن بعض الناس أن الزكاة ضريبة - حتى إن بعض الكُتّاب يعبرون بقولهم: ضريبة الزكاة - والعياذ بالله.
رابعاً: أن يكون في محله؛ بأن يتصدق على فقير، أو مسكين، أو في مصالح عامة؛ أما لو أنفقها فيما يغضب الله فإن ذلك ليس قرضاً حسناً.
خامساً: أن لا يتبع ما أنفق منًّا ولا أذًى؛ فإن أتبعه بذلك بطل ثوابه، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .
4 - ومن فوائد الآية: أن فضل الله وعطاءه واسع؛ وأن جزاءه للمحسن جزاء فضل؛ لقوله تعالى: { فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } مع أن أصل توفيقه للعمل الصالح فضل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء الأنصار حين ذكروا له فضل الأغنياء عليهم في الصدقات، والعتق: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»(93)؛ وعلى هذا فيكون لله تعالى في توفيق العبد للعمل الصالح فضلان: فضل سابق على العمل الصالح؛ وفضل لاحق - وهو الثواب عليه أضعافاً مضاعفة -؛ وأما جزؤاه للعصاة فهو دائر بين العدل والفضل؛ إن كانت المعصية كفراً فجزاؤها عدل؛ وإن كانت دون ذلك فجزاؤها دائر بين الفضل، والعدل؛ لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] .
5 - ومن فوائد الآية: تمام ربوبية الله عزّ وجلّ، وكمالها؛ لقوله تعالى: { والله يقبض ويبسط }.
6 - ومنها: الإشارة إلى أن الإنفاق ليس هو سبب الإقتار، والفقر؛ لأن ذكر هذه الجملة بعد الحث على الإنفاق يشير إلى أن الإنفاق لا يستلزم الإعدام، أو التضييق؛ لأن الأمر بيد الله سبحانه وتعالى؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نقصت صدقة من مال»(94)؛ وكم من إنسان أمسك، ولم ينفق في سبيل الله، فسلط الله على ماله آفات في نفس المال، كالضياع، والاحتراق، والسرقة، وما أشبه ذلك؛ أو آفات تلحق هذا الرجل ببدنه، أو بأهله يحتاج معها إلى أموال كثيرة؛ وقد يتصدق الإنسان، وينفق، ويوسع الله له في الرزق.
7 - ومن فوائد الآية: إثبات المعاد، والبعث؛ لقوله تعالى: { وإليه ترجعون }.
8 - ومنها: ترهيب المرء من المخالفة، وترغيبه في طاعة الله؛ لقوله تعالى: { وإليه ترجعون }؛ لأن الإنسان إذا علم أنه راجع إلى ربه لا محالة فإنه لا بد أن يكون فاعلاً لما أُمِر به تاركاً لما نُهي عنه؛ لأنه يخاف من هذا الرجوع.
القـــــرآن
)أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة:246)
التفسير:
{ 246 } قوله تعالى: { ألم تر }: الخطاب هنا إما للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وخطاب زعيم الأمة خطاب له، وللأمة؛ لأنها تبع له؛ وإما أنه خطاب لكل من يتوجه له الخطاب؛ فيكون عاماً في أصل وضعه؛ الفرق بين المعنيين أن الأول عام باعتبار التبعية للمخاطب به أولاً - وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والثاني عام باعتبار وضعه - يعني: ألم تر أيها المخاطب؛ و{ تر } : هل المراد تنظر؛ أو تسمع؛ أو تعلم؟ الفعل هنا عدِّي بـ{ إلى }؛ وإذا عدِّي بـ«إلى» تعين أن يكون من رؤية العين؛ ولو عدِّي بنفسه لأمكن أن يكون المراد بالرؤية العلم؛ فإذا كان كذلك فإنه يلزم أن يكون المعنى: ألم تر إلى شأن بني إسرائيل؛ لأن من المعلوم أننا نحن - بل والرسول صلى الله عليه وسلم - لم نشاهده؛ ويمكن أن نقول: إنها عديت بـ{ إلى }؛ وهي بمعنى النظر؛ لأن الإخبار بها جاء من عند الله؛ وما كان من عند الله فهو كالمرئي بالعين؛ بل أشد، وأبلغ.
والاستفهام هنا الظاهر أنه للتشويق - يعني يشوقنا أن ننظر إلى هذه القصة لنعتبر بها -؛ لأن التقرير إنما يكون في أمر كان معلوماً للمخاطب؛ فيُقَرَّر به، كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] ؛ وأما هذا فهو أمر ليس معلوماً للمخاطب إلا بعد أن يخبر به؛ فيكون هنا للتشويق، مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} [الصف: 10] ، وقوله تعالى: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1] ، وما أشبهها؛ أما لو كان يخاطب من كان عالماً بها لقلنا: إن الاستفهام للتقرير.
قوله تعالى: { الملأ من بني إسرائيل } أي الأشراف منهم؛ { من بعد موسى }: لما بين قبيلتهم ذكر زمنهم، وأنهم بعد موسى - وهو نبي الله موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم -؛ وهو أفضل أنبياء بني إسرائيل.
قوله تعالى: { إذ قالوا لنبي لهم }؛ «إذ» ظرف مبني على السكون في محل نصب؛ أي حين قالوا لنبي لهم؛ وفي «نبي» قراءتان: بالهمز، وبالياء المشددة؛ وسبق توجيههما؛ ومعنى النبوة.
إذا قال قائل: من هذا النبي؟ قلنا: إن الله سبحانه وتعالى أبهمه؛ ولو كان في معرفة اسمه فائدة لكان الله عزّ وجلّ يبيّن اسمه لنا؛ لكن ليس لنا في ذكر اسمه فائدة؛ المهم أنه نبي من الأنبياء.
قوله تعالى: { ابعث لنا ملكاً } أي مُرْ لنا بملك، أو أقم لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ وكان أمرهم في ذلك الوقت فوضوي ليس عندهم ملك يدبر أمورهم، ويدبر شؤونهم؛ والناس إذا كان ليس لهم ولي أمر صار أمرهم فوضى، كما قيل:
(لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم .............)
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم القوم إذا سافروا أن يؤمِّروا أحدهم عليهم(95) حتى لا تكون أمورهم فوضى.
قوله تعالى: { نقاتل في سبيل الله }؛ «نقاتل» بالجزم جواباً للأمر «ابعث» ؛ وهذا يدل على عزمهم على القتال إذا بعَث إليهم ملكاً؛ وسبق معنى «في سبيل الله»، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسرها بأحسن تفسير؛ وهو «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا»(96).
فقال لهم نبيهم يريد أن يختبرهم، وينظر عزيمتهم: { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا }؛ «عسيتم» فيها قراءتان: بفتح السين، وكسرها؛ وهي هنا للتوقع؛ فيكون المعنى: هل يتوقع منكم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟
وقوله تعالى: { إن كتب عليكم } جملة شرطية معترضة بين اسم «عسى»، وخبرها؛ فاسم «عسى» الضمير: التاء؛ و{ ألا تقاتلوا } خبرها؛ وجملة { إن كتب عليكم القتال } الشرطية جوابها محذوف؛ وقد نقول: إنها لا تحتاج إلى جواب لعلمه من السياق.
وقوله تعالى: { إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا }، أي إن فرض عليكم القتال ألا تقاتلوا؛ فكان جوابهم أن قالوا: { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }.
قوله تعالى: { وما لنا ألا نقاتل }؛ «أن» مصدرية؛ والمعنى: أي مانع لنا يمنعنا من القتال في سبيل الله وقد وجِد مقتضي ذلك؛ وهو قولهم: { وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }؛ والإنسان إذا أُخرج من داره، وبنيه فلا بد أن يقاتل لتحرير البلاد، وفكّ الأسرى.
وقوله تعالى: { وقد أخرجنا ... } جملة حالية في محل نصب.
قوله تعالى: { فلما كتب عليهم القتال تولوا }: هم طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله، ولما استثبت نبيهم منهم قالوا: إنا عازمون على ذلك، وثابتون عليه؛ ولكن لما كتب عليهم القتال، وفرض عليهم { تولوا }، فصار ما توقعه نبيهم حقاً أنهم لن يقاتلوا؛ و{ تولوا } أي أعرضوا عن هذا الغرض، ولم يقوموا به.
قوله تعالى: { إلا قليلًا منهم }: «القليل» ما دون الثلث؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الثلث كثير»(97)؛ وهي منصوبة على الاستثناء.
قوله تعالى: { والله عليم بالظالمين }؛ ومقتضى علمه بهم أن يجازيهم على ظلمهم؛ والظلم هنا ليس لفعل محرم؛ ولكنه لترك واجب؛ لأن ترك الواجب كفعل المحرم؛ فيه ظلم للنفس، ونقص من حقها.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على النظر، والاعتبار؛ لقوله تعالى: { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل }.
2 - ومنها: أن في هذه القصة عبراً لهذه الأمة، حيث إن هؤلاء القوم الذين كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم.
3 - ومنها: تحذير هذه الأمة عن التولي عن القتال إذا كتب عليهم.
4 - ومنها: أنه لا بد للجيوش من قائد يتولى قيادتها؛ لقولهم: { ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله }.
5 - ومنها: أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الملك؛ لقولهم: { ابعث لنا ملكاً } يخاطبون النبي؛ فالنبي له السلطة أن يبعث لهم ملكاً يتولى أمورهم ويدبرهم.
6 - ومنها: إذا طلب الإنسان شيئاً من غيره أن يذكر ما يشجعه على إجابة الطلب؛ لقولهم: { نقاتل في سبيل الله }؛ فإن هذا يبعث النبي ويشجعه على أن يبعث لهم الملك.
7 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }.
8 - ومنها: امتحان المخاطَب بما طلب فعله، أو إيجادَه من غيره: هل يقوم بما يجب عليه نحوه، أم لا؛ لقوله تعالى: { هل عسيتم إن كتب القتال ألا تقاتلوا }.
9 - ومنها: أن الإنسان بفطرته يكون مستعداً لقتال من قاتله؛ لقولهم: { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }؛ ولهذا تجد الجبان إذا حُصر يأتي بما عنده من الشجاعة، ويكون عنده قوة للمدافعة.
10 - ومنها: أن من مبيحات القتال إخراج الإنسان من بلده، وأهله ليرفع ظلم الظالمين؛ لقولهم: { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا }؛ لكن لو كان إخراجهم بحق - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بني النضير(98) - فلا حق لهم في المقاتلة، أو المطالبة - ولو أسلموا -؛ لأن الله أورث المسلمين أرضهم، وديارهم، وأموالهم؛ والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين؛ قال الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105] .
11 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان قد يظن أنه يستطيع الصبر على ترك المحظور، أو القيام بالمأمور؛ فإذا ابتُلي نكص؛ لقوله تعالى: { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم } مع أنهم كانوا في الأول متشجعين على القتال.
12 - ومنها: الإشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية؛ فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»(99)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال فلينأ عنه؛ فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات»(100)؛ ويشبه هذا أن بعض الناس ينذرون النذر وهم يظنون أنهم يوفون به؛ ثم لا يوفون به، كما في قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين*فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} [التوبة: 7، 76] .
13 - ومن فوائد الآية: أن البلاء موكل بالمنطق؛ لأنه قال لهم: { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا}؛ فكان ما توقعه نبيهم واقعاً؛ فإنهم لما كتب عليهم القتال تولوا.
14 - ومنها: أن بعض السؤال يكون نكبة على السائل، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101] .
15 - ومنها: وجوب القتال دفاعاً عن النفس؛ لأنهم لما قالوا: { وقد أخرجنا } قال تعالى: { فلما كتب عليهم القتال } أي فرض عليهم؛ ليدافعوا عن أنفسهم، ويحرروا بلادهم من عدوهم؛ وكذلك أبناءهم من السبي.
16 - ومنها: تحذير الظالم من الظلم - أيَّ ظلم كان -؛ لقوله تعالى: { والله عليم بالظالمين }؛ فإن هذه الجملة تفيد الوعيد والتهديد للظالم.
17 - ومنها: تحريم الظلم لوقوع التهديد عليه.
18 - ومنها: أن ترك الواجب من الظلم؛ لقوله تعالى: { تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين } أي المتولين الذين فرض عليهم القتال، ولم يقوموا به؛ فدل ذلك على أن الظلم ينقسم إلى قسمين: إما فعل محرم؛ وإما ترك واجب.
القــــــرآن
)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:247)
التفسير:
{ 247 } قوله تعالى: { وقال لهم نبيهم } بتشديد الياء؛ وفي قراءة: «نبيئهم» بالهمز.
قوله تعالى: { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً }؛ { طالوت } علَم على المبعوث؛ و{ ملكاً } حال من { طالوت }؛ و «الملِك» هو الذي له التدبير الذي لا ينازَع فيه؛ ولكنه بالنسبة للمخلوق بحسب ما تقتضيه الولاية الشرعية، أو العرفية.
قوله تعالى: { قالوا } أي معترضين على هذا { أنى } بمعنى الاستفهام الإنكاري { يكون له الملك علينا }.
ثم قالوا معززين لاستبعادهم هذا الشيء: { ونحن أحق بالملك منه }؛ كأنهم يرون أن الملِك لا يكون إلا كابراً عن كابر، وأن هذا لم يسبق لأحد من آبائه أنه تولى الملْك بخلافنا نحن؛ فإن الملوك كانوا منا؛ فكيف جاءه الملك؟! أيضاً { ولم يؤت سعة من المال }: فهو فقير؛ وقد يقال: إنه ليس بفقير؛ لكن ليس عنده مال واسع؛ وفرق بين الفقير المعدم، وبين من يجد، ولكن ليس ذا سعة - يعني ليس غنياً ننتفع بماله -، ويدبرنا بماله، ويحصّل الجيوش، والجنود بماله؛ فذكروا علتين؛ إحداهما: من حيث التوسط في مجتمعه؛ والثانية: من حيث المال؛ إذاً فَقَدَ القوة الحسبية، والقوة المالية؛ قالوا: هذا الرجل ليس عنده حسب؛ فليس من أبناء الملوك؛ وليس عنده مال؛ فليس من الأثرياء الذين يُخضعون الناس بأموالهم.
وجملة: { ونحن أحق بالملك منه } في موضع نصب على الحال؛ وتأمل قول نبيهم: { إن الله قد بعث لكم طالوت } حيث عبر باللام الدالة على أنه هذا الملِك بُعث لمصلحتهم؛ وبين قولهم: { أنى يكون له الملك علينا } حيث أومؤوا إلى أن بعثه للسيطرة عليهم.
جواب نبيهم: { قال إن الله اصطفاه عليكم }؛ أي اختاره عليكم؛ وأصلها من: الصفوة؛ فيكون أصل «اصطفاه» اصتفاه - بتاء الافتعال؛ ولكنها قلبت طاءً لعلة تصريفية.
وقوله هنا: { اصطفاه عليكم }؛ وفي الأول قال: { إن الله قد بعث لكم } إشارة إلى أنه تعالى فضَّله عليهم، فاختاره؛ لأنه أفضل منهم؛ فهو مفضل عليهم لما أعطاه الله مما سيُذكر.
قوله تعالى: { وزاده بسطة } أي سعة، كقوله تعالى: {والله يقبض ويبسط} [البقرة: 245] ، وقوله تعالى: {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} [الرعد: 26] .
قوله تعالى: { في العلم والجسم }؛ المراد بـ { العلم } علم تدبير الملْك؛ فعنده الحنكة، والرأي ما جعله مختاراً عليهم من قبل الله عزّ وجلّ؛ أيضاً زاده بسطة في الجسم؛ وهي القوة، والضخامة، والشجاعة؛ فاجتمع في حقه القوتان: المعنوية - وهي العلم؛ والحسية - وهي أن الله زاده بسطة في الجسم.
قوله تعالى: { والله يؤتي ملكه من يشاء } أي يعطي ملكه من يشاء على حسب ما تقتضيه حكمته، كما قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} [آل عمران: 26] .
قوله تعالى: { والله واسع } أي ذو سعة في جميع صفاته؛ واسع في علمه، وفضله، وكرمه، وقدرته، وقوته، وإحاطته بكل شيء، وجميع صفاته، وأفعاله؛ و{ عليم } أي ذو علم بكل شيء؛ ومنه العلم بمن يستحق أن يكون ملكاً، أو غيرَه من الفضل الذي يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن نبيهم وافقهم على أن يبعث إليهم ملِكاً ليقاتلوا في سبيل الله؛ فدعا الله عزّ وجلّ، فاستجاب له.
2 - ومنها: كمال تعظيم الأنبياء لله تعالى، وحسن الأدب معه؛ لقول نبيهم: { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً }؛ ولم يقل: إني بعثت.
3 - ومنها: أن أفعال العباد مخلوقة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { إن الله قد بعث لكم }.
4 - ومنها: إسناد الفضل إلى أهله؛ لقوله تعالى: { إن الله قد بعث لكم }.
5 - ومنها: أن الله قد يعطي المُلك من لا يترقبه - لكونه غير وجيه، ولا من سلالة الملوك.
6 - ومنها: اختيار الألفاظ التي يكون بها إقناع المخاطَب، وتسليمه للأمر الواقع؛ لقول نبيهم: { إن الله قد بعث لكم }؛ فإنه أبلغ في الإقناع، والتسليم من قوله: إني بعثت لكم.
7 - ومنها: أن المعترض يذكر وجه اعتراضه لمخاطبه؛ لقولهم: { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال }.
8 - ومنها: أن استفهام هؤلاء القوم يحتمل أن يكون المراد به الاعتراض؛ ويحتمل أن يراد به الاستكشاف، والبحث عن السبب بدون اعتراض: كيف كان ملكاً ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ فإن كان الأول فإن حالهم تقتضي الذم؛ لأنهم كيف يعترضون وهم الذين طلبوا أن يبعث لهم ملكاً!!! وإن كان الثاني فلا اعتراض عليهم، ولا لوم عليهم.
9 - ومنها: أن المجيب يختار ما يكون به الإقناع بادئاً بالأهم فالأهم؛ لقول نبيهم في جوابه: { إن الله اصطفاه عليكم... } إلخ؛ فبدأ بذكر ما لا جدال فيه - وهو اصطفاء الله عليهم -؛ ثم ذكر بقية المؤهلات: وهي أن الله زاده بسطة في العلم، وتدبير الأمة، والحروب، وغير ذلك، وأن الله زاده بسطة في الجسم: ويشمل القوة، والطول...؛ وأن الله عزّ وجلّ هو الذي يؤتي ملكه من يشاء، وفعله هذا لابد وأن يكون مقروناً بالحكمة: فلولا أن الحكمة تقتضي أن يكون طالوت هو الملك ما أعطاه الله عزّ وجلّ الملك؛ وأن الله واسع عليم: فهو ذو الفضل الذي يمده إلى من يشاء من عباده؛ فله أن يتفضل على من يشاء؛ الله أعلم حيث يجعل رسالته؛ والله أعلم أيضاً حيث يجعل ولايته.
10 - ومن فوائد الآية: أن الملك تتوطد أركانه إذا كان للإنسان مزية في حسبه، أو نسبه، أو علمه، أو قوته؛ يؤخذ هذا أولاً من قولهم: { أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال }؛ وثانياً من قوله: { إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم }.
11 - ومنها: بيان أن تقدير الله عزّ وجلّ فوق كل تصور؛ لقوله تعالى: { إن الله اصطفاه عليكم } مع أنهم قَدَحوا فيه من وجهين: أنهم أحق بالملك منه، وأنه فقير؛ فبيّن نبيهم أن الله اصطفاه عليكم بما تقتضيه الحكمة.
12 - ومنها: أنه كلما كان ولي الأمر ذا بسطة في العلم، وتدبير الأمور، والجسم، والقوة كان أقوَم لملكه، وأتم لإمرته؛ لقوله تعالى: { وزاده بسطة في العلم والجسم }.
13 - ومنها: أن ملك بني آدم مُلك لله؛ لقوله تعالى: { والله يؤتي ملكه من يشاء }؛ فهذا المَلِك في مملكته هو في الحقيقة ما مَلَكَ إلا بإذن الله عزّ وجلّ؛ فالمُلْك لله سبحانه وتعالى وحده يؤتيه من يشاء.
14 - ومنها: أن ملكنا لما نملكه ليس ملكاً مطلقاً نتصرف فيه كما نشاء؛ بل هو مقيد بما أذن الله به؛ ولهذا لا نتصرف فيما نملك إلا على حسب ما شرعه الله؛ فلو أراد الإنسان أن يتصرف في ملكه كما يشاء - يتلفه ويحرقه، ويعذبه إذا كان حيواناً - فليس له ذلك؛ لأن ملكه تابع لملك الله سبحانه وتعالى.
15 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { من يشاء }؛ ومشيئته تعالى تابعة لحكمته؛ لقوله عزّ وجلّ: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .
16 - ومنها: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تقع بمشيئته لا مكره له؛ لأنه المهيمن على كل شيء.
17 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله - وهما { واسع }، و{ عليم }، وما تضمناه من وصف، أو حكم.
18 - ومنها: إثبات سعة الله عزّ وجلّ في إحاطته، وصفاته، وأفعاله.
القــــــرآن
)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة:248)
التفسير:
{ 248 } قوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت }؛ { آية } يعني علامة، كما قال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء: 197] يعني علامة تدل على أنه حق.
قوله تعالى: { أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم }؛ { أنْ }، وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر { إنّ}؛ و{ التابوت } شيء من الخشب، أو من العاج يشبه الصندوق؛ ينزل، ويصطحبونه معهم، وفيه السكينة - يعني أنه كالشيء الذي يسكنهم، ويطمئنون إليه -؛ وهذا من آيات الله.
قوله تعالى: { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } وهم الأنبياء تركوا العلم، والحكمة؛ لأن الأنبياء لم يورِّثوا درهماً، ولا ديناراً؛ وإنما ورثوا العلم؛ فهذا التابوت كان مفقوداً، وجاء به هذا الملِك الذي بعثه الله لهم، وصار معهم يصطحبونه في غزواتهم فيه السكينة من الله سبحانه وتعالى: أنهم إذا رأوا هذا التابوت سكنت قلوبهم، وانشرحت صدورهم؛ وفيه أيضاً مما ترك آل موسى، وآل هارون - عليهما الصلاة والسلام - من العلم، والحكمة.
وقوله تعالى: { آل موسى وآل هارون }؛ خص موسى، وهارون - عليهما الصلاة والسلام -، لأنهما جاءا برسالة واحدة.
وقوله تعالى: { تحمله الملائكة }: الجملة حال من { التابوت }؛ و{ الملائكة } عالم غيبي خلقوا من نور؛ وسبق الكلام مبسوطاً في أحوالهم(101).
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية } بالنصب اسم { إن } مؤخراً؛ والمشار إليه: «التابوت تحمله الملائكة، وفيه سكينة من الله، وبقية مما ترك آل موسى، وآل هارون».
قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين } أي ذوي إيمان.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث يؤيد الأمور بالآيات لتقوم الحجة؛ لقوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه }؛ ولو شاء الله عزّ وجلّ لفعل ما يفعل بدون آية، وانتقم من المكذبين، والمستكبرين؛ ولكن من رحمته عزّ وجلّ أنه يبعث بالآيات حتى تطمئن القلوب، وحتى تقوم الحجة؛ ولهذا ما من رسول أرسل إلا أوتي ما على مثله يؤمن البشر؛ وحصول الآيات حكمة ظاهرة؛ لأنه لو خرج رجل من بيننا، وقال: أنا رسول الله إليكم: «افعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه؛ وإلا فإن دماءكم وأموالكم حلال لي»؛ فإنه لا يطاع؛ ولكن من رحمة الله عزّ وجلّ، وحكمته أن جعل للرسل آيات حتى تقوم الحجة، ويستجيب الناس.
2 - ومن فوائد الآية: ما في التابوت من الآيات العظيمة، حيث كان هذا التابوت مشتملاً على ما تركه آل موسى، وآل هارون من العلم، والحكمة من وجه؛ وكان أيضاً سكينة للقوم تسكن إليه نفوسهم، وقلوبهم، ويزدادون قوة في مطالبهم.
3 - ومنها: أن للسكينة تأثيراً على القلوب؛ لقوله تعالى: { فيه سكينة من ربكم }؛ وتأمل كيف أضافه إلى ربوبيته إشارة إلى أن في ذلك عناية خاصة لهؤلاء القوم؛ والسكينة إذا نزلت في القلب اطمأن الإنسان، وارتاح، وانشرح صدره لأوامر الشريعة، وقَبِلها قبولاً تاماً.
4 - ومنها: إثبات الملائكة؛ لقوله تعالى: { تحمله الملائكة }؛ وفي قوله تعالى: { الملائكة } دليل على أن التابوت كبير.
5 - ومنها: أن الآيات إنما ينتفع بها المؤمن؛ لقوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين }.
6 - ومنها: تأكيد الشيء بأدوات التأكيد، والتكرار؛ وهنا في هذه الآية اجتمع التكرار، والأدوات؛ فقوله تعالى: { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت }، ثم قوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم }: فهذا أكد بالتكرار؛ وأكد أيضاً بـ{ إن }، واللام: { إن في ذلك لآية لكم }: فهذا أكد بالأدوات.
7 - ومنها: فضيلة الإيمان، وأن الإيمان أكبر ما يكون تأثيراً في الانتفاع بآيات الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين }.
8 - ومنها: أن الإنسان إذا ازداد إيماناً ازداد فهماً لكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء إذا علق على وصف فإنه يزداد بزيادة ذلك الوصف، وينقص بنقصانه؛ فكلما تم الإيمان كان انتفاع الإنسان بآيات الله أكثر، وفهمه لها أعظم.
9 - ومنها: أن الملائكة أجسام؛ لقوله تعالى: { تحمله الملائكة }؛ وأما قول من يقول: إنهم عقول فقط؛ أو أنهم أرواح، وليس لهم أجسام فقول ضعيف؛ بل باطل؛ لأن الله تعالى يقول: {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة} [فاطر: 1] ؛ والنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على خلقته - أو على صورته - التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق(102).
القـــــرآن
)فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:249)
التفسير:
{ 249 } قوله تعالى: { فلما فصل طالوت بالجنود } أي مشى بهم، وانفصل عن مكانه؛ و «الجنود» جمع «جند»؛ وهم الجيش المقاتلون؛ وكان طالوت رجلاً ذكياً عاقلاً؛ لأن الله زاده بسطة في العلم، والجسم؛ وكان عنده علم بأحوالهم من قبل؛ وأنه لما كُتب عليهم القتال بين لهم أن الله مبتليهم بنهر؛ والنهر هو الماء الجاري الكثير؛ فابتلاهم الله عزّ وجلّ بهذا النهر؛ أولاً: ليعلم من يصبر، ومن لا يصبر؛ لأن الجهاد يحتاج إلى معاناة، وصبر؛ ثانياً: ليعلم من يطيع ممن لا يطيع؛ ولهذا قال لهم الملك طالوت: { إن الله مبتليكم بنهر } أي مختبركم به.
قوله تعالى: { فمن شرب منه } أي كثيراً { فليس مني } أي فإني منه بريء؛ لأنه ليس على منهجي؛ {ومن لم يطعمه } أي لم يشرب منه شيئاً { فإنه مني } أي على طريقي، ومنهجي؛ { إلا من اغترف غرفة بيده } أي شرب قليلاً مغترفاً بيده - لا بيديه -.
قوله تعالى: { فشربوا منه } أي شرباً كثيراً { إلا قليلاً منهم } فلم يشرب كثيراً؛ وقد قيل: إن عددهم ثمانون ألفاً؛ شرب منهم ستة وسبعون ألفاً؛ فالله أعلم.
قوله تعالى: { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } أي فلما تعداه طالوت، والذين آمنوا معه؛ ولا يلزم أن يكونوا عبروا من فوقه؛ { قالوا } أي الذين جاوزوه؛ والمراد بعضهم بدليل قوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله... } إلخ؛ { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } أي لا قدرة لنا؛ و «أل» للعهد الحضوري - أي: هذا اليوم -؛ يعنون به اليوم الذي شاهدوا فيه عدوهم؛ { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} أي يوقنون بذلك؛ لأن «الظن» يراد به اليقين أحياناً، كما في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 45، 46] أي يوقنون به.
قوله تعالى: { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة }: { كم } للتكثير، أي ما أكثر ما تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة.
قوله تعالى: { بإذن الله } أي بقدره؛ { والله مع الصابرين } أي بالنصر، والتأييد.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه ينبغي للقائد أن يتفقد جنوده؛ لقوله تعالى: { فصل طالوت بالجنود } أي مشى بهم، وتدبر أحوالهم، ورتبهم.
2 - ومنها: أنه يجب على القائد أن يمنع من لا يصلح للحرب سواء كان مخذلاً، أو مرجفاً، أو ملحداً؛ لقوله تعالى: { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده }؛ والفرق بين المخذل، والمرجف، أن المخذِّل هو الذي يخذل الجيش، ويقول: ما أنتم بمنتصرين؛ والمرجف هو الذي يخوف من العدو، فيقول: العدو أكثر عدداً، وأقوى استعداداً... وما أشبه ذلك.
3 - ومنها: أن من الحكمة اختيار الجند؛ ليظهر من هو أهل للقتال، ومن ليس بأهل؛ ويشبه هذا ما يصنع اليوم، ويسمى بالمناورات الحربية؛ فإنها عبارة عن تدريب، واختيار للجند، والسلاح: كيف ينفذون الخطة التي تعلَّموها؛ فيجب أن نختبر قدرة الجند على التحمل، والثبات، والطاعة؛ والأساليب الحربية مأخوذة من هذا؛ ولكنها متطورة حسب الزمان.
4 - ومنها: أن طالوت امتحنهم على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: من شرب من النهر كثيراً؛ فهذا قد تبرأ منه.
الوجه الثاني: من لم يشرب شيئاً؛ فهذا من طالوت - أي من جنوده المقربين -.
الوجه الثالث: من شرب منه غرفة بيده؛ فهذا لم يتبرأ منه؛ وظاهر الآية أنه مثل الوجه الثاني.
وهذا الابتلاء أولاً ليعلم به من يصبر على المشقة ممن لا يصبر؛ فهو كالترويض والتمرين على الصبر؛ ثانياً: ليعلم به من يمتثل أوامر القائد، ومن لا يمتثل.
5 - ومن فوائد الآية: أن أكثر عباد الله لا ينفذ أمر الله؛ لقوله تعالى: { فشربوا منه إلا قليلاً منهم }؛ وهذا أمر يشهد به الحال. قال الله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13] ؛ وقال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116] ؛ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من بني آدم تسعُمائة وتسعةٌ وتسعون من الألف(103)؛ فالطائع قليل، والمعاند كثير.
6 - ومنها: جواز إخبار الإنسان بالواقع إذا لم يترتب عليه مفسدة؛ لأنهم قالوا: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }؛ وقد يقال: إن هذا لا تدل عليه الآية؛ وأن فيها دليلاً على أن الجبان في ذُعر دائم، ورعب؛ لقولهم: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }.
7 - ومنها: أن الإيمان موجب للصبر، والتحمل؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين }.
8 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده إما بفوات محبوب؛ أو حصول مكروه؛ ليعلم سبحانه وتعالى صبرهم؛ ولهذا نظائر؛ منها ما قصه سبحانه عن بني إسرائيل حين حرم عليهم صيد الحوت في يوم السبت؛ فكانت الحيتان تأتي يوم السبت شُرَّعاً؛ وفي غير يوم السبت لا يرون شيئاً؛ فصنعوا حيلة؛ وهي أنهم وضعوا شباكاً في يوم الجمعة؛ فإذا جاءت الحيتان يوم السبت دخلت في هذا الشباك، ثم نشبت فيه؛ فإذا كان يوم الأحد استخرجوها منه؛ فكان في ذلك حيلة على محارم الله؛ ولهذا انتقم الله منهم؛ ووقع ذلك أيضاً للصحابة - رضوان الله عليهم - وهم في حال الإحرام: فابتلاهم الله بصيد تناله أيديهم، ورماحهم؛ ولكنهم رضي الله عنهم امتنعوا عن ذلك؛ وهؤلاء - أعني أصحاب طالوت - ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بهذا النهر، وكانوا عطاشاً، فقال لهم نبيهم: { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده }.
9 - ومن فوائد الآية: أن الله عزّ وجلّ عند الابتلاء يرحم الخلق بما يكون فيه بقاء حياتهم؛ لقوله تعالى هنا: { إلا من اغترف غرفة بيده }؛ لأنهم لا بد أن يشربوا للنجاة من الموت.
10 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { فمن شرب }، وقوله تعالى: { إلا من اغترف }، حيث أضاف الفعل إليهم.
11 - ومنها: أن القليل من الناس هم الذين يصبرون عند البلوى؛ لقوله تعالى: { فشربوا منه إلا قليلاً منهم}.
12 - ومنها: أن من الناس من يكون مرجفاً، أو مخذِّلاً؛ لقوله تعالى: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }؛ هؤلاء مخذِّلون؛ وفي نفس الوقت أيضاً مرجفون.
13 - ومنها: أن اليقين يحمل الإنسان على الصبر، والتحمل، والأمل، والرجاء؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين }؛ مع اليقين قالوا هذا القول لغيرهم لما قال أولئك: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }؛ فردوا عليهم.
14 - ومنها: إثبات ملاقاة الله؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله }، كما قال تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق: 6] .
15 - ومنها: أن الظن يأتي في محل اليقين؛ بمعنى أنه يستعمل الظن استعمال اليقين؛ لقوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله }.
16 - ومنها: أنه قد تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة بإذن الله؛ وهذا قد وقع فيما سبق من الأمم، ووقع في هذه الأمة مثل غزوة «بدر»؛ وقد تُغلَب الفئة الكثيرة، وإن كان الحق معها، كما في غزوة «حنين»؛ لكن لسبب.
17 - ومنها: أن الوقائع، والحوادث لا تكون إلا بإذن الله؛ وهذا يشمل ما كان من فعله تعالى؛ وفعل مخلوقاته؛ لقوله تعالى: { بإذن الله }.
18 - ومنها: إثبات الإذن لله سبحانه وتعالى؛ وهو ينقسم إلى قسمين: إذن كوني؛ وإذن شرعي؛ ففي هذه الآية: إذن كوني؛ وفي قوله تعالى: {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [يونس: 59] : هذا شرعي؛ وفي قوله تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21] هذا شرعي أيضاً.
19 - ومنها : فضيلة الصبر؛ لقوله تعالى: { والله مع الصابرين }.
20 - ومنها: إثبات المعية لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { والله مع الصابرين }؛ فإن قلت: هذه الآية ظاهرها تخصيص معية الله بالصابرين مع أنه في آيات أخرى أثبت معيته لعموم الناس؛ فقال تعالى: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] ؛ هذا عام، وقال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [المجادلة: 7] ؛ فالجواب: أن هذه المعية خاصة تقتضي الإثابة، والنصر، والتأييد؛ وتلك معية عامة تقتضي الإحاطة بالخلق علماً، وسمعاً، وبصراً، وسلطاناً، وغير ذلك من معاني ربوبيته؛ والمعية التي أضافها الله إلى نفسه منها ما يقتضي التهديد؛ ومنها ما يقتضي التأييد؛ ومنها ما هو لبيان الإحاطة، والشمول؛ فمثال الذي يقتضي التأييد قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] ، وقوله تعالى لموسى، وهارون: {إني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] ، وقوله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] ؛ ومثال الذي يقتضي التهديد قوله تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} [النساء: 108] ؛ ومثال ما يقتضي الإحاطة قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] .
فإن قلت: ما الجمع بين إثبات المعية لله عزّ وجلّ، وإثبات العلوّ له؟.
فالجواب: أنه لا تناقض بينهما؛ إذ لا يلزم من كونه معنا أن يكون حالاًّ في الأمكنة التي نحن فيها؛ بل هو معنا وهو في السماء، كما نقول: القمر معنا، والقطب معنا، والثريا معنا، وما أشبه ذلك مع أنها في السماء.
21 - ومن فوائد الآية: الترغيب في الصبر؛ لقوله تعالى: { والله مع الصابرين }؛ والصبر ثلاثة أنواع:
الأول: صبر على طاعة الله : بأن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة، فيقوم بها من غير ملل، ولا ضجر.
الثاني: الصبر عن محارم الله: بأن يحبس نفسه عما حرم الله عليه من قول، أو عمل.
الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة: بأن يحبس نفسه عن التسخط على ما يقدره الله من المصائب العامة، والخاصة.
وأعلاها الأول، ثم الثاني، ثم الثالث.
القـــــرآن
)وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:250)
التفسير:
{ 250 } قوله تعالى: { ولما برزوا لجالوت وجنوده } أي ظهر طالوت، وجنوده؛ مأخوذ من «البراز» - وهي الأرض الواسعة البارزة الظاهرة.
قوله تعالى: { قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً }: إفراغ الشيء على الشيء يدل على عمومه له؛ والمعنى املأ قلوبنا، وأجسادنا صبراً حتى نثبت.
قوله تعالى: { وثبت أقدامنا } يعني اجعلها ثابتة لا تزول: فلا نفر، ولا نهرب؛ وربما يراد بـ «الأقدام» ما هو أعم من ذلك؛ وهو تثبيت القلوب أيضاً.
قوله تعالى: { وانصرنا على القوم الكافرين } أي قوِّنا عليهم حتى نغلبهم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن من تمام العبودية أن يلجأ العبد إلى ربه عند الشدائد؛ لقوله تعالى: { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً }.
2 - ومنها: أن التجاء الإنسان إلى الله عند الشدائد سبب لنجاته، وإجابة دعوته، لقوله تعالى بعد ذلك: { فهزموهم بإذن الله } [البقرة: 251] ؛ وأما اعتماد الإنسان على نفسه، واعتداده بها فسبب لخذلانه، كما قال تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} [التوبة: 25] ؛ وهذا مشهد عظيم في الواقع؛ فإن كثيراً من الناس إذا أعطاه الله سبحانه وتعالى نعمة في بدنه، أو ماله، أو أهله يرى أن ذلك من حوله، وقوته، وكسبه؛ وهذا خطأ عظيم؛ بل هو من عند الله؛ هو الذي منّ به عليك؛ فانظر إلى الأصل - لا إلى الفرع -؛ والنظر إلى الفرع، وإهمال الأصل سفه في العقل، وضلال في الدين؛ ولهذا يجب عليك إذا أنعم الله عليك بنعمة أن تثني على الله بها بلسانك، وتعترف له بها في قلبك، وتقوم بطاعته بجوارحك.
3 - ومن فوائد الآية: اضطرار الإنسان إلى ربه في تثبيت قدمه على طاعة الله؛ لقوله تعالى: { وثبت أقدامنا}.
4 - ومنها: ذكر ما يكون سبباً للإباحة؛ لقوله تعالى: { وانصرنا على القوم الكافرين }؛ لم يقولوا: على أعدائنا؛ كأنهم يقولون: انصرنا عليهم من أجل كفرهم؛ وهذا في غاية ما يكون من البعد عن العصبية، والحمية؛ يعني ما طلبنا أن تنصرنا عليهم إلا لأنهم كافرون.
القــــرآن
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251)
التفسير:
{ 251 } قوله تعالى: { فهزموهم } أي غلبوهم { بإذن الله } أي بتقديره؛ فالإذن هنا كوني.
قوله تعالى: { وقتل داود جالوت }؛ داود كان من جنود طالوت؛ لكنه عليه الصلاة والسلام كان قوياً شجاعاً؛ يقال: إن جالوت طلب البراز؛ لأن جالوت قائد جبار عنيد قوي؛ فخرج إليه داود، فقتله؛ وقد ذكروا في كيفية قتله ما لا حاجة إلى ذكره، ولا سند صحيح في إثباته؛ وليس لنا في كيفية قتله كبير فائدة؛ ولذا لم يصف الله تعالى لنا القتل؛ فالمقصود قتله، وقد حصل؛ وإذا قُتل - وهو القائد - انهزم الجنود.
قوله تعالى: { وآتاه الله } ضمير المفعول به يعود إلى { داود }؛ أي أعطاه الله { الملك } فصار ملكاً؛ وآتاه { الحكمة } فصار رسولاً؛ واجتمع له ما به صلاح الدين، والدنيا: الشرع، والإمارة.
قوله تعالى: { وعلمه مما يشاء } أي من الذي يشاؤه؛ ومن ذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80] .
قوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }؛ { دفع } بفتح الدال، وإسكان الفاء؛ وفي قراءة: «دفاع» بكسر الدال، وفتح الفاء، وألف بعدها؛ وهما سبعيتان؛ و{ دفع } مصدر مضاف إلى فاعله؛ و{ الناس } مفعول به؛ و{ بعضهم } بدل منه؛ و{ ببعض } متعلق بـ{ دفع }؛ وخبر المبتدأ محذوف تقديره: موجود؛ يعني: لولا أن دفع الله الناس بعضهم ببعض موجود لفسدت الأرض.
وقوله تعالى: { لفسدت الأرض } جواب «لولا»؛ و «الفساد» ضد «الصلاح»؛ ومن أنواعه ما ذكره الله تعالى بقوله: {لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً} [الحج: 40] .
قوله تعالى: { ولكن الله ذو فضل على العالمين } أي صاحب فضل؛ و «الفضل» هو العطاء الزائد الواسع الكثير؛ { على العالمين } أي جميع الخلق؛ وسموا عالماً؛ لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن مَنْ صَدَق اللجوء إلى الله، وأحسن الظن به أجاب الله دعاءه.
2 - ومنها: أنه يجب على المرء إذا اشتدت به الأمور أن يرجع إلى الله عزّ وجلّ.
3 - ومنها: إضافة الحوادث إلى الله عزّ وجلّ - وإن كان من فعل الإنسان؛ لقوله تعالى: { فهزموهم }: هذا فعلهم - لكن { بإذن الله }؛ فالله هو الذي أذن بانتصار هؤلاء، وخذلان هؤلاء.
4 - ومنها: شجاعة داود - عليه الصلاة والسلام -، حيث قتل جالوت حين برز لهم؛ والشجاعة عند المبارزة لها أهمية عظيمة؛ لأنه إذا قُتِل المبارِز أمام جنده فلا شك أنه سيجعل في قلوبهم الوهن، والرعب؛ ويجوز في هذه الحال أن يخدع الإنسان من بارزه؛ لأن المقام مقام حرب؛ وكل منهما يريد أن يقتل صاحبه؛ فلا حرج أن يخدعه؛ ويُذكر أن عمرو بن ودّ لما خرج لمبارزة علي بن أبي طالب صاح به عليّ، وقال: «ما خرجت لأبارز رجلين»؛ فظن عمرو أن أحداً قد لحقه، فالتفت، فضربه علي(104)؛ هذه خدعة؛ ولكنها جائزة؛ لأن المقام مقام حرب؛ هو يريد أن يقتله بكل وسيلة.
5 - ومن فوائد الآية: أن داود - عليه الصلاة والسلام - أوتي الملك، والنبوة؛ لقوله تعالى: { وآتاه الله الملك والحكمة }.
6 - ومنها: أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ليس عندهم من العلم إلا ما علمهم الله؛ لقوله تعالى: {وعلمه مما يشاء}؛ فالنبي نفسه لا يعلم الغيب، ولا يعلم الشرع إلا ما آتاه الله سبحانه وتعالى؛ ومثل ذلك قول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} [النساء: 113] .
7 - ومنها: إثبات المشيئة لله؛ لقوله تعالى: { وعلمه مما يشاء }؛ ولكن اعلم أن مشيئة الله تابعة لحكمته، كما قال الله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً * وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 29، 30] .
8 - ومنها: أن الله عزّ وجلّ يدفع الناس بعضهم ببعض لتصلح الأرض، ومن عليها؛ لقوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }؛ وفساد الأرض يكون بالمعاصي، وترك الواجبات؛ لقوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 40] ، وقوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30] .
9 - ومنها: إثبات حكمة الله، حيث جعل الناس يدفع بعضهم بعضاً ليقوم دين الله، فدفعَ الكافرين بجهاد المؤمنين؛ لأنه لو جعل السلطة لقوم معينين لأفسدوا الأرض؛ لأنه لا معارض لهم؛ ولكن الله عزّ وجلّ يعارض هذا بهذا.
10 - ومنها: أن من الفساد في الأرض هدم بيوت العبادة؛ لقوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً} [الحج: 40] ؛ وهذا تفسير لقوله تعالى هنا: { لفسدت الأرض }؛ أو هو ذكر لنوع من الفساد.
11 - ومنها: إثبات فضل الله تعالى على جميع الخلق؛ لقوله تعالى: { ولكن الله ذو فضل على العالمين } حتى الكفار؛ لكن فضل الله على الكفار فضل في الدنيا فقط بإعطائهم ما به قوام أبدانهم؛ أما في الآخرة فيعاملهم بعدله بعذابهم في النار أبد الآبدين؛ وأما بالنسبة للمؤمنين فإن الله يعاملهم بالفضل في الدنيا، والآخرة.
القـــرآن
)تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (البقرة:252)
التفسير:
{ 252 } قوله تعالى: { تلك } الإشارة إلى ما سبق ذكره؛ أو إلى القرآن كله؛ { آيات الله } جمع آية؛ وهي العلامة المعينة لمدلولها؛ { نتلوها عليك }: نقرؤها عليك؛ والمراد تلاوة جبريل، كما قال تعالى: {نزل به الروح الأمين* على قلبك} [الشعراء: 193، 194] ؛ و{ بالحق }: الحق في الأخبار: هو الصدق؛ وفي الأحكام: هو العدل؛ والباء إما للمصاحبة؛ أو لبيان ما جاءت به هذه الآيات؛ والمعنى أن هذه الآيات حق؛ وما جاءت به حق.
قوله تعالى: { وإنك لمن المرسلين }: الجملة مؤكدة بـ{ إن }، واللام؛ لتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: إثبات آيات الله سبحانه وتعالى الشرعية؛ لأن المراد بـ «الآيات» هنا: الشرعية - وهي القرآن -.
2 - ومنها: أن الله تعالى يتلو على نبيه ما أوحاه إليه؛ لقوله عزّ وجلّ: { نتلوها عليك بالحق }؛ ولكن هل الذي يتلو ذلك هو الله، أو جبريل؟ اقرأ في آية القيامة: {لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} [القيامة: 16 - 18] ؛ يعني إذا قرأه جبريل فاتبع قرآنه؛ فجبريل يتلوه على النبي صلى الله عليه وسلم وقد تلقاه من الله سبحانه وتعالى.
3 - ومنها: أن القرآن كله حق من الله، ونازل بالحق؛ لأن الباء في قوله تعالى: { بالحق } للمصاحبة، والملابسة أيضاً؛ فهو نازل من عند الله حقاً؛ وهو كذلك مشتمل على الحق؛ وليس فيه كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه؛ بل أحكامه كلها عدل؛ وأخباره كلها صدق.
4 - ومنها: إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { وإنك لمن المرسلين }.
5 - ومنها: أن هناك رسلاً آخرين غير الرسول؛ لقوله تعالى: { لمن المرسلين }؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم كان خاتم النبيين؛ إذ لا نبي بعده.
القـــــرآن
)تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة:253)
التفسير:
{ 253 } قوله تعالى: { تلك } التاء هنا اسم إشارة؛ وأشار إلى «الرسل» بإشارة المؤنث؛ لأنه جمع تكسير؛ وجمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في تأنيث فعله، والإشارة إليه، كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا} [الحجرات: 14] ؛ و «الأعراب» مذكر، لكن لما جُمع جَمع تكسير صح تأنيثه؛ وتأنيثه لفظي؛ لأنه مؤول بالجماعة؛ والمشار إليه هم المرسل الذين دلّ عليهم قوله تعالى: {وإنك لمن المرسلين} [البقرة: 252] .
قوله تعالى: { فضلنا بعضهم على بعض }؛ يعني جعلنا بعضهم أفضل من بعض في الوحي؛ وفي الأتباع؛ وفي الدرجات؛ والمراتب عند الله سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: { منهم } أي من الرسل { من كلم الله } أي من كلمه الله عزّ وجلّ؛ فالعائد محذوف، وذلك مثل موسى، ومحمد صلى الله عليهما وسلم؛ وهذه الجملة استئنافية لبيان وجه من أوجه التفضيل.
قوله تعالى: { ورفع بعضهم درجات } معطوف على { فضلنا }، لكن فيه التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب.
وقوله: { ورفع بعضهم درجات } أي على بعض؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم له الوسيلة؛ وهي أعلى درجة في الجنة، ولا تكون إلا لعبد من عباد الله؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأرجو أن أكون أنا هو»(105)؛ وفي المعراج وجد النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم في السماء السابعة؛ وموسى في السادسة؛ وهارون في الخامسة؛ وإدريس في الرابعة(106)؛ وهكذا؛ وهذا من رفع الدرجات.
قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي الآيات البينات الدالة على رسالته، ويراد بها الإنجيل، وما جرى على يديه من إحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله، ونحو ذلك.
قوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس } أي قويناه؛ وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: { بروح القدس} ما المراد بها؟ فقيل: المراد بها: ما معه من العلم المطهر الآتي من عند الله؛ والعلم، أو الوحي يسمى روحاً، كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] ؛ وقيل: المراد بـ «روح القدس» جبريل، كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل: 102] ؛ فـ «روح القدس» هو جبريل؛ أيد الله عيسى به، حيث كان يقويه في مهام أموره عندما يحتاج إلى تقوية؛ والآية صالحة للأمرين، فتفسر بهما كما قررناه غير مرة.
قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعدما جاءتهم البينات }؛ «لو» شرطية؛ فعل الشرط فيها { شاء الله }؛ وجوابه { ما اقتتل الذين ... }؛ ومفعول { شاء } محذوف دلّ عليه جواب الشرط؛ والتقدير: ولو شاء الله أن لا يقتتل الذين من بعدهم ما اقتتلوا؛ إما لاتفاقهم على الإيمان؛ وإما لاتفاقهم على المهادنة، وإن كفر بعضهم.
وقوله تعالى: { من بعدهم } أي من بعد الرسل؛ { من بعدما جاءتهم البينات } أي هذا القتال حصل بعدما زال اللبس، واتضح الأمر، ووجدت البينات الدالة على صدق الرسل؛ ومع ذلك فإن الكفار استمروا على كفرهم، ورخصت عليهم رقابهم، ونفوسهم في نصرة الطاغوت؛ وقاتلوا المؤمنين أولياء الله عزّ وجلّ؛ كل ذلك من أجل العناد، والاستكبار؛ و{ البينات } أي الآيات البينات؛ وهو الوحي الذي جاءت به الرسل، وغيره من الآيات الدالة على رسالتهم.
قوله تعالى: { ولكن اختلفوا } أي الذين جاءتهم البينات؛ ثم بيّن كيفية اختلافهم فقال تعالى: { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } وقوله تعالى: { ولكن اختلفوا } معطوف على قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين... }.
قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } هذه الجملة توكيد لما سبق؛ يعني لو شاء الله ألا يقتتلوا ما اقتتلوا؛ وعلى هذا فالمفعول هنا كما سبق.
قوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد }؛ هذا استدراك على قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } ليبين أن ما وقع من الاختلاف والاقتتال كان بإرادته؛ والإرادة في قوله تعالى: { ما يريد } كونية.
تــنــبــيــه:
قوله تعالى: { ولكن اختلفوا } بعد قوله عزّ وجلّ: { ولو شاء الله ما اقتتلوا } بيان لسبب الاقتتال الواقع منهم؛ وقوله تعالى في الجملة الثانية: { ولكن الله يفعل ما يريد } بيان لكونه بإرادته كقوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يشاء }.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن الرسل عليهم السلام يتفاضلون؛ لقوله تعالى: { فضلنا بعضهم على بعض }.
2 - ومنها: أن فضل الله يؤتيه من يشاء؛ حتى خواص عباده يفضل بعضهم على بعض؛ لأن الرسل هم أعلى أصناف بني آدم، ومع ذلك يقع التفاضل بينهم بتفضيل الله.
ويتفرع عليها فائدة أخرى: أن الله يفضل أتباع الرسل بعضهم على بعض، كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني»(107)؛ كما أن من كان من الأمم أخلص لله، وأتبع لرسله فهو أفضل ممن دونه من أمته؛ لأن الرسل إذا كانوا يتفاضلون فأتباعهم كذلك يتفاضلون؛ فإن قلت: كيف نجمع بين هذه الآية المثبتة للتفاضل بين الرسل؛ وبين قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروني على موسى»(108)، ونهيه صلى الله عليه وسلم أن يفاضل بين الأنبياء؟
فالجواب: أن يقال: في هذا عدة أوجه من الجمع؛ أحسنها أن النهي فيما إذا كان على سبيل الافتخار والتعلِّي: بأن يفتخر أتباع محمد صلى الله عليه وسلم على غيرهم، فيقولوا: «محمد أفضل من موسى» مثلاً؛ أفضل من عيسى؛ وما أشبه ذلك؛ فهذا منهي عنه؛ أما إذا كان على سبيل الخبر فهذا لا بأس به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»(109).
3 - ومن فوائد الآية: إثبات الكلام لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { منهم من كلم الله }؛ وكلام الله عزّ وجلّ عند أهل السنة، والجماعة من صفاته الذاتية الفعلية؛ فباعتبار أصله من الصفات الذاتية؛ لأنه صفة كمال؛ والله عزّ وجلّ موصوف بالكمال أزلاً، وأبداً؛ أما باعتبار آحاده - أنه يتكلم إذا شاء - فهو من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته. قال الله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] ، وقال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} [الأعراف: 143] ؛ حصل الكلام بعد مجيئه لميقات الله؛ ولهذا حصل بينهما مناجاة: {قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} [الأعراف: 143] ؛ فقال تعالى: {لن تراني} بعد أن قال موسى: {رب أرني أنظر إليك} ؛ هذا هو الحق في هذه المسألة؛ وزعمت الأشاعرة أن كلام الله عزّ وجلّ هو المعنى النفسي - أي المعنى القائم بنفسه -؛ وأما ما يسمعه المخاطب به فهو أصوات مخلوقة خلقها الله عزّ وجلّ لتعبر عما في نفسه؛ وقد أبطل شيخ الإسلام هذا القول من تسعين وجهاً في كتاب يسمى بـ «التسعينية».
4 - ومن فوائد الآية: أن كلام الله للإنسان يعتبر رفعة له؛ لأن الله تعالى ساق قوله: { منهم من كلم الله } على سبيل الثناء، والمدح.
ومنه يؤخذ علوّ مقام المصلي؛ لأنه يخاطب الله عزّ وجلّ، ويناجيه كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا قال المصلي: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: «حمدني عبدي»؛ وإذا قال المصلي: {الرحمن الرحيم} قال الله: «أثنى عليّ عبدي»(110) إلى آخر الحديث؛ فالله تعالى يناجي المصلي، وإن كان المصلي لا يسمعه؛ لكن أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
6 - ومن فوائد الآية: أن الفضائل مراتب، ودرجات؛ لقوله تعالى: { ورفع بعضهم درجات }؛ وهذا يشمل الدرجات الحسية، والدرجات المعنوية؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم له الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأرجو أن أكون أنا هو»(111)؛ كذلك مراتب أهل الجنة درجات: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة يتراءون أصحاب الغرف من فوقهم - يعني العالية - كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم؛ قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين»(112).
7 - ومن فوائد الآية: إثبات أن عيسى نبي من أنبياء الله؛ لقوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات }؛ والله عزّ وجلّ أعطاه آيات ليؤمن الناس به؛ ومن الآيات الحسية لعيسى ابن مريم إحياء الموتى بإذن الله؛ وإخراجهم من القبور؛ وإبراء الأكمه، والأبرص؛ وأن يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيراً يطير بالفعل بإذن الله؛ وهناك آيات شرعية مستفادة من قوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس } على أحد التفسيرين السابقين.
8 - ومنها: أن البشر مهما كانوا فهم في حاجة إلى من يؤيدهم، ويقويهم؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس}.
9 - ومنها: الرد على النصارى في زعمهم أن عيسى إله؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس }؛ أي قويناه؛ ولازم ذلك أنه يحتاج إلى تقوية؛ والذي يحتاج إلى تقوية لا يصلح أن يكون ربًّا، وإلهاً.
10 - ومنها: الثناء على جبريل عليه السلام حيث وصف بأنه روح القدس؛ ومن وجه آخر: حيث كان مؤيِّداً للرسل بإذن الله؛ لقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس }.
11 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم }.
12 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل }؛ لأن القدرية يقولون: إن فعل العبد ليس بمشيئة الله؛ وإنما العبد مستقل بعمله؛ وهذه الآية صريحة في أن أفعال الإنسان بمشيئة الله.
13 - ومنها: أن قتال الكفار للمؤمنين كان عن عناد، واستكبار؛ لا عن جهل؛ لقوله تعالى: { من بعد ما جاءتهم البينات }.
14 - ومنها: لطف الله بالعباد، حيث كان لا يبعث رسولاً إلا ببينة تشهد بأنه رسول؛ وشهادة الله عزّ وجلّ لأنبيائه بالرسالة تكون بالقول، وبالفعل؛ مثالها بالقول: قوله تعالى: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً} [النساء: 166] ؛ ومثالها بالفعل: تأييد الله للرسول، ونصره إياه، وتمكينه من قتل أعدائه.
15 - ومنها: بيان حكمة الله عزّ وجلّ في انقسام الناس إلى مؤمن، وكافر؛ لقوله تعالى: { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر }؛ ولولا هذا ما استقام الجهاد، ولا حصل الامتحان.
16 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { آمن }، و{ كفر }، حيث أضاف الفعل إلى العبد؛ وهم يرون أن الإنسان مجبر على عمله، ولا ينسب إليه الفعل إلا على سبيل المجاز كما يقال: أحرقت النار الخشب؛ وهذه الآية ترد عليهم.
17 - ومنها: إثبات أن الله سبحانه وتعالى هو خالق أفعال العباد؛ لقوله تعالى: { يفعل ما يريد }؛ مع أن الفعل فعل العبد: فالاقتتال فعل العبد؛ والاختلاف فعل العبد؛ لكن لما كان صادراً بمشيئة الله عزّ وجلّ وبخلقه، أضافه الله عزّ وجلّ إلى نفسه.
18 - ومنها: إثبات الإرادة لله؛ لقوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد }؛ والإرادة التي اتصف الله بها نوعان: كونية، وشرعية؛ والفرق بينهما من حيث المعنى؛ ومن حيث المتعلق؛ ومن حيث الأثر؛ من حيث المعنى: «الإرادة الشرعية» بمعنى المحبة؛ و«الإرادة الكونية» بمعنى المشيئة؛ ومن حيث المتعلق: «الإرادة الكونية» تتعلق فيما يحبه الله، وفيما لا يحبه؛ فإذا قيل: هل أراد الله الكفر؟ نقول: بالإرادة الكونية: نعم؛ وبالشرعية: لا؛ لأن «الإرادة الكونية» تشمل ما يحبه الله، وما لا يحبه؛ و«الإرادة الشرعية» لا تتعلق إلا فيما يحبه الله؛ ومن حيث الأثر: «الإرادة الكونية» لا بد فيها من وقوع المراد؛ و«الإرادة الشرعية» قد يقع المراد، وقد لا يقع؛ فمثلاً: {والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27] : الإرادة هنا شرعية؛ لو كانت كونية لكان الله يتوب على كل الناس؛ لكن الإرادة شرعية: يحب أن يتوب علينا بأن نفعل أسباب التوبة.
فإن قيل: ما تقولون في إيمان أبي بكر ؛ هل هو مراد بالإرادة الشرعية، أو بالإرادة الكونية؟ قلنا: مراد بالإرادتين كلتيهما؛ وما تقولون في إيمان أبي طالب؟ قلنا: مراد شرعاً؛ غير مراد كوناً؛ ولذلك لم يقع؛ وما تقولون في فسق الفاسق؟
قلنا: مراد كوناً لا شرعاً؛ إذاً نقول: قد تجتمع الإرادتان، كإيمان أبي بكر ؛ وقد تنتفيان، مثل كفر المسلم؛ وقد توجد الإرادة الكونية دون الشرعية، مثل كفر الكافر؛ وقد توجد الشرعية دون الكونية، كإيمان الكافر.
القـــــرآن
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة:254)
التفسير:
تقدم مراراً، وتكراراً أن تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهمية المطلوب؛ لأن النداء يقتضي التنبيه؛ ولا يكون التنبيه إلا في الأمور الهامة.
وتوجيه النداء للمؤمنين يدل على أن التزام ما ذكر من مقتضيات الإيمان سواء كان أمراً، أو نهياً؛ وعلى أن عدم امتثاله نقص في الإيمان؛ وعلى الحث، والإغراء، كأنه قال: يا أيها الذين آمنوا لإيمانكم افعلوا كذا، وكذا، مثل ما تقول للحث، والإغراء: يا رجل افعل كذا، وكذا؛ أي لأن ذلك من مقتضى الرجولة.
{ 254 } قوله تعالى: { أنفقوا مما رزقناكم } الإنفاق بمعنى البذل؛ والمراد به هنا بذل المال في طاعة الله؛ و{ مما رزقناكم } أي مما أعطيناكم؛ «من» يحتمل أن تكون بيانية؛ أو تبعيضية؛ والفرق بينهما أن البيانية لا تمنع من إنفاق جميع المال؛ لأنها بيان لموضع الإنفاق؛ والتبعيضية تمنع من إنفاق جميع المال؛ وبناءً على ذلك لا يمكن أن يتوارد المعنيان على شيء واحد لتناقض الحكمين.
قوله تعالى: { من قبل أن يأتي يوم } المراد به يوم القيامة؛ { لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة }؛ ثلاثة أشياء منتفية؛ وهي «البيع»؛ وهو تبادل الأشياء؛ و «الخلة» ؛ وهي أعلى المحبة؛ و «الشفاعة» ؛ وهي الوساطة لدفع الضرر، أو جلب المنفعة؛ وفي الآية قراءتان؛ إحداهما ما في المصحف: بالضم، والتنوين: { لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة }؛ و{ لا } على هذه القراءة ملغاة إعراباً؛ لأنها متكررة؛ والقراءة الثانية البناء على الفتح؛ وعلى هذه القراءة تكون { لا } عاملة عمل «إنّ»؛ لكن بالبناء على الفتح؛ لا بالتنوين.
وإنما قال سبحانه وتعالى: { لا بيع }؛ لأن عادة الإنسان أن ينتفع بالشيء عن طريق البيع، والشراء؛ فيشتري ما ينفعه، ويبيع ما يضره؛ لكن يوم القيامة ليس فيه بيع.
وقوله تعالى: { ولا خلة }؛ هذا من جهة أخرى: قد ينتفع الإنسان بالشيء بواسطة الصداقة؛ و«الخُلة» بالضم: أعلى المحبة؛ وهي مشتقة من قول الشاعر:
(قد تخللتِ مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلاً)
يعني أن حبها دخل إلى مسالك الروح، فامتزج بروحه، فصار له كالحياة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر»(113)؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم) اتخذه حبيباً. قيل له: من أحب النساء إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: «عائشة» ؛ قيل: ومن الرجال؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أبوها»(114)؛ فأثبت المحبة؛ وكان أسامة بن زيد يسمى «حِب رسول الله» أي حبيبه؛ إذاً الخلة أعلى من المحبة.
فانتفت المعاوضة في هذا اليوم؛ وانتفت المحاباة بواسطة الصداقة؛ وانتفى شيء آخر: الشفاعة؛ وهي الإحسان المحض من الشافع للمشفوع له - وإن لم يكن بينهما صداقة -؛ فقال تعالى: { ولا شفاعة }؛ فنفى الله سبحانه وتعالى كل الوسائل التي يمكن أن ينتفع بها في هذا اليوم.
قوله تعالى: { والكافرون هم الظالمون }؛ أي أن الكافرين بالله هم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم، وحصر الظلم فيهم لعظم ظلمهم، كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] ؛ وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن أعظم الظلم أن تجعل لله نداً وهو خلقك(115).
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة الإنفاق مما أعطانا الله؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} ، حيث صدرها بالنداء.
2 - ومنها: أن الإنفاق من مقتضى الإيمان، وأن البخل نقص في الإيمان؛ ولهذا لا يكون المؤمن بخيلاً؛ المؤمن جواد بعلمه؛ جواد بجاهه؛ جواد بماله؛ جواد ببدنه.
3 - ومنها: بيان منة الله علينا في الرزق؛ لقوله تعالى: { مما رزقناكم }؛ ثم للأمر بالإنفاق في سبيله، والإثابة عليه؛ لقوله تعالى: { أنفقوا مما رزقناكم }.
4 - ومنها: التنبيه على أن الإنسان لا يحصل الرزق بمجرد كسبه؛ الكسب سبب؛ لكن المسبِّب هو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { مما رزقناكم }؛ فلا ينبغي أن يعجب الإنسان بنفسه حتى يجعل ما اكتسبه من رزق من كسبه، وعمله، كما في قول القائل: إنما أوتيته على علم عندي.
5 - ومنها: الإشارة إلى أنه لا منة للعبد على الله مما أنفقه في سبيله؛ لأن ما أنفقه من رزق الله له.
6 - ومنها: أن الميت إذا مات فكأنما قامت القيامة في حقه؛ لقوله تعالى: { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه... } إلخ.
7 - ومنها: أن ذلك اليوم ليس فيه إمكان أن يصل إلى مطلوبه بأي سبب من أسباب الوصول إلى المطلوب في الدنيا، كالبيع، والصداقة، والشفاعة؛ وإنما يصل إلى مطلوبه بطاعة الله.
8 - ومنها: أن الكافرين لا تنفعهم الشفاعة؛ لأنه تعالى أعقب قوله: { ولا شفاعة } بقوله تعالى: { والكافرون هم الظالمون }؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} [المدثر: 48] .
9 - ومنها: أن الكفر أعظم الظلم؛ ووجه الدلالة منه: حصر الظلم في الكافرين؛ وطريق الحصر هنا ضمير الفصل: { هم }.
10 - ومنها: أن الإنسان لا ينتفع بماله بعد موته؛ لقوله تعالى: { أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم }؛ لكن هذا مقيد بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية؛ أو علم ينتفع به؛ أو ولد صالح يدعو له»(116).
11 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { أنفقوا }، حيث أضاف الفعل إلى المنفقين؛ والجبرية يقولون: إن الإنسان لا يفعل باختياره؛ وهذا القول يرد عليه السمع، والعقل - كما هو مقرر في كتب العقيدة -.
12 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { مما رزقناكم }؛ لأننا نعلم أن رزق الله يأتي بالكسب؛ ويأتي بسبب لا كسب للإنسان فيه؛ فإذا أمطرت السماء وأنت عطشان، وشربت فهذا رزق لا كسب لك فيه، ولا اختيار، لكن إذا بعت، واشتريت، واكتسبت المال فهذا لك فيه كسب؛ والله عز وجل هو الذي أعطاك إياه؛ لو شاء الله لسلبك القدرة؛ ولو شاء لسلبك الإرادة؛ ولو شاء ما جلب لك الرزق.
13 - ومنها: أن إنفاق جميع المال لا بأس به؛ وهذا على تقدير { من } بيانية؛ بشرط أن يكون الإنسان واثقاً من نفسه بالتكسب، وصِدق التوكل على الله.
مـسألة:
ظاهر الآية الكريمة أن الإنفاق مطلق في أي وجه من وجوه الخير؛ ولكن هذا الإطلاق مقيد في آيات أُخر، مثل قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} [البقرة: 261] ، ومثل قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله} [البقرة: 195] ؛ وعلى هذا فيكون إطلاق الآية هنا مقيداً بالآيات الأُخر التي تدل على أن الإنفاق المأمور به ما كان في سبيل الله - أي في شرعه -.
مسألة ثانية:
ظاهر الآية نفي الشفاعة مطلقاً؛ وحينئذ نحتاج إلى الجمع بين هذه الآية وبين النصوص الأخرى الدالة على إثبات الشفاعة في ذلك اليوم؛ فيقال: الجمع أن يحمل مطلق هذه الآية على المقيد بالنصوص الأخرى، ويقال؛ إن النصوص الأخرى دلت على أن هناك شفاعة؛ لكن لها ثلاثة شروط: رضى الله عن الشافع؛ وعن المشفوع له؛ وإذنه في الشفاعة.
القــــرآن
)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)
التفسير:
هذه الآية أعظم آية في كتاب الله كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبيّ بن كعب، وقال: «أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال: آية الكرسي؛ فضرب على صدره، وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر»(117)؛ ولهذا من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح؛ وهي مشتملة على عشر جمل؛ كل جملة لها معنى عظيم جداً.
{ 255 } قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو }: الاسم الكريم مبتدأ؛ وجملة: { لا إله إلا هو } خبر؛ وما بعده: إما أخبار ثانية؛ وإما معطوفة؛ و{ إله } بمعنى مألوه؛ و«المألوه» بمعنى المعبود حباً، وتعظيماً؛ ولا أحد يستحق هذا الوصف إلا الله سبحانه وتعالى؛ والآلهة المعبودة في الأرض، أو المعبودة وهي في السماء - كالملائكة - كلها لا تستحق العبادة؛ وهي تسمى آلهة؛ لكنها لا تستحق ذلك؛ الذي يستحقه رب العالمين، كما قال تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] ، وقال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [الحج: 62] .
و{ إله } اسم لا؛ و{ لا } هنا نافية للجنس؛ ولا النافية للجنس تدل على النفي المطلق العام لجميع أفراده؛ وهي نص في العموم؛ فـ{ لا إله } نفي عام محض شامل لجميع أفراده؛ وقوله تعالى: { إلا هو } بدل من خبر { لا } المحذوف؛ لأن التقدير: لا إله حق إلا هو؛ والبدل في الحقيقة هو المقصود بالحكم، كما قال ابن مالك:
(التابع المقصود بالحكم بلا واسطة هو المسمى بدلاً) وهذه الجملة العظيمة تدل على نفي الألوهية الحق نفياً عاماً قاطعاً إلا لله تعالى وحده.
وقوله تعالى: { الحي القيوم } هذان اسمان من أسمائه تعالى؛ وهما جامعان لكمال الأوصاف، والأفعال؛ فكمال الأوصاف في { الحي }؛ وكمال الأفعال في { القيوم }؛ لأن معنى { الحي } ذو الحياة الكاملة؛ ويدل على ذلك «أل» المفيدة للاستغراق؛ وكمال حياته تعالى: من حيث الوجود، والعدم؛ ومن حيث الكمال، والنقص؛ فحياته من حيث الوجود، والعدم؛ أزلية أبدية - لم يزل، ولا يزال حياً؛ ومن حيث الكمال، والنقص: كاملة من جميع أوصاف الكمال - فعلمه كامل؛ وقدرته كاملة؛ وسمعه، وبصره، وسائر صفاته كاملة؛ و{ القيوم }: أصلها من القيام؛ ووزن «قيوم» فيعول؛ وهي صيغة مبالغة؛ فهو القائم على نفسه فلا يحتاج إلى أحد من خلقه؛ والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه.
قوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم } أي لا يعتريه نعاس، ولا نوم؛ فالنوم معروف؛ والنعاس مقدمته.
قوله تعالى في الجملة الثالثة: { له ما في السموات وما في الأرض } أي له وحده؛ ففي الجملة حصر لتقديم الخبر على المبتدأ؛ و{ السموات } جمعت؛ و{ الأرض } أفردت؛ لكنها بمعنى الجمع؛ لأن المراد بها الجنس.
قوله تعالى في الجملة الرابعة: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }؛ { من } اسم استفهام مبتدأ؛ و{ ذا} ملغاة إعراباً؛ ويأتي بها العرب في مثل هذا لتحسين اللفظ؛ و{ الذي } اسم موصول خبر { من }؛ والمراد بالاستفهام هنا النفي بدليل الإثبات بعده، حيث قال تعالى: { إلا بإذنه }.
و«الشفاعة» في اللغة: جعل الوتر شفعاً؛ وفي الاصطلاح: التوسط للغير لجلب منفعة، أو دفع مضرة؛ فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف أن يقضي الله بينهم بعدما يلحقهم من الهمّ، والغمّ ما لا يطيقون(118): شفاعة لدفع مضرة؛ وشفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة(119): شفاعة في جلب منفعة.
وقوله تعالى: { إلا بإذنه } أي الكوني؛ يعني: إلا إذا أذن في هذه الشفاعة - حتى أعظم الناس جاهاً عند الله لا يشفع إلا بإذن الله؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة - وهو أعظم الناس جاهاً عند الله؛ ومع ذلك لا يشفع إلا بإذن الله لكمال سلطانه جلّ وعلا، وهيبته؛ وكلما كمل السلطان صار أهيب للملِك، وأعظم؛ حتى إن الناس لا يتكلمون في مجلسه إلا إذا تكلم؛ وانظر وصف رسولِ قريشٍ النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، حيث وصفهم بأنه إذا تكلم سكتوا؛ كل ذلك من باب التعظيم.
قوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }؛ هذه هي الجملة السادسة؛ و«العلم» عند الأصوليين: إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً؛ فعدم الإدراك: جهل؛ والإدراك على وجه لا جزم فيه: شك؛ والإدراك على وجه جازم غير مطابق: جهل مركب؛ فلو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «لا أدري» فهذا جهل؛ ولو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «إما في الثانية؛ أو في الثالثة» فهذا شك؛ ولو سئلت: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: «في السنة الخامسة» فهذا جهل مركب؛ والله عز وجل يعلم الأشياء علماً تاماً شاملاً لها جملة، وتفصيلاً؛ وعلمه ليس كعلم العباد؛ ولذلك قال تعالى: { يعلم ما بين أيديهم } أي المستقبل؛ { وما خلفهم} أي الماضي؛ وقد قيل بعكس هذا القول؛ ولكنه بعيد؛ فاللفظ لا يساعد عليه؛ و{ ما } من صيغ العموم؛ فهي شاملة لكل شيء سواء كان دقيقاً أم جليلاً؛ وسواء كان من أفعال الله أم من أفعال العباد.
قوله تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } لها معنيان؛ المعنى الأول: لا يحيطون بشيء من علم نفسه؛ أي لا يعلمون عن الله سبحانه وتعالى من أسمائه، وصفاته، وأفعاله، إلا بما شاء أن يعلمهم إياه، فيعلمونه؛ المعنى الثاني: ولا يحيطون بشيء من معلومه - أي مما يعلمه في السموات، والأرض - إلا بما شاء أن يعلمهم إياه، فيعلمونه؛ وقوله تعالى: { إلا بما شاء } استثناء بدل من قوله تعالى: { شيء }؛ لكنه بإعادة العامل؛ وهي الباء؛ و «ما» يحتمل أن تكون مصدرية؛ أي: إلا بمشيئته؛ ويحتمل أن تكون موصولة؛ أي: إلا بالذي شاء؛ وعلى التقدير الثاني يكون العائد محذوفاً؛ والتقدير: إلا بما شاءه.
قوله تعالى: { وسع كرسيه السماوات والأرض }؛ أي شمل، وأحاط، كما يقول القائل: وسعني المكان؛ أي شملني، وأحاط بي؛ و «الكرسي» هو موضع قدمي الله عز وجل؛ وهو بين يدي العرش كالمقدمة له؛ وقد صح ذلك عن ابن عباس موقوفاً(120)، ومثل هذا له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه؛ وما قيل من أن ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ عن بني إسرائيل فلا صحة له؛ بل الذي صح عنه في البخاري(121) أنه كان ينهى عن الأخذ عن بني إسرائيل؛ فأهل السنّة والجماعة عامتهم على أن الكرسي موضع قدمي الله عز وجل؛ وبهذا جزم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما من أهل العلم، وأئمة التحقيق؛ وقد قيل: إن «الكرسي» هو العرش؛ ولكن ليس بصحيح؛ فإن «العرش» أعظم، وأوسع، وأبلغ إحاطة من الكرسي؛ وروي عن ابن عباس أن { كرسيه }: علمه؛ ولكن هذه الرواية أظنها لا تصح عن ابن عباس(122)؛ لأنه لا يعرف هذا المعنى لهذه الكلمة في اللغة العربية، ولا في الحقيقة الشرعية؛ فهو بعيد جداً من أن يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ فالكرسي موضع القدمين؛ وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما السموات السبع والأرضون بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة»(123)؛ وهذا يدل على سعة هذه المخلوقات العظيمة التي هي بالنسبة لنا من عالم الغيب؛ ولهذا يقول الله عز وجل: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} [ق~: 6] ؛ ولم يقل: أفلم ينظروا إلى الكرسي؛ أو إلى العرش؛ لأن ذلك ليس مرئياً لنا؛ ولولا أن الله أخبرنا به ما علمنا به.
قوله تعالى: { ولا يؤوده }؛ أي لا يثقله، ويشق عليه { حفظهما }؛ أي حفظ السموات، والأرض؛ وهذه الصفة صفة منفية.
قوله تعالى: { وهو العلي العظيم }: مثل هذه الجملة التي طرفاها معرفتان تفيد الحصر؛ فهو وحده العلي؛ أي ذو العلو المطلق، وهو الارتفاع فوق كل شيء؛ و{ العظيم } أي ذو العظمة في ذاته، وسلطانه، وصفاته.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: إثبات هذه الأسماء الخمسة؛ وهي { الله }؛ { الحي }؛ { القيوم }؛ { العلي }؛ { العظيم }؛ وما تضمنته من الصفات.
2 - ومنها: إثبات انفراد الله تعالى بالألوهية في قوله تعالى: { لا إله إلا هو }.
3 - ومنها: إبطال طريق المشركين الذين أشركوا بالله، وجعلوا معه آلهة.
4 - ومنها: إثبات صفة الحياة لله عز وجل؛ وهي حياة كاملة: لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا توصف بنقص، كما قال تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3] ، وقال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] ، وقال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] .
5 - ومنها: إثبات القيومية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { القيوم }؛ وهذا الوصف لا يكون لمخلوق؛ لأنه ما من مخلوق إلا وهو محتاج إلى غيره: فنحن محتاجون إلى العمال، والعمال محتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى النساء، والنساء محتاجة إلينا؛ ونحن محتاجون إلى الأولاد، والأولاد يحتاجون إلينا؛ ونحن محتاجون إلى المال، والمال محتاج إلينا من جهة حفظه، وتنميته؛ والكل محتاج إلى الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} [فاطر: 15] ؛ وما من أحد يكون قائماً على غيره في جميع الأحوال؛ بل في دائرة ضيقة؛ ولهذا قال الله تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} [الرعد: 33] ؛ يعني الله؛ فلا أحد سواه قائم على كل نفس بما كسبت.
6 - ومن فوائد الآية: أن الله تعالى غني عما سواه؛ وأن كل شيء مفتقر إليه تعالى؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا، وبين قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم} [محمد: 7] ، وقوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40] ؛ فأثبت أنه يُنصر؟
فالجواب: أن المراد بنصره تعالى نصر دينه.
7 - ومنها: تضمن الآية لاسم الله الأعظم الثابت في قوله تعالى: { الحي القيوم }؛ وقد ذكر هذان الاسمان الكريمان في ثلاثة مواضع من القرآن: في «البقرة»؛ و«آل عمران»؛ و«طه»؛ في «البقرة»: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [البقرة: 255] ؛ وفي «آل عمران»: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }؛ وفي «طه»: {وعنت الوجوه للحي القيوم} [طه: 111] ؛ قال أهل العلم: وإنما كان الاسم الأعظم في اجتماع هذين الاسمين؛ لأنهما تضمنا جميع الأسماء الحسنى؛ فصفة الكمال في { الحي }؛ وصفة الإحسان، والسلطان في { القيوم }.
8 - ومن فوائد الآية: امتناع السِّنَة والنوم لله عز وجل؛ وذلك لكمال حياته، وقيوميته، بحيث لا يعتريهما أدنى نقص؛ لقوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم }؛ وهذه من الصفات المنفية؛ والإيمان بالصفات المنفية يتضمن شيئين؛ أحدهما: الإيمان بانتفاء الصفة المذكورة؛ والثاني: إثبات كمال ضدها؛ لأن الكمال قد يطلق باعتبار الأغلب الأكثر، وإن كان يرد عليه النقص من بعض الوجوه؛ لكن إذا نفي النقص فمعناه أن الكمال كمال مطلق لا يرد عليه نقصٌ أبداً بوجه من الوجوه؛ مثال ذلك: إذا قيل: «فلان كريم» فقد يراد به أنه كريم في الأغلب الأكثر؛ فإذا قيل: «فلان كريم لا يبخل» عُلم أن المراد كمال كرمه، بحيث لا يحصل منه بخل؛ وهنا النفي حصل بقوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم }؛ فدل على كمال حياته، وقيوميته.
9 - ومن فوائد الآية: إثبات الصفات المنفية؛ لقوله تعالى: { لا تأخذه سنة ولا نوم }، وقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما }؛ و«الصفات المنفية» ما نفاه الله عن نفسه؛ وهي متضمنة لثبوت كمال ضدها.
10 - ومنها: عموم ملك الله؛ لقوله تعالى: { له ما في السموات وما في الأرض }.
ويتفرع على كون الملك لله ألا نتصرف في ملكه إلا بما يرضاه.
11 - ومنها: أن الحكم الشرعي بين الناس، والفصل بينهم يجب أن يكون مستنداً على حكم الله؛ وأن اعتماد الإنسان على حكم المخلوقين، والقوانين الوضعية نوع من الإشراك بالله عز وجل؛ لأن الملك لله عز وجل.
12 - ومنها: تسلية الإنسان على المصائب، ورضاه بقضاء الله عز وجل، وقدره؛ لأنه متى علم أن الملك لله وحده رضي بقضائه، وسلّم؛ ولهذا كان في تعزية النبي صلى الله عليه وسلم لابنته أنه قال: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى»(124).
13 - ومنها: عدم إعجاب الإنسان بما حصل بفعله؛ لأن هذا من الله؛ والملك له.
14 - ومنها: اختصاص الله تعالى بهذا الملك؛ يؤخذ من تقديم الخبر: { له ما في السموات }؛ لأن الخبر حقه التأخير؛ فإذا قُدِّم أفاد الحصر.
15 - ومنها: إثبات أن السموات عدد؛ لقوله تعالى: { السموات }؛ وأما كونها سبعاً، أو أقل، أو أكثر، فمن دليل آخر.
16 - ومنها: كمال سلطان الله لقوله تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }؛ وهذا غير عموم الملك؛ لكن إذا انضمت قوة السلطان إلى عموم الملك صار ذلك أكمل، وأعلى.
17 - ومنها: إثبات الشفاعة بإذن الله؛ لقوله تعالى: { إلا بإذنه }؛ وإلا لما صح الاستثناء.
18 - ومنها: إثبات الإذن - وهو الأمر -؛ لقوله تعالى: { إلا بإذنه }؛ وشروط إذن الله في الشفاعة: رضى الله عن الشافع؛ وعن المشفوع له؛ لقوله تعالى: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26] ، وقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28] .
19 - ومنها: إثبات علم الله، وأنه عام في الماضي، والحاضر، والمستقبل؛ لقوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }.
20 - ومنها: الرد على القدرية الغلاة؛ لقوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }؛ فإثبات عموم العلم يرد عليهم؛ لأن القدرية الغلاة أنكروا علم الله بأفعال خلقه إلا إذا وقعت.
21 - ومنها: الرد على الخوارج والمعتزلة في إثبات الشفاعة؛ لأن الخوارج، والمعتزلة ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر؛ لأن مذهبهما أن فاعل الكبيرة مخلد في النار لا تنفع فيه الشفاعة.
22 - ومنها: أن الله عز وجل لا يحاط به علماً كما لا يحاط به سمعاً، ولا بصراً؛ قال تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] ، وقال تعالى: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110] .
23 - ومنها: أننا لا نعلم شيئاً عن معلوماته إلا ما أعلمنا به؛ لقوله تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } على أحد الوجهين في تفسيرها.
24 - ومنها: تحريم تكييف صفات الله؛ لأن الله ما أعلمنا بكيفية صفاته؛ فإذا ادعينا علمه فقد قلنا على الله بلا علم.
25 - ومنها: الرد على الممثلة؛ لأن ذلك قول على الله بلا علم؛ بل بما يعلم خلافه؛ لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] .
26 - ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله: { إلا بما شاء }.
27 - ومنها: عظم الكرسي؛ لقوله تعالى: { وسع كرسيه السموات والأرض }.
28 - ومنها: عظمة خالق الكرسي؛ لأن عظم المخلوق يدل على عظمة الخالق.
29 - ومنها: كفر من أنكر السموات، والأرض؛ لأنه يستلزم تكذيب خبر الله؛ أما الأرض فلا أظن أحداً ينكرها؛ لكن السماء أنكرها من أنكرها، وقالوا: ما فوقنا فضاء لا نهاية له، ولا حدود؛ وإنما هي سدوم، ونجوم، وما أشبه ذلك؛ وهذا لا شك أنه كفر بالله العظيم سواء اعتقده الإنسان بنفسه، ووهمه؛ أو صدَّق من قال به ممن يعظمهم إذا كان عالماً بما دل عليه الكتاب والسنّة.
30 - ومنها: إثبات قوة الله؛ لقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما }.
31 - ومنها: أنه سبحانه وتعالى لا يثقل عليه حفظ السموات، والأرض؛ لقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما}؛ وهذه من الصفات المنفية؛ فهي كقوله تعالى: {وما مسنا من لغوب} [ق~: 38] .
32 - ومنها: إثبات ما تتضمنه هذه الجملة: { ولا يؤوده حفظهما }؛ وهي العلم، والقدرة، والحياة، والرحمة، والحكمة، والقوة.
33 - ومنها: أن السموات، والأرض تحتاج إلى حفظ؛ لقوله تعالى: { ولا يؤوده حفظهما }؛ ولولا حفظ الله لفسدتا؛ لقوله تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً} [فاطر: 41] .
34 - ومنها: إثبات علو الله سبحانه وتعالى أزلاً، وأبداً؛ لقوله تعالى: { وهو العلي }؛ و{ العلي } صفة مشبهة تدل على الثبوت، والاستمرار؛ وعلوّ الله عند أهل السنة، والجماعة ينقسم إلى قسمين؛ الأول: علو الذات؛ بمعنى أنه سبحانه نفسه فوق كل شيء؛ وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ وتفصيل هذه الأدلة في كتب العقائد؛ وخالفهم في ذلك طائفتان؛ الأولى: من قالوا: إنه نفسه في كل مكان في السماء، والأرض؛ وهؤلاء حلولية الجهمية، ومن وافقهم؛ وقولهم باطل بالكتاب، والسنّة، وإجماع السلف، والعقل، والفطرة؛ الطائفة الثانية: قالوا: إنه لا يوصف بعلوّ، ولا غيره؛ فهو ليس فوق العالم، ولا تحته، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا متصل، ولا منفصل؛ وهذا قول يكفي تصوره في رده؛ لأنه يَؤول إلى القول بالعدم المحض؛ إذ ما من موجود إلا وهو فوق، أو تحت، أو عن يمين، أو شمال، أو متصل، أو منفصل؛ فالحمد لله الذي هدانا للحق؛ ونسأل الله أن يثبتنا عليه؛ والقسم الثاني: علو الصفة: وهو أنه كامل الصفات من كل وجه لا يساميه أحد في ذلك؛ وهذا متفق عليه بين فرق الأمة، وإن اختلفوا في تفسير الكمال.
35 - ومن فوائد الآية: الرد على الحلولية، وعلى المعطلة النفاة؛ فالحلولية قالوا: إنه ليس بعالٍ؛ بل هو في كل مكان؛ والمعطلة النفاة قالوا: لا يوصف بعلو، ولا سفل، ولا يمين، ولا شمال، ولا اتصال، ولا انفصال.
36 - ومنها: التحذير من الطغيان على الغير؛ لقوله تعالى: { وهو العلي العظيم }؛ ولهذا قال الله في سورة النساء: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً} [النساء: 34] ؛ فإذا كنت متعالياً في نفسك فاذكر علو الله عز وجل؛ وإذا كنت عظيماً في نفسك فاذكر عظمة الله؛ وإذا كنت كبيراً في نفسك فاذكر كبرياء الله.
37 - ومنها: إثبات العظمة لله؛ لقوله تعالى: { العظيم }.
38 - ومنها: إثبات صفة كمال حصلت باجتماع الوصفين؛ وهما العلوّ، والعظمة.
القــــرآن
)لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256)
التفسير:
{ 256 } قوله تعالى: { لا إكراه في الدين }؛ هذه الجملة نفي؛ لكن هل هي بمعنى النهي؛ أي لا تكرهوا أحداً على الدين؛ أو بمعنى النفي؛ أي أنه لن يدخل أحد دين الإسلام مكرَهاً؛ بل عن اختيار؛ لقوله تعالى بعد ذلك: { قد تبين الرشد من الغي }؟ الجواب: تحتمل وجهين؛ و «الإكراه» الإرغام على الشيء.
وقوله تعالى: { في الدين }؛ «الدين» يطلق على العمل؛ ويطلق على الجزاء؛ أما إطلاقه على العمل ففي مثل قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3] ، وقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] ؛ وأمّا إطلاقه على الجزاء فمثل قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الانفطار: 17، 18] أي يوم الجزاء؛ وقد قيل: «كما تدين تدان»؛ أي كما تعمل تجازى؛ والمراد بـ «الدين» هنا العمل؛ والمراد به دين الإسلام بلا شك؛ فـ «أل» هنا للعهد الذهني؛ يعني الدين المفهوم عندكم أيها المؤمنون؛ وهو دين الإسلام.
قوله تعالى: { قد تبين الرشد من الغي }؛ { تبين } هنا ضمنت معنى «تميَّز»؛ وكلما جاءت «مِن» بعد «تبين» فإنها مضمنة معنى التميز؛ أي تميز هذا من هذا.
وقوله تعالى: { الرشد من الغي }: هناك رشد، وغيّ؛ وهدى، وضلال؛ فـ؛ «الرشد» معناه حسن المسلك، وحسن التصرف: بأن يتصرف الإنسان تصرفاً يحمد عليه؛ وذلك بأن يسلك الطريق الذي به النجاة؛ ويقابل بـ «الغي» كما هنا؛ والمراد بـ{ الرشد } هنا الإسلام؛ وأما «الغي» فهو سوء المسلك: بأن يسلك الإنسان ما لا يحمد عليه لا في الدنيا، ولا في الآخرة؛ والمراد به هنا الكفر.
وتَبَيُّن الرشد من الغي بعدة طرق:
أولاً: بالكتاب ؛ فإن الله سبحانه وتعالى فرَّق في هذا الكتاب العظيم بين الحق، والباطل؛ والصلاح، والفساد؛ والرشد، والغي، كما قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} [النحل: 89] ؛ فهذا من أقوى طرق البيان.
ثانياً: بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنها بينت القرآن، ووضحته؛ ففسرت ألفاظه التي تشكل، ولا تعرف إلا بنص؛ وكذلك وضحت مجملاته، ومبهماته؛ وكذلك بينت ما فيه من تكميلات يكون القرآن أشار إليها، وتكملها السنة، كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44] .الطريق الثالث: هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وسلوكه في عبادته، ومعاملته، ودعوته؛ فإنه بهذه الطريقة العظيمة تبين للكفار، وغير الكفار حسن الإسلام؛ وتبين الرشد من الغيّ.
الطريق الرابع: سلوك الخلفاء الراشدين؛ وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ؛ فإن بطريقتهم بان الإسلام، واتضح؛ وكذلك من كان في عصرهم من الصحابة على سبيل الجملة لا التفصيل؛ فإنه قد تبين بسلوكهم الرشد من الغي.
هذه الطرق الأربع تبين فيها الرشد من الغي؛ فمن دخل في الدين في ذلك الوقت فقد دخل من هذا الباب؛ ولم يصب من قال: إن الدين انتشر بالسيف، والرمح.
قوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى }؛ «الكفر» في اللغة مأخوذ من الستر؛ ومنه سمي «الكُفُرَّى» لوعاء طلع النخل؛ لأن الإنسان الكافر ستر نعمة الله عليه، وستر ما تقتضيه الفطرة من توحيد الله عز وجل؛ { فمن يكفر بالطاغوت } أي من ينكره، ويتبرأ منه؛ و «الطاغوت» فسره ابن القيم بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع؛ مشتق من «الطغيان»؛ وهو تجاوز الحد: قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] ؛ لأن الماء الذي أغرق الله به الكفار بنوح تجاوز الحد حتى وصل إلى ما فوق قمم الجبال؛ فالمعبود كالأصنام طاغوت؛ لأن الإنسان تجاوز بها حده في العبادة؛ و المتبوع كالأحبار، والرهبان الضالين طاغوت؛ لأن الإنسان تجاوز بهم الحد في تحليل ما حرم الله عز وجل، أو تحريم ما أحل الله عز وجل؛ والمطاع كالأمراء ذوي الجور والضلال الذين يأمرون بسلطتهم التنفيذية - لا التشريعية - طاغوت؛ إذاً { فمن يكفر بالطاغوت } من كفر بالأصنام؛ ومن كفر بأحبار، ورهبان السوء؛ ومن كفر بأمراء السوء الذين يأمرون بمعصية الله، ويلزمون بخلاف شرع الله عز وجل.
ولا يكفي الكفر بالطاغوت؛ لأن الكفر تخلٍّ، وعدم؛ ولا بد من إيجاد؛ الإيجاد: قوله تعالى: { ويؤمن بالله } بالجزم عطفاً على { يكفر }؛ والإيمان بالله متضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده؛ والإيمان بربوبيته؛ والإيمان بألوهيته؛ والإيمان بأسمائه، وصفاته إيماناً يستلزم القبول، والإذعان - القبول للخبر، والإذعان للطلب سواء كان أمراً، أو نهياً؛ فصار الإيمان بالله مركباً من أربعة أمور مستلزمة لأمرين؛ ثم اعلم أن معنى قولنا: الإيمان بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته المراد الإيمان بانفراده بهذه الأشياء: بالألوهية؛ والربوبية؛ والأسماء، والصفات؛ وبالوجود الواجب - فهو سبحانه وتعالى منفرد بهذا بأنه واجب الوجود.
قوله تعالى: { فقد استمسك بالعروة الوثقى } جواب { من } الشرطية؛ { استمسك } أي تمسك تمسكاً بالغاً { بالعروة الوثقى } أي المقبض القوي الذي ينجو به؛ والمراد به هنا الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ لأن به النجاة من النار.
قوله تعالى: { لا انفصام لها } أي لا انقطاع، ولا انفكاك لها؛ لأنها محكمة قوية.
قوله تعالى: { والله سميع عليم }: سبق الكلام عليها مفصلاً.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه لا يكره أحد على الدين لوضوح الرشد من الغي؛ لقوله تعالى: { لا إكراه في الدين}؛ هذا على القول بأنها خبرية؛ أما على القول بأنها إنشائية فإنه يستفاد منها أنه لا يجوز أن يكره أحد على الدين؛ وبينت السنة كيف نعامل الكفار؛ وذلك بأن ندعوهم إلى الإسلام؛ فإن أبوا فإلى بذل الجزية؛ فإن أبوا قاتلناهم.
2 - ومنها: أنه ليس هناك إلا رشد، أو غي؛ لأنه لو كان هناك ثالث لذُكر؛ لأن المقام مقام حصر؛ ويدل لهذا قوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} [يونس: 32] ، وقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] .
3 - ومنها: أنه لا يتم الإخلاص لله إلا بنفي جميع الشرك؛ لقوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله}؛ فمن آمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت فليس بمؤمن.
4 - ومنها: أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت؛ لقوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله }؛ وجه هذا أنه سبحانه وتعالى جعل الكفر بالطاغوت قسيماً للإيمان بالله؛ وقسيم الشيء غير الشيء؛ بل هو منفصل عنه.
5 - ومنها: أنه لا نجاة إلا بالكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ لقوله تعالى: { فقد استمسك بالعروة الوثقى }.
6 - ومنها: أن الأعمال تتفاضل؛ يؤخذ ذلك من اسم التفضيل: { الوثقى }؛ لأن التفضيل يقتضي مفضلاً، ومفضلاً عليه؛ ولا شك أن الأعمال تتفاضل بنص القرآن، والسنة؛ قال تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً }؛ [الملك: 2] و{ أحسن } اسم تفضيل؛ وهذا دليل على أن الأعمال تتفاضل بالحُسن؛ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي العمل أحب إلى الله قال: الصلاة على وقتها»(125) وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه»(126)؛ ويلزم من تفاضل الأعمال تفاضل العامل: كلما كان العمل أفضل كان العامل أفضل؛ وتفاضل الأعمال يكون بعدة أمور: بحسب العامل؛ بحسب العمل جنسه، أو نوعه؛ بحسب الزمان؛ بحسب المكان؛ بحسب الكيفية، والمتابعة؛ بحسب الإخلاص لله؛ بحسب الحال.
مثاله بحسب العامل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه»(127).
ومثاله بحسب العمل: جنسه، ونوعه ؛ فالصلاة مثلاً أفضل من الزكاة؛ والزكاة أفضل من الصيام؛ هذا باعتبار الجنس؛ ومثاله باعتبار النوع: الفريضة من كل جنس أفضل من النافلة؛ فصلاة الفجر مثلاً أفضل من راتبة الفجر.
ومثاله بحسب الزمان : قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»(128)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً»(129).
ومثاله بحسب المكان قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»(130).
ومثاله بحسب الكيفية ؛ بمعنى أن كيفية العبادة تكون أفضل من كيفية أخرى، كالخشوع في الصلاة قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 1، 2] .
مثاله بحسب المتابعة : قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] ؛ فكلما كان الإنسان للرسول أتبع كان عمله أفضل؛ لأن القاعدة أن الحكم المعلَّق بوصف يقوى بحسب ذلك الوصف.
ومثاله بحسب الإخلاص أنه كلما كان العامل أشد إخلاصاً لله كان أكمل ممن خالط عمله شيء من الشرك؛ ومثاله بحسب الحال : العبادة بين أهل الغفلة، والإعراض أفضل من العبادة بين أهل الطاعة، والإقبال؛ ولهذا كان العامل في أيام الصبر له أجر خمسين من الصحابة لكثرة الإعراض عن الله عز وجل، وعن دينه؛ فلا يجد أحداً يساعده، ويعينه؛ بل ربما لا يجد إلا من يتهكم به، ويسخر به؛ ومن تفاضلها باعتبار الحال أن العفة من الشاب أفضل من العفة من الشيخ؛ لأن شهوة الشاب أقوى من شهوة الشيخ؛ فالداعي إلى عدم العفة في حقه أقوى من الداعي بالنسبة للشيخ؛ ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزاني أشد من عقوبة الشاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعة لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه»(131).
7 - ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله - هما «السميع العليم» ، وما تضمناه من صفة.
القــــرآن
)اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:257)
التفسير:
{ 257 } قوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا } أي متوليهم؛ والمراد بذلك الولاية الخاصة؛ ومن ثمراتها قوله تعالى: { يخرجهم من الظلمات إلى النور }؛ وأفرد { النور }؛ لأنه طريق واحد؛ وجمع { الظلمات } باعتبار أنواعها؛ لأنها إما ظلمة جهل؛ وإما ظلمة كفر؛ وإما ظلمة فسق؛ أما ظلمة الجهل فظاهرة: فإن الجاهل بمنزلة الأعمى حيران لا يدري أين يذهب كما قال تعالى: {أَوَمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} [الأنعام: 122] وهذا صاحب العلم؛ {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام: 122] : وهذا صاحب الجهل؛ وأما ظلمة الكفر فلأن الإيمان نور يهتدي به الإنسان، ويستنير به قلبه، ووجهه؛ فيكون ضده - وهو الكفر - على العكس من ذلك؛ أما ظلمة الفسق فهي ظلمة جزئية تكبر، وتصغر بحسب ما معه من المعاصي؛ ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء(132) - والسواد ظلمة، وتزول هذه النكتة بالتوبة، وتزيد بالإصرار على الذنب؛ فالظلمات ثلاث: ظلمة الجهل، والكفر، والمعاصي؛ يقابلها نور العلم، ونور الإيمان، ونور الاستقامة.
قوله تعالى: { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت }؛ إذا تأملت هذه الجملة، والتي قبلها تجد فرقاً بين التعبيرين في الترتيب: ففي الجملة الأولى قال تعالى: { الله ولي الذين آمنوا } لأمور ثلاثة؛ أحدها: أن هذا الاسم الكريم إذا ورد على القلب أولاً استبشر به؛ ثانياً: التبرك بتقديم ذكر اسم الله عز وجل؛ ثالثاً: إظهار المنة على هؤلاء بأن الله هو الذي امتن عليهم أولاً، فأخرجهم من الظلمات إلى النور؛ أما الجملة الثانية: { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت }؛ ولو كانت الجملة على سياق الأولى لقال: «والطاغوت أولياء الذين كفروا»؛ ومن الحكمة في ذلك: أولاً: ألّا يكون الطاغوت في مقابلة اسم الله؛ ثانياً: أن الطاغوت أهون، وأحقر من أن يُبدأ به، ويُقدّم؛ ثالثاً: أن البداءة بقوله تعالى: { الذين كفروا } أسرع إلى ذمهم مما لو تأخر ذكره.
وقوله تعالى: { والذين كفروا } أي كفروا بكل ما يجب الإيمان به سواءً كان كفرهم بالله، أو برسوله، أو بملائكته، أو باليوم الآخر، أو بالقدر، أو غيرها مما يجب الإيمان به.
وقوله تعالى: { أولياؤهم } جمع «وليّ»؛ وجمعت لكثرة أنواع الشرك، والكفر؛ بخلاف سبيل الحق؛ فإنها واحدة؛ وهذه كقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] .
قوله تعالى: { يخرجونهم }: أتى بضمير الجمع؛ لأن المراد بالطاغوت اسم الجنس؛ فيعم جميع أنواعه.
وقوله تعالى: { يخرجونهم من النور إلى الظلمات }: استُشكل؛ لأن ظاهره: الذين آمنوا أولاً، فدخلوا في النور، ثم كفروا، فخرجوا منه؛ مع أنه يشمل الكافر الأصلي؛ فالجواب: إما أن يراد بهذا من كانوا على الإيمان أولاً، ثم أُخرجوا كما هو ظاهر اللفظ؛ أو يقال: هذا باعتبار الفطرة؛ فإن كل مولود يولد على الفطرة؛ فكانوا على الفطرة السليمة، والإيمان، ثم أخرجوهم، كقوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»(133)؛ و{ من النور إلى الظلمات } سبق الكلام عليها(134).
قوله تعالى: { أولئك أصحاب النار هم فيها }؛ المشار إليه الذين كفروا، ودعاتهم؛ و{ أصحاب } جمع صحب؛ و«الصاحب» هو الملازم لغيره؛ فلا يسمى صاحباً إلا الملازم إلا صاحباً واحداً - وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم تطلق على من اجتمع به - ولو لحظة، ومات على ذلك؛ وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأصحاب النار هم أهلها الملازمون لها؛ وقُدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، ولمراعاة الفواصل.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة الإيمان، وأنه تحصل به ولاية الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا}.
2 - ومنها: إثبات الولاية لله عز وجل؛ أي أنه سبحانه وتعالى يتولى عباده؛ وولايته نوعان؛ الأول: الولاية العامة؛ بمعنى أن يتولى شؤون عباده؛ وهذه لا تختص بالمؤمنين، كما قال تعالى: {وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} [يونس: 30] يعني الكافرين؛ والنوع الثاني: ولاية خاصة بالمؤمنين ، كقوله تعالى: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} [محمد: 11] ، وكما في قوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا }؛ ومقتضى النوع الأول أن لله تعالى كمال السلطان، والتدبير في جميع خلقه؛ ومقتضى النوع الثاني: الرأفة، والرحمة، والتوفيق.
3 - ومن فوائد الآية: أن من ثمرات الإيمان هداية الله للمؤمن؛ لقوله تعالى: { يخرجهم من الظلمات إلى النور }.
4 - ومنها: أن الكافرين أولياؤهم الطواغيت سواء كانوا متبوعين، أو معبودين، أو مطاعين.
5 - ومنها: براءة الله عز وجل من الذين كفروا؛ يؤخذ من المنطوق، والمفهوم؛ فالمفهوم في قوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا } فمفهومه: لا الذين كفروا؛ المنطوق من قوله تعالى: { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت}؛ وهذا مقابل لقوله تعالى: { الله ولي الذين آمنوا }.
6 - ومنها: سوء ثمرات الكفر، وأنه يهدي إلى الضلال - والعياذ بالله؛ لقوله تعالى: { يخرجونهم من النور إلى الظلمات }؛ وهذا الإخراج يشمل ما كان إخراجاً بعد الوقوع في الظلمات، وما كان صدًّا عن النور؛ وعلى الثاني يكون المراد بإخراجهم من الظلمات: استمرارهم على الظلمات.
7 - ومنها: أن الكفر مقابل الإيمان؛ لقوله تعالى: { ولي الذين آمنوا والذين كفروا... } إلخ؛ ولكن هل معنى ذلك أنه لا يجتمع معه؟ الجواب أنه قد يجتمع معه على القول الراجح الذي هو مذهب أهل السنة، والجماعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»(135)؛ وهذا الكفر لا يرفع الإيمان لقول الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما...} [الحجرات: 9] إلى قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 10] ؛ فأثبت الأخوة الإيمانية مع الاقتتال الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: إنه كفر؛ وانظر إلى الإنسان يكون فيه كذب - وهو من خصال المنافقين؛ ويكون فيه حسد - وهو من خصال اليهود؛ ويكون فيه صدق - وهو من خصال المؤمنين؛ ويكون فيه إيثار - وهو من صفات المؤمنين أيضاً؛ لكن الكفر المطلق - وهو الذي يخرج من الإسلام - لا يمكن أن يجامع الإيمان.
8 - ومن فوائد الآية: إثبات النار؛ لقوله تعالى: { أولئك أصحاب النار }؛ والنار موجودة الآن؛ لقوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 131] ؛ فقال تعالى: {أعدت} بلفظ الماضي؛ والإعداد هو التهيئة؛ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث أنه رآها: ففي صلاة الكسوف عرضت عليه النار، ورأى فيها عمرو بن لُحيّ يجر قصبه في النار(136)؛ ورأى المرأة التي تعذب في هرة؛ ورأى صاحب المحجن يعذب(137)؛ المهم أن النار موجودة أبدية؛ وليست أزلية؛ لأنها مخلوقة بعد أن لم تكن؛ ولكنها أبدية لا تفنى: قال تعالى: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} [فاطر: 36] ؛ وذكر تأبيد أهلها في ثلاثة مواضع من القرآن؛ وبهذا يعرف بطلان قول من يقول: «إنها تفنى»؛ وأنه قول باطل مخالف للأدلة الشرعية.
9 - ومنها: أن الكافرين مخلدون في النار؛ لقوله تعالى: { أولئك أصحاب النار }؛ والصاحب للشيء: الملازم له.
10 - ومنها: أن الخلود خاص بالكافرين؛ وأن من يدخل النار من المؤمنين لا يخلّد؛ لقوله تعالى: { هم فيها خالدون }؛ يعني: دون غيرهم.
القــــرآن
)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258)
التفسير:
{ 258 } قوله تعالى: { ألم تر } الهمزة للاستفهام؛ والمراد به هنا التقرير، والتعجيب؛ «التقرير» يعني تقرير هذا الأمر، وأنه حاصل؛ و«التعجيب» معناه: دعوة المخاطَب إلى التعجب من هذا الأمر العجيب الغريب الذي فيه المحاجة لله عز وجل؛ { تر } أي تنظر نظر قلب؛ لأنه لم يدرك زمنه حتى يراه بعينه؛ والخطاب في قوله تعالى: { ألم تر } إما للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ وإما لكل من يتأتى خطابه ممن نزل عليهم القرآن؛ وهذا أعم؛ وقد ذكرنا قبل ذلك أن ما جاء بلفظ الخطاب في القرآن فله ثلاث حالات؛ إما أن يدل الدليل على أنه للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وللأمة؛ أو يدل الدليل على أنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ أو لا يكون هذا، ولا هذا: والحكم فيه أنه عام للرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولغيره؛ ولكن هل هذا الخطاب المعين يراد به الأمة، وخوطب إمامها لأنهم تبع له؛ أو يراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وغيره يفعله على سبيل الأسوة؟ قولان لأهل العلم؛ ومؤداهما واحد؛ فمن أمثلة ما دل الدليل على أنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك} [الشرح: 1، 2] ؛ ومن الأمثلة التي دل الدليل على أنه للرسول، ولغيره قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: ]؛ فوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: {إذا طلقتم} وهو عام؛ فدل على أن المراد به العموم؛ ومما يحتمل، مثل قوله تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] ؛ فهذا يحتمل أنه للرسول (صلى الله عليه وسلم) وحده؛ ولكن أمته تبع له؛ وهو ظاهر اللفظ - وإن كان هذا الشرك لا يقع منه؛ لأن «إنْ» قد يراد بها فرض الشيء دون وقوعه - وهنا { ألم تر } يحتمل الأمرين؛ يعني: ألم تنظر يا محمد، أو: ألم تنظر أيها المخاطب.
قوله تعالى: { إلى الذي حاج إبراهيم في ربه }؛ ذكر «إبراهيم» في الآية ثلاث مرات؛ وفيها قراءتان: { إبراهيم }، و{ إبراهام }؛ وهما سبعيتان؛ و{ حاج }: هذه صيغة مفاعلة؛ وصيغة المفاعلة لا تكون غالباً إلا بين اثنين، كـ«قاتل»، و«ناظر»، و«دافع» - أقول: غالباً؛ لئلا يرد علينا مثل: «سافر»؛ فإنها من واحد؛ ومعنى «حاجه» أي ناظره، وأدلى كل واحد بحجته؛ و«الحجة» هي الدليل، والبرهان؛ و{ في ربه } أي في وجوده، وفي ألوهيته؛ فإبراهيم يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له؛ وهذا ينكر الله رأساً - كما أنكره من بعده فرعون - وقال: أين الدليل على وجود ربك؟
قوله تعالى: { أن آتاه الله الملك }: { أن } مصدرية دخلت على الفعل الماضي؛ وإذا دخلت على الفعل الماضي لا تنصبه؛ لكنها لا تمنع أن يسبك بمصدر؛ والتقدير هنا: أنه حاج إبراهيم لكونه أُعطي مُلكاً؛ و «أل» في قوله تعالى: { الملك } الظاهر أنها لاستغراق الكمال - أي ملكاً تاماً لا ينازعه أحد في مملكته؛ لأن الله لم يعطه ملك السموات، والأرض؛ بل ولا ملك جميع الأرض؛ وبهذا نعرف أن فيما ذُكر عن بعض التابعين من أنه ملك الأرض أربعة - اثنان مؤمنان؛ واثنان كافران - نظراً؛ ولم يُمَلِّك الله جميع الأرض لأيّ واحد من البشر؛ ولكن يُمَلِّك بعضاً لبعض؛ والله عز وجل يقول: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251] ؛ أما أن يَملِك واحد من البشر جميع الأرض فهذا مستحيل في سنة الله عز وجل فيما نعلم.
فهذا رجل ملك - ولا يعنينا أن نعرف اسمه: أهو «نُمروذ بن كنعان»، أم غيره؛ المهم هو القصة - لما آتاه الله ملكاً دام مدة طويلة، وملك أراضي واسعة ملكاً تاماً لا ينازعه أحد - وكما قال تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام...} [يونس: 24] الآية - استطال والعياذ بالله، واستكبر، وعلا، وأنكر وجود العلي الأعلى، فكان يحاج إبراهيم لطغيانه بأن آتاه الله الملك؛ وقد قال الله سبحانه وتعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى} [العلق: 6، 7] ؛ إذا رأى الإنسان نفسه استغنى فقد يطغى، ويزيد عتوه، وعناده.
قوله تعالى: { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت }: هذا بيان المحاجة؛ وهذه لا شك - كما يُعلم من سياق اللفظ - أنها جواب لسؤال؛ كأنه قال: ما ربك؟ أو: من هو؟ أو: ما شأنه؟ أو: ما فعله؟ فقال: { ربي الذي يحيي ويميت } كما قال فرعون لموسى: {وما رب العالمين * قال رب السموات والأرض...} [الشعراء: 23، 24] ، ومعنى «الرب» الخالق المالك المدبر؛ وهذه الأوصاف لا تثبت على الكمال، والشمول إلا لله عز وجل؛ و{ يحيي ويميت } أي يجعل الجماد حياً؛ ويميت ما كان حياً، فبينما نرى الإنسان ليس شيئاً مذكوراً إذا به يكون شيئاً مذكوراً، كما قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} [الإنسان: 1] ؛ ثم يبقى في الأرض؛ ثم يُعدَم ويَفنى، فإذا هو خبر من الأخبار:
(كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامرُ - بينا يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار) قال إبراهيم هذا الكلام؛ كأنه يقول له: هو الذي يوجِد، ويعدِم؛ ثم أتى بمثال - وهو الإحياء والإماتة التي لا يقدر عليها أحد؛ لكن هذا المعاند المكابر قال: { أنا أحيي وأميت }؛ قالها إما تلبيساً؛ وإما مكابرة؛ إما تلبيساً كما قاله أكثر المفسرين؛ وقالوا: إنه أتى باثنين، فقتل أحدهما، وأبقى الآخر، فقال: «أمتّ الأول، وأحييت الثاني»؛ هذا هو المشهور عند كثير من المفسرين؛ وعلى هذا فيكون قوله: { أنا أحيي وأميت} تلبيساً؛ والحقيقة أنه ما أحيا، ولا أمات هنا؛ وإنما فعل ما يكون به الموت في دعوى الإماتة؛ واستبقى ما كان حياً في دعواه الإحياء؛ فلم يوجِد حياة من عنده؛ وقال بعضهم: بل قال ذلك مكابرة؛ يعني: هو يعلم أنه لا يحيي، ولا يميت؛ كأنه يقول لإبراهيم: إذا كان ربك يحيي ويميت فأنا أحيي، وأميت؛ ثم إن إبراهيم عليه السلام انتقل إلى أمر لا يمكن الجدال فيه، فقال: { إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب }.
قوله تعالى؛ { فبهت الذي كفر } أي تحير، واندهش، ولم يحرِ جواباً؛ فغلب إبراهيم الذي كفر؛ لأن وقوف الخصم في المناظرة عجز.
قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي لا يوفقهم للهداية.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: بلاغة القرآن الكريم في عرض الأمور العجيبة معرض التقرير، والاستفهام؛ لأن «التقرير» يحمل المخاطَب على الإقرار؛ و«الاستفهام» يثير اهتمام الإنسان؛ فجمع بين الاستفهام، والتقرير.
2 - ومنها: بيان كيف تصل الحال بالإنسان إلى هذا المبلغ الذي بلغه هذا الطاغية؛ وهو إنكار الحق لمن هو مختص به، وادعاؤه المشاركة؛ لقوله: { أنا أحيي وأميت }.
3 - ومنها: أن المحاجة لإبطال الباطل، ولإحقاق الحق من مقامات الرسل؛ لقوله تعالى: { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه }.
4 - ومنها: الإشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتعلم طرق المناظرة، والمحاجة؛ لأنها سُلَّم، ووسيلة لإحقاق الحق، وإبطال الباطل؛ ومن طالع كتب شيخ الإسلام ونحوها تعلَّم المناظرة - ولو لم يدرسها فناً.
5 - ومنها: أن النعم قد تكون سبباً للطغيان؛ لأن هذا الرجل ما طغى وأنكر الخالق إلا لأن الله آتاه الملك؛ ولهذا أحياناً تكون الأمراض نعمة من الله على العبد؛ والفقر والمصائب تكون نعمة على العبد؛ لأن الإنسان إذا دام في نعمة، وفي رغد، وفي عيش هنيء فإنه ربما يطغى، وينسى الله عز وجل.
6 - ومنها: صحة إضافة الملكية لغير الله؛ لقوله تعالى: { أن آتاه الله الملك }.
7 - ومنها: أن ملك الإنسان ليس ملكاً ذاتياً من عند نفسه؛ ولكنه معطى إياه؛ لقوله تعالى: { أن آتاه الله الملك}؛ وهذه الآية كقوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} [آل عمران: 26] .
8 - ومنها: فضيلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، حيث قال مفتخراً، ومعتزاً أمام هذا الطاغية: { ربي }؛ فأضافه إلى نفسه، كأنه يفتخر بأن الله سبحانه وتعالى ربه.
9 - ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { يحيي ويميت }؛ وهذه المسألة أنكرها كثير من علماء الكلام؛ وعللوا ذلك بعلل عليلة؛ بل ميتة لا أصل لها؛ لأنهم قالوا: إن الحوادث لا تقوم إلا بحادث؛ وإن الحوادث إن كانت كمالاً كان فقدها نقصاً؛ وإن كانت نقصاً فكيف يتصف الله بها! إذاً هي ممتنعة؛ لأنها نقص على كل تقدير؛ وحينئذٍ يجب أن ننزه الله عنها، وأن تكون ممتنعة عليه؛ والجواب عن ذلك أن قولكم: «الحوادث لا تقوم إلا بحادث» مجرد دعوى؛ ونحن نعلم أن الحوادث تحدث منا، ولكنها ليست سابقة بسبقنا؛ ولا يعد ذلك فينا نقصاً؛ فالحوادث تحدث بعد مَن أحدثها؛ ولا مانع من ذلك؛ فمن الممكن أن يكون المتصف بها قديماً وهي حادثة؛ وأما قولكم: «إنها إن كانت كمالاً كان فقدها نقصاً؛ وإن كانت نقصاً فكيف يوصف بها»؟ فنقول: هي كمال حال وجودها؛ فإذا اقتضت الحكمة وجودها كان وجودها هو الكمال؛ وإذا اقتضت الحكمة عدمها كان عدمها هو الكمال.
10 - ومن فوائد الآية: أن الإحياء والإماتة بيد الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { يحيي ويميت }؛ إذاً فاعتمد على الله عز وجل، ولا تخف، ولا تقدر أسباباً وهمية؛ مثلاً دعيت إلى أيّ عمل صالح فقلت: أخشى إن عملت هذا العمل أن أموت؛ نقول: هذا إذا كان مجرد وهم فإن هذه الخشية لا ينبغي أن يبني عليها حكماً، بحيث تمنعه من أمر فيه مصلحته، وخيره.
11 - ومنها: أن الإنسان المجادل قد يكابر فيدعي ما يعلم يقيناً أنه لا يملكه؛ لقول الرجل الطاغية: { أنا أحيي وأميت }؛ ومعلوم أن هذا إنما قاله في مضايقة المحاجة؛ والإنسان في مضايقة المحاجة ربما يلتزم أشياء هو نفسه لو رجع إلى نفسه لعلم أنها غير صحيحة؛ لكن ضيق المناظرة أوجب له أن يقول هذا إنكاراً، أو إثباتاً.
12 - ومنها: حكمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وجودته في المناظرة سواء قلنا: إن هذا من باب الانتقال من حجة إلى أوضح منها، أو قلنا: إنه من باب تفريع حجة على حجة.
13 - ومنها: الرد على علماء الهيئة الذين يقولون: إن إتيان الشمس ليس إتياناً لها بذاتها؛ ولكن الأرض تدور حتى تأتي هي على الشمس؛ ووجه الرد أن إبراهيم قال: { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق }؛ إذاً الله أتى بها من المشرق؛ وهم يقولون: إن الله لم يأت بها من المشرق؛ ولكن الأرض بدورتها اطلعت عليها؛ ونحن نقول: إن الله لم يقل: إن الله يدير الأرض حتى تُرى الشمس من المشرق؛ فأدرها حتى تُرى من المغرب! ويجب علينا أن نأخذ في هذا الأمر بظاهر القرآن، وألا نلتفت لقول أحد مخالف لظاهر القرآن؛ لأننا متعبدون بما يدل عليه القرآن؛ هذا من جهة؛ ولأن الذي أنزل القرآن أعلم بما خلق: قال الله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] ؛ فإذا كان يقول في كلامه إن الشمس: «تأتي»، و«تطلع»، و«تغرب»، و«تزول»، و«تتوارى»؛ كل هذه الأفعال يضيفها إلى الشمس؛ لماذا نحن نجعلها على العكس من ذلك، ونضيفها إلى الأرض!!! ويوم القيامة سيقول الله لنا: {ماذا أجبتم المرسلين} [القصص: 65] ؛ لا يقول: ماذا أجبتم العالم الفلكي الفلاني؛ على أن علماء الفلك قديماً، وحديثاً مختلفون في هذا؛ لم يتفقوا على أن الأرض هي التي بدورانها يكون الليل، والنهار؛ وما دام الأمر موضع خلاف بين الفلكيين أنفسهم؛ فإننا نقول كما نقول لعلماء الشرع إذا اختلفوا: «إن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول»؛ بل نقول: لو جاء علماء الفلك بأجمعهم ما عدلنا عن ظاهر القرآن حتى يتبين لنا أمر محسوس؛ وحينئذ نقول لربنا إذا لاقيناه: إنك قلت - وقولك الحق: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }، وقلت: {اتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] ؛ ونحن ما وسعنا إلا أن نقول: إن قولك: { وترى الشمس إذا طلعت } [الكهف: 17] أي إذا طلعت رأي العين؛ لا في حقيقة الواقع؛ لأننا علمنا بحسنا، وبصرنا بأن الذي يكون به تعاقب الليل، والنهار هو دوران الأرض؛ أما والحس لم يدل على هذا؛ ولكنه مجرد أقيسة ونظريات، فإنني أرى أنه لا يجوز لأحد أن يعدل عن كلام ربه الذي خلق، والذي أنزل القرآن تبياناً لكل شيء لمجرد قول هؤلاء.
14 - ومن فوائد الآية: أن الحق لا تمكن المجادلة فيه؛ لقوله تعالى: { فبهت الذي كفر }.
15 - ومنها: إثبات أن من جحد الله فهو كافر؛ لقوله تعالى: { فبهت الذي كفر }؛ وهذه هي النكتة في الإظهار مقام الإضمار؛ لأجل أن نقول: كل من جادل كما جادل هذا الرجل فهو كافر.
16 - ومنها: الإشارة إلى أن محاجة هذا الرجل محاجة بباطل؛ لقوله تعالى: { الذي كفر }؛ لأن الذين كفروا هم الذين يحاجون حجة باطلة؛ قال الله تعالى: {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق} [الكهف: 5].
17 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ لأنهم يقولون: إن الإنسان حرّ: يهتدي بنفسه، ويضل بنفسه؛ وهذه الآية واضحة في أن الهداية بيد الله.
18 - ومنها: التحذير من الظلم؛ لقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ ومن الظلم أن يتبين لك الحق فتجادل لنصرة قولك؛ لأن العدل أن تنصاع للحق، وألا تكابر عند وضوحه؛ ولهذا ضل من ضل من أهل الكلام؛ لأنه تبين لهم الحق؛ ولكن جادلوا؛ فبقوا على ما هم عليه من ضلال.
19 - ومنها: أن الله لا يمنع فضله عن أحد إلا إذا كان هذا الممنوع هو السبب؛ لقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ فلظلمهم لم يهدهم الله؛ وهذا كقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] .
20 - ومنها: أنه كلما كان الإنسان أظلم كان عن الهداية أبعد؛ لأن الله علق نفي الهداية بالظلم؛ وتعليق الحكم بالظلم يدل على عليته؛ وكلما قويت العلة قوي الحكم المعلق عليه.
21 - ومنها: أن من أخذ بالعدل كان حرياً بالهداية؛ لمفهوم المخالفة في قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ فإذا كان الظالم لا يهديه الله، فصاحب العدل حري بأن يهديه الله عز وجل؛ فإن الإنسان الذي يريد الحق ويتبع الحق - والحق هو العدل - غالباً يُهدى، ويوفّق للهداية؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية عبارة من أحسن العبارات؛ قال: «من تدبر القرآن طالباً الهدى منه تبين له طريق الحق»؛ وهذه كلمة مأخوذة من القرآن منطوقاً، ومفهوماً.
القــــرآن
)أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:259)
التفسير:
{ 259 } قوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية }؛ { أو }: حرف عطف؛ والكاف: قيل إنها زائدة للتوكيد؛ وقيل: إنها اسم بمعنى «مثل»؛ وعلى كلا القولين فهي معطوفة على { الذي } في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} [البقرة: 258] ؛ يعني: أو ألم تر إلى مثل الذي مر - إذا جعلنا الكاف بمعنى «مثل»؛ فإن جعلنا الكاف زائدة، فالتقدير: أو ألم تر إلى الذي مر على قرية... إلخ.
وفي قوله تعالى: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } تقديم المفعول على الفاعل؛ لأن { هذه } مفعول مقدم؛ ولفظ الجلالة فاعل مؤخر.
قوله تعالى: { مائة } منصوبة على أنها نائبة مناب الظرف؛ لأنها مضافة إليه؛ والظرف هي كلمة { عام }؛ وهي متعلقة بـ {أماته} ؛ وقيل: متعلقة بفعل محذوف؛ والتقدير: فأبقاه مائة عام؛ قالوا: لأن الموت لا يتأجل؛ الموت موت؛ ولكن الذي تأجل هو بقاؤه ميتاً مائة عام.
قوله تعالى: { كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم قال بل لبثتَ }: اختلفت الحركة في التاء باعتبار من ترجع إليه؛ و{ كم } مفعول مقدم لـ { لبثت }؛ يعني: كم مدة لبثت.
قوله تعالى: { لم يتسنه } فيها قراءتان: { لم يتسنَّه } بالهاء الساكنة؛ و{ لم يتسنَّ } بحذفها عند الوصل؛ فالقراءتان تختلفان في حال الوصل؛ لا في حال الوقف؛ في حال الوقف: بالهاء الساكنة على القراءتين: { لم يتسنَّه }؛ وفي حال الوصل: بحذف الهاء في قراءة سبعية: { لم يتسنَّ وانظر }.
قوله تعالى: { ولنجعلك آية للناس }؛ الواو حرف عطف؛ والمعطوف عليه محذوف دل عليه السياق؛ والتقدير؛ لتعلم قدرة الله، ولنجعلك آية للناس.
قوله تعالى: { أعلم } بفتح الهمزة على أنه فعل مضارع؛ فالجملة خبرية؛ والقراءة الثانية «اعْلمْ» بهمزة الوصل على أنه فعل أمر؛ وعلى هاتين القراءتين يختلف عود الضمير في { قال }؛ فعلى القراءة الأولى مرجعه { الذي مر على قرية } ؛ وعلى الثانية يرجع إلى الله.
وقد اختلف المفسرون في تعيين القرية، والذي مر بها؛ وهو اختلاف لا طائل تحته؛ إذ لم يثبت فيه شيء عن معصوم؛ والمقصود العبرة بما في هذه القصة - لا تعيين الرجل، ولا القرية - ومثل هذا الذي يأتي مبهماً، ولم يعين عن معصوم، طريقنا فيه أن نبهمه كما أبهمه الله عز وجل.
قوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية }: «القرية» مأخوذة من القَرْي؛ وهي الجمع؛ وتطلق على الناس المجتمعين في البلد؛ وتطلق على البلد نفسها - حسب السياق - فمثلاً في قوله تعالى: {قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية} [العنكبوت: 31] المراد بـ «القرية» هنا المساكن؛ لأنه تعالى قال: {أهل هذه القرية} ؛ وأما في قوله تعالى: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة} فالمراد بـ «القرية» هنا أهلها؛ والدليل قوله تعالى: {أهلكناها} ، وقوله تعالى: {وهي ظالمة} : وهذا لا يوصف به البلد.
فتبين أن القرية يراد بها أحياناً البلد التي هي محل مجتمع الناس؛ ويراد بها القوم المجتمعون - على حسب السياق؛ وكما قال أولاد يعقوب لأبيهم: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها} [يوسف: 82] : فالمراد بـ «القرية» هنا أهلها؛ والدليل قوله تعالى: {واسأل القرية} ؛ لأن السؤال لا يمكن أن يوجه إلى القرية التي هي البناء؛ وإذا كانت «القرية» تطلق على أهل القرية بنص القرآن فلا حاجة إلى أن نقول: هذا مجاز أصله: واسأل أهل القرية؛ لأنا رأينا في القرآن الكريم أن «القرية» يراد بها الساكنون.
قوله تعالى: { وهي خاوية على عروشها } جملة حالية في محل نصب؛ ومعناها أنه ساقط بعضها على بعض ليس فيها ساكن.
قوله تعالى: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها }؛ { أنى } اسم استفهام للاستبعاد؛ وسياق الآية يرجحه؛ أي أنه استبعد حسب تصوره أن الله سبحانه وتعالى يعيد إلى هذه القرية ما كان سابقاً، وقال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها؛ وقال بعضهم: إنه للاستعجال، والتمني؛ كأنه يقول: متى يحيي الله هذه القرية بعد موتها وقد كانت بالأمس قرية مزدهرة بالسكان، والتجارة، وغير ذلك؛ فمتى يعود عليها ما كان قبل.
قوله تعالى: { فأماته الله } أي قبض روحه.
قوله تعالى: { مائة } فيها ألف بين الميم، والهمزة؛ والميم مكسورة، والألف عليها دائرة إشارة إلى أن الألف هذه تكتب، ولا ينطق بها؛ وبهذا نعرف خطأ من ينطقون بها: «مَائة» بميم مفتوحة؛ ومن قرأ بها في القرآن فقد لحن لحناً يجب عليه أن يعدله؛ وبعض الكتاب المعاصرين يكتبها بدون ألف كـ «فِئة» يعني: ميم، وهمزة، وتاء؛ وهذا أحسن إلا في رسم المصحف؛ فيتبع الرسم العثماني؛ وإلا إذا أضيف إليها عدد كـ «ثلاثمائة» و«أربعمائة»؛ فتكتب الألف، ولا ينطق بها.
قوله تعالى: { عام } مشتقة من العوم؛ وهو السباحة؛ لأن الشمس تسبح فيه على الفصول الأربعة؛ وهي الربيع؛ الصيف؛ الخريف؛ الشتاء؛ كل واحد من هذه الفصول له ثلاثة من البروج المذكورة في قوله:
(حملٌ فثور فجوزاء فسرطان فأسد سنبلة ميزان فعقرب قوس فجدي فكذا دلو وذي آخرها الحيتان) هذه اثنا عشر برجاً للفصول الأربعة؛ كل واحد من الفصول له ثلاثة؛ وقيل: إن كلمة { عام } غير مشتقة؛ فهي مثل كلمة «باب» و«ساج» و«سنة»؛ وما أشبه ذلك من الكلمات التي ليس لها اشتقاق؛ وأياً كان فالمعنى معروف.
قوله تعالى: { ثم بعثه } أي أحياه؛ ولعل قائلاً يقول: إن المتوقع أن يقول: «ثم أحياه» ليقابل { أماته}؛ لكن «البعث» أبلغ؛ لأن «البعث» فيه سرعة؛ ولهذا نقول: انبعث الغبار بالريح، وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على أن الشيء يأتي بسرعة، واندفاع؛ فهذا الرجل بعثه الله بكلمة واحدة؛ قال مثلاً: «كن حياً»، فكان حياً.
قوله تعالى: { قال كم لبثت }؛ القائل هو الله عز وجل؛ يعني كم لبثت من مدة؛ والمدة مائة عام.
قوله تعالى: { قال لبثت يوماً أو بعض يوم }؛ { أو } للشك؛ قال العلماء: وإنما قال ذلك؛ لأن الله أماته في أول النهار، وأحياه في آخر النهار؛ فقال: لبثت يوماً إن كان هذا هو اليوم الثاني من موته؛ أو بعض يوم إن كان هو اليوم الذي مات فيه.
قوله تعالى: { بل لبثت مائة عام }؛ { بل } هذه للإضراب الإبطالي؛ يعني لم تلبث يوماً، أو بعض يوم؛ بل لبثت مائة عام.
قوله تعالى: { فانظر } أي بعينك { إلى طعامك }: أبهمه الله عز وجل فلم يبين من أي نوع هو؛ و «الطعام» كل ما له طعم من مأكول، ومشروب؛ لكنه إذا قرن بالشراب صار المراد به المأكول.
قوله تعالى: { وشرابك }: لم يبين نوع الشراب؛ { لم يتسنه } أي لم يتغير.
قوله تعالى: { وانظر إلى حمارك } أي انظر إليه بعينك؛ فنظر إلى حماره تلوح عظامه ليس فيه لحم، ولا عصب، ولا جلد.
قوله تعالى: { ولنجعلك آية للناس } أي لنصيِّرك علامة للناس على قدرتنا.
قوله تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها }؛ وفي قراءة: «ننشرها» بالراء؛ { ننشزها } بالزاي يعني: نركب بعضها على بعض؛ من النشَز؛ وهو الارتفاع، كقوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً} [النساء: 128] ؛ فـ { ننشزها } يعني: نعلي بعضها على بعض؛ فنظر إلى العظام يأتي العظم، ويركب على العظم الثاني في مكانه حتى صار الحمار عظاماً؛ كل عظم منها راكب على الآخر في مكانه، ثم بعد ذلك كسا الله العظام لحماً بعد أن أنشز بعضها ببعض بالعصب؛ أما قراءة «ننشرها» بالراء فمعناها: نحييها؛ لأن العظام قد يبست، وصارت كالرميم ليس فيها أيّ مادة للحياة، ثم أحييت بحيث صارت قابلة لأن يركب بعضها على بعض.
قوله تعالى: { ثم نكسوها لحماً } أي نسترها باللحم؛ فشاهد ذلك بعينه، فاجتمع عنده آيتان من آيات الله؛ إبقاء ما يتغير على حاله - وهو طعامه، وشرابه؛ وإحياء ما كان ميتاً - وهو حماره.
قوله تعالى: { فلما تبين له } أي تبين لهذا الرجل - الذي مر على القرية، واستبعد أن يحييها الله بعد موتها؛ أو استبطأ أن الله سبحانه وتعالى يحييها بعد موتها، وحصل ما حصل من آيات الله عز وجل بالنسبة له، ولحماره، ولطعامه، وشرابه - تبين له الأمر الذي تحقق به قدرة الله عز وجل.
قوله تعالى: { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }؛ وفي قراءة: { اعلم أن الله على كل شيء قدير }؛ والفائدة من القراءتين: كأنه أُمر أن يعلم، فعلم، وأقر؛ و«العلم» - كما سبق - هو إدراك الشيء إدراكاً جازماً مطابقاً لما هو عليه؛ وعدم الإدراك هو الجهل البسيط؛ وإدراك الشيء على غير ما هو عليه: هو الجهل المركب؛ وعدم الجزم: شك؛ أو ظن؛ أو وهم؛ فإن تساوى الأمران فهو شك؛ وإن ترجح أحدهما فالراجح ظن؛ والمرجوح وهم.
و«القدرة» صفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجز؛ لقوله تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً} [فاطر: 44] : لما نفى أن يعجزه شيء قال تعالى: {إنه كان عليماً قديراً} فلما نفى العجز، ذكر القدرة، والعلم مقابلها.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: بلاغة القرآن، حيث ينوع الأدلة، والبراهين على الأمور العظيمة؛ لقوله تعالى: { أو كالذي مر على قرية }؛ فهذه الآية وما قبلها، وما بعدها كلها في سياق قدرة الله عز وجل على إحياء الموتى.
2 - ومنها: الإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يهتم الإنسان بأعيان أصحاب القصة؛ إذ لو كان هذا من الأمور المهمة لكان الله يبين ذلك: يقول: فلان؛ ويبين القرية.
3 - ومنها: أن العبرة بالمعاني والمقاصد دون الأشخاص.
4 - ومنها: إطلاق القرية على المساكن؛ لقوله تعالى: { وهي خاوية على عروشها } مع أنه يحتمل أن يراد بهذه الآية المساكن، والساكن؛ لأن كونها خاوية على عروشها يدل على أن أهلها أيضاً مفقودون، وأنهم هالكون.
5 - ومنها: قصور نظر الإنسان، وأنه ينظر إلى الأمور بمعيار المشاهَد المنظور لديه؛ لقول هذا الرجل: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها }؛ فكونك ترى أشياء متغيرة لا تستبعد أن الله عز وجل يزيل هذا التغيير؛ وكم من أشياء قدَّر الناس فيها أنها لن تزول، ثم تزول؛ كم من أناس أمَّلوا دوام الغنى، ودوام الأمن، ودوام السرور، ثم أعقبه ضد ذلك؛ وكم من أناس كانوا على شدة من العيش، والخوف، والهموم، والغموم، ثم أبدلهم الله سبحانه وتعالى بضد ذلك.
6 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان إذا استبعد وقوع الشيء - ولكنه لم يشك في قدرة الله - لا يكفر بهذا.
7 - ومنها: بيان قدرة الله عز وجل في إماتة هذا الرجل لمدة معينة، ثم إحيائه؛ لقوله تعالى: { فأماته الله مائة عام ثم بعثه }.
8 - ومنها: إثبات الكلام لله عز وجل، والقول، وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لقوله تعالى: { قال كم لبثت}؛ والأولى الأخذ بظاهر القرآن، وأن القائل هو الله عز وجل.
9 - ومنها: جواز امتحان العبد في معلوماته؛ لقوله تعالى: { كم لبثت }.
10 - ومنها: الرد على الأشاعرة الذين قالوا: «إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وأن هذه الأصوات التي سمعها موسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - وغيرهما ممن كلمه الله هي أصوات خلقها الله عز وجل لتعبر عما في نفسه»؛ وأن هذا القول مقتضاه إنكار القول من الله عز وجل.
11 - ومنها: بيان حكمة الله، حيث أمات هذا الرجل، ثم بعثه ليتبين له قدرة الله عز وجل.
12 - ومنها: جواز إخبار الإنسان بما يغلب على ظنه، وأنه إذا خالف الواقع لا يعد مخطئاً؛ لقوله تعالى: { قال لبثت يوماً أو بعض يوم } مع أنه لبث مائة عام.
13 - ومنها: أن الله قد يمنّ على عبده بأن يريه من آياته ما يزداد به يقينه؛ لقوله تعالى: { فانظر إلى طعامك... } إلخ.
14 - ومنها: أن قدرة الله فوق ما هو معتاد من طبيعة الأمور، حيث بقي هذا الطعام والشراب مائة سنة لم يتغير.
15 - ومنها: الرد على أهل الطبيعة الذين يقولون: إن السنن الكونية لا تتغير؛ لقوله تعالى: { لم يتسنه }: لكون هذا الطعام، والشراب لم يتغير لمدة مائة سنة، والرياح تمر به، والشمس، والحر.
16 - ومنها: جواز الانتفاع بالحُمُرِ؛ لقوله تعالى: { وانظر إلى حمارك }.
17 - ومنها: ثبوت الملكية فيها: لأن الله أضاف الحمار إلى صاحبه؛ فقال تعالى: { حمارك }؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه»(138)؛ وإثبات الملكية يقتضي حل الثمن؟
فالجواب: أنها إذا بيعت للأكل فهو حرام؛ لأنه هو المحرم؛ وأما إذا بيعت للانتفاع فهذا حلال؛ لأن الانتفاع بها حلال؛ إذاً فهذا لا يعارض الحديث؛ فإذا اشترى الحمار للأكل فالثمن حرام؛ وإن اشتراه للمنفعة فالمنفعة حلال، وثمنها حلال.
18 - ومن فوائد الآية: أن الله يحدث للعبد ما يكون عبرة لغيره؛ لقوله تعالى: { ولنجعلك آية للناس }؛ ومثل ذلك قوله تعالى في عيسى بن مريم، وأمه: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] .
19 - ومنها: أنه ينبغي التفكر فيما خلقه الله عز وجل، وأحدثه في الكون؛ لأن ذلك يزيد الإيمان، حيث إن هذا الشيء آية من آيات الله.
20 - ومنها: أنه ينبغي النظر إلى الآيات على وجه الإجمال، والتفصيل؛ لقوله تعالى: { وانظر إلى حمارك}: مطلق؛ ثم قال تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها... } إلخ؛ فيقتضي أن نتأمل أولاً في الكون من حيث العموم، ثم من حيث التفصيل؛ فإن ذلك أيضاً يزيدنا في الإيمان.
21 - ومنها: أن الله عز وجل جعل اللحم على العظام كالكسوة؛ بل هو كسوة في الواقع؛ لقوله تعالى: { ثم نكسوها لحماً }، وقال تعالى: { فكسونا العظام لحماً } [المؤمنون: 14] ؛ ولهذا تجد اللحم يقي العظام من الكسر والضرر؛ لأن الضرر في العظام أشد من الضرر في اللحم.
22 - ومنها: أن الإنسان بالتدبر، والتأمل، والنظر يتبين له من آيات الله ما لا يتبين لو غفل؛ لقوله تعالى: { فلما تبين له... } إلخ.
23 - ومنها: بيان عموم قدرة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { على كل شيء قدير }.
24 - ومنها: الرد على القدرية؛ لقوله تعالى: { على كل شيء قدير }؛ لأن من الأشياء فعل العبد؛ والله سبحانه وتعالى قادر على فعل العبد؛ وعند القدرية المعتزلة أن الله ليس بقادر على أفعال العبد؛ لأن العبد عندهم مستقل خالق لفعله، وأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعاله.
25 - ومنها: الرد على منكري قيام الأفعال الاختيارية بالله عز وجل؛ لقوله تعالى: { فأماته الله... ثم بعثه }؛ وهذه أفعال متعلقة بمشيئته، واختياره: متى شاء فعل، ومتى شاء لم يفعل؛ متى شاء خلق، ومتى شاء أمات؛ ومتى شاء أذل، متى شاء أعز.
26 - ومنها: أن كلام الله عز وجل بحروف، وأصوات مسموعة؛ لقوله تعالى: { كم لبثت }، وقوله تعالى: { بل لبثت مائة عام }؛ فإن مقول القول حروف بصوت سمعه المخاطَب، وأجاب عليه بقوله: { لبثت يوماً أو بعض يوم }؛ ولكن الصوت المسموع من كلام الله عز وجل ليس كصوت المخلوقين؛ الحروف هي الحروف التي يعبر بها الناس؛ لكن الصوت: لا؛ لأن الصوت صفة الرب عز وجل؛ والله سبحانه وتعالى يقول: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى: 11] .
27 - ومنها: أنه يلزم من النظر في الآيات العلم، واليقين؛ لقوله تعالى: { فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير }.
28 - ومنها: أنه يمكن الرد على الجبرية على قراءة: «اعلم» ؛ لأنه لو كان الإنسان مجبوراً لكان توجه الخطاب إليه بالأمر والتكليف، لغواً وعبثاً.
29 - ومنها: ثبوت كرامات الأولياء؛ وهي كل أمر خارق للعادة يجريه الله عز وجل على يد أحد أوليائه تكريماً له، وشهادةً بصدق الشريعة التي كان عليها؛ ولهذا قيل: كل كرامة لوليّ فهي آية للنبي الذي اتبعه؛ و«الولي» كل مؤمن تقي؛ لقوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62، 63] .
30 - ومنها: وجوب العلم بأن الله على كل شيء قدير.
القــــرآن
)وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260)
التفسير:
في { إبراهيم } قراءتان؛ { إبراهيم } بكسر الهاء، وياء بعدها؛ و {إبراهام} بفتح الهاء، وألف بعدها؛ وكذلك في { أرني } قراءتان: {أرِني} بكسر الراء؛ و {أرْني} بسكونها؛ وفي { فصرهن } قراءتان أيضاً: {فصُرهن} بضم الصاد؛ و {فصِرهن} بكسرها؛ وفي { جزءاً } قراءتان أيضاً: {جزْءاً} بسكون الزاي؛ و {جزُءاً} بضمها؛ وكل هذه القراءات سبعية.
{ 260 } قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب أرني } { إذ } : مفعول فعل محذوف؛ والتقدير: اذكر إذ قال؛ و{ أرني }: الرؤية هنا بصرية، فتنصب مفعولاً واحد؛ لكن لما دخلت عليها همزة التعدية صارت تنصب مفعولين؛ الأول: الياء؛ والثاني: جملة: { كيف تحيي الموتى }.
قوله تعالى: { أو لم تؤمن } فيها إعرابان مشهوران؛ أحدهما: أن الهمزة دخلت على مقدر عُطف عليها قوله تعالى: { ولم تؤمن }؛ وهذا المقدر يكون بحسب السياق؛ وعلى هذا فالهمزة في محلها؛ الثاني: أن الواو حرف عطف على ما سبق؛ والهمزة للاستفهام؛ وأصل محلها بعد الواو؛ والتقدير: «وألم تؤمن»؛ والثاني أسهل، وأسلم؛ لأن الإنسان ربما يقدر فعلاً ليس هو المراد؛ وأسهل؛ لئلا يُتعب الإنسان نفسه في طلب فعل يكون مناسباً.
قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم }؛ إبراهيم صلى الله عليه وسلم هو الأب الثالث للأنبياء؛ فالأول: آدم؛ والثاني: نوح؛ والثالث: إبراهيم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78] ، وقال تعالى في نوح: {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77] ؛ وآدم معلوم أنه أبو البشر: قال الله تعالى: {يا بني آدم} [الأعراف: 26] .
قوله تعالى: { رب }: منادى منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ وحرف النداء محذوف للعلم به.
قوله تعالى: { أرني كيف تحيي الموتى } أي اجعلني أنظر، وأرى بعيني؛ والسؤال هنا عن الكيفية لا عن الإمكان؛ لأن إبراهيم لم يشك في القدرة؛ ولا عن معنى الإحياء؛ لأن معنى الإحياء عنده معلوم؛ لكن أراد أن يعلم الكيفية: كيف يحيي الله الموتى بعد أن أماتهم، وصاروا تراباً وعظاماً.
وقوله تعالى: { الموتى }: هل مراد إبراهيم صلى الله عليه وسلم أيّ موتى يكونون؛ أو أن المراد به الموتى من بني آدم، فضرب الله له مثلاً بالطيور الأربعة؟ إذا نظرنا إلى لفظ { الموتى } وجدناه عاماً؛ يعني أيّ شيء يحييه الله أمامه فقد أراه؛ فيترجح الاحتمال الأول.
قوله تعالى: { قال أو لم تؤمن }: هذا الاستفهام للتقرير؛ وليس للإنكار، ولا للنفي؛ فهو كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] ؛ يعني: قد شرحنا لك؛ فمعنى { أو لم تؤمن }: ألست قد آمنت؛ لتقرير إيمان إبراهيم (صلى الله عليه وسلم).
وقد فسر كثير من الناس الإيمان في اللغة بـ«التصديق»؛ وهذا التفسير ليس بدقيق؛ لكنه تفسير بما يقارب؛ كتفسيرهم «الريب» بالشك؛ وتفسيرهم «الرهن» بالحبس؛ وتفسير قوله تعالى: {أن تبسل نفس} [الأنعام: 70] أي تحبس؛ وما أشبه ذلك مما يفسرونه بالمعنى المقارِب الذي يَقرُب للفهم؛ وإلا فإن بين الإيمان، والتصديق فرقاً؛ وقد سبق بيان ذلك.
قوله تعالى: { بلى } حرف يجاب بها النفي المقرون بالاستفهام لإثباته؛ فإذا قلت: ألست حاضراً معنا في الدرس؟ فالجواب: «بلى» - إن كنت حاضراً؛ و«نعم» - إن لم تكن حاضراً.
قوله تعالى: { ولكن ليطمئن قلبي } أي ليزداد طمأنينة؛ وإلا فقد كان مطمئناً؛ و«الطمأنينة» هي الاستقرار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اركع حتى تطمئن راكعاً... اسجد حتى تطمئن ساجداً»(139)، أي تستقر؛ فأراه الله سبحانه وتعالى الآية: قال تعالى: { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً }.
قوله تعالى: { فخذ أربعة من الطير }: لم يعينها الله عز وجل؛ ولهذا تعتبر محاولة تعيينهن لا فائدة منها؛ لأنه لا يهمنا أكانت هذه الطيور إوَزًّا، أم حماماً، أم غرباناً، أم أيَّ نوع من أنواع الطيور؛ لأن الله لم يبينها لنا؛ ولو كان في تبيينها فائدة لبيَّنها الله عز وجل.
قوله تعالى: { فصرهن إليك } بكسر الصاد من صار يصير؛ وبضمها من صار يصور؛ أي أملهن إليك؛ و«الصُّور» الميل؛ ومنه الرجل الأصور - التي مالت عينه إلى جانب من جفنه؛ ويسمى «الأحول»؛ فمعنى { صرهن } أي أملهن، واضممهن إليك.
قوله تعالى: { ثم اجعل على كل جبل }، أي من الجبال التي حولك { منهن جزءاً } أي من مجموعهن؛ والله أعلم بالحكمة من تعيين العدد، والجبال.
قوله تعالى: { ثم ادعهن }؛ ففعل عليه الصلاة والسلام فجمع الأربعة، وذبحهن، وقطعهن أجزاءً، وجعل على كل جبل جزءاً؛ ثم دعاهن فأقبلن.
قوله تعالى: { يأتينك سعياً } قيل: إنها جواب لفعل الأمر في قوله تعالى: { ادعهن }؛ وقيل: إنها جواب لفعل شرط مقدر؛ والتقدير: «إن تدعهن يأتينك»؛ فعلى القول الأول يكون جواباً لقوله: { ادعهن }؛ لأن من لازم أمر الله إياه بدعائهن أن يدعوَهن؛ فكأن الشرط معلوم من الأمر؛ وعلى القول الثاني لا إشكال إذا جعلت { يأتينك } جواباً لفعل شرط محذوف - يعني: إن تدعهن يأتينك؛ و{ يأتينك } مبنية على السكون في محل جزم؛ وإنما بنيت على السكون لاتصالها بنون النسوة.
وقوله تعالى: { سعياً } مصدر؛ لكن هل هو مصدر عامله محذوف، والتقدير: يسعَين سعياً؛ أو هو مصدر في موضع الحال، فيكون بمعنى: ساعيات؟ يحتمل هذا، وهذا؛ والثاني أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى تقدير؛ والقاعدة أنه إذا دار الأمر بين أن يكون الكلام محذوفاً منه، أو غير محذوف فهو غير محذوف منه.
وقوله تعالى: { سعياً }؛ هل نفسر السعي في كل موضع بحسبه؛ أو نقول: سعياً على الأرجل؟ في هذا قولان للمفسرين؛ أحدهما أن السعي هنا بمعنى الطيران؛ فالمعنى: يأتينك طيراناً لا نقص فيهن؛ لأن سعي كل شيء بحسبه؛ وسعي الطيور هو الطيران؛ الثاني: أن المراد بالسعي المشي بسرعة على الأرجل؛ ولكن الأولى - فيما يظهر لنا - هو الطيران؛ لأن كونهن يمشين على الأرجل لا يدل على كمالهن؛ إذ إن الطائر إذا كُسر جناحه صار يمشي؛ لكن كونهن يطرن أبلغ؛ لأنه كأنهن أتين على أكمل الحياة، والوجوه.
قوله تعالى: { واعلم أن الله عزيز حكيم }: الخطاب لإبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ فإذا علمت ذلك علمت كمالَ قدرته عز وجل لكمال عزته، وكمالَ حكمته؛ لأنه حكيم؛ والله سبحانه وتعالى يقرن كثيراً بين هذين الاسمين: «العزيز» و «الحكيم» ؛ لأن العزيز من المخلوقين قد تفوته الحكمة لعزته: يرى نفسه عزيزاً غالباً، فيتهور في تصرفاته، ويتصرف بدون حكمة؛ والحكيم من المخلوقين قد لا يكون عزيزاً؛ فإذا اقترنت حكمته بعزة صار له سلطان وقوة، ولم تفته الأمور؛ فجمع الله لنفسه بين العزة، والحكمة؛ وسبق الكلام عليهما مفصلاً.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن التوسل إلى الله بربوبيته من آداب الدعاء التي يتوسل بها الرسل؛ لقوله تعالى: {رب}؛ لأن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية؛ إذ إنه فعل؛ وكل ما يتعلق بأفعال الرب فهو من مقتضيات الربوبية؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الرجل يطيل السفر يمد يديه إلى السماء: «يقول: يا رب! يا رب!»(140)؛ ولو تأملت أكثر أدعية القرآن لوجدتها مصدرة بـ«الرب»؛ لأن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية.
2 - ومنها: أنه لا حرج على الإنسان أن يطلب ما يزداد به يقينه، لقوله تعالى: { أرني كيف تحيي الموتى}؛ لأنه إذا رأى بعينه ازداد يقينه.
3 - ومنها: أن عين اليقين أقوى من خبر اليقين؛ لقوله تعالى: { أرني كيف تحيي الموتى }؛ لأن إبراهيم عليه السلام عنده خبر اليقين بأن الله قادر؛ لكن يريد عين اليقين؛ ولهذا جاء في الحديث: «ليس الخبر كالمعاينة»(141)؛ وقد ذكر العلماء أن اليقين ثلاث درجات: علم؛ وعين؛ وحق؛ كلها موجودة في القرآن؛ مثال «علم اليقين» قوله تعالى: {كلا لو تعلمون علم اليقين} [التكاثر: 5] ؛ ومثال «عين اليقين» قوله تعالى: {ثم لترونها عين اليقين} [التكاثر: 7] ؛ ومثال «حق اليقين» قوله تعالى: {إن هذا لهو حق اليقين} [الواقعة: 56] ؛ نضرب مثالاً يوضح الأمر: قلت: إن معي تفاحة حلوة - وأنا عندك ثقة؛ فهذا علم اليقين: فإنك علمت الآن أن معي تفاحة حلوة؛ فأخرجتُها من جيبي، وقلت: هذه التفاحة؛ فهذا عين اليقين؛ ثم أعطيتك إياها، وأكلتَها وإذا هي حلوة؛ هذا حق اليقين.
4 - ومن فوائد الآية: إثبات أفعال الله الاختيارية؛ بمعنى أن الله سبحانه وتعالى له أفعال تتعلق بمشيئته؛ لقوله تعالى: { تحيي الموتى }.
5 - ومنها: تمام قدرة الله سبحانه وتعالى بإحياء الموتى؛ وقد قرر الله ذلك في آيات كثيرة.
6 - ومنها: إثبات الكلام لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { قال أو لم تؤمن }، وقوله تعالى: { قال فخذ أربعة }؛ والله سبحانه وتعالى؛ يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء؛ بما شاء: من القول؛ متى شاء: في الزمن؛ كيف شاء: في الكيفية.
7 - ومنها: أن كلام الله سبحانه وتعالى بحروف، وأصوات مسموعة؛ لوقوع التحاور بين الله عز وجل، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم.
8 - ومنها: إثبات أن إبراهيم مؤمن بقدرة الله عز وجل على إحياء الموتى؛ لقوله تعالى: { قال أو لم تؤمن قال بلى }؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا، وبين ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم»(142)؛ فأثبت شكاً فينا، وفي إبراهيم، وأننا أحق بالشك من إبراهيم؟ فالجواب أن الحديث لا يراد به هذا المعنى؛ لأن هذا معنًى يخالف الواقع؛ فليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم شك في إحياء الموتى؛ وإنما المعنى أن إبراهيم لم يشك؛ فلو قدر أنه يشك فنحن أحق بالشك منه؛ وما دام الشك منتفياً في حقنا فهو في حقه أشد انتفاءً؛ فإذا عُلم أننا الآن نؤمن بأنه تعالى هو القادر، فإبراهيم أولى منا بالإيمان بذلك؛ هذا هو معنى الحديث، ولا يحتمل غيره؛ فإن قلت: لا زال هنا إشكال؛ وهو: هل إبراهيم أكمل إيماناً من محمد صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: لا؛ ولكن قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل التواضع؛ ولهذا قرن بينه وبين قوله (صلى الله عليه وسلم): «ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي»(143)؛ فيوسف بقي في السجن بضع سنين، وجاءه رسول الملك يدعوه؛ فقال له: لا أخرج، {ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} [يوسف: 50] ؛ مع أن غيره لو حبس سبع سنين، وقالوا له: «اخرج»، فإنه يخرج؛ هذا مقتضى الطبيعة؛ لكن يوسف - عليه الصلاة والسلام - كان حليماً حازماً؛ قال: لا أخرج حتى تظهر براءتي كاملة؛ فتبين من هذا أنه لا يلزم من قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا أن يكون إبراهيم أقوى إيماناً.
9 - ومن فوائد الآية: إثبات زيادة الإيمان في القلب؛ لقوله تعالى: { بلى ولكن ليطمئن قلبي }؛ ففيه رد على من قال: إن الإيمان لا يزيد، ولا ينقص؛ ولا ريب أن هذا القول ضعيف؛ لأن الواقع يكذبه؛ والنصوص تكذبه أيضاً: ففي القرآن قال الله تعالى: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} [الفتح: 4] ، وقال تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون} [التوبة: 124] ؛ وفي السنة: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن»(144)؛ فالإيمان يزيد كمية، وكيفية؛ فمثال زيادة الكمية: أن الذي يسبح عشراً أزيد إيماناً من الذي يسبح خمساً؛ والذي يصلي عشر ركعات أزيد إيماناً من الذي يصلي ستاً؛ وأما زيادة الكيفية فمثالها: رجل صلى ركعتين بطمأنينة، وخشوع، وتأمل فإيمانه أزيد ممن صلاهما بسرعة؛ كذلك يزداد الإيمان بحسب إقرار القلب: كلما كثرت الآيات لدى الإنسان فلا شك أن إيمانه يزداد قوة، ورسوخاً؛ اقرأ قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11] أي على طرَف {فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة} [الحج: 11] : هذا إيمانه ضعيف مهزوز: إن لم تأته فتنة فهو مستقر؛ وإن أتته فتنة - شبهة، أو شهوة - انقلب على وجهه؛ فمثلاً نحن الآن في المملكة العربية السعودية ليس عندنا - ولله الحمد - أحد يعارضنا في العقيدة؛ فليس عندنا معتزلة، ولا جهمية، ولا جبرية...، فنحن ثابتون على الفطرة؛ ولكن لو يبتلى الإنسان، فيأتيه واحد من عفاريت الإنس جيد في المجادلة، والمحاجة من المعتزلة لأوشك أن يؤثر عليه، وينقله إذا لم يكن لديه رسوخ في العلم، والإيمان؛ كذلك لو أن إنساناً عنده إيمان لكن تعرضت له امرأة ذات منصب، وجمال، وأغرته حتى وقع في الفاحشة؛ وإنسان آخر تعرضت له هذه المرأة فقال: «إني أخاف الله» تجد الفرق بينهما؛ فالمهم أن القول الراجح الذي لا شك فيه، والذي تدل عليه الأدلة السمعية، والواقعية أن الإيمان يزيد، وينقص.
10 - ومن فوائد الآية: جواز الاقتصار في الجواب على الحرف الدال عليه؛ لقوله تعالى: { بلى }؛ وعليه فلو قيل للرجل: ألم تطلق زوجتك؟ فقال: «بلى»: طلقت؛ ولو قيل للرجل عند عقد النكاح: أقبلت النكاح، وقال: «نعم» انعقد النكاح؛ لأن حرف الجواب يغني عن ذكر الجملة.
11 - ومنها: امتنان الله على العبد بما يزداد به إيمانه، لقوله تعالى: { فخذ أربعة من الطير... } إلى قوله تعالى: { يأتينك سعياً }.
12 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: «العزيز» و «الحكيم» ؛ وإثبات ما تضمناه من الصفة؛ وهي العزة، والحكمة؛ لأن كل اسم من أسماء الله فهو متضمن لصفة ولا عكس؛ يعني: ليس كل صفة يؤخذ منها اسم؛ لكن كل اسم يؤخذ منه صفة؛ لأن أسماء الله عز وجل أعلام، وأوصاف؛ فكل اسم من أسمائه متضمن للصفة التي دل عليها اشتقاقه، أو لوازمها.
القـــــرآن
)مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:261)
التفسير:
{ 261 } قوله تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة }؛ يطلق المثل على الشبه؛ ويطلق على الصفة؛ فإن ذكر مماثل، فالمراد به الشبه؛ وإلا فالمراد به الصفة؛ ففي قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن...} [محمد: 15] المراد بالمثل الصفة؛ لأنه لم يذكر المماثل؛ أما إذا قيل: «مثَل هذا كمثَل هذا» فهذا يعني الشبه، كقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً...} [البقرة: 17]، وكما في هذه الآية: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة } فهذا المراد به الشبه؛ يعني شبه هؤلاء كشبه هذا الشيء؛ والذي يظهر من الآية أنه لا يوجد فيها مطابقة بين الممثل، والممثل به؛ لأن «الممثل» هو العامل؛ و«الممثل به» هو العمل؛ فالحبة ليست بإزاء المنفِق؛ لكنها بإزاء المنفَق؛ والذي يكون بإزاء المنفِق زارعَ الحبة؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الآية فيها تقدير: إما في المبتدأ؛ وإما في الخبر: فإما أن يقدر: مثل عمل الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة؛ أو يقدر: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل زارع حبة أنبتت سبع سنابل؛ والحكمة من هذا الطيّ أن يكون المثل صالحاً للتمثيل بالعامل، والتمثيل بالعمل؛ وهذا من بلاغة القرآن؛ و «الإنفاق» معناه البذل؛ و «أموال» جمع مال؛ وهو كل ما يتموله الإنسان من أعيان، أو منافع؛ الأعيان كالدراهم، والدنانير، والسيارات، والدور، وما أشبه ذلك؛ والمنافع كمنافع العين المستأجرة؛ فإن المستأجر مالك للمنفعة.
وقوله تعالى: { في سبيل الله }؛ «سبيل» بمعنى طريق؛ وسبيل الله سبحانه وتعالى هو شرعه؛ لأنه يهدي إليه، ويوصل إليه؛ قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] ؛ وأضيف إلى الله لسببين؛ السبب الأول: أنه هو الذي وضعه لعباده، وشرعه لهم؛ والسبب الثاني: أنه موصل إليه؛ ويضاف «السبيل» أحياناً إلى سالك السبيل؛ فيقال: سبيل المؤمنين، كما قال الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] ؛ ولا تناقض بينهما؛ لأنه يضاف إلى المؤمنين باعتبار أنهم هم الذين سلكوه؛ وإلى الله باعتبار أنه الذي شرعه، وأنه موصل إليه.
قوله تعالى: { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل }؛ حبة بذرها إنسان، فأنبتت سبع سنابل { في كل سنبلة مائة حبة }؛ فتكون الجميع سبعمائة؛ فالحسنة إذاً في الإنفاق في سبيل الله تكون بسبعمائة؛ وهذا ليس حدّاً.
قوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشاء } أي يزيد ثواباً لمن يشاء حسب ما تقتضيه حكمته.
قوله تعالى: { والله واسع } أي ذو سعة في جميع صفاته؛ فهو واسع العلم، والقدرة، والرحمة، والمغفرة، وغير ذلك من صفاته؛ فإنها صفات واسعة عظيمة عليا؛ و{ عليم } أي ذو علم - وهو واسع فيه - وعلمه شامل لكل شيء جملة، وتفصيلاً؛ حاضراً، ومستقبلاً، وماضياً.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: ضرب الأمثال؛ وهو تشبيه المعقول بالمحسوس؛ لأن ذلك أقرب إلى الفهم.
2 - ومنها: أن القرآن على غاية ما يكون من البلاغة، والفصاحة، لأن الفصاحة هي الإفصاح بالمعنى، وبيانه؛ وضرب الأمثال من أشد ما يكون إفصاحاً، وبياناً: قال تعالى: { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] .
3 - ومنها: فضيلة الإنفاق في سبيل الله؛ لأنه ينمو للمنفق حتى تكون الحبة سبعمائة حبة.
4 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله في العمل؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله } بأن يقصدوا بذلك وجه الله عز وجل.
5 - ومنها: الإشارة إلى موافقة الشرع؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }؛ لأن { في } للظرفية؛ والسبيل بمعنى الطريق؛ وطريق الله: شرعه؛ والمعنى: أن هذا الإنفاق لا يخرج عن شريعة الله؛ والإنفاق الذي يكون موافقاً للشرع هو ما ذكره بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} [الفرقان: 67].
ومعنى إنفاقهم في شرع الله أن يكون ذلك إخلاصاً لله، واتباعاً لشرعه؛ فمن نوى بإنفاقه غير الله فليس في سبيل الله؛ مثل «المرائي»: رجل أنفق في الجهاد، أو أنفق في الصدقة على المساكين؛ لكنه أنفق ليقال: إن فلاناً جواد؛ أو أنه كريم؛ هذا ليس في سبيل الله، لأنه مراء؛ لم يقصد وجه الله عز وجل؛ إذاً لم يرد السبيل الذي يوصل إلى الله؛ ولا يهمه أن يقبل الله منه، أو لا يقبل؛ المهم عنده أنه يقال عند الناس: إنه رجل كريم، أو جواد.
وأما أن يكون على حسب شريعة الله: فإن أنفق في وجه لا يرضى به الله فليس في سبيل الله - وإن أخلص لله - كرجل ينفق على البدع يريد بذلك وجه الله - وهذا كثير: كبناء الربط للصوفية المنحرفة، وبناء البيوت للأعياد الميلادية، وبناء القصور للمآتم، وطبع الكتب المشتملة على بدع؛ هذا قد يريد الإنسان بذلك وجه الله لكنه خلاف شريعة الله؛ فلا يكون في سبيل الله.
6 - ومن فوائد الآية: إثبات الملكية للإنسان؛ لقوله تعالى: { أموالهم }؛ فإن الإضافة هنا تفيد الملكية.
7 - ومنها: وجه الشبه في قوله تعالى: { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل }؛ فإن هذه الحبة أنبتت سبع سنابل؛ وشبهها الله بذلك؛ لأن السنابل غذاء للجسم، والبدن؛ كذلك الإنفاق في سبيل الله غذاء للقلب، والروح.
8 - ومنها: أن ثواب الله، وفضله أكثر من عمل العامل؛ لأنه لو عومل العامل بالعدل لكانت الحسنة بمثلها؛ لكن الله يعامله بالفضل، والزيادة؛ فتكون الحبة الواحدة سبعمائة حبة؛ بل أزيد؛ لقوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم }.
9 - ومنها: إثبات الصفات الفعلية - التي تتعلق بمشيئة الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { يضاعف }؛ و«المضاعفة» فعل.
10 - ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: { لمن يشاء }؛ ولكن هل هذه المشيئة مشيئة مجردة؛ أي أن الترجيح يكون فيها بدون سبب؛ أو هي مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؟ الجواب أنها مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة، والحكمة؛ وعليه فخذ هذا مقياساً: كل شيء علقه الله على المشيئة فإنه مقيد بالحكمة؛ ودليله قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .
11 - ومنها: أن الله له السلطان المطلق في خلقه؛ ولا أحد يعترض عليه؛ لقوله تعالى: { يضاعف لمن يشاء}؛ ولهذا لما تناظر رجل من المعتزلة، وآخر من أهل السنة قال له المعتزلي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى علي بالردى أحسن إلي، أم أساء؟ - يريد أن يبين أن أفعال العباد لا تدخل في إرادة الله؛ لأنه إذا دخلت في إرادة الله فإن هذا الذي قضى عليه بالشقاء، ومنع الهدى يكون إساءة من الله إليه، فقال له السني: إن منعك ما هو لك فقد أساء؛ وإن منعك فضله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ فغُلب المعتزلي؛ لأنه ليس لك حق على الله واجب؛ والله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء.
12 - ومن فوائد الآية: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: «الواسع» ، و «العليم» ؛ لقوله تعالى: { واسع عليم }؛ وإثبات ما تضمناه من صفة؛ وهما السعة، والعلم.
13 - ومنها: الحث، والترغيب في الإنفاق في سبيل الله؛ يؤخذ هذا من ذكر فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فإن الله لم يذكر هذا إلا من أجل هذا الثواب؛ فلا بد أن يعمل له.
القــــرآن
)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:262)
التفسير:
{ 262 } قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } ذكره مرة أخرى ليبني عليها ما بعدها؛ وهي قوله تعالى: { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى }.
قوله تعالى: { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا } أي لا يحصل منهم بعد الصدقة مَنٌّ بأن يظهر المنفِق مظهر المترفع على المنفَق عليه؛ { ولا أذى } أي أذى المنفَق عليه بأن يقول المنفِق: «لقد أنفقت على فلان كذا، وكذا» أمام الناس؛ فإن هذا يؤذي المنفق عليه.
قوله تعالى: { لهم أجرهم }؛ «الأجر» ما يعطاه العامل في مقابلة عمله؛ ومنه أجرة الأجير؛ وسمى الله سبحانه وتعالى الثواب أجراً؛ لأنه عز وجل تكفل للعامل بأن يجزيه على هذا العمل؛ فصار كأجر الأجير.
قوله تعالى: { عند ربهم }: أصل العندية تكون في المكان؛ وقد يراد بها ما يعم المكان، والالتزام، كما تقول: عندي لفلان كذا، وكذا؛ أي في عهدي، وفي ذمتي له كذا، وكذا - حتى وإن لم يكن ذلك عنده في مكانه - فالعندية قد يراد بها المكان؛ وقد يراد بها ما يلتزم به الإنسان في ذمته، وعهده؛ وهنا { عند ربهم } يحتمل المعنيين؛ يحتمل أنه عند الله سبحانه وتعالى ملتزم به، ولا بد أن يوفيه؛ ويحتمل معنى آخر - وكلاهما صحيح - أن الثواب هذا يكون في الجنة التي سقفها عرش الرحمن؛ وهذه عندية مكان - ولا ينافي ما سبق من عندية العهد، والالتزام بالوفاء؛ فتكون الآية شاملة للمعنيين.
قوله تعالى: { ولا خوف عليهم } أي مما يستقبل { ولا هم يحزنون } أي على ما مضى - لكمال نعيمهم - لأن المنعَّم لو أصابه الحزن، أو الخوف لتنغص نعيمه.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على الإنفاق في سبيل الله؛ لقوله تعالى: { لهم أجرهم عند ربهم }.
2 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله، ومتابعة الشرع؛ لقوله تعالى: { في سبيل الله }.
3 - ومنها: أن من أتبع نفقته منًّا، أو أذى، فإنه لا أجر له؛ لقوله تعالى: { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم }؛ فإذا أتبع منًّا، أو أذًى بطل أجره، كما هو صريح قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .
4 - ومنها: أن المن والأذى يبطل الصدقة؛ وعليه فيكون لقبول الصدقة شروط سابقة، ومبطلات لاحقة؛ أما الشروط السابقة فالإخلاص لله، والمتابعة؛ وأما المبطلات اللاحقة فالمن، والأذى.
مـسألة:
هل مجرد إخبار المنفِق بأنه أعطى فلاناً دون منّ منه بذلك يعتبر من الأذى؟ الجواب: نعم؛ لأن المعطى تنزل قيمته عند من علم به؛ لكن لو أراد بالخبر أن يقتدي الناس به فيعطوه فليس في هذا أذًى؛ بل هو لمصلحة المعطى؛ أما إن ذكر أنه أعطى، ولم يعيِّن المعطى فهذا ليس فيه أذى؛ ولكن يخشى عليه الإعجاب، أو المراءاة.
مـسألة أخرى:
هل المنفق عليه إذا أحس بأن المنفق منّ عليه، أو ربما أذاه هل الأفضل أن يبقى قابلاً للإنفاق أو يرده؟ الجواب الأفضل أن يرده لئلا يكون لأحد عليه منة؛ ولكن إذا رده بعد القبض فهل يلزم المنفِق قبوله؟ الجواب: لا يلزمه قبوله؛ لأنه خرج عن ملكه إلى ملك المنفق عليه؛ فيكون رده إياه ابتداء عطية.
5 - ومن فوائد الآية: إثبات العندية لله عز وجل؛ لقوله تعالى: { عند ربهم }؛ والعندية تفيد القرب؛ فيكون الله عز وجل في مكان، وبعض الأشياء عنده، وبعض الأشياء بعيدة عنه؛ ولكن كلها قد أحاط الله بها؛ كلها بالنسبة إليه - إلى علمه، وقدرته، وسلطانه، وربوبيته - كلها سواء - لكن لا شك أن من كان حول العرش ليس كمن حول الفرش؛ ولكن يجب أن نعلم أن المكان ليس محيطاً به، كما قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] ؛ لأنه سبحانه وتعالى فوق كل شيء؛ لا يحيط به شيء من مخلوقاته.
6 - ومن فوائد الآية: أن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ويَسْلَمون من المحبطات لا ينالهم خوف في المستقبل، ولا حزن على الماضي؛ لقوله تعالى: { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.
القــــرآن
)قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة:263)
التفسير:
{ 263 } قوله تعالى: { قول } مبتدأ؛ و{ خير } خبره؛ وساغ الابتداء به هنا وهو نكرة؛ لأنه وصف؛ وإن شئت فقل: لأنه أفاد؛ وطريق إفادته الوصف؛ وإذا عللت بأنه أفاد صار أحسن؛ لأنه أعم.
قوله تعالى: { قول معروف } أي ما نطق به اللسان معروفاً في الشرع، ومعروفاً في العرف.
قوله تعالى: { ومغفرة } أي: مغفرة الإنسان لمن أساء إليه؛ قال تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} [الشورى: 43] ؛ القول المعروف إحسان؛ والمغفرة إحسان؛ ولكن الفرق بينهما أن «القول المعروف» إسداء المعروف القولي إلى الغير؛ و «المغفرة» تسامح الإنسان عن حقه في جانب غيره.
قوله تعالى: { خير من صدقة يتبعها أذى }؛ «الصدقة» بذل الإحسان المالي؛ الإنسان قد ينتفع بالمال أكثر مما ينتفع بالكلمة؛ وقد ينتفع بالكلمة أكثر مما ينتفع بالمال؛ لكن لا شك أن القول المعروف خير من الصدقة التي يتبعها أذى - وإن نفعت؛ لأنك لو تعطي هذا الرجل ما تعطيه من المال صدقة لله عز وجل، ثم تتبعها الأذى؛ فإن هذا الإحسان صار في الحقيقة إساءة - وإن كان هذا قد ينتفع به في حاجاته - لكن هو في الحقيقة إساءة له.
قوله تعالى: { والله غني } أي عن غيره؛ فهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد؛ وكل من في السموات والأرض فإنه محتاج إلى الله تعالى؛ هو غني بذاته عن جميع مخلوقاته؛ فله الغنى المطلق من جميع الوجوه.
قوله تعالى: { حليم }؛ «الحلم» تأخير العقوبة عن مستحقها؛ قال ابن القيم في النونية:
(وهو الحليم فلا يعاجل عبده بعقوبة ليتوب من عصيان) وجمع الله في هذه الآية بين «الغِنى» و «الحِلم» ؛ لأن الآية في سياق الصدقة، فبين عز وجل أن الصدقات لا تنفع الله؛ وإنما تنفع من يتصدق؛ والآية أيضاً في سياق من أتبع الصدقة أذى ومِنّة؛ وهذا حري بأن يعاجَل بالعقوبة، حيث آذى هذا الرجل الذي أعطاه المال لله؛ ولكن الله حليم يحلم على عبده لعله يتوب من المعصية.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة القول المعروف؛ لقوله تعالى: { قول معروف ومغفرة خير من صدقة... }؛ و «القول المعروف» كل ما عرفه الشرع، والعادة؛ مثال ذلك: أن يأتي رجل يسأل مالاً بحاله، أو قاله؛ فكلمه المسؤول، وقال: ليس عندي شيء، وسيرزق الله، وإذا جاء شيء فإننا نجعلك على البال، وما أشبه ذلك؛ فهذا قول معروف ليِّن، وهيِّن.
2 - ومنها: الحث على المغفرة لمن أساء إليك؛ لكن هذا الحث مقيد بما إذا كانت المغفرة إصلاحاً؛ لقوله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] ؛ أما إذا لم تكن المغفرة إصلاحاً، مثل أن أغفر لهذا الجاني، ثم يذهب، ويسيء إلى الآخرين، أو يكرر الإساءة إليَّ، فإن الغفر هنا غير مطلوب.
3 - ومنها: أن الأعمال الصالحة تتفاضل، ويلزم من تفاضلها تفاضل العامل، وزيادة الإيمان، أو نقصانه.
4 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغني» و «الحليم» ؛ وإثبات ما دلا عليه من الصفات.
5 - ومنها: المناسبة في ختم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين؛ لأن في الآية إنفاقاً؛ وإذا كان الله عز وجل هو الذي يخلِف هذا الإنفاق فإنه لكمال غناه؛ كذلك المغفرة عمن أساء إليك: فإن المغفرة تتضمن الحلم، وزيادة؛ فختم الله الآية بالحلم؛ وقد يقال: إن فيه مناسبة أخرى؛ وهي أن المن بالصدقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ والله سبحانه وتعالى حليم على أهل الكبائر؛ إذ لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، والله أعلم.
القـــــرآن
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:264)
التفسير:
{ 264 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: تصدير الخطاب بالنداء يدل على الاهتمام به؛ لأن النداء يحصل به تنبيه المخاطب؛ فيدل على العناية بموضوع الخطاب؛ ولهذا قال ابن مسعود: «إذا سمعت الله يقول: { يا أيها الذين آمنوا } فأرعها سمعك: فإنه خير تأمر به؛ أو شر ينهى عنه»(145)؛ وصدق رضي الله عنه.
ثم في توجيه النداء للمؤمنين بوصف الإيمان فيه فوائد؛ الفائدة الأولى: الحث على قبول ما يلقى إليهم، وامتثاله؛ وجه ذلك: أنه إذا علق الحكم بوصف كان ذلك الوصف علة للتأثر به؛ كأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا لإيمانكم افعلوا كذا، وكذا؛ أو لا تفعلوا كذا؛ الفائدة الثانية: أن ما ذكر يكون من مكملات الإيمان، ومقتضياته؛ الفائدة الثالثة: أن مخالفة ما ذكر نقص في الإيمان.
قوله تعالى: { لا تبطلوا صدقاتكم }: الإبطال للشيء يكون بعد وجوده؛ فالبطلان لا يكون غالباً إلا فيما تم؛ و «الصدقات» جمع صدقة؛ وهي ما يبذله الإنسان تقرباً إلى الله.
قوله تعالى: { بالمن والأذى }؛ الباء للسببية؛ و «المن» إظهار أنك مانّ عليه، وأنك فوقه بإعطائك إياه؛ و «الأذى» أن تذكر ما تصدقت به عند الناس فيتأذى به.
قوله تعالى: { كالذي ينفق ماله رئاء الناس }؛ الكاف هنا للتشبيه؛ وهي خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: مثلكم كالذي ينفق ماله رئاء الناس؛ و{ رئاء } مفعول لأجله؛ وهي مصدر راءى يرائي رئاءً ومراءاة، كـقاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة؛ وجاهد يجاهد جهاداً ومجاهدة؛ و«الرياء» فِعل العبادة ليراه الناس، فيمدحوه عليها.
قوله تعالى: { ولا يؤمن بالله وباليوم الآخر } معطوف على قوله تعالى: { ينفق }؛ وسبق معنى الإيمان بالله، واليوم الآخر؛ وهذا الوصف ينطبق على المنافق؛ فالمنافق - والعياذ بالله - لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر؛ ولا ينفق إلا مراءاةً للناس؛ ومع ذلك لا ينفق إلا وهو كاره، كما قال تعالى: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس} [النساء: 142] ، وقال في سورة «التوبة»: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54] ؛ هؤلاء لا ينفقون إلا وهم كارهون؛ لأنهم لا يرجون من هذا الإنفاق ثواباً؛ إذ إنه لا إيمان عندهم، و{ اليوم الآخر } هو يوم القيامة؛ وسمي «اليوم الآخر» ؛ لأنه لا يوم بعده؛ كل يذهب إلى مستقره: أهل الجنة إلى مستقرهم؛ وأهل نار إلى مستقرهم؛ فهو يوم آخر لا يوم بعده؛ ولذلك فهو مؤبد: إما في جنة؛ وإما في نار.
قوله تعالى { كمثل صفوان } أي كشِبْه صفوان؛ وهو الحجر الأملس { عليه تراب }؛ والتراب معروف؛ { فأصابه وابل } أي مطر شديد الوقع سريع التتابع؛ فإذا أصاب المطر تراباً على صفوان فسوف يزول التراب؛ ولهذا يقول تعالى: { فتركه صلداً } أي ترك الوابلُ هذا الصفوانَ أملس ليس عليه تراب؛ وجه الشبه بين المرائي والصفوان الذي عليه تراب، أن من رأى المنافق في ظاهر حاله ظن أن عمله نافع له؛ وكذلك من رأى الصفوان الذي عليه تراب ظنه أرضاً خصبة طينية تنبت العشب؛ فإذا أصابها الوابل الذي ينبت العشب سحق التراب الذي عليه، فزال الأمل في نبات العشب عليه من الوابل؛ ولهذا قال تعالى: { لا يقدرون على شيء مما كسبوا }؛ وصح عود واو الجماعة في { يقدرون } على { الذي } في قوله تعالى: { كالذي ينفق ماله }؛ لأن { الذي } اسم موصول يفيد العموم؛ فهو بصيغته اللفظية مفرد، وبدلالته المعنوية جمع؛ لأنه عام؛ وسمى الله عز وجل ما أنفقوا كسباً باعتبار ظنهم أنهم سينتفعون به.
قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الكافرين } أي لا يهدي سبحانه الكافرين هداية توفيق؛ أما هداية الدلالة فإنه سبحانه لم يَدَع أمة إلا بعث فيها نبياً؛ لكن الكافر لا يوفقه الله لقبول الحق؛ و{ الكافرين } أي الذين حقت عليهم كلمة الله، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: تحريم المن، والأذى في الصدقة؛ لقوله تعالى: { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى }.
2 - ومنها: بلاغة القرآن، حيث جاء النهي عن المنّ، والأذى بالصدقة بهذه الصيغة التي توجب النفور؛ وهي: { لا تبطلوا صدقاتكم }؛ فإنها أشد وقعاً من «لا تَمُنّوا، ولا تؤذوا بالصدقة».
3 - ومنها: أن المن والأذى بالصدقة يبطل ثوابها؛ لقوله تعالى: { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى }.
4 - ومنها: أن المن والأذى بالصدقة كبيرة من كبائر الذنوب؛ وجه ذلك: ترتيب العقوبة على الذنب يجعله من كبائر الذنوب؛ وقد قال شيخ الإسلام في حد الكبيرة: «كل ذنب رُتب عليه عقوبة خاصة، كالبراءة منه، ونفي الإيمان، واللعنة، والغضب، والحد، وما أشبه ذلك»؛ وهذا فيه عقوبة خاصة؛ وهي إبطال العمل؛ ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»(146).
5 - ومنها: أن المنّ والأذى بالصدقة مناف لكمال الإيمان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى }؛ كأنه يقول: «إن مقتضى إيمانكم ألا تفعلوا ذلك؛ وإذا فعلتموه صار منافياً لهذا الوصف، ومنافياً لكماله».
6 - ومنها: تشبيه المعقول بالمحسوس ليقربه إلى الذهن؛ لقوله تعالى: { فمثله كمثل صفوان... } إلخ.
7 - ومنها: تحريم مراءاة الناس بالعمل الصالح؛ لقوله تعالى: { كالذي ينفق ماله رئاء الناس }؛ والتسميع كالمراءاة؛ والفرق بينهما أن المراءاة فيما يُرى - كالأفعال - والتسميع بما يقال.
8 - ومنها: أن من راءى الناس بإنفاقه ففي إيمانه بالله، وباليوم الآخر نقص؛ لقوله تعالى: { ولا يؤمن بالله وباليوم الآخر }؛ لأن الذي يرائي لو كان مؤمناً بالله حق الإيمان لجعل عمله لله خالصاً لله؛ ولو كان يؤمن باليوم الآخر حق الإيمان لم يجعل عمل الآخرة للدنيا؛ لأن مراءاة الناس قد يكسب بها الإنسان جاهاً في الدنيا فقط؛ مع أنه لا بد أن يتبين أمره؛ وإذا تبين أنه مراءٍ نزلت قيمته في أعين الناس؛ يقول الشاعر:
(ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اكتسيت به فإنك عاري) أنت لا تظن أنك إذا راءيت الناس أنك ستبقى مخادعاً لهم؛ بل إن الله سبحانه وتعالى سيظهر ذلك؛ ما أسر إنسان سريرة إلا أظهرها الله سبحانه على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
9 - ومن فوائد الآية: إثبات اليوم الآخر؛ وهو يوم القيامة.
10 - ومنها: بلاغة القرآن في التشبيه؛ لأنك إذا طابقت بين المشبه، والمشبه به، وجدت بينهما مطابقة تامة.
11 - ومنها: إثبات كون القياس دليلاً صحيحاً؛ وجه ذلك: التمثيل، والتشبيه؛ فكل تمثيل في القرآن فإنه دليل على القياس؛ لأن المقصود به نقل حكم هذا المشبه به إلى المشبه.
12 - ومنها: أن الرياء مبطل للعمل؛ وهو نوع من الشرك؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»(147)؛ فإن قصد بعمله إذا رآه الناس أن يتأسى الناس به، ويسارعوا فيه فهي نية حسنة لا تنافي الإخلاص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر، وقال: «إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلَّموا صلاتي»(148)؛ وفي الحج كان صلى الله عليه وسلم يقول: «لتأخذوا مناسككم»(149)؛ وهو داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»(150).
13 - ومن فوائد الآية: الإشارة إلى تحسر هؤلاء عند احتياجهم إلى العمل، وعجزهم عنه؛ لقوله تعالى: { لا يقدرون على شيء مما كسبوا }؛ وعجز الإنسان عن الشيء بعد محاولة القدرة عليه أشد حسرة من عدمه بالكلية؛ ألم تر إلى قوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاماً} [الواقعة: 63 - 65] ؛ وكونه حطاماً ينظرون إليه أشد حسرة من كونه لم ينبت أصلاً؛ وقوله تعالى: {أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجاً} [الواقعة: 68 - 70] ؛ وكونه بين أيديهم أجاجاً لا يستسيغون شربه أشد مما لو لم يوجد أصلاً؛ والإنسان العاقل يجعل العمل لله: لله؛ والعمل للناس: للناس؛ أنا قد أحب أن أخرج للناس في ثوب جميل: لا بأس أن أتجمل ليراني الناس على هذه الحال؛ لكن أصلي ليراني الناس أصلي: لا يصح؛ لأن العمل لله يجب أن يكون لله لا يشاركه فيه أحد.
14 - ومن فوائد الآية: أن من قضى الله عليه بالكفر لا تمكن هدايته؛ لقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الكافرين }؛ فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين الواقع من أن الله سبحانه وتعالى هدى قوماً كافرين كثيرين؟ فالجواب أن من هدى الله لم تكن حقت عليهم كلمة الله؛ فأما من حقت عليه كلمة الله فلن يُهْدى، كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] .
15 - ومنها: أن المنافق كافر؛ لقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الكافرين } بعد أن ذكر ما يتعلق بصفة المنافق؛ وهو الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله، واليوم الآخر؛ وهذا ينطبق تماماً على المنافقين؛ ولا ريب أن المنافقين كفار - وإن تظاهروا بالإسلام - ولكن هل نعاملهم معاملة الكفار؟ الجواب: لا نعاملهم معاملة الكفار؛ لأن أحكام الدنيا تجري على الظاهر؛ وأحكام الآخرة تجري على الباطن والسرائر، كما قال تعالى: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصِّل ما في الصدور} [العاديات: 9، 10] ، وقال تعالى: {يوم تبلى السرائر} [الطارق: 9] ؛ ولأنه لو عومل الناس في الدنيا على السرائر لكان في ذلك تكليف ما لا يطاق من وجه؛ وكان في ذلك الفوضى التي لا نهاية لها من وجه آخر؛ أما تكليف ما لا يطاق فلأننا لا نعلم ما في صدور الناس؛ فلا يمكن أن نحكم عليه؛ وأما الفوضى فلأنه يستطيع كل ظالم له ولاية أن يعاقب هذا الرجل، أو يعدم هذا الرجل بحجة أنه مبطن للكفر؛ ولما استؤذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل المنافقين قال: «لا أقتلهم؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»(151).
تابعوا معنا المجلد الثالث
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق